بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال المفسر -رحمه الله تعالى- في تفسير قوله تعالى:
وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُواْ نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُم بِالآخِرَةِ كَافِرُونَ [سورة الأعراف:44، 45].
يخبر تعالى بما يخاطب به أهل النار على وجه التقريع والتوبيخ إذا استقروا في منازلهم أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا "أن" هاهنا مفسرة للقول المحذوف و"قد" للتحقيق أي قالوا لهم: قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُواْ نَعَمْ كما أخبر تعالى في سورة الصافات عن الذي كان له قرين من الكفار فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاء الْجَحِيمِ قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدتَّ لَتُرْدِينِ وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ [سورة الصافات:55-59] أي: ينكر عليه مقالته التي يقولها في الدنيا ويقرِّعه بما صار إليه من العذاب والنكال، وكذلك تقرعهم الملائكة، يقولون لهم: هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنتُمْ لَا تُبْصِرُونَ اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاء عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [سورة الطور:14-16].
وكذلك قرَّع رسول الله ﷺ قتلى القليب يوم بدر فنادى: يا أبا جهل بن هشام، ويا عتبة بن ربيعة، ويا شيبة بن ربيعة -وسمى رءوسهم- هل وجدتم ما وعد ربكم حقاً؟ فإني وجدت ما وعدني ربي حقاً وقال عمر: يا رسول الله، تخاطب قوماً قد جيِّفوا؟ قال: والذي نفسي بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، ولكن لا يستطيعون أن يجيبوا[1].
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فإن أهل الجنة لما خاطبوا أهل النار قالوا لهم: فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا [سورة الأعراف:44] فلم يقولوا: هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقاً، ووجه ذلك يحتمل أن يكون -والله أعلم- باعتبار أن الوعد هاهنا لا يختص بهم بل هو لكل الناس، فالله توعد جميع المكذبين وتوعد من كذب وأعرض أي لم يكن الوعيد متوجهاً لهؤلاء بأعيانهم أو بخصوصهم وإنما هو وعيد عام.
ويحتمل أن يكون الخطاب كان بهذه الصورة؛ لسقوط مرتبة هؤلاء الكافرين عن رتبة التشريف بالخطاب، أي لم يتوجه إليهم خطاب الله لانحطاط مرتبتهم، والعلم عند الله -تبارك وتعالى.
هنا لم يحدد من هذا المؤذن، لكن بعض أهل العلم يقول: إنه من الملائكة، وليس على هذا دليل من الكتاب ولا من السنة، فالله تعالى أعلم.
أَن لَّعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ أي: مستقرة عليهم.
ثم وصفهم بقوله: الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُم بِالآخِرَةِ كَافِرُونَ [سورة الأعراف:45] أي: يصدون الناس عن اتباع سبيل الله وشرعه وما جاءت به الأنبياء، ويبغون أن تكون السبيل معوجة غير مستقيمة حتى لا يتبعها أحد.
يقال في قوله تعالى: الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ ما يقال في قوله -تبارك وتعالى: اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ [سورة المجادلة:16] باعتبار أن "صدَّ" تأتي لازمة وتأتي متعدية، فقوله: الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ أي يصدون في أنفسهم فلا يؤمنون ولا يتبعون صراط الله المستقيم، وباعتبار أنها متعدية يقال: أي يصدون غيرهم ويضلونهم، فكل ذلك داخل في معناها والله تعالى أعلم.
والقول بأنهم يصدون غيرهم عن سبيل الله قد يتضمن المعنى الأول باعتبار أنهم ضلوا في أنفسهم ولم يكتفوا بهذا، بل أضلوا غيرهم وصدوهم وصرفوهم.
وَهُم بِالآخِرَةِ كَافِرُونَ [سورة الأعراف:45] أي وهم بلقاء الله في الدار الآخرة كَافِرُونَ أي: جاحدون مكذبون بذلك لا يصدقونه ولا يؤمنون به، فلهذا لا يبالون بما يأتون من منكر من القول والعمل؛ لأنهم لا يخافون حساباً عليه ولا عقاباً، فهم شرُّ في الناس أقوالاً وأعمالاً.
وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْاْ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَن سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاء أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [سورة الأعراف:46-47].
لما ذكر تعالى مخاطبة أهل الجنة مع أهل النار نبَّه أن بين الجنة والنار حجاباً، وهو الحاجز المانع من وصول أهل النار إلى الجنة.
