الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه تسلميًا كثيرًا إلى يوم الدين، أما بعد:
فاللهم اغفر لنا ولشيخنا والحاضرين والمستمعين، قال الحافظ ابن جزي -رحمه الله تعالى- في تفسيره قوله -تعالى-:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فقوله -تبارك وتعالى-: أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ [النساء:78]، بُرُوجٍ [النساء:78] أصل هذه المادة الباء والراء والجيم يدل على الظهور والبروز، فلذلك قال بعضهم: هي البيوت المبنية فوق الحصون، تكون ظاهرة، بارزة، ولذلك يُقال للبرج: المكان المرتفع، وكذلك أيضًا المرأة إذا ظهرت أمام الرجال وبدت، كانت تبدو، تخالط الرجال، تبرز أمامهم، وقد يصاحب ذلك تكشف ونحو ذلك يُقال: تبرج، امرأةٌ متبرجة.
وقال: "أي: في حصون منيعة"، باعتبار أن الحصون مرتفعة ارتفاع البروج المشيدة فُسر بالمنيعة، "وقيل: المُطولة بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ}[النساء:78]، "وقيل: المبنية بالشيد وهو الجص".
على كل حال فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ [النساء:78] يعني أنها منيعة، محكمة البناء، عالية، بحيث يتحصنون بها فيحصل لهم المنعة، لكنّ ذلك لا يمنع الموت من نزوله بهم إذا جاء الأجل.
مع أنه ثبت في حديث ابن عباس -ا- بسبب النزول -كما سبق-: أن عبد الرحمن بن عوف وأصحابًا له أتوا النبي ﷺ بمكة فقالوا: يا نبي الله، إنا كنا في عزٍ ونحن مشركون فلمّا آمنا صرنا أذلة، قال: إني أُمرت بالعفو فلا تقاتلوا القوم، فلمّا حوَّله الله إلى المدينة أمره بالقتال، فكفوا، فأنزل الله: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ [النساء:77][1]، فهذا سبب النزول، ثم بعد ذلك تحول السياق -والله تعالى أعلم- إلى الحديث عن المنافقين، وربما دخل معهم ضعفاء الإيمان؛ لأن مثل هذا: وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا [النساء:78] هذا في المنافقين، كأن السياق قد تحول إلى الحديث عن المنافقين، وهذا له نظائر في القرآن، وإن أشكل على بعض المفسرين كما في قوله -تبارك وتعالى- في الخلق لمّا ذكر أصل خلق الإنسان من آدم : هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ [الأعراف:189]، فذكر هذه النفس وخلق الزوج منها، هذا في آدم قطعًا وحواء، ثم قال الله -تبارك وتعالى-: فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ [الأعراف:189]، هذا كله في آدم وحواء، فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ [الأعراف:189]، هذا في آدم وحواء، فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ [الأعراف:190]، فهذا وإن قال كثيرٌ من المفسرين من السلف فمن بعدهم: بأنه في آدم وحواء إلا أنه مُشكل، قالوا: هذا الشرك في التسمية، أن الشيطان أتاهما فأمرهما بأن يسمياه عبد الحارث، خوفهما من أن يكون له قرنُ أيل فيشق بطنها إلى آخره، لكن هذا لا يثبت، وهو من أخبار بني إسرائيل، وإنما -والله تعالى أعلم- كان ذلك في الذرية، تحول الخطاب إلى الذرية، أو تحول السياق إلى الحديث عن الذرية، فهذا هنا وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ [النساء:78] كذلك أيضًا هذا في المنافقين، فلمّا كان المنافقون ممن نكل عن الجهاد واستثقله جاء الحديثُ عن حالهم ومقالهم، -والله تعالى أعلم-.
نعم هو كذلك، المقصود أن أقول: قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [النساء:78] يعني بقضائه وقدره، وليس كما زعموا، حيث تشاءموا برسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- كما كان أعداء الرسل يفعلون، وسيأتي بعده قوله -تبارك وتعالى-: مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ [النساء:79]، هذا من جهة التسبب، وأما من جهة التقدير فكل ذلك من الله، ومن باب التأدب: فالشر لا يُنسب إلى الله -تبارك وتعالى-، والشر ليس إليك[2]، لا يُنسبُ إليه من جهة الوصف، ولكن هو من الله -تبارك وتعالى- خلقًا وتقديرًا.
فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا [النساء:78]، هذا لا يكون إلا في المنافقين.
قوله -تعالى-: مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ [النساء:79] خطابٌ للنبي ﷺ والمراد به كل مخاطبٍ على الإطلاق، فدخل فيه غيره من الناس، وفيه تأويلان:
أحدهما: نسبة الحسنة إلى الله، والسيئة إلى العبد تأدبًا مع الله في الكلام، وإن كان كل شيءٍ منه في الحقيقة، وذلك كقوله -عليه الصلاة والسلام-: والخير كله بيديك والشر ليس إليك.
وأيضًا: فنسبة السيئة إلى العبد؛ لأنها بسبب ذنوبه، لقوله: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ [الشورى:30]، فهي من العبد بتسببه فيها، ومن الله بالخلق والاختراع.
والثاني: أن هذا من كلام القوم المذكورين قبل، والتقدير يقولون: كذا فمعناها كمعنى التي قبلها.
هذا بعيد، إنما المعنى الأول هو المتجه، مَا أَصَابَكَ [النساء:79] أن ذلك من كلام الله ، وذلك -كما سبق- يكون من جهة التسبب، وإلا فالكل من الله تقديرًا وخلقًا، لكنّ ذلك لا يُنسب إلى الله -تبارك وتعالى- من جهة التأدب، تأدب في الألفاظ، وقرأ ابن عباس، وأُبي، وابن مسعود : (وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَنَا كَتَبْتُهَا عَلَيكَ) هذه القراءة تبين المعنى الأول أنه هو المراد، وأنا كتبتها عليك، فهي تُضاف إلى المخلوق من جهة أنه سبب وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ [الشورى:30].
فهذه مفسرة لآية النساء، والمعنى كما قال الحافظ ابن القيم -رحمه الله-: بأن الشر لا يحصل للعبد إلا من نفسه وبذنوبه، فجمع الله بينهما، وجماعهما في قضائه وقدره ومشيئته وخلقه[3]، يعني كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [النساء:78]، ثم فرق بينهما الفرق الذي ينتفعون به، وهو أن الحسنة نعمة تُشكر، والسيئة بذنوبكم فاستغفروه، قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [النساء:78] يعني أن ذلك بتقديره وخلقه، ثم فرَّق بينهما، الحسنة من الله، والسيئة من أنفسنا من جهة التسبب بالسيئة، فيكون ذلك مدعاةً للاستغفار والتوبة.
وجاء عن السُدي، والحسن، جماعة من السلف: كابن جريج، وابن زيد: مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ [النساء:79] أي بذنبك[4].
وجاء عن قتادة: فَمِنْ نَفْسِكَ [النساء:79] أي عقوبةً لك يا ابن آدم بذنبك[5]، هذا كله يرجع إلى أن ذلك من جهة التسبب، السيئة من قِبل الإنسان لكونه متسببًا فيها، وإلا فهي من تقدير الله ، ولا يقع في ملكه إلا ما أراد وقدَّر وشاء.
