الحمد لله الذي هدانا للإسلام، وعلمنا الحكمة والقرآن، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد، وعلى آله وصحابته الطيبين الطاهرين.
اللهم اغفر لنا، ولوالدينا، ولشيخنا، والحاضرين، والمستمعين، أما بعد:
فيقول الإمام ابن جزي عند قوله تعالى:
ما ذكره المؤلف -رحمه الله- من أن سبب نزول هذه الآية: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ [آل عمران:144] أن ذلك بسبب هذا الصارخ، الذي يزعم أن محمدًا ﷺ قد قُتل، فهذا لا أعلمه يثبت بطريقٍ صحيح أنه سبب النزول، بمعنى: أن سبب النزول، كما هو المعروف في القاعدة: مبني على النقل والسماع، لكن ما جرى في الوقعة، وأن الشيطان صاح أن محمدًا -عليه الصلاة والسلام- قد قُتِل، هذا مشهور، لكن أنه سبب النزول، هذا لا يثبت -والله أعلم- لكن السياق في أُحد يدل على هذا.
في تلك الروايات التي -كما ذكرت- يذكرها أصحاب السير، ولكنها -فيما أعلم- لا تثبت من جهة الإسناد، أن بعضهم كان يقول في ذلك الأثناء وينادي في أرض المعركة: بأن محمدًا -عليه الصلاة والسلام- قد قُتل، فارجعوا إلى دين آبائكم[2]؛ وأُشيع ذلك في الناس، وظاهر سياق الآيات أنها تعالج أمرًا قد وُجد في تلك الواقعة، في قوله -تبارك وتعالى-: فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ [آل عمران:153] ولعل من أحسن ما يُفسر به: أن الغم الآخر -كما سيأتي- هو ما أُشيع من قتل النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- فلما انكشف؛ كان الغم الأول وهو غم القتل والجراح والهزيمة قد تلاشى، والغم الآخر أكبر وأعظم، لو ثبت وصح، فلما طرق أسماعهم كان ذلك منسيًا للغم الأول، وبعد أن انقشع وتبيّن أنه لا ثبوت له، كان الغم الأول قد اضمحل، فوُجِد مثل هذا في النفوس، وهذا الظن أو الاعتقاد بأن رسول الله ﷺ قد قُتل.
وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ [آل عمران:144] يدخل فيه الثابت على دينه، ويدخل فيه ما هو أعم من ذلك، لكن التفسير بـ"الثابتين على دينهم" باعتبار السياق، وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ فالمؤمن هو الشاكر، والكافر على اسمه، فالذي يقابل الكفر: الشكران، من هذا الوجه، والمقام مقام ارتداد، ودعوة إلى الارتداد والتراجع، وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ في مقابل الكافرين، من يكفر، ويرتد عن دينه، فمن بقي فهو شاكر، فالمؤمن شاكر، فتفسيره بهذا الاعتبار بـ"الثابتين على دينهم" هذا وجهه، وهو معنًى صحيح -والله أعلم- وإلا -كما تعلمون- أن معنى الشكر أوسع من هذا.
قوله: "كِتَابًا مُؤَجَّلًا" المؤجل هو المؤقت، يعني له وقت محدد لا يتقدم ولا يتأخر، وكقوله -تبارك وتعالى-: وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ [فاطر:11] يعني من عمر معمر آخر إِلَّا فِي كِتَابٍ [فاطر:11] فهذه الآجال كلها مقدرة عند الله -تبارك وتعالى- كما قال الله -تبارك وتعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ [الأنعام:2] فهذه تدل على هذا المعنى كِتَابًا مُؤَجَّلًا يقول: "نصبٌ على المصدر" يعني مؤكد لما قبله، وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ [آل عمران:145] كِتَابًا مُؤَجَّلًا يعني: كتابًا مصدر، وكِتَابًا مُؤَجَّلًا هذا مؤكدٌ لما قبله؛ وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ يعني: أن خروج الإنسان إلى القتال، وأرض المعركة، والتعرض للأخطار، ونحو ذلك، لا يقدم الأجل، كما أن الحذر والنأي بالنفس والخوف لا يؤخر الأجل، كما قال الشاعر:
لو أن حيًا مدرك الفلاحِ -يعني البقاء- | أدركه ملاعب الرماحِ[5] |
يعني الذي يركب الأخطار، ويتعرض للقتل، وتعرفون قول خالد بن الوليد عند موته، وقد ذكر ما بجسده من الجراح، والإصابات التي تزيد على المائة، ثم يقول: "لقد حضرت كذا وكذا زحفًا، وما في جسدي شبرًا إلا وفيه ضربة سيف، أو طعنة برمح، أو رمية بسهم، وها أنا أموت على فراشي، حتف أنفي، كما يموت البعير، فلا نامت أعين الجبناء"[6].
"قال ابن عطية: نصبٌ على التمييز"[7]، وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا يعني أن مُؤَجَّلًا نصبٌ على التمييز، فــكِتَابًا مصدرًا، ومُؤَجَّلًا مصدرًا، وكأن القول: بأنه منصوبٌ على المصدرية هذا أوضح -والله تعالى أعلم-.
