الثلاثاء 17 / جمادى الأولى / 1446 - 19 / نوفمبر 2024
(006) من قوله تعالى (كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل..) الآية 92 – إلى قوله تعالى (ولا تكونوا كالذين تفرقوا..) الآية 105
تاريخ النشر: ٠٣ / صفر / ١٤٣٨
التحميل: 1424
مرات الإستماع: 1371

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحابته الطيبين الطاهرين، اللهم اغفر لنا ولشيخنا والحاضرين والمستمعين، أما بعد:

فيقول ابن جُزي الكلبي -رحمه الله تعالى-: عند قوله تعالى:

كُلُّ الطَّعَامِ [آل عمران:93] الآية إخبارٌ أن الأطعمة كانت حلالًا لبني إسرائيل، إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ أبوهم يعقوب عَلى نَفْسِهِ وهو لحم الإبل ولبنها، ثم حُرّمت عليهم أنواعٌ من الأطعمة كالشحوم وغيرها، عقوبةً لهم على معاصيهم، وفيها ردٌ عليهم في قولهم: إنهم على ملة إبراهيم وأن الأشياء التي هي محرمةٌ كانت محرمةً على إبراهيم، وفيها دليلٌ على جواز النسخ ووقوعه؛ لأن الله حرم عليهم تلك الأشياء بعد حلها، خلافٌ لليهود في قولهم: إنّ النسخ محالٌ على هذه الأشياء، وفيها معجزةٌ للنبي ﷺ لإخباره بذلك من غير تعلمٍ من أحد، وسبب تحريم إسرائيل لحوم الإبل على نفسه أنه مرض، فنذر إن شفاه الله أن يحرم أحب الطعام إليه شكرًا لله وتقرّبًا إليه، ويؤخذ من ذلك أنه يجوز للأنبياء أن يحرموا على أنفسهم باجتهادهم.

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فقوله: كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ [آل عمران:93]، هذه الآية حملها بعض أهل العلم كالحافظ بن القيم -رحمه الله- على أنها ردٌ على اليهود في إنكارهم نسخ الشرائع[1]، يقولون: بأن شريعتهم لا تُنسخ أبدًا، التوراة لا يتطرق إليها النسخ، رد الله -تبارك وتعالى- عليهم قال: إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ [آل عمران:93]، وإسرائيل هو يعقوب كما هو معلوم.

قال: "وهو لحم الإبل ولبنها، ثم حُرّمت عليهم أنواعٌ من الأطعمة كالشحوم وغيرها، عقوبةً لهم على معاصيهم" كانت الأطعمة حلالًا إلا ما حرم إسرائيل يعقوب على نفسه، الحافظ ابن كثير -رحمه الله- يقول: بأنها حُرمت عليهم بعد ذلك في التوراة، التي هي لحم الإبل ولبنها[2]، وابن جرير -رحمه الله- ذكر بأنه لم يُحرم عليهم شيءٌ من الأطعمة إلا ما حرمه إسرائيل، ثم أخذه بنوهم واستنوا به، من غير تحريم الله عليهم ذلك بوحي[3]، يعني: أنهم درجوا عليه، اقتضوا به في ذلك من غير أن يحرمه الله عليهم، يعني: لم يكن محرمًا في التوراة، لكن حرم عليهم أشياء في التوراة لم تكن مُحرمةً قبل ذلك في شريعة يعقوب -عليه الصلاة والسلام-  كما قال الله -تبارك وتعالى-: كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ [آل عمران:93] ثم حُرم عليهم بعد ذلك، كما قال الله : وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ [الأنعام:146]، وهكذا كما في قوله تعالى: فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ [النساء:160]، هذا صريح في التحريم تحريم أشياء لم تكن مُحرمة قبل ذلك.

يقول: "وفيها دليلٌ على جواز النسخ ووقوعه؛ لأن الله حرم عليهم تلك الأشياء بعد حِلها" وهذا لاشك أنه مُتحقق، وقد ذكر الحافظ ابن كثير -رحمه الله- لذلك أمثلةً متنوعة[4] من ذلك: بأن الله أباح لنوح -عليه الصلاة والسلام- تواد بالأرض، ولم يكن ذلك جميعًا حلالًا لبني إسرائيل، وهكذا أن الله أذن لآدم في تزويج بناته من بنيه، ولم يكن ذلك حلالًا على بني إسرائيل، كذلك أن يعقوب جمع بين الأختين، ثم حُرم ذلك في التوراة، وهكذا في التسري أيضًا أن يجمع بين الأختين، كان ذلك مُحرمًا في التوراة.

يقول: "وسبب تحريم إسرائيل لحوم الإبل على نفسه أنه مرض، فنذر إن شفاه الله أن يُحرم أحب الطعام إليه شكرًا لله وتقرّبًا إليه".

كما في حديث ابن عباس -ا- قال: "حضرت عصابة من اليهود رسول الله ﷺ فقالوا: يا أبا القاسم حدثنا عن خلالٍ نسألك عنها لا يعلمهن إلا نبي، فكان فيما سألوه: أي الطعام حرم إسرائيل على نفسه قبل أن تُنزل التوراة؟ قال: فأنشدهم بالله الذي أنزل التوراة على موسي، هل تعلمون أن إسرائيل مرض مرضًا شديدًا، فطال سقمه فنذر لله نذرًا لئن شفاه الله من سقمه، ليحرمن أحب الشراب إليه، وأحب الطعام إليه[5]، وفي روايةٍ: اشتكى عرق النسا، فلم يجد شيئًا يلائمه إلا لحوم الإبل وألبانها، فلذلك حرمها، قالوا: صدقت"[6]"، فهذا الذي حرمه إسرائيل على نفسه، الشاهد أن هذا يتضمن الرد عليهم في باب النسخ، كانت الأطعمة حلالًا فحرم الله في التوراة أشياء لم تكن مُحرمةً قبل ذلك.

قال: "ويؤخذ من ذلك أنه يجوز للأنبياء أن يحرموا على أنفسهم باجتهادهم"، هذا ليس على إطلاقه هذا يمكن أن يكون في السابق، لكن في هذه الشريعة قال الله : يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ [التحريم:1]، لما حرم -عليه الصلاة والسلام- العسل، وفي روايةٍ أنه حرم الجارية[7].

فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ [آل عمران:93] تعجيزًا لليهود، وإقامة حُجةٍ عليهم، وروي أنهم لم يجسروا على إخراج التوراة، فَمَنِ افْتَرَى [آل عمران:94] أي: من زعم بعد هذا البيان أن الشحم وغيره، كان مُحرمًا على بني إسرائيل قبل نزول التوراة فهو الظالم المكابر بالباطل.

يعني: أن من كذب على الله -تبارك وتعالى- وأدعى أنه شرع لهم السبت، كما قال الحافظ بن كثير -رحمه الله-[8]، والتمسك بالتوراة دائمًا، وأنه لم يبعث نبيًا آخر كما يزعمون، ويقولون: أن تحريم السبت مؤبد، أن الله هو الذي حرمه، وأن العمل بالتوراة أيضًا مستمر دائم لا يتطرق إليه نسخ، هكذا زعموا فرد الله عليهم ذلك، فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ [آل عمران:94].