كل هذا لا إشكال فيه، وإنما كانت طاعته كطاعة الله، وإنما كانت طاعته طاعةً لله، كل هذا يؤدي المعنى المراد، طبعًا أليق بالسياق -سياق الآية- وإنما كانت طاعته طاعةً لله، هذا أليق من أن يُقال كطاعة الله؛ لأن الله قال: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ .. [النساء:80] جاء بقد التي تفيد التحقيق فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ [النساء:80]، لكن ما في النسخة هنا عندنا يؤدي المعنى، وفي النسخ الثانية كطاعة الله.
دعوى النسخ في مثل هذا منسوخة بالقتال أو بآية السيف لا دليل عليه، والنسخ لا يثبت بالاحتمال، فمثل ذلك يمكن أن يُحمل -والله تعالى أعلم- بمعنى أن الحساب على الله -تبارك وتعالى- وإنما عليك البلاغ، كنظائره في كتاب الله -تبارك وتعالى-، والله أعلم.
لاحظ الآن، إذا كانت هذه في المنافقين، فما قبلها أيضًا في المنافقين في قوله -تبارك وتعالى-: وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ... [النساء:78]، فلا يُقال ذلك في مثل عبد الرحمن بن عوف ومن نزلت فيهم التي قبل ذلك من قوله: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ [النساء:77]، وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ [النساء:81]، هذا السياق كله في المنافقين، يقول: "أي أمرنا وشأننا طاعة لك، وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ [النساء:81] قال أبو جعفر بن جرير: إذا أمرهم قالوا: أمرك طاعة وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ [النساء:81]، ولك منا طاعة فيما تأمرنا به[6]، يعني: وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ [النساء:81] أي كما قال ابن جُزي: أمرنا طاعة، شأننا طاعة، أو إذا خاطبهم عند الخطاب قالوا: أمرك طاعة، فهذا كله بمعنى واحد، لكن ابن جرير ذكر في حال المخاطبة: أمرك طاعة وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ [النساء:81]، فهذا من اختصار الكلام وإيجازه كما هي عادة العرب، تحذف منه ثقةً بفهم المُخاطب، أو بفهم السامع، وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ [النساء:81]، حينما يأمرك إنسان وتقول له: طاعة، تقصد يعني كأنك تقول: أمرك طاعة، وهكذا، كما قال ابن مالك -رحمه الله- في الحذف -حذف ما يُفهم من السياق، ومن الكلام، ومن الخطاب- يقول:
وحذف ما يُعلم جائزٌ كما | تقول زيدٌ بعد من عندكما |
وفي جواب: كيف زيدٌ قل دنف | فزيدٌ استغني عنه إذ حُذف[7] |
حينما يُقال: كيف أنت؟ تقول: بخير، التقدير: أنا بخير، كيف زيد؟ تقول: بخير، زيدٌ بخير، وهكذا
وحذف ما يُعلم جائزٌ كما | تقول زيدٌ بعد من عندكما |
من عندكما؟ تقول: زيد، يعني عندنا زيد، أو زيدٌ عندنا، صرح ابن مالك في مناسبة أخرى قوله:
*** ورجلٌ من الكرام عندنا[8] |
فهنا ذكره، صرَّح به، رجلٌ من الكرام عندنا؛ لأنه لا يتضح من السياق.
"بيَّت يقول: أي تدبر الأمر بالليل"، هذا في الأصل أن التبييت يكون في وقت البيات، ووقت البيات في الليل، وقد يُتوسع في الاستعمال فلا يكون ذلك مقتصرًا على ما وقع منه ليلًا، يُقال للتدبير: بَيَّتَ طَائِفَةٌ [النساء:81] أي دبروا وزورا في أنفسهم غير الذي أمرتهم به، غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ [النساء:81] هذا يحتمل معنيين، أشار إليه ابن جُزي -رحمه الله-: "الضمير في تَقُولُ [النساء:81] للمخاطب وهو النبي ﷺ أو للطائفة"، إذا كان للنبي ﷺ، فيكون المعنى: بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ [النساء:81] يعني أنت لهم، غير الذي أمرتهم به، وإنما زوروا وبيتوا شيئًا وأمرًا يقصدون به خلاف أو على خلاف ما تريد، هذا إذا كان يرجع إلى النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-، بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ [النساء:81] لهم أنت، وإذا كان يرجع إلى الطائفة: غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ [النساء:81] يعني غير الذي تقوله لك هذه الطائفة من الطاعة، هم يقولون طاعة فإذا خرجوا من عندك بيَّت طائفةٌ منهم غير الذي تقوله هذه الطائفة، غير الذي قالوه، بيتوا أمرًا آخر غير الطاعة، وإنما هو المعصية، بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ [النساء:81] والآية تحتمل هذين المعنيين، بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ [النساء:81]، وبين المعنيين ملازمة، يعني إذا كانوا بيتوا غير ما يقول النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-، فمعنى ذلك أن ذلك على خلاف ما قالوا من الطاعة، وكذلك إذا كان المعنى أنهم بيتوا خلاف ما قالوا من الطاعة، فذلك يقتضي أنهم بيتوا خلاف أمر رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-، ومثل هذه المواضع إذا كان بين المعنيين ملازمة والآية تحتمل هذين المعنيين، فيمكن أن تُحمل الآية على ذلك، ولا يُحتاج معه إلى الترجيح، والله تعالى أعلم.
الإعراض أيضًا، فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ [النساء:81] أي لا تعاقبهم، وكذلك أيضًا لا تكترث بهم، ولا تلتفت إليهم، كما في قوله -تبارك وتعالى-: وَدَعْ أَذَاهُمْ [الأحزاب:48]، فإنه يحتمل دَعْ أَذَاهُمْ [الأحزاب:48] لا تؤذهم، ويحتمل أن يكون لا تقف مع إساءتهم، ولا تكترث بهم، دع أذاهم الواصل إليك، ولا تلتفت إليه، ولا تعتد به، ولا تقف معه، تحتمل المعنيين.
هو حضٌ على التفكر في معانيه.
"أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ [النساء:82] حضٌ على التفكر في معانيه لتظهر أدلته وبراهينه"، عامة المفسرين عند التتبع لتفسيرهم لمثل هذه اللفظة في القرآن التي وردت في أربعة مواضع -التدبر- يفسرونها بنحوٍ من هذا يعني التفكر؛ لأنه إعمال الذهن في التعرف على مراد الله -تبارك وتعالى-، والنظر فيما وراء الألفاظ من المعاني والعِبر والهدايات والدلالات وما أشبه ذلك، فهذا هو التدبر، التفكر، وإعمال الذهن، ولا يُفسر أبدًا بالتفسير، ولم يقل بذلك أحدٌ من أهل العلم، التدبر لا يُقال إنه التفسير أبدًا، التفكر، فالتدبر غير التفسير، فهنا الخطاب موجه للمنافقين أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ [النساء:82]، فكيف يُقال: بأن هذا المقصود به التفسير؟ يفسرون القرآن أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ [المؤمنون:68] يعني أفلم يفسروه؟ كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ [ص:29] يعني ليفسروا آياته؟ لو كان تفسيرًا كان بمعنى التفسير لما خوطب به أهل النفاق وأهل الكفر وعموم الناس بهذه الآيات، التفسير لا يصح أن يجترئ عليه المنافق، ولا الكافر، ولا عامة الناس، وأما إعمال الذهن، التعرف على مراد الله والتفكر، فهذا مطلب من أجل أن يعقل عن الله، وأن يعتبر بما في القرآن وينتفع، وهذا واضح، ومن يقول بخلاف هذا فقوله لا يمكن أن يكون له وجه.