هو كذلك، فآيات آل عمران هذه مطلقة، وجاء ذلك مقيدًا في آية الإسراء، عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ فجاء بقيدين في آية الإسراء، في العطاء: ما نشاء، والمعطى: لمن نريد، فما كل من طلب الدنيا أُعطِي، فكم مَنْ النفوس من يطلبها، ويتهافت عليها، وهي غايته، ومع ذلك لا يأتيه منها إلا ما قُدِّرَ له، فما طلب الإنسان للدنيا يجلبها، وما انصرافه عنها، وزهده فيها يحجبها، فقدَّر الله -تبارك وتعالى- الآجال، والأرزاق، فيأتي للإنسان منها ما قُدِّر له، فإن نفسًا لن تموت حتى تستوفي رزقها، وإن أبطأ عنها، فاتقوا الله، وأجملوا في الطلب[8].
قوله: وَكَأَيِّنْ كأي هذه يقولون: مركبة من: كاف التشبيه، وأي، وبعضهم يقول بأنها: كلمة واحدة غير مركبة، والخليل وسيبويه يقولون: بأن أصلها: (أن) ودخلت عليها كاف التشبيه، فصارت بعد التركيب بمعنى: كَم[9]، يعني لما دخل على (أن) كاف التشبيه، صارت بمعنى: كم، التي تأتي بمعنى التكثير، ثم تصرفت فيها العرب، فصار فيها أربع لغات، (كائنْ) يعني بالنون في آخرها، وهذه قراءة متواترة، قرأ بها ابن كثير[10]: (وَكَائنْ مِنْ نَبِيٍّ) وأبو عمرو معروف أنه يقف هكذا: وكأي[11].
وفيها من اللغات (كأيّن) كأنك تقول: أين، ووضع كاف، هكذا تُكتب (كأين) هي لغةٌ، و[كأِيْن] فهذه مجموعها، مع وقف أبي عمرو (كأي) تكون أربع، هنا وقف أبي عمرو ليس وقف اختيار، لكن لو احتاج إليه لانقطاع النفس، ونحو ذلك، فهل يقف عليها؟ لعل من حضر معنا في شرح رسالة السيوطي في الوقف يعرف هذا.
أبو عمرو كان يقف هنا (كأي) (وَكَأَيْ مِنْ نَبِيٍّ قُتِلَ) وقراءة نافع وابن كثير، وبها قرأ البصريان[12]: وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قُتِلَ.
يقول: "الفعل مسندٌ إلى ضمير النبي" يعني على هذه القراءة (قُتل) وهذا إذا وقفت على قُتل كَأَيِّ هذه قلنا للتكثير، يعني كثير من الأنبياء قُتل.
مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا [آل عمران:146] يعني لقتل مقدمهم ونبيهم، ما فت ذلك في أعضادهم، وما تراجعوا، وما استكانوا لعدوهم، وما ظهر عليهم الضعف والخضوع، وإنما بقوا على ثباتٍ وصبر، فالله -تبارك وتعالى- يذكر ذلك لأهل الإيمان، مخاطبًا لهم بمثل هذا، على سبيل المعاتبة، كيف يحصل الضعف والتراجع إذا كان النبي ﷺ قد قُتل أو مات؟! والفرق بين القتل والموت معروف، فخروج الروح من غير تسبب هذا هو الموت، يعني حتف أنفه، أما خروجها بتسبب فهذا هو القتل، والموت قد يُعبر به عن هذا وهذا، كما قال الله تعالى: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ [آل عمران:185] فـ(كل) هذه أقوى صيغ العموم -كما هو معروف- فيدخل فيه من قُتل ومن مات حتف أنفه، كل هؤلاء داخلين فيه.
فهنا قال: "الفعل مسندٌ إلى ضمير النبي" وهذا اختيار أبي جعفر بن جرير -رحمه الله-[13]، وبه قال أيضًا ابن إسحاق[14]، والسهيلي[15]، فيكون المعنى على هذا الأساس: وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قُتِلَ فالقتل يكون واقعًا على النبي، وهذا من المواضع التي يتغير المعنى فيها، بحسب القراءة والوقف، والمقصود بالوقف: الوقف الذي له وجه صحيح، وليست الوقوف المتكلفة، التي تُفسد المعنى والإعراب، فهذا معنىً صحيح، وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قُتِلَ، مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فهذا معنىً كبير في الثبات.
وعلى الوصل على هذه القراءة وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قُتِلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا بمعنى أن القتل وقع على الربيين، استحر فيهم القتل، فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ يعني: من بقي على قيد الحياة لم يضعف، ولم يتضعضع ولم يتراجع لما أصاب إخوانه من القتل، وإنما بقي ثابتًا، كما قال الله -تبارك وتعالى-: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا [الأحزاب:23] والنحب -كما مضى- في المصباح: أنه يطلق على الموت، وعلى معانٍ أخر، لكن فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ فأحسن ما يفسر به -والله أعلم-: أي مات على الصدق والوفاء، وهذا الذي يلتئم به المعنى؛ لأن النحب يأتي بمعنى: النذر والعهد، ونحو ذلك.
