الخميس 24 / جمادى الآخرة / 1446 - 26 / ديسمبر 2024
[8] من قول الله تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُم ْتَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} الآية 55 إلى قوله تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ} الآية 64
تاريخ النشر: ٢٠ / ربيع الآخر / ١٤٢٧
التحميل: 2996
مرات الإستماع: 2291

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين، وبعد.

ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ۝ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ [سورة الأعراف:55-56].

أرشد -تبارك وتعالى- عباده إلى دعائه الذي هو صلاحهم في دنياهم وأخراهم فقال: ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً قيل: معناه تذللاً واستكانة، وَخُفْيَةً كقوله: وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ الآية [سورة الأعراف:205].

وفي الصحيحين عن أبي موسى الأشعري قال: رفع الناس أصواتهم بالدعاء فقال رسول الله ﷺ: أيها الناس ارْبَعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصمَّ ولا غائباً إن الذي تدعون سميعاً قريباً الحديث[1].

وقال ابن جرير: تَضَرُّعًا تذللاً واستكانة لطاعته وَخُفْيَةً يقول: بخشوع قلوبكم وصحة اليقين بوحدانيته وربوبيته فيما بينكم وبينه لا جهراً مراءاة.

الدعاء ينقسم إلى دعاء مسألة وإلى دعاء عبادة، وبين النوعين ملازمة لا تخفى، وكثير من المواضع في القرآن محمولة على النوعين، على خلاف بين أهل العلم في تفاصيل تلك الأمثلة، فالله يقول: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ [سورة البقرة:186] أي: أنه يجيب السائلين فيعطيهم سؤلهم، وهذا هو دعاء المسألة، ويثيب العابدين على عابدتهم وهذا هو دعاء العبادة.

ولا شك أن العابد سائل بفعله، فهو حينما يصلي فإنما يطلب بهذه الصلاة ثواب الله -تبارك وتعالى- فهو سائل بهذا الفعل، وهكذا أيضاً الذاكر، وقد جاء عن النبي ﷺ: إن أفضل الدعاء الحمد لله وهو بإسناد حسن[2] فمن أهل العلم من حمله على هذا المعنى باعتبار أن المُثني على الله -تبارك وتعالى- الحامد له إنما يفعل ذلك طلباً لما عنده، وبعضهم يقول غير هذا.

وقوله تعالى: ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً [سورة الأعراف:55] يمكن أن يحمل على النوعين، وإن كان المتبادر أن المراد به دعاء المسألة، لكن دعاء العبادة ملازم لدعاء المسألة.

فقوله: ادْعُواْ رَبَّكُمْ يعني لا تدعوا غيره، وعلى معنى العبادة لا تعبدوا غير الله وكونوا متذللين بعبادتكم له بحيث لا يكون الإنسان حينما يعبد ربه -تبارك وتعالى- كالمانِّ على الله ، فالله غني عنه وعن عبادته، وهكذا أيضاً يخفي عمله الصالح فذلك أدعى للإخلاص، والمقصود أن هذا المعنى تحتمله الآية –أي دعاء العبادة- وإن كان المتبادر فيها هو دعاء المسألة، ومثل ابن القيم -رحمه الله- فإنه يحمل هذه الآية بخصوصها على النوعين.

والحاصل أنه في دعاء المسألة ينبغي على المسلم أن يدعو وهو في حال من التذلل ولا يدعو بشيء من العلو والترفع أو يدعو بأسلوب لا يليق ولا يتأدب فيه مع الله كالذي يرفع صوته رفعاً لا يليق، أو يتخير من العبارات ما لا يتناسب مع مقام المعبود ، بل عليهم أن يدعوا ربهم ضارعين أي متذللين مخفين لهذا الدعاء، وذلك أدعى للإخلاص.

والعلماء -رحمهم الله- ذكروا فوائد كثيرة جداً لإخفاء الدعاء، والله يعلم السر وأخفى ولا حاجة لرفع الصوت عند دعائه، فهذه عبادة وهي حاجة يرفعها العبد إلى مولاه الذي يعلم حاله ونجواه، فلا حاجة إلى إبداء ذلك للناس، فإن مقتضى الإخلاص أن يخفيه، ومن شاء فلينظر في بدائع الفوائد، فقد أطال الحافظ ابن القيم -رحمه الله- في فوائد إخفاء الدعاء.

ثم روي عن عطاء الخرساني عن ابن عباس في قوله: إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ [سورة الأعراف:55] في الدعاء ولا في غيره.