لا يوجد في القرآن تناقض ولا تعارض، وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا [النساء:82]، ما ذكره هنا من التناقض أو التفاوت في الفصاحة كل ذلك داخلٌ فيه -والله أعلم- لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا [النساء:82]، ولا شك أن المعنى الأول أبين وأظهر، لكنّه أيضًا لا يمتنع من دخول المعنى الثاني الذي هو التفاوت؛ ولذلك فإن القرآن وصفه الله بالتشابه: كِتَابًا مُتَشَابِهًا [الزمر:23]، يعني يشبه بعضه بعضا في الفصاحة والبيان والبلاغة، ويصدق بعضه بعضًا، فالاختلاف الكثير وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا [النساء:82]، ويثبتُ شيئًا في موضع وينفيه في موضع آخر أو نحو ذلك هذا لا وجود له في القرآن، وكذلك لا تفاوت فيه، أول سورة نزلت اقْرَأْ [العلق:1]، وآخر سورة كاملة نزلت سورة النصر، وما بين ذلك سورة اقْرَأْ [العلق:1] نزل صدرها -كما هو معلوم-، وآخرُ سورةٍ كاملة هي سورة النصر، وما بين ذلك لا يوجد تفاوت في الفصاحة والبلاغة مع أنه نزل في نحوٍ من ثلاثٍ وعشرين سنة.
وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا [النساء:82]، فالشاعر المُجيد يقول القصائد المتعددة تجدها متفاوتة في ألفاظها وقوالبها، وكذلك في مضامينها، وكذلك صاحب الكلام المنثور من الخطابةِ وغيرها كلامه يتفاوت، هنا قوله: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا [النساء:82] هذا نوع من التدبر، وهو التدبر من أجل الوقوف على حقية القرآن، أنه حق من عند الله، وأنه كلامه، وأنه ليس من قول النبي ﷺ أو قول البشر، فإذا قرأ القرآن وجد في مضامينه هذه الهدايات، وكذلك أيضًا هذا الإحكام، ولا تفاوت فيه، ولا تعارض، ولا تناقض إلى غير ذلك، فهذا يدعوه إلى معرفة مصدر القرآن أنه كلام الله، فهذا أحد أنواع التدبر، ويحتاج إلى هذا النوع من كان شاكًا في القرآن أو مكذبًا، وإذا قرأه من أوله إلى آخره بتدبرٍ وتعقل عرف أن هذا لا يكون من كلام البشر، هذا نوع واحد، ولكن المؤمن الذي يوقن أن هذا كلام الله يتدبر لأمور أخرى؛ ليعتبر، ويتعظ، ويعمل، ويرقق قلبه، ويعرض نفسه على القرآن، فيصلح من قلبه وحاله وعمله، وكذلك أيضًا قد يتدبر ليستنبط إن كان من أهل العلم، وقد يتدبر ليقف على وجوه الفصاحة والبلاغة والبيان، فيستخرج ألوان الاستعمالات البلاغية، ووجوه الإعجاز إلى غير ذلك.
هنا القول بأن هؤلاء منافقون هذا مقتضى السياق، السياق في المنافقين، وهذا الذي نسبه ابن عطية -رحمه الله- إلى الجمهور: أنه قول المنافقين[9]، إِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ [النساء:83]، لكن مثل هذا أيضًا يصدر عن ضعفاء الإيمان، ويكون ذلك من صفات المنافقين؛ لأن السياق جاء فيه، ويفعلون ذلك من باب الإرجاف والإفساد، ولكن قد يصدر من بعض ضعفاء المؤمنين من باب السبق للتوصل إلى معرفة الخبر ونشر ذلك، ولو لم يكن له ثبوت أو حقيقة، أو ولو كان ثابتًا لكنه يؤدي إلى مفاسد عظيمة، فهم لا يعقلون ذلك، وإنما مقصودهم الإذاعة والنشر، هذا يقع أيضًا من ضعفاء الإيمان وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ [النساء:83]، من الأمن: يدخل فيه الأخبار السارة والمحببة إلى النفوس من قهر العدو وخذلانه، أو ما وقع له من البلايا والنكبات، أو من رجوعه عن قتال المسلمين، أو كان ذلك في أمورٍ تكون صلاحًا للناس وخيرًا يؤملونه، ونحو هذا، إِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ [النساء:83]، أشياء مطلوبة ومحبوبة أذاعوها ولكن قد لا يكون لها أساس، شائعات لا حقيقة لها، وقد يكون لها أساس فتُصرف عنهم وتُحجب بسبب ذيوعها وانتشارها قبل إقرارها، فيكون هذا الانتشار مفسدًا عليهم وعلى غيرهم، وقد يكون ذلك سببًا للفت أنظارٍ لا تريد بهم خيرًا فيُحجب عنهم ذلك.
وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ [النساء:83] الخوف كمسير العدو إليهم، تربصه بهم، أو ما عند العدو من عتادٍ وسلاحٍ قد يكون من المبالغ فيه، أو كان ذلك في أمورٍ تتعلق بمعايشهم، أو تتعلق بأبدانهم، أو أموالهم، أو أولادهم، أو غير ذلك، أَذَاعُوا بِهِ [النساء:83] يعني أمر غير محبوب فيذيعون به، قد لا يكون له حقيقة، وقد يكون له حقيقة لكن لا يحسُن نشره وإذاعته، فيحصل بسبب ذلك من الإرجاف بالناس والتخذيل وكسر القلوب والوهن ما الله به عليم، كما أن تلك الأخبار من الأمن قد يكون سببًا للإيقاع بهم والحرمان أو الهزيمة أو غير ذلك، فهذا مثلًا الأحمق الأخرق الذي يتحدث مثلًا عن الخطط العسكرية في وقت نشوب الحرب، يقول: نحن سنتقدم إلى كذا، وسنتقدم إلى كذا، وسنتقدم إلى كذا، وصلته أخبار، عرف بطريقة أو بأخرى، فأذاع هذا الجندي هذه الأخبار، ونشر ما ينونه ويعزمون عليه، فالعدو احتاط لهذا ووضع لهم الكمائن واحترز، فلم يحصل لهم شيءٌ من ذلك بسبب هذا.
وهذا كما ترون الآن في هذه الحروب الواقعة في الشام وغيرها، كل معه جهاز المحمول، جهاز الجوال، ويسجل ما يشاء، ويرسل لمن شاء، والعدو يتلقف، ويخبرونه عن مقصودهم ونيتهم وخططهم العسكرية ويفشونها، وأنت تسمع أحيانًا لا تدري هذا أحمق أو مجنون أو أهبل أو يقصد الإيقاع بهم والإساءة إليهم، هذا عقله وقدره من الفهم -الله المستعان- مثل هذا يحتاج إنه يُربَّط ويُؤخذ ما معه، تؤخذ الأجهزة التي مع هؤلاء، ولا يُتركون يتكلمون بهذه الطريقة، والعدو يتتبع ذلك ثم يكون رده قاسيًا، فلا يكون.