يقول: "مَعَهُ رِبِّيُّونَ [آل عمران:146] على هذا في موضع الحال" يعني: حال وجود الربيين، أو حال كون الربيين معه، وقيل: "أنه مسند إلى الربيين" باعتبار أن القتل وقع على الربيين، "فيكون ربيون على هذا مفعولًا لم يسمّ فاعله" يعني أنه نائب فاعل، قُتِلَ هذا فعل مبني للمجهول، قُتل ربيون معه، فهو نائب فاعل.
"فعلى الأول يوقف على قوله: قُتِل ويترجح على الأول: بما صرخ به الصارخ يوم أحد: إن محمدًا قد قُتل، فضرب لهم المثل بنبي قُتل" فهذا مناسب في هذا السياق، وما جرى في المعركة وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قُتِلَ أي كم من الأنبياء قُتل مَعَهُ رِبِّيُّونَ يعني أتباع كثير فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا.
"ويترجح الثاني: بأنه لم يُقتل قط نبيٌ في محاربة" وتأمل طرق الترجيح: فالأول يترجح باعتبار الواقعة والصارخ... إلى آخر ما وقع في أحد، فإن هذا يكون من القرائن التي يُرجح بها، فإن ما يتعلق بسبب النزول -وإن كان هذا لا يثبت- والملابسات في وقت النزول، كل ذلك مما يترجح به أحد المعاني على غيره.
لكن هنا المرجح للقول الآخر: أن القتل وقع على الربيين باعتبار أنه لم يُقتل نبيٌ في محاربة، وهذا الذي اختاره الشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله- باعتبار أن الغلبة التي وُعد بها الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ [الصافات:173] لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ [المجادلة:21] فهذه جاءت مؤكدة بالقسم التي دلت عليه لام القسم، فاستعمال الغلبة الغالب في القرآن والوعد بها للأنبياء ينافي القتل، باعتبار أن المقتول مغلوب، كما قال الله : فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ [النساء:74] فجعل القتل مقابلًا للغلبة فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فدل على أن المقتول مغلوب.
واحتج -أيضًا- بقراءة: (وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قُتِّل) وهي قراءة غير متواترة، والقراءة غير المتواترة إذا صح إسنادها، فإنها تفسر المتواترة، فهذه (قُتِّلَ) للتكثير، ولا يصح ذلك في قتل الواحد، وإنما لقتل النفوس الكثيرة؛ لهذا يقع على قتل الربيين، وهم الجماعات الكثيرة، والأتباع الكثير، ويمكن أن يُقال -والله تعالى أعلم-: بأن هذا يصح وهذا يصح، والقرآن يُعبَر به بالألفاظ القليلة، الدالة على المعاني الكثيرة.
وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ على هذه القراءة -أيضًا- إذا أسند هذا إلى النبي، كثير من الأنبياء قاتلوا، ثم معه ربيون كثيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا ويمكن على الوصل: وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فيكون قاتلوا معه، وعلى القراءة الأولى: وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قُتِلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لقتله يعني، أو وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قُتِلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ على هذه القراءات، والوقف، والوصل يمكن أن يقال -والله تعالى أعلم-: بأن ذلك جميعًا يصح، وهو واقع، وفيه العبرة لأهل الإيمان -والله أعلم- وفي هذه القراءة الأخرى، لم يتعرض لها ابن جزي -رحمه الله-: وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ وهي التي نقرأ بها، لم يذكر توجيهها، وإعرابها، فبعضهم يقول: بأن: كَأَيِّنْ هذه مبتدأ، والخبر جملة قَاتَلَ؛ لأن الكلام لا يتم إلا بالخبر، وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كثيرٌ من الأنبياء قاتل معه ربيون كثير، فيمكن الوقوف هنا على قَاتَلَ باعتبار أن الكلام تام، مبتدأ وخبر، وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ وتكون مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ في هذا الاعتبار جملة حالية من الضمير في قَاتَلَ، ويمكن أن يكون مَعَهُ وحده هو الحال، ورِبِّيُّونَ يكون فاعل، والتقدير: استقر معه رِبِّيُّونَ إلى غير ذلك من الأوجه التي ذكروها، والله أعلم.
جاء عن علي أنه: قرأ (رُبيون) بضم الراء[16].
وعن ابن عباس بالفتح[17] (رَبيون) والمفرد: رَبي، نسبةً إلى الرب، على قول بعض أهل العلم، وهذا واضح على قراءة فتح الراء "رَبيون" وبضم الراء رُبيون، وبكسرها رِبِّيُّونَ بعضهم يقول: منسوبٌ إلى الرِبَّة بالكسر، أو الرُبَّة بالضم، وهي الجماعة، قُتِلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ يعني: جماعات كثير، وهذا هو المشهور في تفسيره: أن الربيين يعني الجماعات، والأتباع الكُثُر.
لكن بالنسبة لقراءة الفتح (رَبيون) -وهي غير متواترة- يكون هذا باعتبار النسبة الرب، أنهم من "الربانيين" علماء وما إلى ذلك من الأوصاف التي يكون مجموعها صفةً للربانيين، علماء، فقهاء، وكذلك تعلمون الناس صغار العلم قبل كباره، والعمل بالعلم، والإخلاص، والصدق، وما أشبه ذلك من الأوصاف المجتمعة.