إي أن قوله: إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ [سورة الأعراف:55] يدخل فيه الاعتداء في الدعاء دخولاً أولياً؛ لأنه ذكر معه، فقوله: إِنَّهُ مشعر بالتعليل، أي لأنه لا يحب المعتدين، لكنه لم يخصص الدعاء، فيدخل فيه غير الدعاء أيضاً، فهو لا يحب المعتدين مطلقاً، الذين يجاوزون حدوده.

وقال أبو مجلز: إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ [سورة الأعراف:55]: لا يسأل منازل الأنبياء.

وروى الإمام أحمد عن أبي نعامة أن عبد الله بن المغفل سمع ابنه يقول: اللهم إني أسألك القصر الأبيض عن يمين الجنة إذا دخلتها، فقال: يا بني سل الله الجنة وعذ به من النار، فإني سمعت رسول الله ﷺ يقول: يكون قوم يعتدون في الدعاء والطهور[3] وهكذا رواه ابن ماجه وأخرجه أبو داود، وهو إسناد حسن لا بأس به، والله أعلم.

الاعتداء في الدعاء يقع على صور وأنواع، فمن سأل ما يمتنع عقلاً فهو معتدٍ، كأن يسأل أن يجعله الله في مكانين في وقت واحد، فهذا ممتنع عقلاً، وكذلك من سأل ما يمتنع شرعاً بحيث إن الشارع حكم بامتناعه كالذي يدعو للكافر الذي مات على الكفر بالمغفرة والرحمة، فهذا من الاعتداء في الدعاء، وكذلك من سأل ما يمتنع عادة، كالذي يسأل الولد من غير نكاح، فهذا ممتنع في مجاري العادات، وكذلك أيضاً من سأل شيئاً محرماً فيدعو أن ييسر الله له ذلك الحرام، فهذا لا يجوز وهو من الاعتداء، وهكذا أيضاً من رفع صوته رفعاً زائداً في الدعاء فهذا من الاعتداء لا سيما أن الله قال بعده: تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً [سورة الأعراف:55] لكن إذا كان ذلك في محضر غيره ممن يؤمِّنون على دعائه فيرفع رفعاً يتأدب فيه، وأما رفع الصوت الزائد فهذا خلاف الأدب مع الله -تبارك وتعالى.

ومن الاعتداء رفع الصوت بالبكاء أثناء الدعاء بحيث يتحول ذلك إلى مناحة، فهذا من سوء الأدب مع الله -تبارك وتعالى.

ومن الاعتداء سؤال التفاصيل، وإنما الذي ينبغي على الداعي أن يدعو بجوامع الكلم ويترك التفاصيل كهذا الذي سأل ربه قصراً أبيض عن يمين الجنة، فهذا من الاعتداء.

ومن الاعتداء تحويل الدعاء إلى موعظة كما يفعل كثير من الناس فبدلاً من أن يقول الداعي: رب إني أسأل كذا يتحول إلى ذكر القبور واللحود، وإذا سالت العيون، وذكر الجنادل والدود والصديد، وهذا في غاية القبح؛ فالدعاء ليس موعظة تُستجلب بها عواطف الناس وتستثار فيها نفوسهم ليبكوا منها، فهذا غير صحيح، فعلى الإنسان أن يحمد الله ويثني عليه بما هو أهله ويصلي على النبي ﷺ ويدعو بجوامع الكلم ولا يحوّل الدعاء إلى موعظة.

ومن الاعتداء ما يفعله بعض الناس حيث يأتون بالأسماء الحسنى المذكورة في بعض الأحاديث كما عند الترمذي والحاكم والتي لا تصح أسانيدها -أعني التسعة والتسعين- ثم يتكلف لكل اسم دعاء وتتحول القضية إلى فرجة للاستماع بعد أن امتلأ المسجد بالمصلين بل إن المساجد الأخرى تنتهي فيها الصلاة فيأتي المصلون ليسمعوا هذا الدعاء وتمتلئ الشوارع بالناس لأجل هذا كما يحصل في بعض البلاد، والله المستعان.

ومن ذلك التطويل الزائد، حتى إن مدة الصلاة تكون نصف ساعة ودعاء القنوت يستمر ساعة، وهذا غير صحيح.

وقد سئل الإمام أحمد -رحمه الله- عمَّا إذا زاد عما ورد في حديث الحسن: اللهم اهدنا فيمن هديت[4] فقال: اقطع صلاتك، فكيف لو رأى الدعاء الذي يستمر إلى ساعة إلا ربعاً أو ساعة؟

وبعض الأئمة يضعون وريقات صغيرة في كف اليد بحيث لا يراها الناس فيقلبها ويدعو بما كتب فيها لمدة ساعة كاملة، وهذا لا يليق!