قال ابن جرير: وهو السور الذي قال الله تعالى فيه: فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ [سورة الحديد:13] وهو الأعراف.
.تفسير السور في قوله تعالى: فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ [سورة الحديد:13] -أي: بين المؤمنين وبين المنافقين- بأنه الأعراف ذكره الحافظ ابن كثير -رحمه الله- وذكره أيضاً كبير المفسرين ابن جرير وذكره طائفة من أهل العلم كابن القيم وكذلك الشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحم الله الجميع، ويكون ذلك من قبيل تفسير القرآن بالقرآن، ولكن في مثل هذا الموضع لا يجزم بأن هذا هو تفسيره فقد يكون كذلك وقد لا يكون، ومعلوم أن تفسير القرآن بالقرآن منه ما يلوح فيه وجه الارتباط كقوله -تبارك وتعالى: وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ [سورة الأنعام:146] مع قوله: وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِن قَبْلُ [سورة النحل:118] فآية النحل هذه تفسرها آية الأنعام، وهكذا في مثل قوله: الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [سورة الفاتحة:2] مع قوله: قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا [سورة الشعراء:23-24] بهذا يفسر هذا اللفظ، لكن تفسير قوله: وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ [سورة الأعراف:46] بقوله: فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ [سورة الحديد:13] هذا احتمال قد يكون كذلك، وقد يكون السور الذي يضرب بين المؤمنين والمنافقين ليس هو الحجاب المذكور في سورة الأعراف، والعلم عند الله .
وهو الأعراف الذي قال الله تعالى فيه: وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ [سورة الأعراف:46] ثم روى بإسناده عن السدي أنه قال في قوله تعالى: وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ [سورة الأعراف:46]: وهو السور وهو الأعراف.
وقال مجاهد: الأعراف حجاب بين الجنة والنار، سور له باب.
قال ابن جرير: والأعراف جمع عُرف، وكل مرتفع من الأرض عند العرب يسمى عُرفاً، وإنما قيل لعرف الديك عرفاً لارتفاعه، وقال السدي: إنما سمي الأعراف أعرافاً؛ لأن أصحابه يعرفون الناس.
ومن أهل العلم من وجهه مثل قول السدي: أي أن أصحابه يعرفون الناس باعتبار أنهم في مكان مشرف على أهل الجنة وأهل النار فيعرفون أهل الجنة بعلاماتهم كمواضع السجود التي لا تأكلها النار، ويعرفون أهل النار بعلاماتهم، ومن علاماتهم ما ذكره الله تعالى في قوله: وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا [سورة طـه:102] ويعرفونهم بالسواد كما قال : يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ [سورة آل عمران:106].
هذا القول هو المشهور في تفسير أصحاب الأعراف، وهو الذي عليه عامة السلف من الصحابة ومن بعدهم، ولم يرد تحديد ذلك في شيء ثابت عن رسول الله ﷺ ولم يتفق الصحابة على معنىً فيه، وإنما فيه أقوال متعددة، لكن هذا هو الأشهر، أي: أنهم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم، وهذا أحسن من أن يفسر أصحاب الأعراف بأنهم من الملائكة؛ لأنهم لو كانوا كذلك فإن السياق بعده لا يساعد على هذا، كما سيأتي في قوله تعالى: لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ [سورة الأعراف:46] يعني أصحاب الأعراف -على الراجح- وهذا لا يرد في الملائكة.
وكذلك القول بأنهم ناس من أفضل أهل الإيمان قد فرغ من حسابهم فتفرغوا للاطلاع على حال هؤلاء وهؤلاء –كما قال بعضهم- فهذا قول فيه بعد أيضاً؛ لقوله تعالى: لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ [سورة الأعراف:46] فأهل الإيمان السابقون لا يكونون بمثابة من يطمعون في دخول الجنة، وإنما يكون هذا في قوم يرجون دخولها لم تبلغ بهم أعمالهم أن تدخلهم الجنة.
ويبعد قول من قال أيضاً: إنهم الذين خرجوا للجهاد في سبيل الله وقتلوا في سبيله ممن لم يأذن لهم آباءهم فحبسوا عن الجنة لذلك، وكذلك قول من قال: إن هؤلاء أولاد الزنا وكذا قول من قال: إنهم أهل الفترة، فأهل الفترة ورد أنهم يمتحنون ولذلك لا يحكم على جميعهم أنهم لم يدخلوها وهم يطمعون، والمقصود أن أقرب هذه الأقوال -والله أعلم- أنهم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم فلم ترجح كفة السيئات فيدخلوا النار ولم ترجح كفة الحسنات فيدخلوا الجنة، فبقوا على الأعراف بسبب ذلك، والله أعلم.