وهكذا في تسريب أخبار أسلحة قد تصلهم أو نحو ذلك مما يسبب حرجًا لمن أعطاهم، أو العدو يحتاط لهذه الأسلحة، أو غير ذلك من الأمور، وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ [النساء:83]، مثل الأمن يكون جاءهم أسلحة نوعية، أسلحة كذا، يقولون: وصلنا من فلان أو من الجهة الفلانية أو الدولة الفلانية السلاح الفلاني، وصلنا كذا، وصلنا كذا كأنه ينادي عليهم ويشنِّع بهم ويشهِّر بهم، فيتلقون درسًا بأن مثل هؤلاء لا يُعطون، فأصبح الكل يتكلم الآن والكل ينشر، والآن التلفيق في الأخبار تعرفون، والتلفيق في الصور، والتلفيق في المقاطع، هذا أمر مُشاهد وموجود، فلا تثق بصورة، ولا تثق بشيء، وقد يكون الخبر في حدثٍ آخر، ونأتي ونذيع هذه الأخبار وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ [النساء:83] وإلى الله المشتكى.
أَذَاعُوا بِهِ [النساء:83] الإذاعة هي الإفشاء والتفريط، أَذَاعُوا بِهِ [النساء:83] تكلموا به وشهروه، منه سُميت الإذاعة إذاعة؛ لأنها تنشر.
قوله هنا: وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ [النساء:83]، يقول: "وإلى أولي الأمر وهم كبراء الصحابة وأهل البصائر منهم لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ [النساء:83]" قال طائفة من السلف كقتادة، وابن جريج، والحسن: هم العلماء[10]، وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ [النساء:83]، وكأنه يدخل فيه ما هو أهم من ذلك، وَلَوْ رَدُّوهُ [النساء:83] هذا الخبر إِلَى الرَّسُولِ [النساء:83] في حياته، وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ [النساء:83] كبرائهم من كبار الصحابة ، ويُقال بعد النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- أنه يدخل في ذلك أمرائهم -أمراء الحرب مثلًا-، أو أمرائهم على سبيل الإطلاق، وكبرائهم، وأهل الرأي فيهم، بحيث لا يسارع هذا الإنسان في نشر هذا الخبر وإذاعته فيحصل بسبب ذلك مفاسد، وقد لا يكون له حقيقة، فيأتي إلى هؤلاء ويقول: بلغني كذا وكذا، بلغني عن العدو أنه يعزم المسير مثلًا إلى بلاد المسلمين، أن العدو قد اقترب من بلادهم، أن العدو يتربص بهم في كذا، أن العدو له عيون بينهم، فلا يذيع هذا في رسالة ينشرها بين الناس، وإنما يذكر هذا لمن يعالج هذه القضية، ويتعرف على حقيقة ما ذُكر، ويستطيع أن يتوصل إليه ويتثبت منه، ثم يتخذ الإجراء المناسب دون أن يكون هذا إشاعة إلى من يصلح ومن لا يصلح، ومن يحسن ومن لا يحسن، ومن يفهم ومن لا يفهم، ومن يستطيع أن يتعامل مع ذلك ومن لا يستطيع، بخلاف ما هو شائع الآن كل شيءٍ يُنشر، وتجد الكثيرين يبحث عن شيءٍ يسبق الناس إليه، فيكون أول من نشره، هذا لا يصح ولا يكون، وكثير من الأخبار لو نظرت فيها وما يريد هذا الناشر أن يصل إليه، ماذا يريد؟ أن يتوصل إلى ماذا في هذا الخبر؟ فت الأعضاء، نشر البلبلة بين الناس، تخويف الناس، أن يكون طليعةً للعدو، يجعل نفوس الناس منكسرة فيجتاحهم عدوهم، أصابهم هزيمة نفسية قبل أن يصل إليهم العدو، فنشر هذه الأخبار، نشر هذه الشائعات، ما الهدف حينما توصلها إلى الناس؟!
وتجد هذا في أعمال وممارسات بعض الإعلاميين ما يسمونه بالسبق الصحفي، هذا كثير، وإذا كشَّر العدو عن أنيابه تجد بالرسومات والتوضيح وإلى آخره ينشرون ما يريد العدو، كم يملك من ناقلات الطائرات، حاملات الطائرات، وكم يملك من الصواريخ عابرة القارات، وكم يملك من المدمرات، وكم يملك من الطائرات بأنواعها، وكم يملك من القاذفات والدبابات وغير ذلك، ثم يأتون بالضحية، وكم يملك من عتادٍ ضعيف هزيل لا يُقارن أبدًا بحالٍ من الأحوال مع ذاك المستأسد الذي قد ملك في نظر هؤلاء أسباب القوة والتمكين، فالهزيمة الساحقة تنتظر هؤلاء الضعفاء، والنصر يكون حليفًا لأولئك الأعداء، هي هكذا، فيُنشر هذا قبل الحرب بشهور، وتكون النفوس قد تهيأت للهزيمة، وتنتظر لحظة السحق، وليس بهم حراك، هذا ما يفعله من يعقل اللهم إلا إذا كان يدًا للعدو ولسانًا ينطق بما يريد، وإلا فما المصلحة من نشر هذه الأشياء -والله المستعان-، هذا تجده في الحروب واضحًا.
يقول:
يعني ليس المقصود يستخرجونه من النبي ﷺ وإنما يستخرجونه؛ من هم هؤلاء الذين يستخرجونه؟ النبي ﷺ وأولي الأمر، وهذا مأخوذ من النبط وهو الماء يُخرج من البئر أول ما تُحفر، يستنبطون، الاستنباط، ولا يُقال: الاستنباط إلا لما كان من غور، ولا يكون ذلك للأشياء الظاهرة والأشياء التي يفهمها كل أحد، وإنما تحتاج إلى إمعان الذهن، وتحتاجُ إلى نظر دقيق، والله المستعان.
الفعل يعني يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ [النساء:83]، لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ [النساء:83] "ويتعلق بالفعل، والضمير المجرور يعود على الرسول وأولي الأمر".
وقيل: الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ [النساء:83] هم أولوا الأمر، كما جاء في الحديث عن عمر أنه سمع أن رسول الله ﷺ طلَّق نساءه، فدخل عليه، فقال: أطلّقت نساءك؟ فقال: لا، فقام على باب المسجد، فقال: إنّ رسول الله ﷺ لم يُطلِّق نساءه، فأنزل الله هذه القصة، قال: وأنا الذي استنبطته[11].
فعلى هذا يَسْتَنْبِطُونَهُ [النساء:83] هم أولو الأمر، والضمير المجرور يعود عليهم، ومِنْهُمْ [النساء:83] لبيان الجنس، واستنباطه على هذا هو: سؤالهم عنه النبي ﷺ أو بالنظر والبحث، واستنباطه على التأويل الأول هو سؤال الذين أذاعوه للرسول -عليه الصلاة والسلام- ولأولي الأمر، [وفي نسخة: واستنباطه على التأويل الأول هو بسؤال الذين أذاعوه للرسول -عليه الصلاة والسلام- ولأولي الأمر].