صَدَقَ اللَّهُ [آل عمران:95] أي: الأمر كما وصف، لا كما تكذبون أنتم. ففيه تعريضٌ بكذبهم.

صَدَقَ اللَّهُ [آل عمران:95] يعني: الأمر كما وصف، أي: كل ما شرعه كل ما أخبر به فهو صدق، ومن ذلك: إخباره بأنه لم يُحرم على اليهود شيئًا من الأطعمة، قبل نزول التوراة، وهكذا أيضًا في بيانه لملة إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ [آل عمران:95] ما أخبر به فهو أحق خلافًا لمزاعمكم فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ [آل عمران:95].

فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ [آل عمران:95]، إلزامٌ لهم أن يسلموا، كما ثبت أن ملة الإسلام هي ملة إبراهيم التي لم يُحرم فيها شيءٌ مما هو مُحرمٌ عليهم، إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ [آل عمران:96]، أي أول مسجدٍ بُني في الأرض، وقد سأل أبو ذر النبي -صلّى الله عليه واله وسلّم- أي مسجدٍ بُني أولًا؟ قال: المسجد الحرام، ثم بيت المقدس[9]، وقال عليّ بن أبي طالب : "المعنى أنه أول بيتٍ وضع مباركًا وهُدى وقد كانت قبله بيوت"[10].

أول بيت وضع للناس الذين بمكة، كما في تقرير ملة إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- وشأن القبلة التي انحرفوا عنها، فكانوا يستقبلون التابوت ينقلونه في أسفارهم ومغازيهم، فإذا أرادوا الصلاة وضعوه واستقبلوه، وإذا كانوا قاريين في بيت المقدس وضعوه على الصخرة، فكانوا يستقبلون الصخرة، ما كانوا يستقبلون الكعبة، والذي بناها هو إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- الذين يدعون الانتساب إليه وأنه منهم، إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ [آل عمران:96].

يقول: "وقد سأل أبو ذر النبي ﷺ أي مسجدٍ وُضع في الأرض أولًا؟ قال: المسجد الحرام، قال: قُلت: ثم أي؟ قال: المسجد الأقصى، قُلت: كم كان بينهما؟ قال: أربعين سنة"[11].

هذا الحديث فيه إشكال وهو أن بين إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- وبين سليمان مدة طويلة تقرب من ألف سنة، إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- بنا الكعبة، والمشهور أن الذي بنا بيت المقدس مسجد الأقصى هو سليمان -عليه الصلاة والسلام- الحديث هنا ذكر النبي ﷺ أن بينهما أربعين سنة، فجاوب العلماء عن هذا الإشكال: الطحاوي في "مُشكل الآثار" جمع بين الحديثين بالنظر إلى لفظ هذا الحديث.

 يقول أبو ذر سأل: "أي: مسجد وضع أولًا؟"، ولم يسأل عن البناء، وكان وضعه قبل بنائه[12]، يعني: الذي حدد هذا الموضع هذه البقعة للعبادة، غير الذي بناه، فكان في التحديد ما بين الكعبة والمسجد الأقصى هذه المدة أربعون سنة، لكن بعد ذلك بُني بناه سليمان هذا جواب الطحاوي، فرق بين الوضع والبناء، والحافظ بن القيم -رحمه الله- ذكر غير هذا، قال: بأن المسجد الأقصى الذي بناه يعقوب بعد أربعين سنة من بناء إبراهيم للكعبة، وأن سليمان جدد بنائه، ولم يكن هو الذي بناه أولًا[13].

يقول: "وقال عليّ بن أبي طالب : المعنى أنه أول بيتٍ وضع مباركًا وهُدى وقد كانت قبله بيوت" وهنا قول على فيه، فأين كان قوم نوح؟ وأين كان قوم هود؟ قال: ولكنه "أول بيتٍ وضع مباركًا" يعني: كانت قبله بيوت يعني للعبادة.

يعني: قوم نوح كانوا يتعبدون ويصلون، فأين كانوا يصلون قبل إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- وهكذا؟ هود وصالح -عليهم الصلاة والسلام- الأنبياء الذين كانوا قبل إبراهيم، كان الناس بعد آدم كما جاء ابن عباس على التوحيد عشرة قرون[14]، فأين كانوا يصلون؟ هذا مقصود علي أنه كانت قبله بيوت، فما محمل هذا؟ إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ [آل عمران:96] وحمله على هذا المحمل، أول بيت موصوف بهذا الوصف، أنه مباركًا وهدى، وإلا وجدت قبله بيوت، مع أن العلماء منهم من يقول: بأن الكعبة بُنيت قبل إبراهيم ولكن إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- هو الذي أعاد البناء، يذكرون هذا قبله في أزمان طويلة هذا على خلافٍ بينهم.

وبعضهم يقول: بأنها الملائكة، وبعضهم يقول: بأنها آدم فلما جاء الطوفان زالت، إلى غير ذلك من الأقوال، والمشهور أن الذي بناها أولًا هو إبراهيم .

وقوله -تبارك وتعالى-: وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ [البقرة:127]، بعضهم يقول: القواعد كانت موجودة قبل ذلك، وإنما رفعها رفع البناء، فعلى قول هؤلاء يكون ذلك مقدمًا على ما جاء عن علي أنه كان قبله بيوت، يقول: هو المتقدم، وذلك قبل زمن إبراهيم يعني: هؤلاء الأنبياء نوح ونحو ذلك أنه وُجد بناء الكعبة قبلهم، والله أعلم.

إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ [آل عمران:96]، الطحاوي يقول: الآية فيها الوضع وليس فيها البناء[15].

 بِبَكَّةَ [آل عمران:96] قيل: هي مكة والباء بدلٌ من الميم، وقيل: مكة الحرم كله، وبكة المسجد وما حوله.

الحافظ ابن كثير يقول: بأن بكة هي مكة[16]، العدول عن مكة إلى بكة علله بعض أهل العلم كالطاهر بن عاشور، لم يذكر الاسم المشهور الكعبة مثلًا، وإنما قال: لَلَّذِي بِبَكَّةَ [آل عمران:96]، قال: "دفعًا لتوهم غيره، فقد أُطلق اسم الكعبة على القليس الذي بناه ملك الحبشة في صنعاء لدين النصرانية، سماه لقبوه: بالكعبة اليمانية"[17]؛ حتى لا يلتبس هذا قول الطاهر بن عاشور، قال: لَلَّذِي بِبَكَّةَ [آل عمران:96] تمييزًا له، لَلَّذِي بِبَكَّةَ [آل عمران:96] قيل: هي مكة والباء بدل الميم، بعضهم يقول: إنها سُميت مكة؛ لقلة ما بها، أو قيل لها: بكة أيضًا بواديٍ غير ذي ذرع، وبعضهم يقول: أنها تمُك مكة، تمُك المخ من العظم بما ينال ساكنها من الأهواء والمشقة مكة، وقيل: لأنها تمُك من ظلم أي تُهلكه من المك، والله أعلم.

لَلَّذِي بِبَكَّةَ [آل عمران:96] وذكر الحافظ بن كثير -رحمه الله- أن لها واحدًا وعشرين اسمًا[18].