وبالكسر (رِبيون) فسره ابن مسعود بالألوف[18]، يعني جماعات كثير، وكما سبق أن بعضهم يقول: من الرِبِّة: الجماعة، يعني: جماعات.
ومن قال: علماء، هذا نُقل عن الحسن مثل "ربانيين"[19] هذا يصلح بناءً على الفتح، "رَبيون" فلعل الحسن كان يفسر هذه القراءة.
وقيل: جموع كثيرة، من الرِبَّة، أو الرُبَّة على قراءة الضم، وهي غير متواترة -أيضًا- "رُبيون" أي جموعٌ كثيرة، وهذا الذي عليه عامة السلف فمن بعدهم: أن (الرِبيين) هم الجماعات والأتباع الكثير، وهذا منقول عن ابن عباس، وابن مسعود، وعطاء، ومجاهد، وابن جبير، وعكرمة، والسدي، وعطاء الخرساني، وقتادة، والربيع بن أنس[20]، وهو رواية أخرى عن الحسن البصري[21]، يعني يمكن أن تكون رواية تفسيرًا لقراءة الفتح، والأخرى على قراءة الكسر، والله أعلم.
فَمَا وَهَنُوا الضمير لرِبِّيُّونَ، ولا شك أن هذا يرجع إليهم "على إسناد القتل للنبي" فهذا واضح، وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قُتِلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا يعني لقتله لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ما الذي أصابهم؟ قتل نبيهم، ووقع ذلك عليهم -بلا شك- أعظم من وقوع القتل عليهم "وهو لمن بقي منهم على إسناد القتال إليهم" إسناد القتال أو القتل، والقتل أوضح؛ لأنه يتكلم هنا عن قراءة قُتِلَ "على إسناد القتال إليهم" وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قُتِلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لكن الذي قُتِل كيف يكون ما وهن بما أصابه في سبيله؟ المقصود: من بقي على قيد الحياة، ما فتّ في عضده ما وقع من قتل على إخوانه.
هنا وَمَا اسْتَكَانُوا والمقصود: أنهم ما ارتدوا عن دينهم، بقوا في حالٍ من الثبات، وابن عباس -ا- يقول: تخشّعوا[22]؛ لأن أصل المادة من السكون، يعني ما ظهر عليهم أثر ذلك في سكون أعضائهم وجوارحهم، بسبب قتل نبيهم، وقال بعض التابعين، مثل: السدي وابن زيد: ما ذلُّوا لعدوهم[23].
فهنا فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا فهذه ثلاثة أمور نفاها الله -تبارك وتعالى- عنهم، والفرق بين هذه الثلاثة: الوهن، والضعف، والاستكانة، ومثل هذه القضايا يعنى بها أصحاب الفروق اللغوية، وأحيانًا يصعب التفريق بينها، فبعض أهل العلم يقولون: هذا من قبيل الترادف، ومن لا يرى الترادف في القرآن، وهو ما يشير إليه شيخ الإسلام، حيث يقول: إن وُجِد فهو في لغة العرب قليل أو نادر، وأما في القرآن لا يكاد يوجد[24]، ومذهب أبي هلال العسكري: أنه لا يوجد في اللغة ترادف أصلًا[25].
وبعضهم يقول بأن الضعف في قوله: فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا خلاف القوة، ويكون الضعف في: الجسد، والرأي والعقل، والوهن هو أن يفعل الإنسان ويصدر منه فعل الضعيف، يعني بالنسبة للضعف يكون صفةً راسخة في الإنسان، وأما الوهن كأنه مظهر فيما يفعله الإنسان ويصدر عنه، أن يفعل الإنسان فعل الضعيف، يقال: وهن في الأمر إذا أخذ ذلك أخذ الضعيف وَلَا تَهِنُوا [آل عمران: 139] يعني: لا تفعلوا فعل الضعفاء؛ لأنه لا يقال: إن الله خلق الإنسان واهنًا، ولكن خلقه ضعيفًا، وقد يستعمل هذا مكان هذا.
فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا يعني: لم يفعلوا فعل الضعيف، ويمكن أن يقال: إن الوهن هو انكسار الجسد بالخوف ونحوه، والضعف: نقصان القوة، وبعضهم يقول: الوهن: الضعف في العمل والأمر، وكذلك -أيضًا- في العظم وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي [مريم:4] يقال: فلان واهنٌ في العمل يعني: ضعيف، وموهون في البدن أو العظم، فهما متقاربان.
وبعضهم يقول: الوهن قلة القدرة على العمل، وعلى النهوض بالأمر، والضعف يقابل القوة في البدن، فالوهن أقرب إلى خور العزيمة، واليأس في النفوس، والضعف أقرب إلى الاستسلام والفشل في المقاومة.
فالله -تبارك وتعالى- نفى ذلك جميعًا عنهم، فقال: فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا فلم يظهر عليهم شيءٌ من التراجع والضعف، فبعضهم يقول: بأن بعض ذلك يقع في القلب، وبعضه في الجوارح، وبعضه في العمل.
