الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحابته الطيبين الطاهرين، أما بعد:
فيقول الإمام ابن جزي الكلبي، عند قوله -تعالى-:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فقوله -تبارك وتعالى-: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ قال: "العامل فيه محذوفط يعني: واذكر، أو واذكروا يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ.
قال: "وقيل: عَذَابٌ عَظِيمٌ" يعني: العامل فيه ما قبله: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [آل عمران:105] فهذا هو الذي اختاره ابن جرير -رحمه الله-[1]، العامل فيه الآية قبلها، لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ هكذا يكون المعنى: عَذَابٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ.
قال الحافظ ابن كثير -رحمه الله-: تَبْيَضُّ وُجُوهٌ أهل السنة والجماعة، وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ أهل البدعة، والفرقة"[2]، ونحو هذا قال ابن عباس -ا-[3].
وجاء عن الحسن: أن ذلك في المنافقين[4]، يعني: تسودّ وجوه المنافقين، ولاشك أن الكفار مِن مَن تسْوّد وجوههم، وكذلك أهل النفاق، وأهل البدع الغليظة -أيضًا- هؤلاء كذلك، وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ [الزمر:60]، قال الله -تبارك وتعالى-: وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا [طه:102]، الزرقة هنا: يعني زرقة العيون.
في قوله -تبارك وتعالى-: أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ هذا قرينة، عند من قال: بأن المراد بالآية أهل النفاق، وهل آمن المنافقون، يمكن أن يكون بعض هؤلاء آمن، ثم بعد ذلك نافق، وارتد، والمنافق كافرٌ في الباطن، ويمكن أن يكون ذلك، باعتبار ما أظهروه من الإيمان، كقوله -تعالى-: لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ [التوبة:66] يعني: الذي أظهرتموه، على قولٍ معروف في التفسير، فهذا قرينة تدل على أن المراد بذلك أهل النفاق، ولاشك أنهم بهذه الصفة، تَسْوَدُّ وُجُوهٌ هم أهل الدرك الأسفل من النار.
لكن هل يختص ذلك بهم، قد لا يختص بهم، فإنها سواد الوجه -نسأل الله العافية- يكون للكفار، ويكون للمنافقين، ولكل من خاب في ذلك اليوم، وأيضًا قول من قال بأنهم: "أهل البدعة"[5]، تكون هذه قرينة تدل على هذا، والمقصود: البدعة الغليظة التي تخرج صاحبها من الملة، أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ ووقعوا في ضلالةٍ، وبدعة بعد الإيمان.
وكذلك من ارتد عن الإسلام، يصدق عليه: أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ.
قال: "وقيل: للخوارج" الخوارج لاشك أن ذلك يصدق عليهم، عند من قال بأنهم كفار، والكلام في الخوارج معروف، ولما سئُل علي : أكفارٌ هم؟ قال: من الكفر فروا، لكن قوله -صلى الله عليه وآله وسلم-: يمرقون من الدين، كما يمرق السهم من الرمية[6]، فَهِم منه طوائف من أهل العلم، بأن هؤلاء خرجوا عن الإسلام، فقوله: أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ بهذا الاعتبار يدخل فيه الخوارج.
قال: "وقيل: لليهود، لأنهم آمنوا بصفة النبي ﷺ المذكورة ..." إلى آخره، والحديث عن هذه القرينة، وأما سواد الوجه -فكما سبق- أنه يكون لكل من خاب في ذلك اليوم، والله أعلم.
ولا يوجد طرف ثالث يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ، يعني: لا يوجد بين بين، فذكر الذين اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ، أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ، وذكر الذين ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ، قال: فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [آل عمران:107] في الجنة، فالناس هناك في ذلك اليوم إما إلى الجنة، وإما إلى النار.
قوله: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ عددها جمع من المفسرين، إلى أن: كان هنا تامة، بمعنى: وُجِدتم، يعني ليست الناسخة، التي يكون المبتدأ اسمًا لها، والخبر خبرًا لها، وإنما التامة، بمعنى: وُجِدتم، كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أي: وُجِدتم خير أمة، وبعضهم يقول: أنها هنا كان لا تدل على زمان، وإنما هي مبينة لاتصاف المبتدأ بالخبر، وتحقق وجوده فيه فحسب، يعني: ليس في الزمن الماضي -مثلًا- كان في الماضي، كنتم، طيب والآن؟ وفي المستقبل؟ فقالوا: لا، هنا ليس المراد الزمان، وإنما فقط لبيان اتصاف المبتدأ بالخبر، كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ يعني أصل الكلام: أنتم خير أمة أخرجت للناس، ودخلت كان كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ.
وهنا يقول: "كان هنا هي التي تقتضي الدوام كقوله: وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا" يعني :كان في الماضي، في الحاضر، في المستقبل.