وقد اشترطت مرة على أحدهم -أراد أن يلقي كلمة- أن لا يطيل في الدعاء، فأطال إطالة زائدة وكنت قد صليت خلفه فرفعت رأسي وجلست أنظر إليه وإذا به يقلب أوراقاً صغيرة بيده يقرأ منها هذا الدعاء الطويل مدة ساعة إلا ربعاً تقريباً!

وآخر صلى بجانبي وكان يبكي بكاء شديداً ورفع صوته بالبكاء إلى درجة قبيحة، حتى خشيت أن أخرج بمقت الله ثم قطع صلاته وخرج من المسجد، أهذه صلاة وهذا دعاء؟!

هذا مما لا يليق، ولكنْ كثير من الناس تحكمهم عواطفهم لا الشرع، ولا يُعملون عقولهم ولو أعملوا عقولهم لما رضوا بمثل هذا.

على كل حال صور الاعتداء في الدعاء متنوعة يدخل فيها ما ذكرت وغير ما ذكرت، والله المستعان.

وقوله تعالى: وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا [سورة الأعراف:56] ينهى تعالى عن الإفساد في الأرض -وما أضره بعد الإصلاح؛ فإنه إذا كانت الأمور ماشية على السداد ثم وقع الإفساد بعد ذلك كان أضر ما يكون على العباد، فنهى تعالى عن ذلك، وأمر بعبادته ودعائه والتضرع إليه والتذلل لديه فقال: وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا [سورة الأعراف:56] أي: خوفاً مما عنده من وبيل العقاب، وطمعاً فيما عنده من جزيل الثواب.

قوله تعالى: وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا [سورة الأعراف:56] يدخل فيه تغيير شرائع الإسلام، والخروج على أحكام الله -تبارك وتعالى، والكفر به، ومحادة رب العالمين، وفعل المعاصي، كل ذلك من الإفساد في الأرض بعد إصلاحها، فالله أنزل الكتب وأرسل الرسل بالهدى ودين الحق، وهذا هو عين الإصلاح، فلا يجوز لأحد أن يخرج عن ذلك وأن يكفر بالله أو يخرج عن شرعه فيكون بذلك مفسداً في الأرض بعد إصلاحها، أي بعد أن أصلحها الرسل -عليهم الصلاة والسلام.

ومن دعا إلى الضلال، وفتن الناس عن الحق، ولبَّس عليهم أو أشاع الفاحشة في المجتمع فهذا من الإفساد في الأرض بعد إصلاحها.

ويدخل في الإفساد في الأرض تخريب العمران والسكك، وإفساد أموال الناس وقطع الأشجار وتخريب الأنهار، وتغوير المياه، وما أشبه ذلك مما يحصل به إفساد حياة الناس، وكذلك العبث والتخريب بالحروب التي تفسد ولا تصلح أو غير ذلك من صور الإفساد في الأرض وإفساد حياة الناس ومعاشهم، كل ذلك داخل في قوله: وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا [سورة الأعراف:56].

ثم قال: وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا [سورة الأعراف:56] ذكر –تبارك وتعالى- أدبين في أول الآية السابقة وأدبين في آخر هذه الآية، فأما الأدبان في أول الآية فقوله: ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً [سورة الأعراف:55] أي: ادعوه تعالى بتذلل وإخفاء، وأما الأدبان في آخر هذه الآية فهما الخوف والطمع حيث قال: وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا [سورة الأعراف:56] فالإنسان بجمعه بين الخوف والطمع يكون خائفاً راجياً.

وقوله: وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا [سورة الأعراف:56] يعني لا يكُن مدلاً لربه –جل وعلا- في دعائه، بمعنى أنه لا يدعو بترفع وكأنه متفضل على الله وإنما يدعو في حال من الخوف وفي حال من الطمع.

والفرق بين الطمع والتمني أن التمني هو أن يؤمِّل حصول شيء أو يطلب حصول شيء محال أو بعيد المنال، أما الطمع فهو رجاء الشيء القريب المأخذ أي: الذي يرجى حصوله عن قريب.

قوله: وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا [سورة الأعراف:56] أي لا يدعو الإنسان ربه وهو يائس من إجابة الله لدعائه، فهذا لا يليق؛ لأنه سوء ظن بالرب  والله يقول: أنا عند ظن عبدي بي[5] فعلى العبد أن يحسن الظنَّ بالله أنه يجيب دعوة الداعين، فالله يقول: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [سورة غافر:60].