فيكون معنى: فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا أي: لم يتركوا العمل، ولم تضعف نفوسهم، ولم يقع على جوارحهم السكون، وإن الإنسان إذا كان في حال من اليأس والانكسار، ونحو ذلك، يظهر ذلك على جوارحه بالسكون، ولهذا يقال: المسكين، باعتبار أنه سكنت جوارحه، فلا حيلة له، ولا احتراف.
وكذلك ما يذكر من الإبلاس مُبْلِسُونَ [الأنعام:44] حتى قيل: في إبليس من الإبلاس، بمعنى: أنه انقطعت معاذيره وحجته، فصار في حالةٍ من اليأس، يسكن معها سكون اليائس، الذي انقطع رجاؤه، فمن مجموع هذا يلتئم معنا كهذا، وكذلك -أيضًا- في كلام العرب، تجد مثل هذا، كقول الشاعر:
بنفسي وأهلي من إذا عرضوا له | ببعض الأذى لم يدرِ كيف يجيبُ؟ |
فلم يعتذر عذر البريءِ ولم يزل | به سكتة حتى يقال: مريبُ"[26] |
هذا يمدح جارية، فأهلها يضربونها في ريبة، وهي ساكتة لا تجيب وتبكي، فيقول: أفديها بنفسي وأهلي، يعني لضعفها لم تبدِ عذرًا، يعني كأنها ذات ريبة، فالإنسان يضعف أحيانًا، فيكون في حالٍ من السكون، لا يبدي شيئًا من معاذير في مقام الاعتذار، أو حجة في مقام الاحتجاج، أو مقاومة في ميدان المعركة.
فَمَا وَهَنُوا ما كلّوا، وَمَا ضَعُفُوا تنتقض عزائمهم، وَمَا اسْتَكَانُوالم يستسلموا لعدوهم، ويخضعوا له، وإنما هم في غاية الثبات، والقوة، والعزم، والبذل، والعمل المتواصل في سبيل الله -تبارك وتعالى- وهكذا ينبغي أن يكون أهل الإيمان، سواء كان ذلك في أرض المعركة، أو في مقام الدعوة إلى الله -تبارك وتعالى- مهما أجلب عليهم الأعداء، وتكاثر عليهم الخصوم، فإنهم يتعاملون مع الله -تبارك وتعالى- الذي نواصي الخلق بيده، وهو الذي يملك النفع والضر، وهو الذي وعدهم بالجزاء الحسن، والثواب الجزيل، وهم صائرون إليه، ومجازيهم على أعمالهم.
هنا في قوله: "قال بعض النحاة: الاستكان مشتقٌ من السكون" استكان هذا الفعل الماضي، والاستكان هو المصدر، واعتبار المصدر في أصل المادة أولى من الفعل، كما هي طريقة البصريين.
"الاستكان مشتقٌ من السكون، ووزنه افتعلوا" استكنوا، يعني هكذا في الأصل افتعلوا، يعني استكنوا "مطلت" يعني مدت، "فتحة الكاف، فحدث عن مطلها ألف؛ وذلك كالإشباع" يعني أصلها سكنوا.
آتاهم الله ثواب الدنيا: النصر، والغنيمة، والتمكين في الأرض، والاستخلاف، إلى غير ذلك.
هذا نهي من الله -تبارك وتعالى- جاء بهذه الصيغة، فيما يؤول إليه طاعة الكفار إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ [آل عمران:149-150] فهذا يدخل فيه طاعة الكفار، فيما يشيرون به، ويدخل فيه أيضًا طاعة الكفار فيما يطالبون به أهل الإيمان، فهم لن يقفوا عند حد، فذكر الله الغاية هنا: إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ هذه هي النتيجة فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ فيكون ذلك سببًا لخسارةً محققة حيث ترجون: الظفر، والظهور، والتمكين، ونحو ذلك، وإنما هي خسارة محققة.
قال: بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ يعني هو الذي ينصركم، ويتولى أمركم، وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ ثم قال لهؤلاء الكفار الذين تحسبون لهم حسابًا: سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا [آل عمران:151] هذا في الدنيا، وأما في الآخرة: وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ [آل عمران:151].
وذكر لهم شاهدًا من هذا: وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ [آل عمران:152] والحس: هو القتل الذريع بِإِذْنِهِ [آل عمران:152] بالإذن الكوني، والإذن الشرعي، حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ إلى آخره، هذا كان في واقعة أحد، قتلوا سبعين من المشركين، وانتصروا، وانهزم المشركون، حتى وقع ما وقع من المخالفة، فتحول ميزان المعركة.
إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا ويدخل في هذا: من كان كافرا في الباطن كالمنافق؛ ولهذا يقول الله في أول سورة الأحزاب: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ... [الأحزاب: 2،1] لما نهاه عن طاعتهم، فماذا يفعل؟ وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ... كل ما يوحى إليك، لا تترك شيئًا من ذلك، إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ثم كان المتوقع أنهم ما يوصلون إليه الأذى، قال: وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا [الأحزاب:3] فهذه آيات ثلاث جامعة لمعانٍ كبار.