 وقد ذكر بعض أهل العلم منهم السيوطي أن العرب، أو أن كثرة الأسماء أسماء الشيء تدل على شرفه، لكن هذا ليس على إطلاقه كثرة الأسماء في دلالتها على شرف الشيء، يعني أسماء الله -تبارك وتعالى- كثيرة، أسماء النبي ﷺ أسماء السيف هذه كثيرة، لكن هناك أشياء ليس لها شرف، ولها أسماء كثيرة، كأسماء الحية، أسماء الكلب، يُذكر أن أبا العلاء المعري كان يمشي في المسجد، فعثر برجل نائم فقال هذا النائم: من هذا الكلب؟ فقال أبو العلاء وهو أعمى البصر والبصيرة قال: "الكلب من لا يعرف للكلب سبعين اسمًا"[19].

أبو العلاء المعري صاحب أرب ولغة، الكلب ليس له شرف ومع ذلك كثُرت أسمائه، السيوطي عند هذه الواقعة ألف رسالة قد أوصل بعضهم كتب السيوطي إلى ستمائة كتاب، فألف رسالة سماها: "التبري من معرة المعري"، يعني حتى لا يلحقه هذا الوصف أنه لا يعرف للكلب سبعين اسمًا، فألف هذه الرسالة وزاد على السبعين في أسمائه، ثم نظم أسماء الكلب[20]، طبعًا هم يطلقون الكلب على إطلاق واسع، الكلب المعروف ويُدخلون معه الذئب والأسد ونحو ذلك، وجمع أسماء هذه وزادت على المائة.

فالمقصود أن هذا ليس له شرف، ما كل ذي أسماء كثيرة شريفًا، قال: "والباء بدلٌ من الميم"، يعني بكة هي مكة وأُبدلت الميم بالباء، فقيل: بكة، والعرب تُعاقب بين الباء والميم في مواضع، فيقولون مثلًا: لازم ولازب، فهما لغتان وبعضهم يُفرق ويقول: بأن بكة اسمٌ لبطن مكة، أو أنه مكان البيت، وبعض أهل اللغة يقولون: إن أصل المادة بكك يدل على التزاحم والجمع والمغالبة وأن البك هو دق العنق، ومن ثم يذكرون لها تعليلات لهذه التسمية بناءً على ذلك؛ لقول بعضهم: بأنها قيل لها بكة بالباء لتزاحم الناس للتدافع في الطواف، كما يقول ابن جرير -رحمه الله- قيل لها: بكة؛ لأن الناس يبكوا بعضهم بعضًا[21]، يتدافعون والتدافع والتزاحم قديم.

وبعضهم يقول: قيل لها بكة؛ لأنها تبك، يعني: تدق أعناق الجبابرة إذا ألحدوا فيها بظلم، أو لأنهم يخضعون عندها، والله أعلم، وعلى كل حال اسمٌ من أسماء مكة يقال: مكة وبكة.

يقول: "وقيل: مكة الحرم كله، وبكة المسجد وما حوله" وبعضهم يقول: بكة هي موضع البيت.

مُبارَكًا نصبٌ على الحال، والعامل فيه على قول عليّ: وضع مبارك[22]، وفي النسخة الخطية: والعامل فيه على قول علي وضع؛ لأنه حال من الضمير الذي فيه.

هذا الأثر عن علي إن أول بيتٍ وضع مبارك، صححه الحافظ ابن حجر في الفتح[23]، وقال عنه الشيخ أحمد شاكر: "فيه مجالد بن سعيد، وهو حسن الحديث"[24].

قال: "مُبارَكًا نصبٌ على الحال والعامل فيه على قول عليّ: وضع" يعني: وضع حال كونه مباركًا، أو مقيد بهذا القيد على قول علي وهذا الذي اختاره ابن كثير -رحمه الله-[25]، يعني أنه منصوبٌ على الحال، وأن العامل فيه وضع مباركًا، على أنه حالٌ من الضمير الذي فيه، وعلى القول الأول هو حالٌ من الضمير المجرور، والعامل فيه العامل المجرور من معنى الاستقرار، يعني: العامل في الحال قال: العامل المجرور، يعني العامل فيه ببكة، يعني يقول هنا من معنى الاستقرار، يعني: استقر ببكة استقر هذا، معنى الكلام على قول هذا: استقر، إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ [آل عمران:96] أي استقر ببكة مباركًا، يعني: في حال بركته، وعلى القول الأول هو حالٌ من الضمير المجرور، والعامل فيه إلى آخره، يعني: هذا الاعتبار هو أول مسجد بُني في الأرض، إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ استقر ببكة بحال بركته.

وعلى القول الأول: هو حالٌ من الضمير المجرور، وفي النسخة الخطية: هو حال من الضمير الذي في المجرور، والعامل فيه العامل المجرور، وفي النسخة الخطية: والعامل فيه العامل في المجرور من معنى الاستقرار.

يعني: لَلَّذِي بِبَكَّةَ [آل عمران:96] لا الذي استقر ببكة.

فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ [آل عمران:97] آيات البيت كثيرةٌ. منها الحجر الذي هو مقام إبراهيم، وهو الذي قام عليه حين رفع القواعد من البيت، فكان كلما طال البناء ارتفع به الحجر في الهواء حتى أكمل البناء، وغرقت قدم إبراهيم في الحجر كأنها في طينٍ، وذلك الأثر باقٍ إلى اليوم.

فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ [آل عمران:97] يعني دلالات ظاهرة أنه من بناء إبراهيم وأن الله عظمه وشرفه، كما يقول الحافظ ابن كثير -رحمه الله-[26] هنا يقول: "آيات البيت كثيرة".

وذكر الحافظ بن القيم -رحمه الله- أنها تزيد على أربعين آية[27]، وذكر بعضهم منها الصفا والمروة، بعضهم يذكر أشياء أخرى من ذلك أن الغيث إذا كان بناحية الركن اليماني، كان الخصب في اليمن، وإن كان بناحية الشام كان الخصب في الشام، وإذا عم البيت كله كان الخصب بجميع البلدان، هكذا قال بعضهم والله اعلم، هذا يحتاج إلى استقراء، الشاهد أنهم يذكرون أشياء بعض هذه الأشياء صحيح، وبعض هذه الأشياء غير صحيح، يعني بعضهم يذكر مثلًا أن الطير لا يقع عليه، وهذا غير صحيح الطير يقع عليه كما نشاهد، وبعضهم يزعم أن الذي يقع عليه إنما هو المريض من الطير، وهذا يحتاج إلى دليل، على كل حال الله -تبارك وتعالى- ذكر مقام إبراهيم من هذه الآيات: فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ [آل عمران:97] فهنا يقول: "منها الحجر الذي هو مقام إبراهيم، وهو الذي قام عليه حين رفع القواعد من البيت، فكان كلما طال البناء ارتفع به الحجر في الهواء" هذا الله اعلم هل هو كذلك يرتفع الحجر في الهواء، أو أن إبراهيم كان يقف عليه ويبني، وكان طويلًا حتى أكمل البناء.