لا إشكال، المعنى واضح، بسؤال أو هو سؤالُ الذين أذاعوه للرسول ﷺ، فقوله هنا: "الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ [النساء:83] هم أولوا الأمر"، كما جاء في الحديث إلى آخره، هذا قول آخر.
القول الأول هنا يقول: "وحرف الجر في قوله: يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ [النساء:83] لابتداء الغاية وهو يتعلق بالفعل، والضمير المجرور يعود على الرسول وأولي الأمر"، يعني لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ [النساء:83] يعني مبتدًا منهم، يكون ذلك من النبي ﷺ وأولي الأمر، وهذا هو ظاهر السياق، مِنْهُمْ يعني من ذُكر، وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ [النساء:83] يعني النبي ﷺ وكبار الصحابة .
"وقيل: الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ [النساء:83] هم أولوا الأمر، كما جاء في الحديث عن عمر إلى آخره" فهؤلاء داخلون، ويدل على هذا قول عمر : "وأنا الذي استنبطته" في قصة إيلاء النبي ﷺ من أزواجه، الحديث الطويل، لمّا وجد الناس يبكون في المسجد ويقولون: طلَّق النبي ﷺ نساءه، معلومة غير صحيحة، فدخل على النبي ﷺ وهو في غرفةٍ وسأله: طلقت نساءك؟ فأخبره أنه لم يطلق نساءه، فعمر أذاع ذلك، وأخبر الناس بأن النبي ﷺ لم يطلق نساءه، فلم يتلقف قولهم ويصدقه ويوافقهم على ذلك مع كثرتهم، ولكنه رجع إلى النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- وعرف حقيقة ما وقع، ثم أذاع ذلك في الناس، فكان تطمينًا لنفوسهم، وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ [النساء:83] كبار الصحابة مثل عمر يتصرفون التصرف اللائق بمثل هذه المقامات دون تلقف لأخبار قد لا تكون صحيحة.
يقول: "والضمير المجرور يعود عليهم" يعني لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ [النساء:83] يعني أولي الأمر على القول الثاني، وتكون "مِنْهُمْ [النساء:83] لبيان الجنس مِنْهُمْ [النساء:83]" من هؤلاء أولي الأمر، وعلى الأول لابتداء الغاية، إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ [النساء:83] يعني مبتدًا منهم، واستنباطها على هذا هو سؤالهم عنها النبي ﷺ أو بالنظر والبحث، واستنباطها على التأويل الأول هو سؤال الذين أذاعوه للرسول -عليه الصلاة والسلام- ولأولى الأمر.
والمعنى الأول أقرب -والله أعلم- أن ذلك يشمل النبي ﷺ ويشمل كبار الصحابة ، ويكون بعد النبي ﷺ لمن يرجع الناس إليهم، ويستطيعون الوقوف على حقيقة ذلك، ومعرفة وجه التصرف فيه، وما يُذاع وما لا يُذاع، ولا يكون ذلك متروكًا لكل أحد، -والله أعلم-.
كل هذا وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ [النساء:83] بهداه، بتوفيقه، ببعثه للرسل وإنزال الكتب، كل ذلك داخلٌ فيه، لكن الذين قالوا مثلًا ببعث الرسل أو هداه نظروا إلى ما ذُكر بعده لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا [النساء:83]، فما الذي يعصمهم من اتباع الشيطان؟ قال: إن الله هداهم وبعث لهم الرسل -عليهم الصلاة والسلام-، فهذا الاتباع في ماذا؟ سيذكره بعده، فهو الذي يحدد المعنى في قوله: وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ [النساء:83] ما المراد بذلك.
المصدر الذي هو اتباعًا مُقدر، إلا اتباعًا قليلًا، يعني تتبعونه في كثيرٍ من الأمور، تتبعونه إلا اتباعًا قليلًا، يعني يكون الغالب اتباع الشيطان إلا قليلًا.
المعنى الأول: اتباع في الأمور والشئون، يعني فيما يأمر به، تتبعونه فيما يأمركم به ويدعوا إليه، إلا اتباعًا قليلًا يعني إلا في أمور قليلة.
المعنى الثاني: لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا [النساء:83] من الفاعل، اتبعتم أنتم الشيطان، إِلَّا قَلِيلًا [النساء:83] إلا قليلًا منكم لا يتبع الشيطان، وهنا يرد سؤال ويرد إشكال أن هؤلاء وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ [النساء:83]، لولا تدل على امتناع الوجود، يعني امتنعت طاعة الشيطان واتباع الشيطان لوجود فضل الله ورحمته، وإِلَّا قَلِيلًا [النساء:83] على هذا المعنى إذا كان الاستثناء من الفاعل إلا قليلًا منكم مع وجود فضل الله ورحمته، كيف يكون هذا؟
قلنا: إن بعث الرسل وهداه، هل يستطيع الإنسان أن يهدي نفسه ويستقل بالهداية بعيدًا عن فضل الله ورحمته؟
الجواب: لا، فما المراد؟ ولذلك قال بعضهم: هم القلة الذين كانوا في الجاهلية على التوحيد والفطرة قبل بعث الرسول ﷺ، البقايا التي بقيت، القلائل، لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا [النساء:83]، حتى هؤلاء لولا فضل الله عليهم بهداه لما حصل لهم هذا الاهتداء إلى التوحيد قبل بعث النبي ﷺ، لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا [النساء:83]، وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ [النساء:83]، هنا قوله: لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا [النساء:83] ظاهره أنه في كل شيء، يعني حتى في التوحيد والإيمان، وليس في خصوص النشر والإذاعة للأخبار التي لا يصح نشرها؛ لبطلانها في أصلها، أو للمفسدة المترتبة على إذاعتها، لكن بعض أهل العلم خصوه بهذا، يعني أذاعوا به إلا قليلٌ منهم لم يذع به، وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ [النساء:83] بإذاعة ذلك ونشره إِلَّا قَلِيلًا [النساء:83]، وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ [النساء:83]، ويبقى الإشكال أنه لا يستغني أحد عن هدى الله وفضله، فلو تخلى الله عن العبد طرفة عين لهلك وضل، ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين[12]، فهؤلاء القليل أيضًا الذين لا يتبعون الشيطان في إذاعة هذه الأمور، كيف وقع لهم ذلك؟ فبعضهم يقول: هؤلاء بنظرهم العقلي وتعقلهم وتأنيهم وما أشبه ذلك، والواقع أنه يرد عليه الإشكال؛ لأنه إذا امتنع فضل الله ورحمته على العبد صار من جملة هؤلاء، كما هو مشاهد في تلك الأحوال الصاخبة التي تضل فيها العقول وتذهب لكثرة ما يُذاع ويُنشر من الأباطيل، فينطلي ذلك على العقلاء من الناس إلا من لطف الله -تبارك وتعالى- به.
فيقول: "وقيل: إنه استثناءٌ من الفاعل في (اتبعتم) أي إلّا قليلًا منكم"، وهو الذي يقتضيه اللفظ، لاحظ يرد عليه الإشكال، فأجاب عنه، هذا الجواب عن سؤالٍ مقدر الذي ذكرته.
قال:
لكن يرد على هذا الإشكال الذي ذكرته أيضًا، هؤلاء لولا فضل الله ورحمته لهلكوا وضلوا كغيرهم لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا [النساء:83]، لكن لو فُسر ببعث الرسول ﷺ فيمكن أن يُقال: كورقة بن نوفل ونحو ذلك، لكن المعنى أوسع من ذلك في المراد بفضل الله ورحمته.
