الثلاثاء 17 / جمادى الأولى / 1446 - 19 / نوفمبر 2024
(011-ب) تتمة قوله تعالى (ولا جناح عليكم إن كان بكم إذى..) الآية 101 – إلى قوله تعالى (لهمت طائفة منهم أن يضلوك) الآية 112
تاريخ النشر: ١٧ / رجب / ١٤٣٨
التحميل: 890
مرات الإستماع: 927

"قول الله -تعالى-:

وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ [النساء:102] الآية، نزلت بسبب عبد الرحمن بن عوف، كان مريضًا، فوضع سلاحه، فعنَّفه بعض الناس، فرخَّص الله في وضع السلاح في حال المرض والمطر، ويقاس عليهما كل عذرٍ يحدث في ذلك الوقت".

فقوله: وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ [النساء:102] يقول: "نزلت بسبب عبد الرحمن بن عوف، كان مريضًا فوضع سلاحه، فعنَّفه بعض الناس، فرخَّص الله في وضع السلاح في حال المرض والمطر" وقد جاء ذلك في الصحيح عن ابن عباس -ا- قال: نزلت إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى [النساء:102] في عبد الرحمن بن عوف، وكان جريحًا[1].

ومثل هذا اللفظ -كما ترون-: "نزلت في عبد الرحمن بن عوف" ليس بصريح في سبب النزول، يعني أنه مما يدخل في حكمها، ولكن يحتمل أن يكون هذا هو سبب النزول، ويحتمل أنه من قبيل التفسير، يعني هذا ليس بصريح في سبب النزول.

قول المؤلف -رحمه الله-: "الآية نزلت بسبب عبد الرحمن بن عوف" ظاهر الرواية لا يدل على ذلك صراحةً، يقول: "فرخَّص الله في وضع السلاح"... إلى آخره "ويقاس عليهما كل عذرٍ يحدث في ذلك الوقت".

قوله: وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ [النساء:102] استدل به بعض أهل العلم، كالشافعي -رحمه الله- على وجوب حمل السلاح[2]؛ لأن الله رخَّص في وضعه في هذه الحالات: المرض، والمطر، فدلَّ على أنه لا يُرخَّص في وضعه إذا كان الناس في حال سلامة من المطر والأذى والمرض، لكنّهم في حال خوف، بل جعل داود بن علي الظاهري من شروط صحة الصلاة أن يحمل السلاح[3]، باعتبار إن الله أمر به وَلْيَأْخُذُوا [النساء:102] فهذا أمر والأمر للوجوب، وتعلق بالعبادة نفسها، لكن هذا ليس بلازم -والله تعالى أعلم-، وإنما كلام أهل العلم في النهي في كونه يقتضي الفساد، لكن هنا يمكن أن يقول القائل بذلك: بأن الأمر بالشيء قد يستلزم النهي عن ضده، فهو نهيٌ بهذا الاعتبار، يقتضي النهي والنهي للفساد، لكن هذا لا يخلو من بُعد.

"إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا [النساء:102] إن قيل: كيف طابق الأمرَ بالحذر للعذاب المهين؟

فالجواب أن الأمر بالحذر من العدوّ يقتضي توهم قوّتهم وعزتهم، فنفى ذلك الوهم بالإخبار أن الله يهينهم، ولا ينصرهم لتقوى قلوب المؤمنين، قال ذلك الزمخشري[4]، وإنما يصح ذلك إذا كان العذاب المهين في الدنيا، والأظهر أنه في الآخرة".