ثم قال: إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ [سورة الأعراف:56] أي: إن رحمته مرسلة للمحسنين الذين يتبعون أوامره ويتركون زواجره، كما قال تعالى: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ الآية [سورة الأعراف:156] وقال: قريب، ولم يقل: قريبة؛ لأنه ضمَّن الرحمة معنى الثواب، أو لأنها مضافة إلى الله، فلهذا قال: قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ [سورة الأعراف:56].

وقال مطر الوراق: "تَنَجَّزوا موعود الله بطاعته؛ فإنه قضى أن رحمته قريب من المحسنين" [رواه ابن أبي حاتم].

يقول تعالى: إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ [سورة الأعراف:56] لفظ "قريب" مذكر و"الرحمة" مؤنث، فلماذا لم يقل: إن رحمت الله قريبة من المحسنين؟ هذا وجه السؤال، وقد ذكر الحافظ ابن كثير -رحمه الله- هنا جوابين عن هذا الإشكال، الأول: أنه لم يقل: إن رحمت الله قريبة؛ لأنه ضمن الرحمة معنى الثواب، والثواب مذكر، والمراد بالتضمين معلوم، فالعرب قد تضمن الفعل أو ما يقوم مقامه معنى فعل آخر وذلك أبلغ في الكلام، فقوله: إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ [سورة الأعراف:56] تكون الرحمة مضمنة معنى الثواب أو مفسرة بالثواب، يعني: إن ثواب الله قريب، والثواب مذكر، فيكون بذلك قد روعي المعنى.

والمعنى الثاني الذي ذكره الحافظ هو قوله: "أو لأنها مضافة إلى الله، فلهذا قال: قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ [سورة الأعراف:56]"

ومن أهل العلم من يقول: فيه مقدر محذوف، أي: إن رحمة الله شيء قريب من المحسنين، والقاعدة أن الكلام إذا دار بين الحذف والاستقلال فالأصل الاستقلال، يعني لا حاجة لدعوى الإضمار والتقدير إذا كان يمكن للكلام أن يكون مستقلاً على ظاهره من غير دعوى الحذف، وهذا ممكن هنا.

ومن الأجوبة الحسنة في هذا أن الرحمة مؤنث غير حقيقي والمؤنث غير الحقيقي يمكن أن يكون العائد إليه أو الصفة التي يوصف بها أو الضمير أو نحو ذلك يمكن أن يكون مذكراً أو مؤنثاً.

ومن الأجوبة أيضاً –ولعل هذا أحسن من الذي قبله- أن يقال: إن لفظة قريب إذا أريد بها قرابة النسب فإنها تكون مؤنثة مع المؤنث ومذكرة مع المذكر، تقول: زيد قريبي، زيد قريب لعمرو، ومع المؤنث تقول: فلانة قريبتي، وفلانة قريبة لزيد، وأما إذا أريد قرب المسافة أو قرب الزمان أو نحو ذلك فإنه يقال: قريب ولا يقال: قريبة، والله وصف الساعة بأنها قريب وذلك قرب الوقت والزمان، وهنا: رحمة الله قريب من المحسنين بهذا الاعتبار، فهذا جواب جيد، وقد قيل غير ذلك، حتى إن بعضهم ذكر في هذا عشرة أجوبة.

وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْموْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ۝ وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ [سورة الأعراف:57-58].

لما ذكر تعالى أنه خالق السماوات والأرض وأنه المتصرف الحاكم المدبر المسخر، وأرشد إلى دعائه؛ لأنه على ما يشاء قادر، نبَّه تعالى على أنه الرزاق وأنه يعيد الموتى يوم القيامة فقال: (وهو الذي يرسل الرياح نشراً) أي: ناشرة بين يدي السحاب الحامل للمطر، ومنهم من قرأ بُشْرًا كقوله: وَمِنْ آيَاتِهِ أَن يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ [سورة الروم:46].

هذا الذي ذكره الحافظ ابن كثير -رحمه الله- أعني قوله: "لما ذكر تعالى أنه خلق السماوات والأرض..." إلى آخره، هذا يسمونه بالمناسبة، وهو وجه الارتباط بين الآية وبين ما قبلها.

وقوله -تبارك وتعالى: وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا -بضم الباء وإسكان الشين- هذه قراءة عاصم، والمعنى أنها تبشر بالمطر كما قال الله في الآية الأخرى: وَمِنْ آيَاتِهِ أَن يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ [سورة الروم:46] فهي تهب بين يدي المطر.