 قال: "وغرقت قدم إبراهيم في الحجر كأنها في طينٍ، وذلك الأثر باقٍ إلى اليوم" قد تكون غرقت في الحجر، وقد يكون ما يتساقط من الطين يجتمع فبقي الأثر عالقًا، ولا شك أن الأثر الموجود في الحجر هو قدم إبراهيم ومما يُستغرب أن بعض أهل العلم يقولون: إن ذلك يرمز إلى هذا المنعة، وأنها ليست بقدمه حقيقة، وأن ذلك قد انمحى وزال مع تطاول الأزمان، ويقولون بدليل أنها صغيرة، إبراهيم  كان طويلًا وقدمه أكبر، ويقولون: ليس للأصابع أثر فهذا غريب، هذا أمرٌ يتوارثه الناس من الأشياء المحسوسة أجيالٌ تتوارثه، وهذا الحجر كان موجودًا في زمن النبي -صلى الله عليه وعلى وآله وسلم- كان ملتصقًا بالكعبة وفيه أثر قدمه، وقد ذكر أبو طالب في قصيدته المشهورة التي يذكر فيها النبي ﷺ ويذب عنه ويمدحه وهي موجودة في البداية والنهاية للحافظ ابن كثير[28].

فهذه قدمه إبراهيم  تأثرت مع تطاول الزمان، لم يكن عليها مثل الآن حماية من زجاج ونحو ذلك، فأثر فيها ما يعتريها من أيدي الناس، وكذلك أيضًا المطر ونحو هذا فذهبت آثار الأصابع، لكن يُقال: بأن هذا هو ليس أثر إبراهيم  حقيقةً فهذا غير صحيح، الله قال: مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ [آل عمران:97] والناس توارثوا هذا جيلًا عن جيل، الحاصل فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ [آل عمران:97] يعني أدلة واضحة على توحيده ورحمته وحكمته وعظمته وقدرته، مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ [آل عمران:97] مجاهد يقول: آثر قدميه في المقام آية بينة، هذا يقول مجاهد من التابعين آثر قدميه آية بينة، وهذا جاء عن عُمر بن عبد العزيز، والحسن، وقتادة، والسُدي، ومقاتل[29]، وكما سبق أنه ذكر أبو طالب في قصيدته اللامية المشهورة:

وموطئ إبراهيم في الصخر رطبةٌ على قدميه حافيًا غير ناعلِ[30]

هذا البيت يذكر فيه موطأ القدمين، هذا كان معروفًا في جاهليتهم وهو عُرف أيضًا في الإسلام.

يا شيخ وبالنسبة للحجم؟ يعني حجم القدمين صغير؟

بالنسبة للحجم الله اعلم، قد يكون انكمش؛ لأنه طين رطب حصل له انكماش لما فارقه رفع رجله عنه فانكمش، قد يكون هذا، وقد يكون هذا حصل بعد ذلك في الأزمان لما يعتريه من مؤثرات الجوية وغيرها، تراكم عليه الطين ونحو ذلك، وما يزال الناس ينقونه، أو ينظفونه، أو يزيلون ذلك عنه حتى تصاغر، قد يكون هذا العلم عند الله، لكن ذكر الله مقام إبراهيم، وعُمر قال: "لو اتخذت من مقام إبراهيم مُصلى فنزلت: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى [البقرة:125]"[31]، لا شك أن المقصود بهذا هو المقام المعروف، وقد يدخل فيه المعنى الآخر الذي ذكره بعض السلف، وهو أن مقام مفرد مُضاف يفيد العموم، مقام إبراهيم يعني مقامات إبراهيم في الحج الطواف، والسعي ومنى ومزدلفة وعرفة، كل هذه من مقامات إبراهيم الجمار، لكن في هذا الحديث وأن النبي ﷺ صلى خلفه، وقرأ الآية: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى، فدل ذلك على دخوله دخولًا أوليًّا في قوله: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى [البقرة:125].

فمقام إبراهيم أثر قدمه ظاهرٌ فيه، وإلا فلماذا قيل له ذلك: مقام إبراهيم؟

ومنها: أن الطيور لا تعلوه.

هذا ليس صحيحًا.

ومنها: إهلاك أصحاب الفيل، ورد الجبابرة عنه، ونبع زمزمٍ لهاجر أم إسماعيل بهمز جبريل بعقبه، وحفر عبد المطلب لها بعد دثورها وأن ماءها ينفع لما شُرب له، إلى غير ذلك.

هذا البئر على صغرها هي صغيرة وليس لها عمق يُذكر، ومع ذلك لا تنضب على مر العصور والأجيال، لا سيما في مثل هذا العصر صار يُستخرج منها ما الله به عليم، يشرب منه القاصي والداني، ومع ذلك هي قوية فيها ثلاثة عروق بعضها في غاية القوة في دفع الماء، ويذكر أهل الاختصاص ممن درسوا أو غاصوا فهيا دخلوا فيها ونحو ذلك، بأن جميع الآبار في العالم تأتي مياهها من ناحية الشمال -عروق الماء- أما هذه فتأتي بعكس ذلك من ناحية جبال الطائف، وفي العصر الحديث دراساتٍ أُجريت صار لها بصمة خاصة تميزها عن سائر المياه في العالم، لا يشبهها ماء في العالم سمعت هذا من بعض الذين أجروا عليها الدراسة، وطبقوا عليها معايير عالمية معروفة، فوجدوا أنها تتميز عن غيرها من المياه، وهذا الماء الذي فيها إلى الآن هذه الكثرة لا يوجد فيه خلط، لا يُخلط بغيره هو هكذا، وما قد يذكره بعض كبار السن ونحو ذلك يقولون: كانت في السابق لربما أغلظ مما هي عليه الآن ونحو هذا، يجيبون عنه بأنها تخضع أولًا تصفية، الأمر الثاني أنه يوجد خزانات أرضية خلقها الله في طريقها، فكان استخرجاها في السابق بإدلاء وذلك شيءٌ يسير فتمكث في هذه الخزانات الأرضية في طريقها مدة طويلة، فتكون ثقيلة بعض الشيء، لكن لما صار سحب الماء بكثرة لم تعد تبقى هذه المدة، لكن الخصائص هي الخصائص.

مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ [آل عمران:97] قيل: إنه بدلٌ من الآيات أو عطف بيان.

الفرق بين عطف البيان والبدل، عطف البيان يكون الثاني أوضح من الأول فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ [آل عمران:97]، فإذا كان مقام إبراهيم أوضح من الآيات فيكون عطف بيان.

وإنما جاز بدل الواحد من الجمع؛ لأن المقام يحتوي على آياتٍ كثيرة لدلالته على قدرة الله تعالى، وعلى نبوءة إبراهيم وغير ذلك.

يعني إذا قيل: بأن مقام إبراهيم هو المقصود بالآيات، فلماذا جُمع الآيات فيه آيات ما قال فيه: آيةٌ بينة مقام إبراهيم فيه آيات بينات، قال: "وإنما جاز بدل الواحد من الجمع؛ لأن المقام يحتوي على آياتٍ كثيرة لدلالته على قدرة الله تعالى" أو باعتبار أن أقل الجمع اثنان هذا على قول بعض أهل العلم، كما قال صاحب المراقي:

أقل معنى الجمع في المشتهر اثنان عند الإمام الحميري[32]

يعني: مالك -رحمه الله-.