وأصحاب الأعراف: هم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم، نص عليه حذيفة وابن عباس وابن مسعود وغير واحد من السلف والخلف -رحمهم الله.
وروى ابن جرير عن حذيفة أنه سئل عن أصحاب الأعراف قال: فقال: هم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم، فقعدت بهم سيئاتهم عن الجنة وخلّفت بهم حسناتهم عن النار، قال: فوقفوا هناك على السور حتى يقضي الله فيهم.
وأبعد الأقوال قول من قال: إن أصحاب الأعراف هم الأنبياء، فالأنبياء لا يقال في حقهم: لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ [سورة الأعراف:46].
والقول: إنهم العدول من كل أمة من الأمم -الشهداء يوم القيامة- الذين يشهدون على الناس هذا لا دليل عليه.
التمني هو أن يرجو المرء حصول شيء يستحيل وقوعه، أو يطلب حصول شيء يستحيل وقوعه أو يبعد في مجاري العادات كما قال الشاعر:
ألا ليت الشباب يعود يوماً | فأخبره بما فعل المشيب |
ومن صور طلب المستحيل أن يتمنى الإنسان المفرّط المهمل أن يكون متفوقاً في دراسته ونتائج اختباره، فمثل هذا يسمى تمنياً.
أما الرجاء والطمع فهو الشيء قريب المنال، ولهذا قال الله : فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ [سورة الأحزاب:32] وذلك أنها إذا خضعت بالكلام وتغنّجت وتكسرت مع الرجال الأجانب فإنهم يطمعون فيها، بمعنى أنّ أخْذها قريب وأنها سهلة التناول بتغنجها وتكسرها خلافاً للأخرى النزيهة الشريفة العفيفة فإنهم لا يطمعون فيها، ولذلك تقول: أطمعته فطمع أي أنك ترجّيه حتى تجعل ذلك الشيء قريب المنال بالنسبة إليه فيطمع في حصوله، فهؤلاء لم يدخلوا الجنة وهم يطمعون بدخولها؛ لأن دخلوها أمر قريب بالنسبة إليهم، فهم في حال لم ييأسوا معها من دخول الجنة خلافاً لأهل النار ولذلك لا يكون ذلك تمنياً بالنسبة إليهم بل هو شيء قريب المنال، فهم من أهل الإيمان وعندهم من العمل الصالح ما يُطمعهم بدخول الجنة لكن عملهم السيئ هو الذي أقعدهم، والعبرة بما غلب؛ فالله يضع الموازين وتوزن أعمال الناس فمن غلبت حسناته نجا، وويل لمن غلبت آحاده عشراته فهذا هو الهالك.
وفي قوله تعالى: لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ [سورة الأعراف:46] بعض أهل العلم يفسر الطمع بالعلم، يعني وهم يعلمون، وهذا خلاف الظاهر المتبادر، والله أعلم.
والضمير في قوله: لَمْ يَدْخُلُوهَا [سورة الأعراف:46] هل يرجع إلى أصحاب الجنة أم إلى أصحاب الأعراف؟ بمعنى هل أصحاب الأعراف يقولون: إن أصحاب الجنة لم يدخلوا الجنة وهم يطمعون وإنما دخلوها برحمة الله أم أن أصحاب الجنة هم الذين يقولون: إن أصحاب الأعراف لم يدخلوا الجنة وهم يطمعون في ذلك؟
الثاني هو الأقرب، والله تعالى أعلم، يعني أن أصحاب الأعراف لم يدخلوا الجنة وهم يطمعون بدخولها، وهذا المعنى هو الذي اختاره ابن القيم -رحمه الله- وهو الذي يدل عليه قول قتادة وقول الحسن –رحمهما الله- فقد قال الحسن: لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ قال: والله ما جعل ذلك الطمع في قلوبهم إلا لكرامة يريدها بهم، وقال قتادة: قد أنبأكم الله بمكانهم من الطمع، وهذا يدل على أن الضمير يعود إلى أصحاب الأعراف، أي أن الله يصف حالهم في هذه الآية فيقول: إنهم ما دخلوا الجنة بعد وهم يطمعون في دخولها.