يقول الحافظ ابن كثير -رحمه الله: "(وهو الذي يرسل الرياح نشراً) أي: ناشرة بين يدي السحاب الحامل للمطر، ومنهم من قرأ بُشْرًا" وقلنا: بُشْرًا هذه قراءة عاصم، والمعنى أنها تبشر بالمطر، و(نُشْراً) بضم النون وإسكان الشين هذه قراءة ابن عامر، وقرأ أهل الحرمين وأبو عمرو بضم النون والشين (نُشُراً) فبعضهم يقول: هذا جمع الجمع، وبعضهم يقول: إن (نُشُراً) يعني الرياح التي تهب من كل ناحية من النواحي المختلفة، وقراءة حمزة والكسائي بفتح النون والشين على المصدر يعني (نَشَراً) وفسر هذه القراءة كبير المفسرين ابن جرير الطبري -رحمه الله- بأنها الرياح الطيبة.

وعلى كل حال فقراءة بُشْرًا يعني أنها تبشر بالمطر، فإذا رآها الناس أمّلوا بنزول المطر، وهي رياح معينة فليست كل رياح يأتي معها المطر، وهذا الشيء الذي يستبشرون به لا يتنافى مع ما يداخله ويخالطه من الخوف من أن يكون ذلك عذاباً، فهذا إنما يكون لأهل المعرفة بالله ، وأهل الخشية؛ لأن النبي ﷺ كان إذا رأى السحاب دخل وخرج وظهرت عليه أمارات الخوف، ويخبر ﷺ: أن قوماً قد رأوا هذا السحاب فكان عذاباً، مع أنهم لما رأوه استبشروا به وقالوا: هَذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ ۝ تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ [سورة الأحقاف:24-25].

فالسحاب قد يكون نعمة وقد يكون عذاباً، ولهذا كان النبي ﷺ يخاف غاية الخوف حتى ينزل المطر، فهذا لأهل المعرفة بالله -تبارك وتعالى، وأما على قراءة (نُشْراً) فالمعنى أنها ناشرة للسحاب.

وقوله: بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ [سورة الأعراف:57] أي: بين المطر، كما قال: وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ [سورة الشورى:28] فقال: فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [سورة الروم:50].

وقوله: حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالاً [سورة الأعراف:57] أي: حملت الرياح سَحَابًا ثِقَالاً أي: من كثرة ما فيها من الماء تكون ثقيلة كبيرة من الأرض مدلهمة.

يقول الحافظ: "بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ [سورة الأعراف:57] أي: بين يدي المطر" يعني تهب هذه الرياح ثم بعد ذلك يكون نزول المطر، وهذا شيء معروف يدركه الناس، فالرياح المثيرة للمطر هي التي تسوق السحاب وتنشره فينزل المطر بعدها، وفي بعض النواحي لا يكاد يخطئ توقع الناس لنزول المطر حينما تهب الرياح من ناحية معينة أو حينما يأتي السحاب من ناحية معينة.

قوله تعالى: حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالاً [سورة الأعراف:57] أَقَلَّتْ يعني حملت ورفعت، فهذه الرياح هي التي تحمل السحاب وتسوقه حيث أراد الله -تبارك وتعالى.

وقوله: سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ [سورة الأعراف:57] أي: إلى أرض ميتة مجدبة لا نبات فيها، كقوله: وَآيَةٌ لَّهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا الآية [سورة يــس:33] ولهذا قال: فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْموْتَى [سورة الأعراف:57] أي: كما أحيينا هذه الأرض بعد موتها كذلك نحيي الأجساد بعد صيرورتها رميماً يوم القيامة، ينزل الله ماء من السماء فتمطر الأرض أربعين يوماً فتنبت منه الأجساد في قبورها كما ينبت الحب في الأرض، وهذا المعنى كثير في القرآن يضرب الله مثلاً ليوم القيامة بإحياء الأرض بعد موتها، ولهذا قال: لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [سورة الأعراف:57].

يعني ذكْر إحياء الأرض بعد موتها في القرآن هو أحد أنواع الأدلة الدالة على البعث، حيث يدل على قدرة الله ، وقد مر معنا خمسة أنواع من هذه في سورة البقرة، ومعلوم أن كل نوع من هذه الأنواع تحته أمثلة كثيرة في القرآن، فإحياء الأرض بعد موتها يتكرر في القرآن كثيراً حيث يستدل ربنا -تبارك وتعالى- به على قدرته على بعث الأجساد بعد موتها.