يعني هذا التذييل والختم لهذه الآية ما مناسبته لموضوع الآية؟ هذا نوع من المناسبات؛ خاتمة الآية بموضوعها، فهو يقول: بأن ذلك باعتبار ما جاء قبله من لزوم أخذ الحذر؛ فذلك يوهم أن للكفار قوة، فبيَّن هنا في ختمها أنه أعدَّ لهم عذابًا مهينا يذلُّهم، على هذا التفسير -والله أعلم- يكون من باب تقليل شأن هؤلاء الكفار، فإن الأمر بالحذر، وحمل السلاح، ونحو ذلك من التوقي والاحتراس، لا يعني أن هؤلاء يمثلون قوةً عظيمة، ينبغي أن تُهاب، فيقع الخوف في قلوب أهل الإيمان، فذكر لهم ما يكسر ذلك، والله أعلم.

"فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ [النساء:103] الآية، أي: إذا فرغتم من الصلاة فاذكروا الله بألسنتكم، وذكر القيام والقعود على الجنوب [وفي النسخة الخطية: وذكر القيام والقعود وعلى الجنوب]، ليعم جميع أحوال الإنسان".

جميع أحوال الإنسان، فإنه إما أن يكون قائمًا، أو قاعدًا، أو على جنب مضطجعًا، ولا يقولن قائل: وإذا كان مستلقيًا؟ يقال: الذي يسأل هذا السؤال، ويورد هذا الإيراد لا يفهم لغة العرب.

"وقيل: المعنى: إذا تلبَّستم بالصلاة فافعلوها قيامًا، فإن لم تقدروا فقعودًا، فإن لم تقدروا فعلى جنوبكم".

يعني قوله: فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ [النساء:103] إما أن يكون هذا بعد الصلاة، فيكثرون من ذكر الله -تبارك وتعالى-، فلا يكونوا قُصارى الذكر لله -تبارك وتعالى- في حال كونهم في الصلاة، وإنما يكونون ملازمين له في سائر أحوالهم، وسائر الأوقات، أو أنّ ذلك يكون في حال الصلاة يفعلونها قيامًا، فإن لم يقدروا فقعودًا، فإن لم يقدروا فعلى جنوبهم، لكن هذا قد يكون خلاف ظاهر اللفظ المتبادر؛ لأنه قال: فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ [النساء:103] فالقضاء هنا يدل على الفراغ، وهو أحد المعاني المشهورة الصحيحة للقضاء فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا [البقرة:200] فهذا مثله، فبعد الحج، وبعد الصلاة يلازم الذكر، فلا يقتصر في ذكره لله في حال صلاته، أو في حال تلبسه بالإحرام والنسك، وعلل ذلك ابن كثير -أعني قوله تبارك وتعالى: فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ [النساء:103]- باعتبار ما وقع فيها من التخفيف، في أركانها من الرخصة في الذهاب فيها والإياب، وغير ذلك، مما لا يوجد في غيرها[5]، فلمّا كانت هذه الصلاة يُتخفف فيها، ويُترخَّص فيها ما لا يتُرخَّص في غيرها، كان ذلك تتميمًا وتكميلًا، فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ [النساء:103] وليس ذلك بلازم، بل هذا إذا اعتبرته مع الآية التي ذكرتها آنفًا فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا [البقرة:200] فالإكثار من الذكر وملازمته في كل الأوقات والأحوال بعد الفراغ من العبادات هذا باعتبار أن الذكر لا ينفك عنه المُكلَّف بحالٍ من الأحوال، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا ۝ وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا [الأحزاب:41-42] وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ [الأحزاب:35] وكذلك أيضًا فإن هذا يكون طردًا للعُجب بعد هذه العبادات العظيمة: الصلاة والحج ونحو ذلك، فيلزم الذكر فيكون مخبتًا، لا سيما الاستغفار، وكان النبي ﷺ إذا انصرف من صلاته استغفر ثلاثًا[6]، ويكون ذلك أيضًا باعتبار ما قد يقع في العبادة من نقصٍ ونحو ذلك، والله أعلم.

"فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ [النساء:103] أي: إذا اطمأننتم من الخوف، فأقيموا الصلاة على هيئتها المعهودة".

فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ [النساء:103] يعني: إذا زال عنكم الخوف فأقيموها، فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ [النساء:103] وعلى هذا المعنى حمله ابن جرير[7]، والحافظ ابن كثير[8]، يعني بمعنى إذا زال الخوف فصلوا الصلاة على الطريقة المعهودة، دون الترخص بقصر هيئتها من الإيماء، ونحو ذلك.

وحمله الشافعي على قضاء الصلاة التي كانت في حال المسايفة[9]، أي أنها تُقضى؛ لأنه ترخص في حال المسايفة فصلاها بمجرد الإيماء، أو أنه صلاها ركعة، أو أنه سجد سجدة -كما قال إسحاق- إذا ضاقت عليه الحال، فالشافعي -رحمه الله- يفسر ذلك بقضاء تلك الصلاة التي صلاها في حال المسايفة، وهذا لا يخلو من إشكال -والله تعالى أعلم-.

والقاعدة والأصل أن العبد المُكلف إذا جاء بالعبادة بحسب استطاعته، فإنه لا يُطالب بالقضاء، ولا الإعادة، فمن صلى من غير استقبال؛ لأنه لم يستطع أن يستقبل القبلة، كأن يكون مريضًا، أو محبوسًا، أو نحو ذلك، فإنه لا يقضي إذا تمكن من استقبالها، وزال العذر، وكذلك لو صلى من غير طهارة بنوعيها، يعني من غير وضوء، ولا تيمم؛ لأنه لم يستطع، فإنه لا يُطالب بقضاء الصلاة بعد ذلك إذا استطاع، ووجد الماء، فهذا على حسب هذه القاعدة العامة: أن المُكلف إذا جاء بالعبادة بحسب مقدوره واستطاعته، فإن ذلك يجزيه، وهذا كثير في العبادات اتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16].

"كِتَابًا مَوْقُوتًا [النساء:103] أي: محدودًا بالأوقات، وقال ابن عباس: فرضًا مفروضًا[10]".

الكتاب يدل على الفرضية، والموقوت المحدد بأوقات.

"وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ [النساء:104] أي: لا تضعفوا في طلب الكفار.

إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ [النساء:104] الآية، معناها: إن أصابكم ألمٌ من القتال، فكذلك يصيب الكفار ألمٌ مثله، ومع ذلك فإنكم ترجون إذا قاتلتموهم النصر في الدنيا، والأجر في الآخرة، وذلك تشجيع للمسلمين".

يعني هذا تقوية للقلوب، والآية التي قبلها في صفة صلاة الخوف، هذا في حال الحرب والقتال، ومع ذلك يصلون جماعةً، فهذا يدل:

أولًا: على أهمية الصلاة وأنها لا تُضيع.