وقوله: وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاء أَصْحَابِ النَّارِ قَالُواْ رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [سورة الأعراف:47].
قال الضحاك عن ابن عباس -ا: إن أصحاب الأعراف إذا نظروا إلى أهل النار وعرفوهم قالوا: رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [سورة الأعراف:47].
يقول تعالى: وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاء أَصْحَابِ النَّارِ [سورة الأعراف:47] معنى "تلقاء" يعني جهة اللقاء، وهي جهة المقابلة.
ولفظ "تلقاء" مصدر على وزن تِفعال لا يوجد له في اللغة العربية نظير إلا "تبيان" فقط، وإلا فالباقي بالفتح، فتقول: تَكرار –بالفتح- ولا يصح تِكرار –بالكسر.
وَنَادَى أَصْحَابُ الأَعْرَافِ رِجَالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُواْ مَا أَغْنَى عَنكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ أَهَؤُلاء الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لاَ يَنَالُهُمُ اللّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ [سورة الأعراف:48-49].
يقول الله تعالى إخباراً عن تقريع أهل الأعراف لرجال من صناديد المشركين وقادتهم يعرفونهم في النار بسيماهم: مَا أَغْنَى عَنكُمْ جَمْعُكُمْ أي: كثرتكم وَمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ [سورة الأعراف:48].
السيما هي العلامة كما قال تعالى: تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ [سورة البقرة:273] وعلامة أهل النار كما سبق في قوله: وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا [سورة طـه:102] أي أن عيونهم زرق، ومثل هذا قوله تعالى: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ [سورة آل عمران:106] يعني يُعرَفون بسواد وجوههم.
وَمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ [سورة الأعراف:48] أي: لا ينفعكم كثرتكم ولا جموعكم من عذاب الله، بل صرتم إلى ما أنتم فيه من العذاب والنكال.
أَهَؤُلاء الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لاَ يَنَالُهُمُ اللّهُ بِرَحْمَةٍ [سورة الأعراف:49] قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس -ا: يعني: أصحاب الأعراف ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ [سورة الأعراف:49].
إذا فسرت الإشارة في قوله: أَهَؤُلاء أنها عائدة إلى أصحاب الأعراف فيكون ذلك ليس من كلام أصحاب الأعراف وإنما هو كلام متكلم آخر يقول: أَهَؤُلاء يعني أصحاب الأعراف الذين أقسمتم أيها المشركون أنهم لن ينالهم الله برحمة يقال لهم: ادخلوا الجنة.
والقول الآخر أن هذا من تمام كلام أصحاب الأعراف يقولون لأهل النار: أَهَؤُلاء أي أصحاب الجنة الذين كنتم تحتقرونهم في الدنيا وتقولون عنهم: لَوْ كَانَ خَيْرًا مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ [سورة الأحقاف:11] وتقولون: إنَّ الآخرة -لو كان ثمَّ بعث- لكم كما قال قائلكم: لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا [سورة مريم:77] وكما قال بعضكم: مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَرًا مِّثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا [سورة هود:27] وأشباه ذلك مما كنتم تحتقرونهم به وترجّون لأنفسكم أنه لو كان بعث ونشور فإن الآخرة ستكون لكم! أي هاهو يقال لمن احتقرتموهم: ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ [سورة الأعراف:49].
وقول من قال: إن قوله: أَهَؤُلاء عائد إلى أصحاب الأعراف، لعله حمله على ذلك القرينةُ المذكورة في الآية وهي قوله: ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ [سورة الأعراف:49] باعتبار أن أهل الجنة قد دخلوا الجنة وما بقي إلا هؤلاء قد حبسوا عنها وذلك أن أهل النار يسيئون الظن بهم لكن يجدونهم قد قيل لهم: ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ [سورة الأعراف:49].
وقد قال جماعة من السلف: إن أصحاب الأعراف هم آخر من يدخل الجنة ممن لم يدخل النار، والعلم عند الله .
وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الْمَاء أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَاء يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ [سورة الأعراف:50، 51].
يخبر تعالى عن ذلة أهل النار وسؤالهم أهل الجنة من شرابهم وطعامهم وأنهم لا يجابون إلى ذلك.
في قوله: "يخبر تعالى عن ذلة أهل النار وسؤالهم أهل الجنة من شرابهم وطعامهم" من أين جاء الطعام؟
قولهم: أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ [سورة الأعراف:50] محمولٌ على الطعام، والله أعلم.