"وقيل: إن الاستثناء من قوله: أَذَاعُوا بِهِ [النساء:83]" يعني أذاعوا به إلا قليلا كما ذكرنا أنه في خصوص موضوع الإذاعة، ويمكن أن يكون -وهذا يحُل الإشكال- أن القليل والقلة تُذكر في القرآن أحيانًا يُراد بها العدم، وهذا العدم لا يبعُد أن يكون هذا الموضع كذلك، يعني لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا [النساء:83] أن يكون المراد به العدم، فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ [البقرة:88]، يعني تُذكر القلة أحيانًا يُراد بها العدم، والله أعلم؛ لأن الإنسان إذا وكل إلى نفسه ضل، سواءً كان في باب الإذاعة والأخبار يعني في خصوص هذا المعنى، أو كان ذلك في الهداية إلى الإيمان وطاعة الله -تبارك وتعالى-، كل ذلك بفضل الله ورحمته، فإذا امتنع ذلك، لَوْلا [النساء:83] حرف امتناع الوجود، فإذا امتنع فضل الله ورحمته حصل اتباع الشيطان والضلال، -والله أعلم-.
وقيل: إنه استثناء من الفاعل في (اتبعتم) أي إلّا قليلًا منكم، وهو الذي يقتضيه اللفظ، وهم الذين كانوا قبل الإسلام غير متبعين للشيطان كورقة بن نوفل، والفضل والرحمة على هذا بعث الرسول وإنزال الكتاب، وقيل: إنّ الاستثناء من قوله: أَذَاعُوا بِهِ [النساء:83].
قوله -تعالى-: لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ [النساء:84] لمّا تثاقل بعض الناس عن القتال قيل هذا للنبيﷺ، أي: إن أفردوك فقاتل وحدك فإنما عليك ذلك.
إنما عليك ذلك، وقيلت بأن الفاء متعلقة بقوله: وَمَنْ يُقَاتِلْ [النساء:74] أي من أجل ذلك فقاتل، فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ [النساء:84]، وقيل: المتعلق بقوله، يعني الفاء تتعلق بقوله: وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [النساء:75] فَقَاتِلْ [النساء:84].
وبعضهم يقول: جواب شرط محذوف، فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [النساء:84] هذا جواب شرط محذوف دلَّ عليه السياق، فإذا كان الأمر ما ذُكر من عدمِ طاعة المنافقين فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ [النساء:84]، وهذا بمعنى ما ذكره ابن جزي، قال: "أي إن أفردوك -لاحظ هذا الشرط المحذوف- إن أفردوك فقاتل وحدك فإنما عليك ذلك، فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [النساء:84]"، لكن على القولين الأولين لا يحتاج إلى تقدير، لا يُقال فيه محذوف، والأصل عدم التقدير، وإذا دار الكلام بين الاستقلال والتقدير فالأصل في الكلام الاستقلال، يعني أنه لا أحتاج إلى مُقدر محذوف، فهذا إذا قيل بأنه متعلق بقوله: وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [النساء:74]، فهنا يقول: فَقَاتِلْ [النساء:84]، من أجل ذلك فَقَاتِلْ [النساء:84]، أو وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [النساء:75] فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [النساء:84]، -والله أعلم-.
كما قال النبي ﷺ في بدر: قوموا إلى جنةٍ عرضها السماوات والأرض[13].
وهذا جاء عن ابن عباس -ا- وغيره: عسى من الله واجبة[14]، يعني بمعنى أن عسى تفيد الترجي، تقول: عسى المطر أن ينزل، والترجي إنما يقع ممن لا يعلم العواقب، ولكن الترجي يكون في الشيء قريب المنال، والتمني للشيء بعيد المنال أو المحال، فهنا إذا قال الله في كلامه: عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا [النساء:84]، عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً [الممتحنة:7]، فهل الترجي يقع من الله؟ الترجي لا يقع من الله؛ لأنه يعلم العواقب، يعلم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف يكون، إنما يقع الترجي ممن لا يعلم؛ بشر، فهذا يكون محمله على أحد وجهين:
الوجه الأول: هذا، بناءً على هذه القاعدة، هذه قاعدة من قواعد التفسير أن: عسى من الله واجبة، بمعنى متحققة الوقوع، قالوا: والقرآن جاء على طريقة العرب في المخاطبة وبلغتهم، والعظيم من الناس الكبير منهم، جرت عادة هؤلاء من ملوكهم أن الواحد منهم يُخرج العِدة بمثل هذه الصيغة فيقول: عسى أن يحصُل لك ما أردت، عسى أن نحقق لك ما طلبت، عسى أن يحصل لك ذلك العطاء ونحو هذا، فالسامع يفهم أن هذا من قبيل الوعد المتحقق، لكنّهم يخرجونه بهذه الصيغة، فإذا خرج من هؤلاء من عظمائهم وكبرائهم فيفهمون منه الوعد المحقق، هذا معنى عسى من الله واجبة، أي متحققة الوقوع.
الوجه الثاني: أن يكون هذا على قاعدة أخرى وهي خروج الخطاب مراعًى به نظر المخاطب، وهذا أنواع في عسى مثلًا: عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا [النساء:84]، يعني فيما يكون من رجاءٍ في نفوس المخاطبين إذا حصل القتال والجهاد، وكما في قوله في لعل أيضًا في خطاب موسى وهارون -عليهما السلام- في الذهاب إلى فرعون: لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى [طه:44]، لَعَلَّهُ [طه:44] يعني على رجائكما، وإلا فقد علم الله أنه لا يتذكر ولا يخشى، على رجائكما، وهكذا فيما جاء في التردد بما يشبه الشك، في قوله -تبارك وتعالى- مثلًا: وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ [الصافات:147]، هل أَوْ [الصافات:147] هذه بمعنى بل، بل يزيدون، أو أنها للشك؟ فأحد المعاني الذي يتخرَّج على هذا الأصل أنها للشك، يعني بمعنى أن ذلك رُوعي فيه حال المُخاطب، الناظر منكم إليهم يقول: بأنهم مائة ألف أو يزيدون.
وهكذا في قوله عن الساعة: كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ [النحل:77]، أَوْ [النحل:77] هذه للشك أو بمعنى بل مثلًا، لكن على الأصل الذي ذكرته هو بالنسبة لنظركم، بالنسبة للمخاطبين.
عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا [النساء:84]، ويمكن أن يُقال: بأن ذلك يعني عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ [النساء:84] أنها تفيد التعليل من أجل أن يكف، لكن القول هنا: بأن عسى من الله واجبة، هذا معروف وجاء عن بعض الصحابة والسلف.
أَشَدُّ تَنكِيلًا [النساء:84] عقابًا وعذابًا ونكاية في العدو، والتنكيل مصدر، يُقال: نكَّل بفلان إذا أوجعه عقوبةً، وفعل به ما يمنعه من المعاودة، ويمنع غيره أيضًا من أن يعمل عمله، قال الحافظ ابن كثير -رحمه الله-: وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنكِيلًا [النساء:84] بأنه قادرٌ عليهم في الدنيا والآخرة، كما قال الله : ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ [محمد:4] وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنكِيلًا [النساء:84].