"وقيل:كنتم في علم الله" يعني: في اللوح المحفوظ.
"وقيل: كنتم فيما وصفتم به في الكتب المتقدمة، وقيل: كنتم بمعنى أنتم". يعني: يا أمة الإسلام قد جُعلتم خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ والخطاب لجميع المؤمنين، وقيل: للصحابة خاصة، لحديث معاوية بن حيدة : إنكم تتمون سبعين أمة، أنتم خيرها، وأكرمها على الله[7].
قال أبو هريرة : في هذه الآية: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ قال: خير الناس للناس، تأتون بهم في السلاسل في أعناقهم، حتى يدخلوا في الإسلام[8]، ليس المقصود بهذا: الإكراه، وإنما قصد بذلك: أنهم يأتون في السبي أسارى ومماليك، ثم ما يلبس الواحد منهم حتى ترتاض نفسه، وينشرح صدره، ويدخل في الإسلام، يعني تأتون بهم مقيدين في السلاسل، أسرى في الحرب، أو مماليك تسترقونهم، ثم بعد ذلك يعرفون الإسلام ويدخلون فيه، عبّر بمثل هذا، وليس المقصود أنه: الناس يجبرون على الدخول في الإسلام.
قال الله -تبارك وتعالى-: لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ وبعضهم يقول: كنتم، يعني: منذ أسلمتم، كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ وهذا لا يخلو من بعد، وابن جرير -رحمه الله- يذهب إلى أن إدخال كان في مثل هذا الموضع وإسقاطها، بمعنى واحد، أنها هنا لا تدل على زمان[9]، مثل: وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ [الأنفال:26] يعني: حيث كنتم كذلك، فأسقطت كان، وكذلك وَاذْكُرُوا إِذْ كُنتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ [الأعراف:86] (كنتم)، فلاحظ: وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ ما قال: (كنتم قليل مستضعفون).
وفي الثانية: جاءت كان، وَاذْكُرُوا إِذْ كُنتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ لاحظ: فتارةً تُسقط، وتارةً تُذكر، والمعنى: ظاهر، وذلك المعنى عنده أنتم خير أمة أخرجت للناس، هذا المعنى عند بن جرير -رحمه الله- دون النظر إلى معنى: كان، أنها في الماضي، ونحو ذلك، وهذا الذي حمل المفسرين على توجيه ذلك إلى بعض ما سمعتم، باعتبار أنها تدل على الزمن الماضي.
ابن جرير يرى، أن: دخولها، وعدمه سواء، فهي لا تدل على الزمان هنا، مع إنه استحسن -أيضًا- تفسير كان بأنها تامة، أي: وُجِدتم خير أمة، أو خُلِقتم خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ.
ومقتضى حديث أبو هريرة: خير الناس للناس، تأتون بهم في السلاسل ... إلى آخره، قال ابن عباس، ومجاهد، وعطية العوفي، وعكرمة، وعطاء، والربيع بن أنس[10]، كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ فهذا على كل حال، لا يختص بزمنٍ مضى، وإنما هذه صفة الأمة ثابتة، إذا كانت متحققةً بهذا الوصف: تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران:110].
لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى قال: "بالكلام خاصة" استثناء هنا، يعني: لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى إلا أذى عند بعضهم، وبعضهم يقول: منقطع، يعني: لكن أذى، وابن جرير -رحمه الله- فسره، بأنهم لَنْ يَضُرُّوكُمْ: بكفرهم، وشركهم، إِلَّا أَذًى: بما يسمعونكم من الكلام القبيح، ونحو ذلك، ما يسمعونكم في عيسى -عليه الصلاة والسلام- باعتبار أن السياق في كثير من آيات هذه السورة في صدرها موجه لأهل الكتاب، لما يسمعونكم في عيسى وأمه من القول السيء.
فهذا لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى إلا أذى، هل الأذى من الضرر، أو لا؟ إذا قلت: بأن: الأذى من الضرر فالاستثناء متصل، وأنه نوعٌ منه، وإذا قلت، بأن: الأذى ليس من الضرر، فالاستثناء منقطع، ليس من جنس المستثنى منه.
تأمل قول الله -تبارك وتعالى- في الحديث القدسي: إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني))[11]، مع قوله في الحديث الآخر القدسي: يؤذيني ابن آدم، يسب الدهر، وأنا الدهر[12]، فأثبت الأذى ونفى الضرر، فأثبت الأذى ونفى الضرر عنه الخلق أضعف من أن يلحقوا به ضررًا، لكن الأذى يؤذيني ابن آدم.
فهنا: لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى فعلى هذا الاعتبار، يكون الأذى غير الضرر، يعني: لن يبلغوا منكم الضرر، وإنما غاية ما هنالك أنهم يؤذونكم، يؤذونكم بما يسمعونكم من الكلام القبيح، ونحو ذلك، والله أعلم.