"والآية بعد" يعني بعد ذلك، هذه يمكن أن تضاف، ويمكن أن يستقيم المعنى بدونها.
الرعب: هو الخوف الذي يملأ الصدر والقلب، والخوف مراتب كالمحبة: الخوف، والهلع، والفزع، والرعب، ونحو ذلك، فهذه مرتبة من أعلى مراتب الخوف، فالخوف الذي يملأ الصدر والقلب، يقال له: رعب.
يقول: "قيل: ألقى الله الرعب في قلوب المشركين بأُحُد، فرجعوا إلى مكة من غير سبب" يعني انتصروا، ثم انطلقوا إلى مكة، ولم يغيروا على المدينة، مع أنهم كانوا منتصرين، فرجعوا من غير سبب؛ لأن الله ألقى في قلوبهم الرعب.
"وقيل: لما كانوا ببعض الطريق هموا بالرجوع ليستأصلوا المسلمين، فألقى الله الرعب في قلوبهم، فأمسكوا" يعني: كما جاء في بعض الروايات -وقد لا تخلو من ضعف: أنهم في الطريق وقع بينهم مقال وكلام، قالوا: ما أردفتم الكواعب، وما قتلتم محمدًا[28]، فما صنعتم شيئًا، فهموا بالرجوع إلى المدينة، والإغارة عليها، فألقى الله في قلوبهم الرعب، على تفاصيل سيأتي ذكرها، الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ [آل عمران:173].
يقول: "والآية تتناول جميع الكفار" لأنها عامة، والعبرة بعموم اللفظ والمعنى، سَنُلْقِي [آل عمران:151] وهذا وعد من الله فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ [آل عمران:151] فذكر هذا اللفظ كَفَرُوا دل على أن الكفر هو سبب الرعب الذي يملأ القلوب، فكفرهم هو سبب الرعب الذي يملأ نفوسهم، والنبي ﷺ يقول: نُصرت بالرعب مسيرة شهر[29]، والشاطبي -رحمه الله- يقول: بأن ذلك للنبي ﷺ ولأتباعه من بعده، على قدر اتباعهم له[30]، وانظر حال الأمة اليوم، على ضعفها وتفرقها، وحال يرثى لها، ومع ذلك لا زال الأعداء يعيشون في خوف، يخافون من كل شيء، وهذا ظاهر يشاهده كل أعمى، فضلًا عن البصراء.
وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ فسر ابن جرير -رحمه الله- الوعد هنا بقول النبي ﷺ للرماة: لا تبرحوا مكانكم إن رأيتمونا قد هزمناهم، فإنا لن نزال غالبين ما ثبتم مكانكم[31]، وهذا أخرجه البخاري، من حديث البراء، بمعناه.
أما ما ذكره المؤلف: من أن النبي ﷺ: "وعد المسلمين عن الله بالنصر" يعني بالنصر مطلقًا هكذا، "فنصرهم الله أولًا" فهذا جاء عن السدي[32] بهذا السياق: وانهزم المشركون، وقُتل منهم اثنان وعشرون رجلًا، ومثل هذه الرواية عن السدي حينما يروي شيئًا مما وقع سبب النزول، أو ما وقع في المعركة، أو نحو ذلك، فهذا يكون من قبيل المرسل، يعني على بعض التفسيرات المرسل، كما قال:
ومرسل قولة غير من صحب | قال إمام الأعجمين والعرب[33] |
لكن بعضهم يسمي هذا: المعضل.
فالسياق يدل على وعد، وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ والحس -كما سبق- هو القتل الذريع، بِإِذْنِهِ يعني: الإذن الكوني والإذن الشرعي، كما سبق، فلا يقع شيء إلا بإذن الله الكوني، بعد تقديره، والإذن الشرعي: باعتبار أنه أذن بقتل هؤلاء الكفار المحاربين، فالآية صريحة في أن الله وعدهم بذلك.
تَحُسُّونَهُمْ أصله من الحس، والحس: هو الإدراك بالحاسة، وبعضهم يربط المعنى فيقول: حسه يعني أذهب إدراكه وإحساسه بالقتل، بمعنى أنه عمد بالقتل، لكن المقصود به هنا: القتل الذريع، حتى قال بعضهم: القتل الذي يكون معه صوت، تقتلونهم قتلًا ذريعًا، يعني في أول الأمر.