قال السدي: وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الْمَاء أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ [سورة الأعراف:50] يعني الطعام.
وقال الثوري عن عثمان الثقفي عن سعيد بن جبير في هذا الآية قال: ينادي الرجل أباه أو أخاه فيقول له: قد احترقت فأفض عليَّ من الماء فيقال لهم: أجيبوهم، فيقولون: إِنَّ اللّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ [سورة الأعراف:50].
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: إِنَّ اللّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ [سورة الأعراف:50] يعني طعام الجنة وشرابها.
ثم وصف تعالى الكافرين بما كانوا يعتمدونه في الدنيا باتخاذهم الدين لهواً ولعباً واغترارهم بالدنيا وزينتها وزخرفها عما أمروا به من العمل للآخرة.
وقوله: فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَاء يَوْمِهِمْ هَذَا [سورة الأعراف:51] أي: يعاملهم معاملة من نسيهم؛ لأنه تعالى لا يشِذّ عن علمه شيء ولا ينساه كما قال تعالى: فِي كِتَابٍ لَّا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنسَى [سورة طـه:52] وإنما قال تعالى هذا من باب المقابلة كقوله: نَسُواْ اللّهَ فَنَسِيَهُمْ [سورة التوبة:67] وقال: كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى [سورة طـه:126] وقال تعالى: وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا [سورة الجاثية:34].
وقال العوفي عن ابن عباس -ا- في قوله: فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَاء يَوْمِهِمْ هَذَا [سورة الأعراف:51] قال: نسيهم الله من الخير ولم ينسهم من الشر.
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس -ا- قال: نتركهم كما تركوا لقاء يومهم هذا.
وقال مجاهد: نتركهم في النار، وقال السدي: نتركهم من الرحمة كما تركوا أن يعملوا للقاء يومهم هذا.
وفي الصحيح أن الله تعالى يقول للعبد يوم القيامة: ألم أزوجك؟ ألم أكرمك؟ ألم أسخر لك الخيل والإبل وأذرك ترأس وتربع؟ فيقول: بلى، فيقول: أظننت أنك ملاقيَّ؟ فيقول: لا، فيقول الله تعالى: فاليوم أنساك كما نسيتني[2].
النسيان في كلام العرب يأتي لمعنيين، يأتي بمعنى ذهاب المعلوم من الذهن، -والسهو هو الذهول عنه مع بقائه في الذهن، كما قال صاحب المراقي:
ذهاب ما علم قل نسيان | والعلم في السهو له اكتنان |
-ويأتي النسيان بمعنى آخر هو الترك، وهو المراد هنا والله تعالى أعلم، وهذا معنى معروف في كلام العرب.
قوله: نَسُواْ اللّهَ فَنَسِيَهُمْ [سورة التوبة:67] أي أعرضوا عن أمره ونهيه وتركوه وراء ظهورهم فتركهم الله في الآخرة وأعرض عنهم ولم تنلهم رحمته بل تركوا في النار، ولا حاجة أن يقال: إن النسيان هنا من قبيل المجاز ولا يحتاج مثل هذا المقام إلى تطويل، وإنما يقال: النسيان في كلام العرب يأتي لهذا وهذا، والمقصود به هنا الترك، والله تعالى أعلم.
وَلَقَدْ جِئْنَاهُم بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَاء فَيَشْفَعُواْ لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ [سورة الأعراف:52-53].
يقول تعالى مخبراً عن إعذاره إلى المشركين بإرسال الرسل إليهم بالكتاب الذي جاء به الرسول وأنه كتاب مفصَّل مبيّن كقوله: كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ الآية [سورة هود:3].
وقوله: فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ [سورة الأعراف:52] أي: على علم منا بما فصلناه به، كقوله: أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ [سورة النساء:166].
والمقصود أنه لما أخبر بما صاروا من الخسارة في الآخرة ذكر أنه قد أزاح عللهم في الدنيا بإرسال الرسل وإنزال الكتب كقوله: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً [سورة الإسراء:15] ولهذا قال: هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ [سورة الأعراف:53] أي: ما وعدوا به من العذاب والنكال والجنة والنار، قاله مجاهد وغير واحد.