باعتبار لو حصل القتال لا يقاتلوكم، وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ [آل عمران:111].
يقول: "وعطفت الجملة ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ على جملة الشرط، وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأَدْبَارَ" فهنا، ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ هذه يقول: "عطفت الجملة على جملة الشرط والجزاء" معطوف عليها وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأَدْبَارَ، ثُمَّ هذه عاطفة، لا يُنْصَرُونَ.
قال: و"ثُمَّ لترتيب الأحوال" يعني: أن ثُمَّ هنا ليس للترتيب الزمني، وإنما ثُمَّ تكون أحيانًا لبيان الرتبة: ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا [البلد:17]، وتارةً تكون للترتيب الزمن، هنا يقول: "لترتيب الأحوال" فذكر أنهم يولون الأدبار، وذكر حالًا أخرى أنهم لا يُنْصَرُونَ.
قال: "لأن عدم نصرهم على الإطلاق؛ أشد من توليهم الأدبار حين القتال". يعني: قد يولون الأدبار، ثم يكون لهم كرّة، كما حصل للمشركين يوم أُحد، هُزموا في أول المعركة، وولوا الأدبار، وذهب النساء لا يلوين على شيء، صُعدًا في الجبل حاسرات عن سوقهن حتى بدت خلاخلهن، ثم بعد ذلك تحول ميزان المعركة، ووقع ما وقع، والله المستعان.
هنا في قوله تعالى: ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ قبله: وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ [آل عمران:110] هذا الكلام عم أهل الكتاب، لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ [آل عمران:111-112] هذه الأوصاف غضب، قتل الأنبياء، منطبقة على اليهود، ولذلك حمل كثيرٌ من أهل العلم، هذه الآية على اليهود، وبعضهم عممها في أهل الكتاب.
فقوله: ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ، وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ، ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ فهذا في الذلة، وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ هذه مطلقة، وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ فهذه ثلاثة أوصاف، الوصف الأول: أنهم ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ فهذا في الذلة، لكن الغضب والمسكنة، هذه ملازمة لهم في كل الأحوال.
فقوله -تبارك وتعالى-: ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ قال: "الحبل هنا؛ العهد" هذا قال به ابن عباس -ا- ومجاهد، وعكرمة، وعطاء، والضحّاك، والحسن، قتادة، والسُدي، والربيع بن أنس[13]، إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ يعني: "العهد".
قال: "والذمة" بعضهم يقول: أي: بذمةٍ من الله، بذمةٍ من الله، والمقصود بذلك: عقد الذمة لهم، عقد الذمة لهم، وضرب الجزية عليهم، وإلزامهم أحكام الملة، وهذا الذي اختاره جمعٌ من المفسرين؛ كابن كثير[14]، ومن المعاصرين: الطاهر بن عاشور[15]، والشيخ عبد الرحمن السعدي[16] رحمهم الله.
والحافظ بن كثير -رحمه الله- فسر الحبل من الناس: بالأمان[17]، إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ الأمان الذي يعطيه الناس لهم، كما في المهادن، والمُعَاهد، والأسير إذا أمّنه أحدٌ من المسلمين، وبعضهم يقول: إذا كانوا تحت ولاية غيرهم هذا الحبل من الناس، أو إذا استنصروا بغيرهم: كما يقول الشيخ عبد الرحمن السعدي -رحمه الله-[18].
فالمقصود هنا، إن الذلة ضُربت عليهم ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ، إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ هل الاستثناء هنا متصل، بمعنى أنه: إذا حصل لهم هذا الحبل من الناس، رُفعت عنهم الذلة؟ أو أنه استثناءٌ منقطع، بمعنى: لكن بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ يأمنون، فالذل لا يفارق أعداء الله -تبارك الله وتعالى- سواء كانوا اليهود، أو غير اليهود، كما قال النبي ﷺ: وجُعل الذل والصغر على من خالف أمري[19]، لكن هؤلاء يأمنون بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ.
الحبل من الله: يمكن أن يكون، بمعنى: العهد الذي يعطيه أهل الإيمان لهم، باعتبار أنهم: إنما يفعلون ما يفعلون، بأمر الله -تبارك وتعالى- ملتزمين حكمه، وشرعه، والحبل من الناس: العهد الذي يعطيه الناس لهم، يعني غير المسلمين، ويحصل لهم به الأمان؛ ولهذا قال من قال بأنه: إذا كانوا تحت حكم غيرهم، يعني: لكن حينما يكونون تحت حكم المسلمين، ويدفعون الجزية حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ [التوبة:29]، هل ارتفعت عنهم الذلة بهذا؟ أبدًا لم ترتفع.