وقوله: وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ [سورة الأعراف:58] أي: والأرض الطيبة يخرج نباتها سريعاً حسناً، كقوله: وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا [سورة آل عمران:37].

وَالَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِدًا [سورة الأعراف:58] قال مجاهد وغيره: كالسباخ ونحوها.

قوله تعالى: وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ [سورة الأعراف:58] قال فيه بعض أهل العلم: إن هذا مثل ضربه الله تعالى لسريع الفهم والبليد، لكن هذا القول فيه بعد.

وبعضهم قال: هذا مثل للقلوب من جهة تأثير الموعظة، فمنهم من إذا سمع الموعظة أثر فيه ذلك أبلغ التأثير، ومنهم من لا يرفع لذلك رأساً ولا يتأثر.

وبعضهم قال: هذا مثل لقلب المؤمن وقلب المنافق.

وبعضهم يقول: هذا مثل للطيب  والخبيث، ولعل الحديث الذي ذكره الحافظ ابن كثير هنا –وسيأتي بعد قليل- يدل على ذلك، أعني حديث أبي موسى حيث مثل حال الناس في قبول هدى الله -تبارك وتعالى- والانتفاع به فجعلهم على ثلاثة أقسام، فقال تعالى: وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِدًا [سورة الأعراف:58] فمن أراد الله هدايته وصلاح حاله إذا سمع هدى الله -تبارك وتعالى- ومواعظ القرآن أثرت فيه غاية التأثير فأنبت ذلك في قلبه الخوف والرجاء والمحبة، فأقبل على الله -تبارك وتعالى- وصار عابداً له، وأما الآخر فهو كما قال الله -تبارك وتعالى: إنهم إذا خرجوا من عند النبي ﷺ قالوا: مَاذَا قَالَ آنِفًا [سورة محمد:16] وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ [سورة التوبة:125] فلا ينتفعون بهذه الآيات، ولا بوحي الله .

وروى البخاري عن أبي موسى قال: قال رسول الله ﷺ: مثل ما بعثني الله به من العلم والهدى كمثل الغيث الكثير، أصاب أرضاً فكانت منها نقية قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا، وأصاب منها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به، فعَلِم وعلّم، ومثل من لم يرفع بذلك رأساً ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به[6].

لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ۝ قَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ ۝ قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلاَلَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ ۝ أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي وَأَنصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ [سورة الأعراف:59-62].

لما ذكر تعالى قصة آدم في أول السورة وما يتعلق بذلك وما يتصل به وفرغ منه، شرع تعالى في ذكر قصص الأنبياء -عليهم السلام- الأول فالأول فابتدأ بذكر نوح فإنه أول رسول بعثه الله إلى الأرض بعد آدم وهو نوح بن لامك بن متوشلح بن خنوخ، وهو إدريس.

طبعاً هذه الأسماء في الكتب تختلف، أي أنها يدخلها شيء من التحريف، والله أعلم، فإذا نظرت في البداية والنهاية لابن كثير، وتاريخ الأمم والملوك لابن جرير، والسيرة لابن هشام، وغير ذلك من المصادر التي تُذكر فيها هذه الأسماء تجد فروقات في ضبط هذه الأسماء، فهنا يقول: "نوح بن لامك بن متوشلح بن خنوخ وهو إدريس" وبالطبع فإن هذه أسماء أعجمية.

وقوله: "ابن خنوخ وهو إدريس" هذا بناء على أن إدريس ﷺ كان قبل نوح وأنه من أجداده، وهذا ذكره بعض المؤرخين، وذكره ابن إسحاق أيضاً، لكنه لا يثبت، بل قال ابن العربي المالكي: إن هذا وهم، فالأقرب أن إدريس ﷺ كان بعد نوح، ومعلوم أن نوح -عليه الصلاة والسلام- هو أول رسول أرسل إلى أهل الأرض فلم يكن قبله رسول، وآدم ﷺ كان نبياً.

وعلى قول من قال: إن إدريس -عليه الصلاة والسلام- من أجداد نوح يقولون: على هذا يكون من الأنبياء وليس من الرسل، وعلى كل حال لا يثبت أنه كان قبله.