قوله تعالى: هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ [سورة الأعراف:53] يعني وقوع ما أخبر به؛ لأن التأويل من الأَوْل وذلك يأتي لمعنيين: الأول: هو التفسير، وتأويل الكلام هو تفسيره، وتأويل الرؤيا يأتي بمعنى تفسير الرؤيا كما قال تعالى: نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ [سورة يوسف:36] أي بتفسيره، وتأويل الرؤيا أيضاً وقوعها وتحققها كما قال تعالى: هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ [سورة يوسف:100] وذلك لما رأى الشمس والقمر قد سجدوا له.
ويأتي التأويل بمعنى ما يئول إليه الشيء في ثاني الحال، وتأويل الأمر هو فعل المأمور كما في حديث عائشة –ا- أنها قالت: كان النبي ﷺ يقول في ركوعه وسجوده: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك الله اغفر لي يتأول القرآن"[3] أي: يمتثل قوله تعالى: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ [سورة النصر:3].
وتأويل الخبر يعني وقوع المخبر به وهو المراد بقوله تعالى: هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ [سورة الأعراف:53] يعني وقوع ما أخبر به من القيامة والبعث والنشور والجنة والنار.
وأما صرف اللفظ من المعنى الراجح إلى المعنى المرجوح فهذا اصطلاح حادث لا يفسر به القرآن؛ لأنه لا يجوز حمل القرآن على مصطلح حادث.
وقوله: يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ [سورة الأعراف:53] أي: يوم القيامة.
قال ابن عباس -ا: يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ [سورة الأعراف:53] أي: تركوا العمل به وتناسوه في الدار الدنيا.
قَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَاء فَيَشْفَعُواْ لَنَا [سورة الأعراف:53] أي: في خلاصنا مما صرنا إليه مما نحن فيه أَوْ نُرَدُّ إلى الدار الدنيا فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ [سورة الأعراف:53] كقوله: وَلَوْ تَرَىَ إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النَّارِ فَقَالُواْ يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بَلْ بَدَا لَهُم مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ مِن قَبْلُ وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ [سورة الأنعام:27-28] كما قال هاهنا: قَدْ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ [سورة الأعراف:53] أي: خسروا أنفسهم بدخولهم النار وخلودهم فيها وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ [سورة الأعراف:53] أي: ذهب عنهم ما كانوا يعبدونهم من دون الله فلا يشفعون فيهم ولا ينصرونهم ولا ينقذونهم مما هم فيه.
إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [سورة الأعراف:54].
يخبر تعالى أنه خلق العالم سماواته وأرضه وما بين ذلك في ستة أيام كما أخبر بذلك في غير ما آية من القرآن، والستة الأيام هي: الأحد والاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس والجمعة وفيه اجتمع الخلق كله، وفيه خلق آدم .
واختلفوا في هذه الأيام هل كل يوم منها كهذه الأيام، كما هو المتبادر إلى الأذهان؟ أو كل يوم كألف سنة كما نص على ذلك مجاهد والإمام أحمد بن حنبل، ويروى ذلك من رواية الضحاك عن ابن عباس -ا-؟ فأما يوم السبت فلم يقع فيه خلق؛ لأنه اليوم السابع، ومنه سمي السبت، وهو القطع.
روى الإمام أحمد عن أبي هريرة قال: أخذ رسول الله ﷺ بيدي فقال: خلق الله التربة يوم السبت، وخلق الجبال فيها يوم الأحد، وخلق الشجر فيها يوم الاثنين، وخلق المكروه يوم الثلاثاء، وخلق النور يوم الأربعاء، وبث فيها الدواب يوم الخميس، وخلق آدم بعد العصر يوم الجمعة ،آخر الخلق في آخر ساعة من ساعات الجمعة، فيما بين العصر إلى الليل[4].
يقول –رحمه الله: "فأما يوم السبت فلم يقع فيه خلق؛ لأنه اليوم السابع، ومنه سمي السبت وهو القطع" وقوله تعالى: إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً [سورة الأعراف:163] أي: يوم ينقطعون عن الأعمال، وذلك يوم إجازتهم.
وعلى كل حال فالمشهور الذي دلت عليه الأدلة أن يوم السبت لم يقع فيه خلق، والله خلق السماوات والأرض في ستة أيام وكان ابتداء الخلق يوم الأحد.
وبالنسبة لأهل الجاهلية فإنهم كانوا يسمون يوم الأحد "أول" ويعتبرونه أول أيام الأسبوع، ويوم الجمعة كانوا يسمونه "عروبة".