والأمر الثاني: يدل على أهمية صلاة الجماعة، وهو من أدلة القائلين بالوجوب، فإذا كانوا يصلون في مثل هذه الحال، وهم أمام العدو، وفي حال خوف، فمن باب أولى في حال الأمن، أن يصلوها جماعةً، وهنا في هذه الآية وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ [النساء:104] فيه تقوية لقلوبهم، وحث على جهاد أعدائهم، يقول: هؤلاء يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ [النساء:104] فهذا القدر الذي تفترقون به معهم، فهؤلاء يقاتلون ولا يرجون من الله -تبارك وتعالى- الأجر، ولا الثواب، والقتلى صرعى في النار، وأنتم ترجون الجنة وقتلاكم في الجنة، وما يصيبكم من أذى أو جراح، وهذه النفقات التي تنفقونها في سبيل الله كل ذلك يكون رفعةً في درجاتكم، ويعطيكم الله عليه الثواب العظيم، فيضاعف لكم الأجور، وهؤلاء لا يرجون ثوابًا، ولا عائدةً لهذه الأعمال والقتال، ومع ذلك يقدمون عليه، ويبذلون الأموال في هذا السبيل، وهو سبيل الشيطان، وأنتم ترجون من الله -تبارك وتعالى- الجنة والثواب العظيم، فهذه لا شك أنها تقوي نفوس أهل الإيمان، وتقوي عزائمهم، وهذه المقارنة لا شك أنها تدفع وساوس الشيطان وخواطره، وما قد يعتري النفس البشرية من الضعف الطبيعي الذي يوجد، والوهن، حيث إن القتال أمرٌ مكروه للنفوس، تكرهه بطبيعتها وجبلتها غالبًا، ويثقل عليها، كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ [البقرة:216] والناس يحبون الإخلاد إلى الأرض، والراحة، والتنعم، والالتذاذ بهذه الدنيا، وما فيها من المباهج واللذات المتنوعة، ويكرهون القتال في سبيل الله لما فيه من القتل، وذهاب الأموال، والجراح، والمشقات العظيمة، وما يعتور النفوس من الخوف، ونحو ذلك، فالله يقوي هذه النفوس والعزائم، ويقول: هم يألمون كما تألمون، ومع ذلك يقاتلون، فلم يتوقفوا مع أنهم لا يرجون شيئًا من الله -تبارك وتعالى-، وها هم يُسيرون الجيوش تتلوها الجيوش، ويصبرون في الحرب، ويقاتلون، ولا يكلون، ولا ينقطعون، وهم في سبيل الشيطان، فأنتم أولى؛ لأنكم ترجون من الله ما لا يرجون.

"لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ [النساء:105] يحتمل أن يريد بالوحي أو بالاجتهاد، أو بهما، وإذا تضمنت الاجتهاد، ففيهما دليل على إثبات النظر والقياس، خلافًا لمن منع ذلك من الظاهرية، وغيرهم".

الآية تحتمل هذا لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ [النساء:105] يعني بما أوحى إليك، ويحتمل الاجتهاد، ويحتمل بهذا وهذا، فالنبي ﷺ قد يجتهد كما هو معلوم، لكنّ الوحي يأتي مُقررًا له على اجتهاده، أو مصوبًا لهذا الاجتهاد، فاجتهادات النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- مسددة، وليست كاجتهادات غيره؛ ولهذا لا يمكن أن يُقال بأن هذه الأمور التي وقعت من النبي ﷺ على سبيل الاجتهاد بأنه قد تكون في حقيقة الأمر وفي علم الله أنها خطأ؛ لأنه لو كان من خطأٍ فيأتي الوحي مباشرة بتصويبه، فما لم يصوبه الوحي فإن ذلك يدل على إقراره وصحته، وأنه حق.

يقول: "وإذا تضمنت الاجتهاد ففيها دليل على إثبات النظر والقياس خلافًا لمن منع ذلك" باعتبار أن القياس رأي واجتهاد بإلحاق فرعٍ بأصلٍ في حكمٍ لعلةٍ جامعةٍ بينهما، فهذا يكون بإعمال النظر والفكر والاعتبار.

"وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا [النساء:105] نزلت هذه الآية وما بعدها في قصة طُعمة بن الأُبيرق، إذ سرق طعامًا وسلاحًا لبعض الأنصار، وجاء قومه إلى النبي ﷺ وقالوا: إنه بريءٌ، ونسبوا السرقة إلى غيره، وظن رسول الله ﷺ أنهم صادقون، فجادل عنهم ليدفع ما نُسب إليهم، حتى نزل القرآن فافتُضحوا[11]، فالخائنون في الآية: هم السُرَّاق بنو الأُبيرق، وقال السُهيلي: هم بشرٌ وبشير ومُبشِّرٌ وأُسيد[12]، [وفي النسخة الخطية: وأُسير] ومعناها: لا تكن لأجل الخائنين مخاصمًا لغيرهم".

وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا [النساء:105] يعني مخاصمًا، يعني تدافع عنهم، وتنتصر لهم، وتخاصم عنهم، قوله: "نزلت هذه الآية وما بعدها في قصة طعمة بن الأُبيرق إذ سرق طعامًا وسلاحًا لبعض الأنصار" هذا على سبيل الإيجاز والاختصار، وجاء هذا في سياقاتٍ طويلة، لكن هذا مختصرًا، يقول: "وجاء قومه إلى النبي ﷺ وقالوا: إنه بريءٌ، ونسبوا السرقة إلى غيره، وظن رسول الله ﷺ أنهم صادقون... إلى آخره، حتى نزل القرآن".

ويقول: "الخائنون هم السُرَّاق بنو الأُبيرق، وقال السُهيلي -السُهيلي له كتاب في المبهمات، وسبق الكلام على هذا-: "هم بشر وبشير ومُبشِّر وأُسيد" أُسيد بن عروة لم يكن من هؤلاء الذين سرقوا، لكن هو من بني الأُبيرق، فأتوه، فطلبوا منه أن يكلم رسول الله ﷺ، فجاء إليه مع نفر منهم، فخاطبوه وكلموه، بأن هؤلاء أهل إسلام -يعني بني الأُبيرق-، وأنهم اتُهموا بالسرقة، ونحو ذلك، يبرئونهم مما نُسب إليهم، وهذا الحديث في كونه سبب النزول هذا أخرجه الترمذي لكن قال: غريب[13]، أي: أشار إلى ضعفه.

وهنا في الحاشية عندكم يقول: والطبري، والحاكم في المستدرك، يقول: "كان بُشير رجلًا منافقًا يقول الشعر يهجو به أصحاب النبي ﷺ" وذكر أنه ينسبه لبعض العرب، يعني مرة ينسب الشعر لحسان بن ثابت ، ومرةً إلى غيره "ثم يُنحله بعض العرب، ثم يقول: قال فلان: كذا وكذا، فإذا سمع أصحاب النبي ﷺ" يعني هو يضيف فيقول: قال حسَّان مثلًا "قالوا: والله ما يقول هذا الشعر إلا هذا الخبيث، فلمّا نزل القرآن لحق بُشير بالمشركين، فنزل على سُلافة بنت سعد بن سمية، فأنزل الله وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى [النساء:115] الآية"، يقول: "وهذا الحديث حسَّنه الألباني في صحيح الترمذي[14].

وضعَّفه بعضهم ببعض رواته، وهو عمر بن قتادة؛ فهو مجهول، والحافظ ابن حجر قال عنه: مقبول[15]، فالحديث لا يخلو من ضعف في إسناده، ولكن قد يتقوى بمجموع طرقه ورواياته، والله أعلم.

س: شيخنا الصواب أُسيد أم أُسير؟

أُسيد بالدال، هو أُسيد بن عروة.

"وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ [النساء:106] أي: من خصامك عن الخائنين، على أنه ﷺ إنما تكلم على الظاهر، وهو يعتقد براءتهم".

النبي ﷺ وغيره أيضًا لا يكون للخائنين خصيمًا، يعني قد يأتي من يخاصم عن قومٍ اختانوا أنفسهم، باعتبار أنهم من قرابته، أو من قبيلته، أو من معارفه وأصحابه، وجيرانه، أو من طائفته، أو نحو ذلك، ويخاصم عنهم، فالله ينهى عن هذا، وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا [النساء:105]، وَلا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا ۝ يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ [النساء:107-108] وقد يأتي أصحاب هذا أو قوم هذا إلى بعض ذوي الوجاهة، أو إلى بعض من ينتسب للعلم، أو نحو هذا، ويطلبون منه الشفاعة لمثل هذا الذي يختان نفسه في قضايا وأعمال قبيحة لا يحسن الدخول فيها، والشفاعة فيها، فينبغي ألا يزل الإنسان، ويدخل في مثل هذه المضائق.

"إِذْ يُبَيِّتُونَ [النساء:108] أي: يدبِّرون ليلًا، وإنما سمي التدبير قولًا لأنه كلام النفس، وربما كان معه كلامٌ باللسان".