وهم كانوا قريب من السبعين، وتنازعوا بعد ما رأوا النصر، وقُتل سبعون من المشركين، فتنازع الرماة مع أميرهم: أن المشركين قد انهزموا، فلنجمع الغنيمة، وننزل إلى أرض المعركة، فهذا النزاع وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ [آل عمران:152] فهذا أوقع هذه الهزيمة التي تذكر عبر التاريخ، ومعهم رسول الله ﷺ ووقع عليهم ما وقع من القتل، وقتل سبعون من المسلمون، وجرح كثير، وأصيب النبي ﷺ إصابات متعددة؛ في رأسه، ورباعيته، وغير ذلك، بسبب بعض الجيش، الذين وقع بينهم شيء من النزاع والمخالفة، وما وجد من حب الدنيا في بعض النفوس، كل ذلك أوقعهم في هذا، فكيف بحال هذه الأمة التي نشاهد من التفرق، والنزاع الشديد، وهم في أسوء الأحوال، وأسوء الظروف، في القتل الذريع الذي يقع عليهم، بجميع أنواع القتل والتشريد، والاستضعاف، ويجتمع عليهم شذاذ الأمم، وأنواع الكفرة، والمنافقين، ومع ذلك هم في حالٍ من السكرة، والتراشق، والنزاع، وتبادل التهم، وتنافر القلوب، والاختلاف بجميع صوره وأشكاله وأنواعه، مع حب الدنيا، وما إلى ذلك، مما نشاهد، أمة يقتلها العدو قتلًا ذريعًا، ويحيط بها، ويطوقها من كل ناحية، وهي في سكرة، واختلاف، وتراشق شديد، والذين يقاتلون -أيضًا- بينهم من الاختلاف ما الله به عليم، وهذا الاختلاف قد لا يكون له تفسير إلا الدنيا، يختلفون على ماذا؟ ويا ليتها دنيا فيها شيء، دنيا ليس فيها إلا الركام، والهدم، والحطام، وأرض محروقة -كما يقال- ومع ذلك ترى الاختلافات، والتفرق، والجموع المتفرقة، هنا وهناك على أي حال، وعلى أي أساس؟ وما مبرر ذلك؟ لا يوجد له أي مبرر؛ لذلك لا يمكن فيما نعلم من سنن الله في هذا الكون، والخلق، وما نعلم من سننه الشرعية، أن يتحقق نصر!
أتفاءل وأعلم -كما أراكم الآن: أن الله سينصر دينه، أو أنه سيأتي من يعجب كيف يقع هذا على الأمة؟! من هذا الضعف والاستكانة، وكيف استطاع اليهود أن يصلوا إلى ما وصلوا إليه، وكيف يأتي العدو من أماكن بعيدة، فيهلك الحرث، والنسل، لكن أعلم أن هذه الحالة التي نحن فيها هي أبعد ما تكون عن النصر؛ ولذلك لا أنتظر نصرًا ولا أرجوه بحال من الأحوال، على هذه الحال الموجودة الآن، أبدًا، والله المستعان.
لكن إذا دعونا ندعو الله أن يجمع قلوب المؤمنين على الحق، وأن ينصرهم، وأما على هذا التفرق لا يمكن أن يقع نصر أبدًا، وهذا نعرفه منذ البداية، وقبل أن تصير الأمور إلى هذه الحال الآن التي نشاهدها، فالحال في أوائلها أصلًا لم تكن على استقامة، وإنما على حالٍ من التشرذم والعدوات، وكل من ربط عصابة على رأسه، صار ابن جلاء وطلاع الثنايا، ومكتسباته... وإلى آخره، فهذا لا يحصل معه إلا الهزيمة، والخذلان، والقتل، والتنكيل، والبطش من قبل الأعداء، والإبادة، والتشريد، نسأل الله العافية، لن يحصل للأمة نصر وتمكين إلا برجوعها إلى دينها، تتمسك به بحذافيره، وتكون أمة واحدة، ملتئمة، ويقطع لسان كل من يثير البلبلة، والخلاف، والشقاق، وينشر ما يفضي إلى ذلك، وتقطع كل يد تفرق هذه الأمة، ويُؤخذ على يد كل سفيه، وتلتئم الأمة في حالٍ من الاجتماع، وترك التفرق، ففي هذه الحالة لا يقف أحد أمامهم، مهما أوتي من القوة، ولن يستطيع أحد أن يقف أمامه، والأعداء سيموتون من الرعب قبل أن يموتوا من القتل، سيقتلهم الرعب وحده، لو اجتمعت الأمة.
وهذا الذي يحاذره الأعداء؛ ولذلك يحيون هذه الفرق المنحرفة، والطوائف الضالة، ويستنبتون هؤلاء الخوارج وغير الخوارج، من هؤلاء المنحرفين، الذين لا يزيدون الأمة إلا ضعفًا، ووهنًا، وتراجعًا، فهم مصيبة ورزية عليها من جملة مصائبها، بل هم من أعظم بلاياها ومصائبها، ومن أعظم الغبن أن يفر بعض الناس من الرمضاء إلى النار، أن يفر من عدوٍ إلى عدوٍ آخر، يرى أنه ينصره، الله المستعان.
انظر إلى أحوال المسلمين في الشام والعراق، ونحو ذلك، قد يفر من الرافضة إلى الخوارج، يبقون بين نارين، نسأل الله العافية.
في إضافة ذلك إلى الجميع وَعَصَيْتُمْ هذا باعتبار القاعدة المعروفة، وهي أن الفعل قد يصدر عن البعض، فيضاف إلى المجموع، بنوعٍ من الاعتبار، وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّون [آل عمران:152] جواب (إذا) في قوله: حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ يقول: تقديره انهزمتم، أو حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ انهزمتم، أو حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ بان أمركم، أو حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ مُنعتم النصر، أو منعكم الله نصره، أو حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ أُمتحنتم.