والحاصل أن ابتداء الخلق كان يوم الأحد، ويوم السبت لم يقع فيه خلق، وآخر الخلق كان يوم الجمعة، وآدم ﷺ خلق في آخر ساعة من يوم الجمعة.
وهذا الحديث الذي أخرجه مسلم عن أبي هريرة فيه إشكالان: الأول: أنه جعل الخلق مبتدأً يوم السبت، وهذا خلاف الأدلة الأخرى.
والإشكال الثاني: أنه جعل أيام الأسبوع كلها أيام خلق، فذكر السبت والأحد والاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس والجمعة فصار الخلق في سبعة أيام، أضف إلى ذلك أنه ذكر في خلْق هذه الأشياء -التربة والشجر والمكروه والنور والدواب- يومَ الخميس، وخلْق آدم في يوم الجمعة، والله أخبر أنه خلق الأرض في يومين وخلق السماوات في يومين وأنه بثَّ أو قدر فيها أقواتها في يومين فصار ما يتعلق بالأرض جميعاً من خلْق ودَحْوٍ في أربعة أيام، فهنا جعل الخلق في سبعة أيام وهو مخالف لقوله تعالى: إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ [سورة يونس:3].
وقد تكلم العلماء على هذا الحديث وقالوا: إنه غلط وليس عن رسول الله ﷺ وإنما هو مما رواه أبو هريرة عن بني إسرائيل، ورفْعه لا يصح إلى رسول الله -عليه الصلاة والسلام- وقد قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله- في دروسه التي كانت في التفسير كلاماً جيداً يمكن الاستفادة منه.
قال الشنقيطي –رحمه الله تعالى: والعلماء يقولون: إن هذه الأيام المراد بها أوقاتها؛ لأنه في ذلك الوقت لم يكن هنالك يوم؛ لأن اليوم من طلوع الشمس إلى غروبها، وإن لم يكن هنالك شمس لا يعرف اليوم، إلا أن الله قبل أن يخلق الشمس والقمر يعلم زمن الأيام قبل وجود الشمس.
وهذه الأيام قد جاء في روايات كثيرة أن أولها الأحد وآخرها الجمعة، والقرآن بيّن أنه خلق الأرض في يومين، ثم خلق فيها الجبال والأقوات والأرزاق في يومين، ثم خلق السماوات في يومين، فهي ستة أيام، ويوم السبت ليس منها، وما جاء في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة أن الله خلق التربة يوم السبت، وجعل في كل من أيام الأسبوع بعض الخلق وإن كان في صحيح مسلم فهو غَلَطٌ، غَلِط بعض الرواة في رفعه، والظاهر أنه أخذه أبو هريرة عن كعب الأحبار أو نحوه من الإسرائيليات؛ لأنه خلاف القرآن الصحيح أن السبت لم يكن من الأيام التي خُلق فيها شيء، وأن السماوات والأرض وما بينهما خلقت في ستة أيام من الأسبوع أولها يوم الأحد وآخرها يوم الجمعة، خلق الله فيه آدم بعد صلاة العصر.
وهذه الأيام قال بعض العلماء إنها كأيام الدنيا، وقال بعضهم: اليوم منها هو المذكور في قوله: وَإِنَّ يَوْمًا عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ [سورة الحـج:47] والله خلق السماوات والأرض وما بينها في ستة أيام -مع أنه قادر على أن يخلق الجميع في لحظة واحدة كلمح البصر- لحكمته -جل وعلا.
قال بعض العلماء: أراد أن يعلّم خلقه التمهل في الأمور والتدرج فيها؛ ليقدروا عليها، وهو قادر على خلق ما يشاء في لحظة واحدة وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ [سورة القمر:50] فهو يقول للشيء: كن فيكون، هذا معنى قوله: الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ [سورة الأعراف:54].
قال الحافظ ابن كثير:
وأما قوله تعالى: ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [سورة الأعراف:54] فللناس في هذا المقام مقالات كثيرة جداً ليس هذا موضع بسطها، وإنما نسلك في هذا المقام مذهب السلف الصالح، مالك والأوزاعي والثوري والليث بن سعد والشافعي وأحمد وإسحاق بن راهويه وغيرهم من أئمة المسلمين قديماً وحديثاً، وهو إمرارها كما جاءت من غير تكييف ولا تشبيه ولا تعطيل، والظاهر المتبادر إلى أذهان المشبهين منفي عن الله لا يشبهه شيء من خلقه، ولَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [سورة الشورى:11] بل الأمر كما قال الأئمة، منهم: نعيم بن حماد الخزاعي -شيخ البخاري- قال: من شبه الله بخلقه كفر، ومن جحد ما وصف الله به نفسه فقد كفر، وليس فيما وصف الله به نفسه ولا رسوله تشبيه، فمن أثبت لله تعالى ما وردت به الآيات الصريحة والأخبار الصحيحة على الوجه الذي يليق بجلال الله ونفى عن الله تعالى النقائص فقد سلك سبيل الهدى.