وحتى إنه قال بعض السلف في قوله: حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ بعضهم قال: المقصود بقوله: عَنْ يَدٍ أن يأتي هو لا ينيب غيره، ليكون ذليلًا صاغرًا، يعني: لا يبعث بها أحد، يأتي هو بنفسه، وهو ذليلٌ صاغر، وبعضهم قال: يأخذها المسلم وهو جالس، ويدفعها الذمي وهو قائم.
فهذا مع ما ذُكر في أحكام أهل الذمة، فيما يتعلق بتميزهم في لباسهم، إلى آخره، كل ذلك يرجعٌ إلى الصغار، والذل، وليس له أن يمشي في وسط الطريق، و... الخ.
فيكون على هذا الاستثناء؛ من قبيل المنقطع، فهي لا تفارقهم، لكن يأمنون على أنفسهم، إذا كان لهم أمان، أو عهد، أو عقد ذمة، ونحو ذلك، والله أعلم.
ولاحظ العبارات: ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ، الضرب: يدل على أن ذلك شيءٌ، في غاية الثبوت، والتحقق، وكذلك وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ، والله أعلم.
لما ذكر هذه الأوصاف، والأحوال السيئة، بيّن أنهم: لَيْسُوا سَوَاءً ليسوا سواء في هذه الأوصاف، والأحوال، "لَيْسُوا سَوَاءً ليس أهل الكتاب مستويين في دينهم". يعني: منهم صلحاء أخيار، منهم: أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ [آل عمران:113] من هم هؤلاء؟ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ [آل عمران:114] فلذلك حمله أبو جعفر ابن جرير[20]، والحافظ ابن كثير[21]، على الطائفة المؤمنة من أهل الكتاب، يعني: الذين آمنوا بالنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- ويقابلهم لَيْسُوا سَوَاءً الفريق الكافر الذي لم يؤمن.
فهؤلاء الذين أثنى الله عليهم، هم من آمن بالنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- ويمكن أن يقال: بأن ذلك يصدق عليهم بلا شك، يعني: من آمن بالنبي ﷺ أدركه، فآمن به، وكذلك من كان قبل بعث النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- من أهل الإيمان منهم، والتوحيد، والاستقامة، والطاعة، والعمل الصالح، قبل بعث النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-.
لاشك أنه يوجد منه قصة إسلام سلمان معروفة، فيوجد منهم فئة، بقيت على الإيمان الصحيح، والتوحيد، وكانت تنكر ما عليه جمع هؤلاء، من الشرك بالله ومحادة الله، ورسوله -عليهم الصلاة والسلام- فهؤلاء داخلون في هذا، لكن بعد بعث النبي ﷺ ما من يهوديٍ، ولا نصرانيٍ، يسمع بي من هذه الأمة، ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار[22]، فلا يمكن أن يُثنى على أحدٍ منهم، بعد النبي ﷺ وهو باقٍ على ملته، يكون كافرًا.
وثعلبة بن سعية، وليس ابن سعيد، وأخيه أسد، وبعضهم يقول: أُسيد.
يقول: منهم "أُمَّةٌ قَائِمَةٌ أي: قائمةٌ بالحق" هكذا فسره، كما قال ابن كثير: "قائمة بأمر الله، مطيعة لشرعه، ومتبعة للنبي -صلى الله عليه وآله وسلم-"[23]، يعني قائمة بمعنى: مستقيمة، منهم أُمَّةٌ قَائِمَةٌ أي: مستقيمة، على أمر الله -تبارك وتعالى-.
وقوله -تبارك وتعالى-: لَيْسُوا سَوَاءً جاء عن ابن مسعود قال: أخّر رسول الله ﷺ ليلةً صلاة العشاء، ثم خرج إلى المسجد، فإذا الناس ينتظرون الصلاة، فقال: أما إنه من هذه الأديان أحدٌ يذكر الله هذه الساعة غيركم، قال: وأُنزلت هذه الآية: لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ[24].
أما هذا الذي ذكره المؤلف، قال، بأنها: "فيمن أسلم من اليهود: كعبد الله بن سلام.." إلى آخره، هذا جاء في أثر لا يصح، عن ابن عباس -ا- قال: "لما أسلم عبد الله بن سلام، وثعلبة بن سعية، وأسيد بن سعية، وأسيد بن عبيد، ومن أسلم من اليهود معهم، فآمنوا، وصدّقوا، ورغبوا في الإسلام، قالت أحبار اليهود وأهل الكفر منهم: ما آمن بمحمد، وتبعه إلا شرارنا، ولو كانوا خيارنا ما تركوا دين آبائهم، وذهبوا إلى غيره، فأنزل الله: لَيْسُوا سَوَاءً"[25]، لكن هذه الرواية لا تصح، هذا الذي يشير إليه المؤلف -رحمه الله- أنها: "فيمن أسلم من اليهود".