والله يقول: كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ [النساء:11]، ومعلوم أنها تُحجب حجب نقصان من الثلث إلى السدس بوجود أخوين فأكثر، والله يقول: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ [البقرة:197] على القول بأنها: شوال، وذو القعدة، وعشر عند الحجة، وبعضهم يقول: بجر الكسر، وبعضهم يقول: قال أشهر باعتبار أن أقل الجمع اثنان، فيكون هنا: فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ [آل عمران:97] الأولى: مقام إبراهيم، الثانية: وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا [آل عمران:97]، فذكر اثنين باعتبار أن اقل الجمع كذلك.

وقيل: الآيات مقام إبراهيم، وأمن من دخله، فعلى هذا يكون قوله: وَمَنْ دَخَلَهُ عطفا، وعلى الأول استئنافا.

يعني: إذا قيل بأن فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ [آل عمران:97]، إن الآية هي مقام إبراهيم لماذا جمع؟ يكون باعتبار أن المقام يحوي جملةً من الآيات، وعلى القول بأن وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا [آل عمران:97] أنه معطوف على مقام إبراهيم، يعني: أنه آية أيضًا هي من جملة الآيات، فيكون باعتبار أن أقل الجمع اثنان، أو باعتبار أن المقام يحتوي جملةً من الآيات، مع أن وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا [آل عمران:97] فجمع فيه آيات بينات.

ويقول: "فعلى هذا يكون قوله: ومن دخله عطفًا، وعلى الأول استئنافًا" يعني: على القول بأن الآيات البينات هي مقام إبراهيم يكون هنا فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ [آل عمران:97]، فنقف ثم تأتي جملة جديدة، وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا [آل عمران:97] لا يكون تفسيرا للآيات البينات.

وقيل: التقدير منهن مقام إبراهيم.

"منهن مقام إبراهيم" أو أحدها مقام إبراهيم، وعليه فلا إشكال في كون مقام مفرد، وآيات جملة فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ [آل عمران:97]، منهن مقام إبراهيم، أو أحدها مقام إبراهيم.

فهو على هذا مبتدأ.

هو مبتدأ، وبعضهم يقول: خبر لمبتدأ محذوف والتقدير هي مقام إبراهيم والمقام.

فهو على هذا مبتدأ، والمقام هو الحجر المذكور، وقيل: البيت كله، وقيل: مكة كلها.

باعتبار أن مقام إبراهيم مفرد مضاف، فيشمل مقامات إبراهيم كما ذكرت، لا شك أن نفس مقام الحجر يدخل في ذلك دخولًا أوليًّا.

كَانَ آمِنًا [آل عمران:97]، أي: آمنًا من العذاب، وفي النسخة الخطية: آمنًا من العقاب، فإنه كان في الجاهلية إذا فعل أحدٌ جريمةً، وفي النسخة الخطية: جريرةً، ثم لجأ إلى البيت لا يُطلب، ولا يُعاقب.

لأن آمنًا من العقاب -كأنها أوضح- يعني: عقاب المخلوقين من دخله كان آمنا العقاب، "فإنه كان في الجاهلية إذا فعل أحدٌ جريمةً ثم لجأ إلى البيت لا يُطلب، ولا يُعاقب" وقد أخرج الشيخان عن النبي -صلى الله عليه وعلى وآله وسلم-: إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السموات والأرض، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة[33]، فالكلام له بقية، على كل حال في من دخل البيت وقد اجترم هل يُعيذه البيت من العقوبة؟ والمؤاخذة والأخذ أو لا؟

فأما في الإسلام فإنّ الحرم لا يمنع من الحدود، ولا من القصاص، وقال ابن عباسٍ وأبو حنيفة: "ذلك الحكم باقٍ في الإسلام إلّا أن من وجب عليه حدٌّ أو قصاصٌ، فدخل الحرم لا يُطعم ولا يُباع منه حتى يخرج"[34].

يعني يُضيق عليه حتى يخرج.

وقيل: آمنًا من النار.

وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا [آل عمران:97] أما القول بأنه: كان "آمنًا من النار" فهذا فيه نظر؛ لأن المشركين كانوا في البيت ويعبدون الأصنام، وذلك لا يكون أمانًا لهم من النار، لكن هذه الجملة هي صيغةٌ خبرية، وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا ومعناها الإنشاء، يعني: ليس ذلك بحكمٍ قدري، يعني: ليس بحكمٍ كوني، لو كان حكمًا كونيًّا لم يحصل أذى لأحدٍ دخل البيت، ومعلومٌ أن البيت وقع فيه ما وقع من قتل القرامطة الحجيج في ساحته، وصحن الكعبة وبين الصفا والمروة، ومُلئ بئر زمزم بالجثث، فلو كان حكمًا كونيًّا قدريًّا لم يحصل شيئًا من ذلك، لكنه خبر بمعنى الإنشاء يعني بمعنى الأمر بتأمين من دخله، يبقى أن من كان مجرمًا، فهل يأمن إذا دخل البيت؟

بعضهم يقول: يُضيق عليه حتى يخرج، ثم يؤخذ خارجه، وبعضهم يقول: البيت لا يعيذ مجرمًا ويؤخذ بذلك.

حِجُّ الْبَيْتِ [آل عمران:97] بيانٌ لوجوب الحج، واختُلف هل هو على الفور أو على التراخي؟ وفي الآية ردٌّ على اليهود لما زعموا أنهم على ملة إبراهيم، قيل لهم: إن كنتم صادقين فحجوا البيت الذي بناه إبراهيم ودعا الناس إليه.

في قوله: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ [آل عمران:97] يقول: "بيانٌ لوجوب الحج، وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ [آل عمران:97]" أو حَج البيت، الحافظ ابن القيم -رحمه الله[35] ذكر أن الآية تدل على الوجوب من عشرة أوجه، يقول: "وفي الحج أتى بهذا النظم الدال على تأكد الوجوب من عشرة أوجه، وذكر الأول أنه قدم اسمه تعالى، وأدخل عليه لام الاستحقاق ولله الاختصاص، ثم ذكر من أوجبه عليهم بصيغة العموم الداخل عليها حرف الجر على، عَلَى النَّاسِ [آل عمران:97]، ثم أبدل منه أهل الاستطاعة من استطاع، ثم نكَّر السبيل في سياق الشرط إذانًا بأنه يجب الحج على أي سبيلٍ تيسرت من قوتٍ، أو مال مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا [آل عمران:97]، فعلق الوجوب بحصول ما يُسمى سبيلًا، ثم أتبع ذلك بأعظم التهديد بالكفر فقال: وَمَنْ كَفَرَ [آل عمران:97] أي بعدم التزام هذا الواجب وتركه، ثم عظم الشأن وأكد الوعيد بإخباره باستغنائه عنه الله تعالى، هو الغني الحميد لا حاجة به إلى حج أحد، وإنما في ذكر استغنائه عنه هنا من الإعلام بمقته له وسخطه عليه، وإعراضه بوجهه عنه، ما هو من أعظم التهديد وأبلغه، ثم أكد ذلك بذكر اسم العالمين عمومًا، ولم يقل فإن الله غنيٌ عنه؛ لأنه إذا كان غنيًا عن العالمين كلهم، فله الغنى الكامل التام من كل وجه عن كل أحد بكل اعتبار، وكان أدل على عظم مقته لتارك حقه الذي أوجبه عليه، ثم أكد هذا المعنى بالأداة "إن" الدالة على التوكيد (فإن الله)، فهذه عشرة أوجه تقتضي تأكيد هذا الغرض العظيم"، ذكره في "بدائع الفوائد".