يحتمل أن تكون (إذا) بمعنى (إذ)، ولا جواب، كما يقول بعضهم (حَتَّى إِذْ فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ).
أصل الابتلاء: الاختبار، ليختبركم، ويمتحنكم ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ ليمتحنكم ويختبركم، كما يقول الحافظ ابن كثير -رحمه الله-[34]، وما ذكره ابن جزي -رحمه الله- هو الذي وقع من الامتحان، يعني امتحنهم واختبرهم بالقتل، وما وقع لهم من الجراح، ونحو ذلك، ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ يعني كنتم غالبين، ومنتصرين ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ ليمتحنكم، فوقع عليكم ما وقع من قتلٍ وجراح وهزيمة.
وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ طيب هذا الذي وقع من الجراح والقتل كان عقوبة، فكيف قال: وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ؟ فهذا جواب لهذا السؤال المقدر، قال: "إعلامٌ بأن الذنب كان يستحق أكثر مما نزل بهم، لولا عفو الله" يعني كنتم تستحقون أكثر من هذا، فعفا الله عنكم، كما في قوله تعالى في سورة الحشر: وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا [الحشر:3] وقع عليهم الجلاء، والجلاء عذاب، والإخراج من الديار هو قرين القتل ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ [البقرة:85] يعني تقتلون إخوانكم وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ فجعل الإخراج قرينًا للقتل، فكيف قال الله : وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا فالجواب عن هذا: أنه لعذبهم بما هو أعظم من ذلك؛ كالقتل والسبي، كما وقع لقريظة؛ لأن هذه الآية في بني النضير الذين أُجلوا، فسلموا، فأما قريظة -فكما تعلمون- قُتل كل من يستطيع حمل السلاح، وسبي النساء، والذرية، والأموال، فهنا قال: "معناه: لقد أبقى عليكم، وقيل: هو عفوٌ عن الذنب" يعني: أن الله لن يُؤاخذ المؤمنين عليه في الآخرة، وإنما ما وقع لهم في الدنيا كان تمحيصًا لهم، وهذا الذي ذهب إليه الحافظ ابن كثير -رحمه الله-[35]، من أن المقصود: عفا عن الذنب، وعلى القول الأول: أنهم كانوا يستحقون أكثر من هذا، فعفا الله عنهم، والله أعلم.
- أسباب النزول ت الحميدان (ص:125).
- الوجيز للواحدي (ص:236) والتفسير الوسيط للواحدي (1/502).
- تفسير ابن عطية = المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (1/517).
- تفسير ابن عطية = المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (1/518).
- البيت للبيد في الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية (1/219) وتاج العروس (4/212).
- البداية والنهاية ط إحياء التراث (7/129).
- تفسير ابن عطية = المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (1/518).
- أخرجه ابن ماجه في كتاب التجارات، باب الاقتصاد في طلب المعيشة برقم: (2144) وصححه الألباني.
- ارتشاف الضرب من لسان العرب لأبي حيان الأندلسي (2/789).
- السبعة في القراءات (ص:216).
- حجة القراءات (ص:175).
- السبعة في القراءات (ص:216).
- تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (6/111).
- تفسير القاسمي = محاسن التأويل (2/424).
- تفسير القاسمي = محاسن التأويل (2/424).
- الدر المصون في علوم الكتاب المكنون (3/431).
- الدر المصون في علوم الكتاب المكنون (3/431).
- تفسير السمعاني (1/363) وتفسير ابن كثير ت سلامة (2/131).
- تفسير ابن كثير ت سلامة (2/131).
- تفسير ابن كثير ت سلامة (2/131).
- تفسير ابن كثير ت سلامة (2/131).
- تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (6/119).
- تفسير ابن أبي حاتم - محققا (3/782).
- مقدمة في أصول التفسير لابن تيمية (ص:17).
- الفروق اللغوية للعسكري (ص:24).
- البيتان منسوبتان لابن ميادة في عيون الأخبار (4/138) ونسبتا لغيره.
- أخرجه البخاري في كتاب التيمم برقم: (335) ومسلم في أول كتاب المساجد ومواضع الصلاة برقم: (521).
- تفسير ابن أبي حاتم - محققا (3/816).
- أخرجه البخاري في كتاب التيمم برقم: (335) ومسلم في أول كتاب المساجد ومواضع الصلاة برقم: (521).
- لم نجد أين قاله الشاطبي؟ فلم نعثر عليه في الاعتصام ولا في الموافقات، ولا في غيرها.
- هذا لفظ: تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (6/99) ولفظه في البخاري في كتاب الجهاد والسير باب ما يكره من التنازع والاختلاف في الحرب، وعقوبة من عصى إمامه برقم: (3039): ((إن رأيتمونا تخطفنا الطير فلا تبرحوا مكانكم، هذا حتى أرسل إليكم، وإن رأيتمونا هزمنا القوم وأوطأناهم، فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم)).
- تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (6/129).
- نشر البنود على مراقي السعود (2/60).
- تفسير ابن كثير ت سلامة (2/133).
- تفسير ابن كثير ت سلامة (2/146).