لكن من جهة المعنى، أن الثناء لا يكون إلا على من آمن بالنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- أو كان قبل مبعثه مستقيمًا، على الإيمان، والتوحيد، من غير إشراكٍ.
يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ المقصود أن: لا يُفهم بحالٍ من الأحوال، أنهم يتلون الآيات في حال السجود؛ لأن ذلك ليس بموضعٍ لتلاوة الآيات، وقد يفهم من ظاهر الآية، أنهم يتلون حال سجودهم، وهذا غير مراد، وقد ورد النهي عن ذلك، كما في حديث علي، وابن عباس -ا- عند مسلم[26]، ولذلك فسره بعضهم: بالصلاة، يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ يعني: وهم يصلون.
لكن رده ابن جرير -رحمه الله- وحمله على معنى، يعني: يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وهم مع ذلك يسجدون فيها، يعني: في مواضع السجود[27].
فهذا ما ذهب إليه ابن جرير-رحمه الله- ومحتمل أن المقصود: يَسْجُدُونَ أنه: عُبِر بذلك عن الصلاة، وإذا عُبِر عن العبادة بجزءٍ منها، فهذا يدل على ركنيته، يُعبر بجزء شريف، كما قال الله : وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا [الإسراء:78] والمقصود به: القراءة في صلاة الفجر في الفريضة، تشهدها ملائكة الليل، وملائكة النهار، فالصلاة قد يُعبَر عنها بجزءٍ شريفٍ منها: يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ يعني: في حال الصلاة التي عُبِر عنها بالسجود.
وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ تُكْفَرُوهُ نلاحظ بالتاء هنا: فَلَنْ تُكْفَرُوهُ عداه إلى مفعولين، فَلَنْ تُكْفَرُوهُ وهو لا يتعدى إلا إلى مفعولٍ واحد، يعني كفر، وقيل: لتضمنه معنى الحرمان، فلن تحرموه، ولهذا قال هنا: "لن تحرموا ثوابه" وهذه القراءة بالتاء: فَلَنْ تُكْفَرُوهُ على أن الخطاب لأمة محمد -صلى الله عليه وآله وسلم- على هذه القراءة؛ قراءة الجمهور.
وعلى قراءة حمزة، والكسائي، وحفص بالياء: فَلَن يُكْفَرُوهُ على أن المراد: الطائفة المؤمنة من أهل الكتاب، وبعضهم من يقول، المراد: من كان على استقامةٍ من أهل الكتاب، قبل مبعث النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- كما ذكرت آنفًا: وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَن يُكْفَرُوهُ.
القراءتان إذا كان لكل قراءةٍ معنى، فهما بمنزلة الآيتين كما في القاعدة المعروفة، فهنا: وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ تُكْفَرُوهُ يكون موجهًا لهذه الأمة، أمة محمد ﷺ وهذا معنىً صحيح لا إشكال فيه.
وكذلك وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ يكون موجهًا لهذه الطائفة، المؤمنة، القائمة، المستقيمة لأمر الله -تبارك وتعالى- من أهل الكتاب، ممن تابع نبيه متابعةً صحيحة، وآمن إيمانًا صحيحًا، قبل مبعث النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- وكذلك من أدرك النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- وآمن به منهم، فهؤلاء وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ، والله أعلم.
مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ [آل عمران:117] هنا في تشبيه مَا يُنْفِقُونَ بريحٍ أتت على حَرْثَ يعني: زرع، قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ تشبيه هنا النفقة بالريح التي أهلكت الزرع، النفقة لا تشبه بالريح، يعني: ليس هذا هو المراد، وإنما "كمُهلك ريحٍ" ومهلك الريح؛ هو الزرع الذي أتت عليه هذه الريح فأهلكته، هذا مراده.
قال: "تشبيهٌ لنفقة الكافرين بزرعٍ أهلكته ريحٍ باردة، فلن ينتفع به أصحابه، فكذلك لا ينتفع الكفار ما ينفقون، وفي الكلام حذفٌ، تقديره: مثل ما ينفقون كمثل مُهلك ريحٍ". مُهلك الريح: هو الزرع الذي أتت عليه هذه الريح، أو مثل إهلاك ما ينفقون، يعني إما التقدير في الجزء الأول -الشطر الأول- أو في الشطر الثاني، المشبه، والمشبه به، طرفي المثل.
يعني إما أن يكون التقدير في المشبه، أو المشبه به، مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ مثل إهلاك ما ينفقون، كَمَثَلِ رِيحٍ أتت على حرث قوم فأهلكته، أو مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ المقصود: تشبيه النفقة كَمَثَلِ رِيحٍ كمثل مُهلك ريحٍ" وهو الزرع الذي أتت عليه، فيكون فيه تقدير.