النقطة هذه تُوقع في إشكال، وإلا لا محل لها أو يُجلب إليه خيرا.
وش عندكم في النسخ الأخرى؟ يجلب إليه خيرا؟ يجلب إليه يقول: "هي الشفاعة في مسلم لتُفرج عنه كربة، أو تُدفع مظلمة أو تجلب إليه خيرا"، النسخة ها؟ تُدفع وتُرفع مظلمة، لا بأس، تُرفع مظلمة، نعم كل هذا صحيح، وتُرفع أوضح، "هي الشفاعة في مسلم لتُفرج عنه كربة، أو تُدفع أو ترفع مظلمة أو تجلب إليه خيرا".
صحيح، الأول أظهر، فالشفاعة هي معروف أنها الانضمام إلى آخر نُصرةً له وتقويةً لجانبه، يُقال: شفع لفلان إذا جاء ملتمسًا مطلبه ومعينًا له، فأصل الشفع ضم الشيء إلى مثله، يعني بعد ما كان منفردًا في حاجته، جاء من شفعه فقوى جانبه، جاء في الصحيح عن أبي موسى أن النبي ﷺ كان إذا جاءه السائل أو طُلبت إليه الحاجة قال: اشفعوا تؤجروا، ويقضي الله على لسان نبيه ﷺ ما شاء[15].
مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا [النساء:85]، والكفلُ هو النصيب، مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا [النساء:85]، قال: "الكفل هو النصيب"، وهذا يُقال في الخير والشر، الكفل، النصيب والكفل، فالكفلُ يُقال: في الخيرِ والشر، وذكر ابن القيم -رحمه الله- أن لفظ الكفل يُشعر بالحمل والثقل، ولفظ النصيب يُشعر بالحظ الذي ينصب طالبه لتحصيله[16]، وإن كان كل منهما يُستعمل في الأمرين عند الانفراد، لكن لمّا قرن الله بينهما حسُن اختصاص حظ الخير بالنصيب، والشر بالكفل، مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ [النساء:85]، فكأن النصيب هو ما يسعى إليه الإنسان لتحصيله، والكفل فيه معنى الثقل، وإلا فالكفل يُقال للنصيب وللحظ، يعني في الخير والشر، والنصيب يُقال أيضًا في الخير والشر، لكن فرَّق بينهما هنا، -والله أعلم-.
قوله -تعالى-: مُقِيتًا [النساء:85] قيل: قديرا، وقيل: حفيظا، وقيل: الذي يُقيت الحيوان أي يرزقهم القوت.
قوله -تعالى-: فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا [النساء:86] معنى ذلك الأمرُ بردِّ السلام، والتخيير بين أن يرد بمثل ما سُلّم عليه أو بأحسن منه، والأحسن أفضل، مثل أن يُقال له: سلام عليك، فيردّ السلام ويزيد الرحمة، أو يزيد الرحمة والبركة، وردّ السلام واجبٌ على الكفاية عند مالكٍ والشافعي[17].
وقال بعض الناس: هو فرض عينٍ، واختُلف في الردّ على الكفار، فقيل: يُردّ عليهم لعموم الآية، وقيل: لا يُردّ عليهم، وقيل: يُقال لهم: عليكم، حسبما جاء في الحديث، وهو مذهب مالكٍ ولا يُبتدئون بالسلام.
"قوله: فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا [النساء:86] قال: معنى ذلك الأمرُ بردِّ السلام" وغير السلام أيضًا، يعني وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا [النساء:86]، لو قال له مثلًا: صبحك الله بالرضا والعافية والخير ونحو ذلك، فيرد عليه هذه التحية، هذه تحية، فالتحية أصلها من قولهم: حياك الله، هذا أصلها، قولهم: حياك الله، ثم صارت تُقال لما يُقال في أول اللقاء، وأبلغُ ذلك وأفضله وأكمله السلام، السلام الذي هو أبلغ من قولهم: حياك الله؛ لأن الإنسان قد تكون حياته لا خير فيها وبائسة، شركم من طال عمره وساء عمله[18]، وقد يسأم من طول الحياة ويُرد إلى أرذل العمر،
ومن يعش ثمانين حولًا لا أبا لك يسأمُ *** |
والآخر الذي يقول:
ألا موتٌ يُباع فأشتريه | فهذا العيش مما لا خير فيه |
ألا رحم المهيمن رأس حرٍ | تصدق بالوفاة على أخيه[19] |
فهذا يتمنى الموت،
كفى بك داءً أن ترى الموت شافيا | وحسب المنايا أن يكنَّ أمانيا[20] |
فهذا الذي يتمنى الموت ماذا بقي له؟!.
وهنا يقول: "والتخيير بين أن يرد بمثل ما سُلِّم عليه أو بأحسن منه، والأحسن أفضل"، وهذا لا شك فيه، ففي حديث أبي هريرة في الصحيح في خلق آدم: اذهب فسلم على أولئك -نفر من الملائكة- وفيه فقال: السلام عليكم، فقالوا: عليك السلام ورحمة الله[21]، فزادوا ورحمة الله.
وفي حديث عمران بن حصين جاء رجل إلى النبي ﷺ فقال: السلام عليكم، فرد عليه ثم جلس، فقال النبي ﷺ: عشر، ثم جاء آخر فقال: السلام عليكم ورحمة الله، فرد عليه ثم جلس، فقال: عشرون، ثم جاء آخر فقال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فقال النبي ﷺ: ثلاثون[22]، هذا في كون التحية بالسلام لا شك أنها أفضل، وإذا كان ذلك بصيغةٍ أكمل فهو أفضل.
فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا [النساء:86]، فقدَّم الأحسن فهو الأكمل فهو مأمورٌ به، يزيد الرحمة إلى آخره.
يقول: "ورد السلام واجبٌ على الكفاية عند مالكٍ والشافعي، وقال بعض الناس: هو فرض عين"، والأقرب أنه فرض كفاية، يعني إذا سلَّم على جماعة من الناس فرد أحدهم أو بعضهم كفى عن الباقين، والذين قالوا: فرض عين نظروا إلى ظاهر الخطاب أنه عام، فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا [النساء:86] قالوا: هذا يتوجه إلى كل فردٍ منهم، والأقرب هو قول الجمهور بأن ذلك فرض كفاية، لكن الزيادة مستحبة، مندوبة، كما قال الحافظ ابن كثير: "فالزيادة مندوبة، والمماثلة مفروضة"[23]، ونقل عليه القرطبي: الإجماع[24]، سلم عليهم يجب عليهم الرد، إن كانوا جماعة فيرد واحد يكفي، أو بعض هؤلاء فيكفي عن الآخرين، ما الذي يجب من الرد؟ أن يرد بالمثل، فإن زاد فهو أفضل.
"واختُلف في الرد على الكفار، فقيل: يرد عليهم لعموم الآية: وَإِذَا حُيِّيتُمْ [النساء:86]"، فبناه للمجهول، فهذا المُحيي قد يكون مسلمًا وقد يكون كافرًا، "وقيل: لا يرد عليهم"، بأي اعتبار؟ باعتبار أن التحية للكافر الرد عليه فيه إكرام، وتتضمن دعاءً له، وهو لا يستحق ذلك، هذا بهذا الاعتبار الذين قالوا: لا يُرد عليه.