يقول: "لأنه سمى التدبير قولًا لأنه كلام النفس وربما كان معه كلام باللسان" يُبَيِّتُونَ [النساء:108] التبييت ما يكون ليلًا، يدبِّرون ما لا يرضى من القول، قد يُبيتونه في أنفسهم، وقد يكون ذلك باعتبار ما يدور بينهم من الكلام والنجوى التي يتواصون بها، ويتفقون عليها، من رمي البريء بالتهمة، أو الطلب من النبي -صلى الله عليه وآله سلم- أن يحكم بغير الحق، مما صوروا له وزوروه، ونحو ذلك.

يقول: "لأنه كلام النفس" الكلام هو مجموع اللفظ والمعنى، مثل الإنسان مجموع الروح والجسد، فالروح من غير جسد لا يُقال لها: إنسان، والجسد من غير روح يُقال له: جثة، فالكلام مجموع اللفظ والمعنى، لكن إذا قيل بقيدٍ فيُقال: حديث النفس، ونحو ذلك، وإلا فإذا أُطلق القول والكلام والحديث فهو مجموع اللفظ والمعنى، خلافًا للأشاعرة الذين يقولون: بأن الكلام والقول والحديث يكون باللسان، ويكون أيضًا فقط بالقلب، وهذا غير صحيح، لكنّ كلامه هنا يقول: "كلام النفس" وهو لا يتحدث هنا عن صفات الله، لكن نحن نبين أصل القضية، هل يُقال هذا في اللغة أو لا؟

"وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا [النساء:112] قيل: إن الخطيئة تكون عن عمدٍ، وعن غير عمد، والإثم لا يكون إلّا عن عمد، وقيل: هما بمعنًى، وكرر لاختلاف اللفظ".

وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً [النساء:112] يُقال: خَطِأَ، وبعضهم يقول: من الخطأ وهو العدول عن القصد والجهة.

خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا [النساء:112] التفريق بين الخطيئة والإثم: باعتبار إن الخطيئة تكون عن عمد وعن غير عمد، والإثم لا يكون إلا عن عمد، يعني أن الخطيئة أعم من الإثم، فيكون من قبيل عطف الخاص على العام، وبعضهم كابن جرير[16]، وصاحب المفردات ذهب إلى أن الخطيئة تكون عن غير عمد، والإثم يكون عن عمد[17]، لكن لو تتبعت استعمال الخطيئة في القرآن، فإنها تُقال لما كان عن عمد خطيئة، كقوله: مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا [نوح:25] ولذلك بعضهم يفرِّق بين الخطأ والخطيئة، يقول: والخطأ بغير عمد، والخطيئة ما كان بعمد، لكن كأنهم قصدوا بهذا التفريق بين الخطيئة والإثم، وأن الخطيئة عن غير عمد، في هذا الموضع فقط -أعني ابن جرير والراغب الأصفهاني-، وقال غير هؤلاء، كصاحب الفروق، وهو أبو هلال العسكري: يرى وجود فروق بينهما ولا بد؛ لأنه لا يعتقد وجود المترادف في اللغة أصلًا، فألَّف هذا الكتاب بناءً على ذلك، فهو يقول: بأن الخطيئة قد تكون من غير تعمد، ولا يكون الإثم إلا بتعمد، ثم كثر ذلك حتى سُميت الذنوب كلها خطايا[18]. وبعضهم يقول: الخطيئة هي الذنب الكبير، والإثم ما دون ذلك.

وبعضهم يقول: بالعكس، الإثم يكون الذنب الكبير، والخطيئة الذنب الصغير.