وهذا له نظائر في الأمثال في القرآن، وقد ذكرت هذا مفصلًا في الكلام على شرح الأمثال في القرآن، في هذا المثل، وغيره، قال: "وإنما احتيج لهذا؛ لأن ما ينفقون ليس شبيهًا بالريح، إنما هو شبيهٌ بالزرع، الذي أهلكته الريح".
صِرٌّ: ريحٌ فيها صِرٌّ، بعضهم يقول: هو البرد الشديد، برد شديد؛ هذا جاء عن جماعة من السلف، كابن عباس -ا- وعكرمة، وسعيد بن جبير، والحسن، وقتادة، والضحّاك، والربيع بن أنس[28]، وهو اختيار ابن جرير[29] -رحمهم الله-.
"فِيهَا صِرٌّ أي: برد شديد" وأُطلق على البرد الشديد، بأي اعتبار؟ بعضهم قال: باعتبار التعقد، هذا النبات ينكمش بسبب هذه البرودة فِيهَا صِرٌّ، وبعضهم يقول: أن الصر: هو صوت الريح الشديدة، صوت الريح من الصرير، صوت الريح الشديدة، أو فِيهَا صِرٌّ، أو صوت لهب النار، يعني فيها نار، فِيهَا صِرٌّ وأصله من الصرير، الذي هو الصوت.
الحافظ ابن القيم[30] -رحمه الله- وابن كثير[31]، ذهبوا إلى أن هذه المعاني متلازمة، باعتبار أن هذه الريح الباردة، شديدة البرودة، إذا أتت على هذا الزرع فإنها تتلفه، فيكون فعلها فيه كفعل النار، ويكون هذا الزرع مسودًا كالمحترق، من شدة البرودة، فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ فيها بردٌ شديد، والريح لها صوت، فمن فسره بالصوت، فِيهَا صِرٌّ فهو بهذا الاعتبار، أن الريح لا تكون إلا بصوت، وكذلك -أيضًا- من قال نار، فإنها تترك هذا الزرع مسودًا كالمحترق.
وقوله -تبارك وتعالى- في آية البقرة: أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ [البقرة:266] هناك نص على أنه هذا الإعصار فيه نار، مع أن أكثر المفسرين، عامة المفسرين حملوه على محامل صار فيه نار، بعضهم يقول: برودة شديدة، وبعضهم يقول: فتركه هالكًا مسودًا، ونحو ذلك، لكن هناك صرّح على أنه إعصار فيه نار.
وهذا على ظاهره إعصار فيه نار، فكان كثير من المفسرين، لا يتصور وجود إعصار حقيقي، فيه نار حقيقية، ولكن وُجِد هذا في أزمنةٍ مختلفة، وصُوِّر بعض هذا في العصر الحديث، وعرضت حينها صورةً لإعصار فيه نار، يأتي على الأرض الشاسعة الواسعة فيحرق ما فيها، من الأشجار، والزروع، لا يبقي ولا يذر، فهناك صرّح بأنه إعصار فيه نار.
لكن هنا فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ فوجود الصوت فيها أمرٌ معلوم، وهذه البرودة الشديدة، التي تترك الزرع كأنه محترقًا، هذا معنى كونه متلازمًا عند ابن القيم، والحافظ بن كثير -رحم الله الجميع- والله أعلم.
وبعضهم يقول: جاء عن عطاء: أنه برد، وجليد[32]، فِيهَا صِرٌّ وجاء عن ابن عباس، ومجاهد: نار[33]، فيها نار الصرصر: التي فيها من الصوت الصرير رِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ [الحاقة:6].
الحرث: يعني الزرع، ويقال -أيضًا- لإلقاء البذر في الأرض لتهيؤها أيضًا للزرع، ويسمى المحروث، ويقال له: حرث، وأصله الجمع، والكسب، لكن هنا: أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ يعني: زرع قوم، ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بالكفر، والمعاصي فَأَهْلَكَتْهُ.
هو المثل مضروب لأعمال هؤلاء الكافرين، نفقات هؤلاء الكافرين، فلما أذهبها الله لم يكن ظالمًا لهم بذلك، وليس المقصود وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ من وقع لهم ذلك الريح التي أتت، هذا مثلٌ مضروب لتقريب المعنى، بصورةٍ محسوسة، معنىً معقول، فليس الكلام على بيان حال أصحاب الزرع، الذين ذُكر المثل، وضُرب المثل بهم، وإنما من ضُرب المثل لهم، وهم: الكفار والمنافقين.
وفي بعض النسخ الكفار والمنفقين ويمكن أن يكون هذا المنفقين هذه النفقات مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ ويمكن أن يكون المنافقين، لأن المنافق كافر في الباطن، فحاله كحال الكفار، أو أسوء، لكن الآية إذا نظرت إلى سياقها، وما قبلها، إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ [آل عمران:116-117] أي: مثل نفقاتهم، هذا مثل الكفار، والمنافقون داخلون فيها، فإذا قلت: الكفار، والمنافقين، فهذا صحيح، وإذا قلت: مثل الكفار، والمنفقين، ليس على إطلاقه، وإنما المنفقين منهم، فالذي يظهر أنها للكفار والمنافقين، والله أعلم.