وقوله تعالى: يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا [سورة الأعراف:54] أي: يذهب ظلام هذا بضياء هذا، وضياء هذا بظلام هذا، وكل منهما يطلب الآخر طلباً حثيثاً أي: سريعاً لا يتأخر عنه.
في قوله تعالى: يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا [سورة الأعراف:54] قراءة أخرى لعاصم وحمزة والكسائي بالتشديد (يغشّي الليل النهار).
يقول الحافظ ابن كثير -رحمه الله- في معنى قوله تعالى: يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ: "أي: يذهب ظلام هذا بضياء هذا، وضياء هذا بظلام هذا" أي يغشي الليل النهار ويغشي النهار الليل مع أنه ما ذكرت الآية إلا واحداً يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ [سورة الأعراف:54] ولذلك قال بعض أهل العلم: إنه ما ذكره من باب الاكتفاء، كما ذكرنا -مراراً- أنه قد يذكر أحد المتقابلين أو النظيرين اكتفاء به عن ذكر الآخر؛ لأنه يدل عليه، ولذلك فإن بعضهم يجعل من هذا قوله تعالى: رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ [سورة المزمل:9] أي: والشمال والجنوب، وبعضهم يقول غير ذلك في هذا المثال، وكذلك هو الحال في قوله تعالى: فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى [سورة الأعلى:9] يعني وإن لم تنفع على أحد الأقوال في تفسير الآية، وكذلك قوله تعالى: وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ [سورة النحل:81] أي: والبرد.
بل إذا ذهب هذا جاء هذا، وعكسه، كقوله: وَآيَةٌ لَّهُمْ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ [سورة يــس:37-40].
فقوله: وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ أي: لا يفوته بوقت يتأخر عنه بل هو في أثره بلا واسطة يبنهما، ولهذا قال: يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ [سورة الأعراف:54] منهم من نَصَبَ ومنهم من رَفََع، وكلاهما قريب المعنى.
قوله: "منهم من نصَب ومنهم من رفعَ" يعني في الشمس والقمر والنجوم، فالرفع قراءة ابن عامر وهي قراءة متواترة (والشمسُ والقمرُ والنجومُ مسخراتٌ بأمره) على أنها جملة اسمية من المبتدأ والخبر، يخبر الله عن تسخيرها.
وعلى قراءة النصب وهي قراءة البقية يكون ذلك عائداً على قوله: خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ [سورة الأعراف:54] يعني وخلق الشمس والقمر وخلق النجوم في حال كونها مسخرات.
يقول تعالى: أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ [سورة الأعراف:54] أي: هو الذي يخلق وهو الذي يحكم ويشرع ويأمر وينهى .
وقد فرَّق تعالى هنا بين الخلق والأمر وهذا مما استدل به أهل السنة على أن الأمر غير الخلق، وهو مما ردوا به على من قال بخلق القرآن، والله المستعان.
تبارك بمعنى كثرت بركته واتسعت، وبعضهم يقول: تبارك أي: تعاظم.
- أخرجه النسائي في كتاب الجنائز – باب أرواح المؤمنين (2075) (ج 4 / ص 109) وأحمد (182) (ج 1 / ص 26)
- أخرجه مسلم في كتاب الزهد والرقائق (2968) (ج 4 / ص 2279)
- أخرجه البخاري في كتاب صفة الصلاة - باب التسبيح والدعاء في السجود (784) (ج 1 / ص 281) ومسلم في كتاب الصلاة - باب ما يقال في الركوع والسجود (484) (ج 1 / ص 350).
- كتاب صفات المنافقين وأحكامهم - باب ابتداء الخلق وخلق آدم (2789) (ج 4 / ص 2149).
- أخرجه البيهقي في شعب الإيمان مرفوعاً عن أبي سعيد الخدري (4400) (ج 4 / ص 97) وقال الألباني: "موضوع" كما في ضعيف الترغيب والترهيب برقم (964).