"وقيل: يُقال لهم: عليكم، حسبما جاء في الحديث"، جاء في الصحيحين من حديث ابن عمر -ا-: إذا سلَّم عليكم اليهود فإنما يقول أحدهم: السامُ عليكم -السام يعني الموت-، فقل: وعليكَ[25].
وجاء عند مسلم من حديث أبي هريرة: لا تبدأوا اليهود والنصارى بالسلام، وإذا لقيتموهم في طريق فاضطروهم إلى أضيقه[26]، هم لا يُبتدئون بالسلام؛ لأنه إكرام، وهذا ليس محل اتفاق، يعني بعضهم قال: لا بأس إن كانت له حاجة ولقيه فيذكر له تحيةً أو نحو ذلك، لكن الحديث هنا: لا تبدأوا اليهود والنصارى بالسلام، فقول هؤلاء الفقهاء الذين قالوا: يمكن أن يُبتدئوا قالوا: بغير السلام، وأجاز الحنفية والمالكية رد السلام على الذمي، ولا يجب إلا إذا تحقق المسلم من لفظ السلام من الذمي، يعني أنه لا يلوي لسانه ويقول: السام، فإذا عرف أنه يقول: السلام عليكم، فيقول: وعليكم السلام، هذا أجازه الحنفية والمالكية[27].
وهو واجبٌ عند الشافعية والحنابلة[28]، ويقتصر على قوله: وعليكم، هذا أمر قولوا: وعليكم، عند الحنفية والشافعية والحنابلة إن الرد واجب، لكن ماذا يقول؟ عند هؤلاء الحنفية والشافعية والحنابلة يقول: وعليكم، وعند المالكية يقول: عليكم، إذا كان واحد يقول: عليك بدون واو، لماذا؟ قالوا: لأنه جاء في حديث ابن عمر فقل: عليك، وفي رواية: عليكم، والواو هنا نظروا إليها باعتبار، وعليكم كأنها تفيد العطف على ما سبق والجمع، معنى الجمع، فإذا لوى لسانه قال: السام عليكم، قلت له: وعليكم، يعني كأنه يُفهم وعلينا وعليكم، لكن إذا قلت: عليك أو عليكم فأنت تُفردهم بذلك.
والفقهاء مختلفون في الاقتصار على قوله: وعليكم أو عليكم أو عليك، إذا كان لا يلوي لسانه بذلك، لكن الحديث عام في أهل الكتاب، ولم يقيد ذلك إذا عرف ذلك منهم -والله أعلم-.
يقول: "وهو مذهب مالك، ولا يُبتدئون بالسلام"، هذا مكروه عند الحنفية والمالكية، ويحرم عند عامة الشافعية والحنابلة، الابتداء، والحديث واضح نهي عن الابتداء -ابتداءهم بالسلام- لكن عند الحنابلة لا يُبتدئون لا بالسلام ولا بأي تحية، وبعض الفقهاء قال: إن كانت له حاجة ونحو ذلك فبغير السلام، فيقول له مثلًا: كيف أصبحت؟ ونحو هذا، كيف حالك؟ -والله أعلم-.
- أخرجه النسائي، كتاب الجهاد، باب وجوب الجهاد، برقم (3086)، وفي الكبرى، برقم (4279)، والحاكم في المستدرك، برقم (2377)، وقال: "هذا حديث صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه".
- أخرجه مسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الدعاء في صلاة الليل وقيامه، برقم (771).
- انظر: شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل (ص:168).
- تفسير ابن كثير (2/363).
- تفسير الطبري (7/241)، وتفسير ابن كثير (2/363).
- انظر: تفسير الطبري (7/246).
- ألفية ابن مالك (ص:17)، باب الابتداء.
- ألفية ابن مالك (ص:17)، باب الابتداء.
- تفسير ابن عطية (2/84).
- تفسير البغوي (2/239).
- أخرجه مسلم، كتاب الطلاق، باب في الإيلاء، واعتزال النساء، وتخييرهن وقوله تعالى: {وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ} [التحريم:4]، برقم (1479).
- أخرجه أبو داود، كتاب الأدب، باب ما يقول إذا أصبح، برقم (5090)، وحسنه الألباني في صحيح الجامع، برقم (3388).
- أخرجه مسلم، كتاب الإمارة، باب ثبوت الجنة للشهيد، برقم (1901).
- انظر: تفسير الطبري (7/267)، و(15/42).
- أخرجه البخاري، كتاب الزكاة، باب التحريض على الصدقة والشفاعة فيها، برقم (1432).
- روضة المحبين ونزهة المشتاقين (ص:378).
- انظر: البيان والتحصيل (2/156)، وحاشية العدوي على كفاية الطالب الرباني (2/472)، والبيان في مذهب الإمام الشافعي (2/599)، وكفاية الأخيار في حل غاية الاختصار (ص:147).
- أخرجه الترمذي، أبواب الزهد عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء في طول العمر للمؤمن، برقم (2330)، وأحمد في المسند، برقم (20415)، وقال: "حديث حسن، وهذا إسناد ضعيف، لضعف علي بن زيد- وهو ابن جدعان- وباقي رجاله ثقات رجال الشيخين غير حماد بن سلمة فمن رجال مسلم"، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (3297).
- التذكرة الحمدونية (5/71).
- الوساطة بين المتنبي وخصومه ونقد شعره (ص:157)، والعمدة في محاسن الشعر وآدابه (1/222).
- أخرجه البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب خلق آدم -صلوات الله عليه- وذريته، برقم (3326)، ومسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب يدخل الجنة أقوام أفئدتهم مثل أفئدة الطير، برقم (2841).
- أخرجه أبو داود، أبواب النوم، باب كيف السلام؟، برقم (5195)، والترمذي، أبواب الاستئذان والآداب عن رسول الله ﷺ، باب ما ذكر في فضل السلام، برقم (2689)، وأحمد في المسند، برقم (19948)، وقال محققوه: "إسناده قوي على شرط مسلم، رجاله ثقات رجال الشيخين غير جعفر بن سليمان- وهو الضبعي- فمن رجال مسلم، وهو صدوق حسن الحديث"، وحسنه الألباني في تحقيق مشكاة المصابيح، برقم (4644).
- تفسير ابن كثير (2/368).
- تفسير القرطبي (5/298).
- أخرجه البخاري، كتاب الاستئذان، باب كيف يرد على أهل الذمة السلام، برقم (6257)، ومسلم، كتاب السلام، باب النهي عن ابتداء أهل الكتاب بالسلام وكيف يرد عليهم، برقم (2164).
- أخرجه مسلم، كتاب السلام، باب النهي عن ابتداء أهل الكتاب بالسلام وكيف يرد عليهم، برقم (2167).
- انظر: بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (7/113)، والمحيط البرهاني في الفقه النعماني (5/327)، والبيان والتحصيل (18/198)، والذخيرة للقرافي (13/291).
- انظر: المجموع شرح المهذب (19/415)، وأسنى المطالب في شرح روض الطالب (4/185)، ومغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج (6/15)، وشرح منتهى الإرادات (دقائق أولي النهى لشرح المنتهى) (1/664)، والإرشاد إلى سبيل الرشاد (ص:540).