هنا قال: "بِطَانَةً أي: أولياءً من غيركم". يعني: دخلاء، بطانة الرجل: هم أهل سره، والقرب منه، الذين يبطنون أمره، من يسكن إليهم، ويثق بهم، وبمودتهم، وذكر ابن جرير -رحمه الله- أنه: شبهه بما ولي بطنه من ثيابه، لحلوله منه محل ما ولي جسده من ثيابه، يعني يقول: شدة القرب، وابن كثير -رحمه الله- يقول: إن بطانة الرجل: هم خاصة أهله، الذين يطلعون على داخلة أمره[35]، من يقربهم، ويطلعون على أموره، وشئونه الخاصة التي لا يتطلع عليها الناس.
تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ يعني: "من غيركم" قال: "فالمعنى: نهيٌ عن استخلاص الكفار وموالاتهم" وذكر أثر عمر "إذًا أتخذ بطانةً من دون المؤمنين" يعني: إذا اتخذه كاتبًا، وجاء في الصحيح، من حديث أبي سعيد الخدري مرفوعًا عن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-: ما بعث الله من نبي، ولا استخلف من خليفة، إلا كانت له بطانتان؛ بطانة تأمره بالخير وتحضه عليه، وبطانة تأمره بالسوء وتحضه عليه، والمعصوم من عصم الله[36]، هذا إذا كان في الأنبياء والخلفاء.
لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا يقال: آليت في الشيء، آلو؛ إذا قصرت فيه، تقول: لم آلو جهدًا، يعني: لم أقصر، لأم أدخر وسعًا، "لا يَأْلُونَكُمْ أي: لا يقصرون في إفسادكم" يعني: يبذلون كل المستطاع، "والخبال: الفساد لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا" أصل الخبل فساد الأعضاء، والجنون؛ هذه أصله، يقال: أصابه الخبال، أو الخبل.
وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ أصل العنت: المشقة، يعني: وَدُّوا عنتكم، يعني بكل طريقٍ مستطاع، يقول: لا تقربونهم، فهؤلاء لا يريدون بكم خيرًا، وإنما يريدون بكم العنت، فيوقعونكم فيه ما استطاعوا، لا يدخرون وسعًا في ذلك.
يقول: "ما مصدرية، وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ" يعني: ودوا عنتكم، تصاغ مع ما بعدها بمصدر: عنتكم، ودوا عنتكم.
يقول: "هذه الجملة والتي قبلها؛ صفةٌ للبطانة، أو استئناف" صفة، لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا هي "صفةٌ للبطانة، أو استئناف".
لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا يعني: الأعداء الكفار، أو المنافقين، والحافظ ابن كثير -رحمه الله- حمل ذلك كله على المنافقين[37]، حمله على المنافقين باعتبار أنهم يظهرون الإيمان، وَلا يُحِبُّونَكُمْ لأنهم يبطنون الكفر، وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا... [آل عمران:119] هذا الذي يقولون آمنا هم أهل النفاق، وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الغَيْظِ [آل عمران:119].
يكون ذلك تحذيرًا من المنافقين، ومن الكفار من باب أولى، يعني: هؤلاء أظهروا الإيمان، فحذر الله منهم، فالكافر الذي لا يظهر الإيمان أصلًا، كيف يُقرّب؟ هذا تحذير من تقريب قوم أظهروا الإيمان، ويصلون معكم ، فغيرهم ممن لم يظهر الإيمان أصلًا، كيف يُقرّب؟ يعني: هذا قد يحب من يحبه، ويقّرب من يقربه، باعتبار الظاهر، أنه مؤمن -والله أعلم-.
وإذا حُمل على المنافقين، مؤمنين بالكتاب كله وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا ويدخل في هذا من نافق من اليهود؛ لأن هؤلاء اليهود كان فيهم من المنافقين، كما قالوا: آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [آل عمران:72].
يعني: أنمَلة، وأنمُلة، وهي أطراف الأصابع، هؤلاء لشدة ما يجدون، حيث لا يستطيعون تفريغ هذا الحقد، الذي تمتلئ به صدورهم، ينفس بعض أصابعه، أو أنامله، أطراف الأصابع، لشدة الحنق الذي يجده عليكم، فإذا استطاع أن ينفس ذلك فيكم لرأيتم فعله الذي لا يمكن أن يكون معه رحمة أو عطف، أو نحو ذلك.
مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ تقريعٌ وإغاظةٌ" وليس بدعاء، يعني: لتهلكوا بغيظكم، الذي بكم على أهل الإيمان؛ لأن الله متم نوره، سيعز دينه، ويذل الكفر، وأهله.