وكثير ممن كتبوا في تاريخ الأهرام وتكلموا عليها ممن ينقلون من الأخبار الإسرائيلية والأشياء التي لا يمكن أن يوثق بها، يقولون: إن الذي بناها هو إدريس -عليه الصلاة والسلام- وإن كانوا لا يذكرونه بهذا الاسم لكنهم يقصدون إدريس -عليه الصلاة والسلام، ويقولون: إنها كانت قد بنيت قبل الطوفان ولو كانت بعد الطوفان لعرفنا خبرها، يعني لو كان الذين بنوها هم الفراعنة مثلاً لعرفوا خبرها فحيث قد انقطع خبرها، هذا يدل على أنها بنيت قبل الطوفان.

هكذا يقولون، ويمكن الرجوع في هذا إلى ما كتبه المقريزي في كتاب الخطط، وكذلك السيوطي في حسن المحاضرة حيث أطال في الكلام على هذا.

وعلى كل حال لعل الأقرب -والله أعلم- أن إدريس -عليه الصلاة والسلام- كان بعد نوح ولم يكن قبله، وكان بين نوح وآدم -عليه الصلاة والسلام- عشرة قرون كلها على التوحيد، ولا يعني هذا بالضرورة أن المدة التي كانت بين آدم وبين نوح عشرة قرون، وإنما المقصود أن الذين كانوا على التوحيد عشرة قرون، ثم وقع الشرك في قوم نوح فبعث الله إليهم نوحاً.

وهو نوح بن لامك بن متوشَلَح بن خنوخ- وهو إدريس النبي فيما يزعمون، وهو أول من خط بالقلم- ابن برد بن مهليل بن قنين بن يانش بن شيث بن آدم ، هكذا نسبه محمد بن إسحاق وغير واحد من أئمة النسب.

قال عبد الله بن عباس وغير واحد من علماء التفسير: وكان أول ما عبدت الأصنام أن قوماً صالحين ماتوا فبنى قومهم عليهم مساجد وصوروا صورة أولئك فيها؛ ليتذكروا حالهم وعبادتهم، فيتشبهوا بهم، فلما طال الزمان جعلوا أجساداً على تلك الصور، فلما تمادى الزمان عبدوا تلك الأصنام، وسموها بأسماء أولئك الصالحين وداً وسواعاً ويغوث ويعوق ونسراً، فلما تفاقم الأمر بعث الله  -وله الحمد والمنة- رسوله نوحاً فأمرهم بعبادة الله وحدة لا شريك له، فقال: يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ [سورة الأعراف:59] أي: من عذاب يوم القيامة، إذا لقيتم الله وأنتم مشركون به قَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِهِ [سورة الأعراف:60] أي: الجمهور والسادة والقادة والكبراء.

الملأ يقال لجماعة الرجال خاصة ولا يقال للنساء، وقيل لهم: ملأ؛ لأنهم يتمالئون على الأمر، فهم أهل الحلِّ والعقد، حيث إنهم الكبراء والأشراف والسادة، هكذا قيل، وقيل: إنهم قيل لهم ذلك؛ لأنهم يملئون صدور المجالس -وهذا يرجع أيضاً إلى المعنى السابق-أي أنهم من أشراف الناس، فالمقصود أن قوله: قَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِهِ يعني قال الكبراء من قومه.

قَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِهِ [سورة الأعراف:60] أي: الجمهور والسادة والقادة والكبراء منهم: إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ [سورة الأعراف:60] أي: في دعوتك إيانا إلى ترك عبادة هذه الأصنام التي وجدنا عليها آباءنا.

وهكذا حال الفجار إنما يرون الأبرار في ضلال، كقوله: وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاء لَضَالُّونَ [سورة المطففين:32] وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ [سورة الأحقاف:11] إلى غير ذلك من الآيات.

قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلاَلَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ [سورة الأعراف:61] أي: ما أنا ضال ولكن أنا رسول من رب العالمين، ربِّ كل شيء ومليكه أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي وَأَنصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ [سورة الأعراف:62] وهذا شأن الرسول أن يكون مبلغاً فصيحاً ناصحاً، عالماً بالله لا يدركهم أحد من خلق الله في هذه الصفات، كما جاء في صحيح مسلم أن رسول الله ﷺ قال لأصحابه يوم عرفة وهم أوفر ما كانوا وأكثر جمعاًَ: أيها الناس إنكم مسئولون عني فما أنتم قائلون؟ قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت، فجعل يرفع إصبعه إلى السماء وينكتها عليهم ويقول: اللهم اشهد، اللهم اشهد[7].

قوله: أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي [سورة الأعراف:62] يعني رسالة ربي، فلما تضمنت شرائع وأحكاماً أطلق عليها رسالات بالجمع، أي أن الله خاطبهم بأمور كثيرة.