مَنِ اسْتَطَاعَ [آل عمران:97] بدل من الناس، وقيل: فاعل بالمصدر، وهو حج، وقيل: شرطٌ مبتدأٌ، أي: من استطاع فعليه الحج، والاستطاعة عند مالك هي: القدرة على الوصول إلى مكة بصحة البدن، إما راجلًا وإما راكبًا، مع الزاد المُبلغ والطريق الآمن[36]، وقيل: الاستطاعة الزاد والراحلة وهو مذهب الشافعي[37]، وعبد الملك بن حبيب، وروي في ذلك حديثٌ ضعيف[38].

مَنِ اسْتَطَاعَ يقول: "بدل من الناس" وبعضهم يقول: خبر لمبتدأ محذوف تقدير هم من استطاع وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ [آل عمران:97]، هم مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وقيل: فاعلٌ بالمصدر وهو حج، "وقيل: شرط مبتدأ، أي: من استطاع فعليه الحج" يعني محذوف.

قال: "الاستطاعة عند مالك هي القدرة على الوصول إلى مكة بصحة البدن، إما راجلًا وإما راكبًا، مع الزاد المُبلغ والطريق الآمن وقيل: الاستطاعة الزاد والراحلة وهو مذهب الشافعي وعبد الملك بن حبيب وروي في ذلك حديثٌ ضعيف" جاء عن ابن عُمر -ا-: "ما السبيل يا رسول الله؟ فقال: الزاد والراحلة[39]، وجاء نحوه أيضًا عن أنس [40] لكنه لا يصح، وحمله ابن جرير -رحمه الله- على الأتم منه معانيها على قدر الطاقة[41]، يعني قد لا يحتاج إلى لراحلة قد يكون في مكة، أو قريب من مكة، والله يقول: وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا [الحج:27] رجالًا: يعني: على الأقدام، وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ [الحج:27]، فقدم المشاة بعضهم يقول: لأن المشي أفضل، وبعضهم يقول: لأن الركبان يزدرونهم فجبرهم بالتقديم.

وَمَنْ كَفَرَ قيل: المعنى من لم يحج، وعبر عنه بالكفر تغليظا، كقوله -صلّى الله عليه واله وسلم-: من ترك الصلاة فقد كفر[42]، وقيل: أراد اليهود؛ لأنهم لا يحجّون، وقيل: من زعم أن الحج ليس بواجب.

يعني أنكر وجوبه فكفر به، فهذا الذي قال به أكثر السلف، وهو مروي عن ابن عباس، والضحاك، وابن عطاء، والحسن، ومجاهد، وعكرمة، ومقاتل[43]، واختره ابن جرير[44]، يعني ومن كفر: أنكر وجوب الحج.

وهنا يقول: "قيل: المعنى من لم يحج، وعبر عنه بالكفر تغليظا" ظاهر كلام ابن القيم -رحمه لله- من ترك الحج[45]، وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ [آل عمران:97]، كما قال الله : وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ [إبراهيم:8]، وكما قال الله تعالى: إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ [الزمر:7]، وقال: فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ [التغابن:6].

لِمَ تَكْفُرُونَ توبيخٌ لليهود.

الحافظ ابن كثير عممه في أهل الكتاب[46]؛ لأن الخطاب جاء عامًا يا أهل الكتاب لما تكفرون لما تصدون.

لِمَ تَصُدُّونَ [آل عمران:99] توبيخٌ أيضًا، وكانوا يمنعون الناس من الإسلام، ويرومون فتنة المسلمين عن دينهم، سَبِيلِ اللَّهِ هنا الإسلام، تَبْغُونَهَا عِوَجًا [آل عمران:99] الضمير يعود على السبيل، أي: تطلبون لها الاعوجاج.

تطلبون لها الاعوجاج يعني تطلبون، تَبْغُونَهَا عِوَجًا [آل عمران:99] يعني: زيغًا وتحريفًا واعوجاجًا في الدين، عِوجًا وهو بالكسر يُقال: فيما كان العِوج الفرق بين العِوج والعَوج، بعضهم يقول: بأنه بالكسر فيما كان في أرض، أو دين، أو معاش، عِوج، وبالفتح يُقال: فيما ينتصب كالحائط فيه عوج والعود ونحو ذلك، ومنهم من خص المكسور بالمعاني عِوج في الرأي، والدين، والمفتوح بالأعيان عَوج رمح، عَوج وهكذا بناءٌ عَوج فيه عَوج، والمعنى تطلبون لها تبغونها عِوج تطلبون لها اعوجاجًا، وميلًا عن القصد والاستقامة بإيهامكم الناس أنها كذلك.

وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ [آل عمران:99] أي: تشهدون أن الإسلام حق.

"تشهدون أن الإسلام حق" تشهدون أن هذه السبيل سبيل الله، أنها دين الله الذي لا يقبل من أحدٍ سواه، كما يقول ابن جرير -رحمه الله-[47]، وبعضهم يقول: وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ أي عقلاء، وبعضهم يقول: وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ الشهداء بين أهل دينكم مقبولون عندهم، وكأن ما ذكره ابن جرير -رحمه الله- أقرب.

إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا [آل عمران:100] الآية: لفظها عامٌ والخطاب للأوس والخزرج، إذ كان اليهود يريدون فتنتهم.

الآية على العموم يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ [آل عمران:100]، فهذا عام كما قال الله : وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ [البقرة:109].

وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ [آل عمران:101] إنكارٌ واستبعاد حَقَّ تُقَاتِهِ [آل عمران:102]، قيل: نسخها فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16]، وقيل: لا نسخ إذ لا تعارض، فإنّ العباد أُمروا بالتقوى على الكمال فيما استطاعوا تحرزًا من الإكراه وشبهه.

 هذا الأقرب أنها ليست منسوخة؛ وأن قوله: اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ [آل عمران:102]، قيل: نسخها فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16]، هذا الذي قال به، لهذا قال جماعة من السلف كقتادة، والربيع، وابن زيد، ومقاتل، يقال: ليس بآل عمران من المنسوخ غير هذا[48]، يعني: هذه الآية الوحيدة التي نُسخت، لكن هذا فيه نظر، والقاعدة أن النسخ لا يثبُت بالاحتمال، وهذه مُبينة لها وليست ناسخة، يعني اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ أن يُطاع فلا يُعصى، وأن يُذكر فلا يُنسى، وأن يُشكر فلا يُكفر، فيما يدخل تحت طاقة الإنسان وقدرته "فيما استطاعوا تحرزًا من الإكراه وشبهه" وقد جعل ابن مسعود قوله: اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ [آل عمران:102] قال: أن يُطاع فلا يُعصى، وأن يُذكر فلا يُنسى، وأن يُشكر فلا يُكفر، وجاء نحو هذا عن جماعة من السلف كمُرة الهمداني، والربيع بن خُثيم، وعمرو بن ميمون، الحسن البصري، بن طاووس، وقتادة، إبراهيم النخعي، جاء عن أبي سنان أيضًا والسُدي[49] مثل هذا.

وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ [آل عمران:103] أي: تمسكوا، والحبل هنا مستعارٌ من الحبل الذي تُشد عليه اليد، والمراد به هنا: القرآن، وقيل: الجماعة.

وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ أصل العصمة الإمساك والملازمة، والمنع، والمراد أن تتمسكوا بدينه وعهده إليه بالألفة، والاجتماع على كلمة الحق، كما قال الله : شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ [الشورى:13]، إلى أن قال: أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ [الشورى:13]، وقال: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ [الأنعام:153]، وهكذا في الحديث: إن الله يرضى لكم ثلاثًا، ويكره لكم ثلاثًا[50]، وذكر وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا.

وبنحو هذا قال الإمام ابن جرير -رحمه الله-[51]، وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ [آل عمران:103] وأصل الحبل يُقال: للسبب الذي توصلوا به إلى المطلوب إلى البُغية، وفُسر بالاسم والقرآن والإخلاص بطاعة الله، وفسره الحافظ ابن كثير وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ [آل عمران:103] أي بعهده[52].

قال هنا: "تمسكوا، والحبل هنا مستعارٌ من الحبل الذي تُشد عليه اليد، والمراد به هنا: القرآن، وقيل: الجماعة" حبل الله وعهده وكتابه، الإسلام الكتاب والسنة.

وَلا تَفَرَّقُوا [آل عمران:103] نهي عن التدابر والتقاطع، إذ قد كان الأوس هموا بالقتال مع الخزرج، لما رام اليهود إيقاع الشر بينهم، ويحتمل أن يكون نهيًا عن التفرق في أصول الدين، ولا يدخل في النهي الاختلاف في الفروع.

الاختلاف الذي يؤدي إلى التقاطع، والتدابر، والشحناء، والعداوات، هذا هو المحرم، وهذا الخلاف المذموم ما أدى إلى التدابر، والتقاطع، والتهاجر، والبغضاء، فهذا مُحرم وكل سببٍ يؤدي إلى ذلك، فهو مُحرم، والواجب على الناس أن يمتثلوا أمر الله -تبارك وتعالى-: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ وَلا تَفَرَّقُوا [آل عمران:103] ولو فعلوا ذلك لكانوا أمةً واحدة لا يقف أمامها أحد.

الاعتصام بحبل الله للزوم الحق الثبات عليه والإعراض عما سوى ذلك من السُبل المضلة والأهواء المنحرفة، ويكونون مجتمعين على هذا الحبل لا يتفرقون أبدًا، فهذا هو الواجب وكل ما خالفه فهو مذموم مُحرم، ولا يجوز كل ما يؤدي إلى القطيعة والهجر، والتدابر، والبغضاء بين المسلمين، والتفرق فهو ما حرمه الله وهذه الآية لو عمل الناس بمقتضاها لما صاروا إلى هذه الحالة التي نشاهدها، يستضعفهم كل أحد من أمم الأرض، ومن اليهود الذين ضُربت عليهم الذلة والمسكنة وصاروا أضعف الأمم، وهم في هذه الحال من الشدة والأوى والبؤس، في غاية التفرق إذا كانوا في غاية الشدة متفرقين، فكيف يجتمع هؤلاء في حال الغنيمة، والنصر، والغلبة، والقوة؟ هذا لا يمكن، ولا شك أن هذا لغلبة الهواء ولضعف العقول، فإلى الله المشتكى.

ونحن لا نؤمل نصرًا ولا عزة مع مثل هذه الحال، لا في تفرق من ينتسبون إلى القتال والجهاد في سبيل الله، ولا في تفرق المنتسبين إلى الدعوة إلى سبيل الله، لا يُؤمن مع هذا لا عزة، ولا نصر، ولا قوة تمكين، فإذا كان مثل هؤلاء في مثل هذه الحال، فلا تسأل عن حال غيرهم، والله المستعان، هذا بلاء الأمة، وهذا الداء هذا موضع العلة الذي ينبغي أن نضع الإصبع عليه، وأن يُعالج وأن يتجرد الناس من أهوائهم لله من بإخلاص وصدق، ويقوموا قومة رجلٍ واحد متخلين عن حظوظ النفس، وعن كل ما يسبب شتات الشمل والفرقة، نحسبهم جميعًا قلوبهم شتى لما ذم الله اليهود والمنافقين على هذا القول، يدل عليه ظاهر السياق علل ذلك بقلة العقل، ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ [الحشر:14] لو كانوا يعقلون ما فعلوا هذا ولا وقعوا فيه.

إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً [آل عمران:103] كان بين الأوس والخزرج عداوةٌ وحروبٌ عظيمة، إلى أن جمعهم الله بالإسلام، شَفَا حُفْرَةٍ [آل عمران:103] أي: حرف حفرة، وذلك تشبيهٌ لما كانوا عليه من الكفر والعداوة التي تقودهم إلى النار.

ابن جرير -رحمه الله- يقول: وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ [آل عمران:103]: "يعني: على طرف جهنم بكفركم الذي كنتم عليه، ليس بينكم وبين دخول النار إلا الموت"[53]، وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ، على حرف حفرةٍ طرف، أو على جرف حفرة.

وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ [آل عمران:104]، الآية: دليلٌ على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبٌ، وقوله: منكم: دليلٌ على أنه فرض كفاية؛ لأن من للتبعيض، وقيل: إنها لبيان الجنس، وأن المعنى: كونوا أمة. وتغيير المنكر يكون باليد وباللسان وبالقلب، على حسب الأحوال.

وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ هنا يقول: "دليل على الأمر بالمعروف" إلى آخره، اللام هذه لام الأمر، ومعروف أن الأمر له صيغتان: الصيغة الأولى افعل، والصيغة الثانية: الفعل المضارع الذي دخلت عليه لام الأمر لتفعل، وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ فهذا أمر والأمر للوجوب.

يقول: "وقوله: منكم: دليلٌ على أنه فرض كفاية؛ لأن من للتبعيض، وقيل: إنها لبيان الجنس،"يعني: كونوا أمة على القول بأنه للتبعيض، وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ [آل عمران:104]، أن ذلك لا يجب على الجميع، فإذا قام به البعض سقط عن الباقين، لكن إذا كان المنكر قائمًا فيجب على كل من استطاع تغييره أن يغيره، وعلى القول بأنها بيانية، يعني وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ، كما تقول لكل إنسان مثلًا لأولاده: أريد منكم أبناء بررة، هو لا يريد أن يكون بعض هؤلاء بررة، وإنما يريد الكل، المعلم لتلامذته: أريد منكم تلامذة نُجباء، لا يريد بعضهم، وإنما يريد من جميعهم أن يكونوا كذلك نُجباء، وهذا وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ، لتكونوا أمة تتصف بهذه الصفة، وهي تأمر بالمعروف تنهى عن المنكر؛ لأن ذلك مناط الفلاح أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ، ومناط الخيرية: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [آل عمران : 110]، وكأن هذا هو الأقرب أما من هنا بيانية وليست تبعيضية، تكون كونوا أمةً.

كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا هم اليهود والنصارى، نهى الله المسلمين أن يكونوا مثلهم، وورد في الحديث أنه قال: افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق أمتي على ثلاثٍ وسبعين فرقة كلها في النار إلّا واحدة، قيل: ومن تلك الواحدة؟ قال: من كان على ما أنا وأصحابي عليه[54].

 

 

  1. إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان (2/321).
  2. تفسير ابن كثير ت سلامة (2/76).
  3. تفسير الطبري (5/588).
  4. تفسير ابن كثير (1/379).
  5. أخرجه أحمد في المسند، برقم (2471)، وقال محققوه: "حسن، وهذا إسناد ضعيف"، وبرقم (2514)، وقال محققوه: "حسن، وهذا إسناد ضعيف".
  6. أخرجه الترمذي، أبواب تفسير القرآن عن رسول الله -ﷺ، باب ومن سورة الرعد، برقم (3117)، وقال: "هذا حديث حسن غريب".
  7. أخرجه البخاري، كتاب الطلاق، باب {لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} [التحريم:1]، برقم (5267)، ومسلم، كتاب الطلاق، باب وجوب الكفارة على من حرم امرأته، ولم ينو الطلاق، برقم (1474).
  8. تفسير ابن كثير (2/77).
  9. أخرجه أحمد في المسند، برقم (21468)، وقال محققوه: "إسناده صحيح على شرط الشيخين".
  10. تفسير الطبري (5/590).
  11. أخرجه البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، برقم (3366)، ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، برقم (520).
  12. انظر: شرح مشكل الآثار (1/109).
  13. انظر: زاد المعاد في هدي خير العباد (1/50).
  14. أخرجه الحاكم في المستدرك، برقم (3654)، وقال: "هذا حديث صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه"، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة، برقم (3289).
  15. انظر: شرح مشكل الآثار (1/109).
  16. تفسير ابن كثير (2/78).
  17. التحرير والتنوير (4/13).
  18. تفسير ابن كثير (2/78).
  19. التبري من معرة المعري (ص:1، بترقيم الشاملة آليا).
  20. التبري من معرة المعري (ص:1، بترقيم الشاملة آليا).
  21. تفسير الطبري (5/594).
  22. تفسير الطبري (5/590).
  23. فتح الباري لابن حجر (6/408).
  24. عمدة التفسير، اختصار تفسير ابن كثير للعلامة أحمد شاكر (1/361).
  25. تفسير ابن كثير (2/77).
  26. تفسير ابن كثير (2/79).
  27. بدائع الفوائد (2/46).
  28. انظر: البداية والنهاية ط هجر (1/379).
  29. تفسير ابن كثير (2/79).
  30. البداية والنهاية ط إحياء التراث (1/189)، و(3/70).
  31. تفسير ابن كثير ت سلامة (1/414)، و(1/416)، والدر المنثور في التفسير بالمأثور (1/290).
  32. نشر البنود على مراقي السعود (1/234).
  33. أخرجه البخاري، كتاب الجزية، باب إثم الغادر للبر والفاجر، برقم (3189)، ومسلم، كتاب الحج، باب تحريم مكة وصيدها وخلاها وشجرها ولقطتها، إلا لمنشد على الدوام، برقم (1353).
  34. تفسير ابن كثير (2/79)، وتفسير القرطبي (4/140).
  35. انظر: بدائع الفوائد (2/45).
  36. انظر: القوانين الفقهية (ص:86)، والفواكه الدواني على رسالة ابن أبي زيد القيرواني (1/351).
  37. انظر: الأم للشافعي (2/127)، والبيان في مذهب الإمام الشافعي (4/28)، والمجموع شرح المهذب (7/64).
  38. حديث ابن عمر الآتي.
  39. أخرجه الترمذي، أبواب الحج عن رسول الله -ﷺ، باب ما جاء في إيجاب الحج بالزاد والراحلة، برقم (813)، وابن ماجه، أبواب المناسك، باب ما يوجب الحج، برقم (2896)، وضعفه الألباني في ضعيف الجامع، برقم (3335).
  40. أخرجه الحاكم في المستدرك، برقم (1613)، وقال: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه"، والدارقطني في سننه، برقم (2426)، وابن كثير في التفسير (2/83)، والسيوطي في الدر المنثور في التفسير بالمأثور (2/273).
  41. تفسير الطبري (5/616).
  42. أخرجه الترمذي بلفظ: ((العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر))، باب ما جاء في ترك الصلاة، باب ما جاء في ترك الصلاة، برقم (2621)، والنسائي، كتاب الصلاة، باب الحكم في تارك الصلاة، برقم (463)، وأحمد في المسند، برقم (22937)، وقال محققوه: "إسناده قوي"، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (4143).
  43. انظر: تفسير ابن كثير (2/84-85).
  44. تفسير الطبري (5/624).
  45. بدائع الفوائد (2/45).
  46. تفسير ابن كثير (2/85).
  47. تفسير الطبري (5/626).
  48. تفسير ابن كثير (8/140).
  49. تفسير ابن كثير (2/87).
  50. أخرجه مسلم، كتاب الأقضية، باب النهي عن كثرة المسائل من غير حاجة، والنهي عن منع وهات، وهو الامتناع من أداء حق لزمه، أو طلب ما لا يستحقه، برقم (1715).
  51. انظر: تفسير الطبري (5/643).
  52. تفسير ابن كثير (2/89).
  53. تفسير الطبري (5/657).
  54. لم أجده بهذا اللفظ، ولكن أخرجه أبو داود عن أبي هريرة بلفظ: ((افترقت اليهود على إحدى أو ثنتين وسبعين فرقة، وتفرقت النصارى على إحدى أو ثنتين وسبعين فرقة، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة))، كتاب السنة، باب شرح السنة، برقم (4596)، والترمذي عن أبي هريرة بلفظ أبي داود غير قوله: ((تفرقت... ))، وقال: حديث حسن صحيح، أبواب الإيمان عن رسول الله -ﷺ، ما جاء في افتراق هذه الأمة، برقم (2640)، وعن عبد الله بن عمرو -ا- بلفظ: ((ليأتين على أمتي ما أتى على بني إسرائيل حذو النعل بالنعل، حتى إن كان منهم من أتى أمه علانية لكان في أمتي من يصنع ذلك، وإن بني إسرائيل تفرقت على ثنتين وسبعين ملة، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة، كلهم في النار إلا ملة واحدة))، قالوا: ومن هي يا رسول الله؟ قال: ((ما أنا عليه وأصحابي))، برقم (2641)، وصحح الألباني حديث أبي هريرة في صحيح الجامع، برقم (1083)، وضعف حديث عبد الله بن عمرو -ا- الألباني في تحقيق مشكاة المصابيح، برقم (171).

مواد ذات صلة