وأما أن هذا دعاء، هذا لا يخلو من إشكال، قد رده أبو حيان صاحب البحر[38]، وذلك باعتبار أنه لو كان دعاءً لهلكوا، مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ لماتوا، ودعوته مجابة، والواقع يقول: أن بعضهم قد آمن بعد ذلك.
لاحظ هنا، نفى الضر، لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا هناك قال: لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى [آل عمران:111] هنا نفى الضرر بالكلية، لاحظ: لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا نكرة في سياق النفي، فلا يحصل أي نوع، من أنواع الضرر، مما يدل على أن الأذى ليس من جنس الضرر، فهناك أثبته لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى، وهنا: إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا فالضرر منفي ولكن الأذى حاصل، ودل على أن قوله هناك: لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى أنه بهذا الشرط: إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا الصبر على أمر الله، وطاعته، واجتناب مساخطه، والصبر على ما ينالكم من الأذى في سبيله، على أقداره المؤلمة، كل هذا الصبر تصبروا وتتقوا، يكونون على حالٍ من الاستقامة.
لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ هذه ضمانات من الله -تبارك وتعالى- لو كانت الأمة على حالٍ من الاستقامة على طاعته، والإيمان الصحيح، والتقوى، فإن الأعداء لن يصلوا إليها، بشيء من الضرر، ولكن المعاصي كما قال ابن القيم -رحمه الله-: جنود يجندها الإنسان كتائب، تكون مع عدوه فتغزوه[39]، والله المستعان.
- تفسير ابن كثير (4/264).
- تفسير ابن كثير (2/92)
- تفسير ابن كثير (2/92).
- تفسير ابن كثير (2/92).
- قاله ابن عباس -ا. تفسير ابن كثير (2/92).
- أخرجه البخاري بأرقام متعددة منها برقم (3344)، في كتاب أحاديث الأنبياء، باب قول الله -: {وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ} [الحاقة:6]: شَدِيدَةٍ،...، وبرقم (6930)، في كتاب استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم، باب قتل الخوارج والملحدين بعد إقامة الحجة عليهم، ومسلم، كتاب الزكاة، باب ذكر الخوارج وصفاتهم، برقم (1064).
- أخرجه الترمذي، أبواب تفسير القرآن عن رسول الله -ﷺ، باب ومن سورة آل عمران، برقم (3001)، وقال: "هذا حديث حسن"، وابن ماجه، أبواب الزهد، باب صفة أمة محمد -ﷺ، برقم (4288)، وحسنه الألباني في صحيح الجامع، برقم (2301).
- أخرجه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110]، برقم (4557).
- انظر: تفسير الطبري (1/153).
- تفسير ابن كثير (2/93).
- أخرجه مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظلم، برقم (2577).
- أخرجه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب {وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} [الجاثية:24] الآيَةَ، برقم (4826)، ومسلم، كتاب الألفاظ من الأدب وغيرها، باب النهي عن سب الدهر، برقم (2246).
- تفسير ابن كثير (2/104).
- تفسير ابن كثير (2/104).
- التحرير والتنوير (4/56).
- تفسير السعدي (ص:143).
- تفسير ابن كثير (2/104).
- تفسير السعدي (ص:143).
- ذكره البخاري معلقاً في صحيحه، كتاب الجهاد والسير، باب ما قيل في الرماح، (4/40)، وأخرجه أحمد في المسند، برقم (5114)، وقال محققوه: " إسناده ضعيف على نكارة في بعض ألفاظه".
- تفسير الطبري (5/699).
- تفسير ابن كثير (2/105).
- أخرجه النسائي في الكبرى، برقم (11177).
- تفسير ابن كثير (2/105).
- أخرجه أحمد في المسند، برقم (3760)، وقال محققوه: "صحيح لغيره، وهذا إسناده حسن لأجل عاصم -وهو ابن أبي النجود، وباقي رجاله ثقات رجال الشيخين".
- تفسير الطبري (5/691).
- أخرجه مسلم، كتاب الصلاة، باب النهي عن قراءة القرآن في الركوع والسجود، برقم (480).
- تفسير الطبري (5/699).
- تفسير ابن كثير (2/106).
- تفسير الطبري (5/703).
- إعلام الموقعين عن رب العالمين (1/143).
- تفسير ابن كثير (2/106).
- تفسير ابن كثير (2/106).
- تفسير ابن كثير (2/106).
- الدر المنثور في التفسير بالمأثور (2/300).
- تفسير ابن كثير (2/106).
- أخرجه البخاري، كتاب الأحكام، باب بطانة الإمام وأهل مشورته، برقم (7198).
- تفسير ابن كثير (2/106).
- البحر المحيط في التفسير (3/321).
- انظر: الجواب الكافي (ص:95).