وقوله: وَأَنصَحُ لَكُمْ يعني أنه يمحّض لهم النصح بحيث لا يكون فيه غش ولا كتمان ولا دَخَل، وإنما يكون نصحاً محضاً.

أَوَعَجِبْتُمْ أَن جَاءكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِّنكُمْ لِيُنذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُواْ وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ۝ فَكَذَّبُوهُ فَأَنجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً عَمِينَ [سورة الأعراف:63-64].

يقول تعالى إخباراً عن نوح أنه قال لقومه: أَوَعَجِبْتُمْ الآية [سورة الأعراف:63] أي: لا تعجبوا من هذا؛ فإن هذا ليس بعجب أن يوحي الله إلى رجل منكم رحمة بكم ولطفاً وإحساناً إليكم لِيُنذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُواْ [سورة الأعراف:63] نقمة الله ولا تشركوا به، وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [سورة الأعراف:63].

قال الله تعالى: فَكَذَّبُوهُ [سورة الأعراف:64] أي: تمادوا على تكذيبه ومخالفته، وما آمن معه منهم إلا قليل، كما نص عليه في موضع آخر.

فَأَنجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ [سورة الأعراف:64] أي: السفينة، كما قال: فَأَنجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ [سورة العنكبوت:15].

وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا [سورة الأعراف:64] كما قال: مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ أَنصَارًا [سورة نوح:25].

وقوله: إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً عَمِينَ [سورة الأعراف:64] أي: عن الحق لا يبصرونه ولا يهتدون له، فبيّن تعالى في هذه القصة أنه انتقم لأوليائه من أعدائه، وأنجى رسوله والمؤمنين، وأهلك أعداءهم من الكافرين، كقوله: إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا الآية [سورة غافر:51] وهذه سنة الله في عباده في الدنيا والآخرة أنّ العاقبة فيها للمتقين والظفر والغلبة لهم، كما أهلك قوم نوح بالغرق ونجَّى نوحاً وأصحابه المؤمنين.

قال ابن وهب: بلغني عن ابن عباس أنه نجا مع نوح في السفينة ثمانون رجلاً، أحدهم جرهم وكان لسانه عربياً" رواه ابن أبي حاتم، وروي متصلاً من وجه آخر عن ابن عباس -ا.

هذا مما يؤخذ عن بني إسرائيل ولا يمكن التحقق من صحته، فالله أعلم، لكن الله أخبر أنه ما آمن معه إلا قليل، حتى إن بعض المفسرين قال: ما آمن إلا بنوه -عدا الابن الذي غرق- وأزواج بناته، هؤلاء الذين ركبوا معه في السفينة، والله أعلم.

وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.

  1. أخرجه البخاري في كتاب المغازي- باب غزوة خيبر (3968) (ج 4 / ص 1541) ومسلم في كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار - باب استحباب خفض الصوت بالذكر (2704) (ج 4 / ص 2076).
  2. أخرجه الحاكم (1834) (ج 1 / ص 676) والبيهقي في شعب الإيمان (4371)(ج 4 / ص 90) وحسنه الألباني في صحيح الجامع برقم (1104).
  3. أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة - باب الإسراف في الوضوء (96) (ج 1 / ص 36) وابن ماجه في كتاب الدعاء - باب كراهية الاعتداء في الدعاء (3864) (ج 2 / ص 1271) وأحمد (1483) (ج 1 / ص 172) وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (2396).
  4. أخرجه الطبراني في الكبير (2701) (ج 3 / ص 73) وأبو يعلى في مسنده (6759) (ج 12 / ص 127) والبيهقي في السنن الكبرى (3266) (ج 2 / ص 210) وصححه الألباني في الإرواء برقم (429).
  5. أخرجه البخاري في كتاب التوحيد - باب قول الله تعالى: وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللّهِ الْمَصِيرُ} [سورة آل عمران:28] (6970) (ج 6 / ص 2694) ومسلم في كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار - باب الحث على ذكر الله تعالى (2675) (ج 4 / ص 2061).
  6. أخرجه البخاري في كتاب العلم - باب فضل من علم وعلم (79) (ج 1 / ص 42) ومسلم في كتاب الفضائل - باب بيان مثل ما بُعث به النبي ﷺ من الهدى والعلم (2282) (ج 4 / ص 1787).
  7. أخرجه مسلم في كتاب الحج - باب حجة النبي ﷺ (1218) (ج 2 / ص 886).

مواد ذات صلة