والإثم تارةً يُقال للمعصية نفسها، يُقال: الزنا إثم، وقد يُطلق على نوعٍ منها، وهو شرب الخمر، أو الخمر، كما قال الشاعر:

شربت الإثم حتى ضلَّ عقلي كذاك الإثمُ تفعل بالعقول[19]

فيسمون الخمر الإثم، وتارةً يُطلق على أثره ونتيجته، يُقال مثلًا: يأثم من فعل كذا، يعني المؤاخذة فهي الإثم، فتارةً تُطلق على الأثر، وتارةً تُطلق على ما يمكن أن يكون من قبيل السبب، وهو العمل الذي هو المعصية.

وهنا ذكر الخطيئة والإثم وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا [النساء:112] فهل يُقال: إن الخطيئة هنا ما كان من غير عمد، باعتبار أن من يقع منه مخالفة أو جناية بغير عمد ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا [النساء:112]؟ لا شك أن من فعل ذلك فهو داخل في الوعيد، لكن هل هذا هو المعنى المراد، سواءً وقع منه بعمد أو بغير عمد، رمى به غيره؟ فلا يجوز أن يرمي غيره ولو وقعت منه الجناية عن غير عمد، فالمراد هنا محتمل، يمكن أن يكون الخطيئة ما كان بعمدٍ وغير عمد، لكن الاستعمال الذي في القرآن للخطيئة لا تكاد تُستعمل إلا ما كان عن عمد بالمخالفة الشرعية، فتكون الخطيئة والإثم بمعنًى متقارب، والله أعلم.

أخطأ غير الخطيئة، أخطأ خطأً، وخطئ خطيئةً، فالأول مُخطئ، والثاني خاطئ نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ [العلق:16] فهكذا الاستعمال القرآني فالخطيئة لا تكاد تستعمل إلا فيما كان عن عمد، مما يستوجب الإثم -والله أعلم-، لكن مثل هذه الاستعمالات، ومثل هذه الألفاظ لها دلالات، يعني هنا الخطيئة تدل على جناية، والإثم يدل على مؤاخذة.

ووُجدت رسالة -أظنها رسالة ماجستير أو دكتوراه- طُبعت قريبًا في مثل هذه الألفاظ التي تبدو مترادفة في الآيةِ الواحدة، يعني فيما يبدو أنه مترادف، كـخَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا [النساء:112] وله نظائر، ومعرفة هذا مفيد.

"ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا [النساء:112] كان القوم قد نسبوا السرقة إلى لبيد بن سهل".

وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا [النساء:112] ذكر أمرين: الخطيئة والإثم، ثم وحَّد الضمير ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا [النساء:112] وهذا يمكن أن يكون باعتبار أن العطف جاء بـأَوْ يعني هذا أو هذا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ [النساء:112] يعني بأحدهما، ولم يقل: بهما، فهو يرميه بهذا أو بهذا؛ لأن الذي وقع إما خطيئة وإما إثم، على التفريق السابق.

أو لتغليب الإثم على الخطيئة ثُمَّ يَرْمِ بِهِ [النساء:112] أي هذا الإثم.

وبعضهم يقول: يرجع إلى الكسب وَمَنْ يَكْسِبْ [النساء:111] أي: يرمي بهذا الكسب بَرِيئًا، وهذا في القرآن له نظائر، يعني يُذكر أمران، ويعود الضمير على أحدهما، فتارةً يكون هذا من باب الاكتفاء بأحدهما فيدل المذكور على الآخر، وهذا أنواع، يعني كقوله -تبارك وتعالى-: وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا [الجمعة:11] ولم يقل: انفضوا إليهما، فبعضهم يقول: هذا من باب الاكتفاء حيث ذكر أحدهما، والمراد هذا وهذا.

وبعضهم يقول: ليس كذلك؛ لأن المقصود هو التجارة، فهم لم يخرجوا للهو، هذا باعتبار الاختلاف في تفسير اللهو ما هو؟ ففسره بعضهم بالطبل، باعتبار أن القافلة حينما قدمت وكانت لدحية ، قبل إسلامه، فضُرب بين يديها بالطبل إعلانًا وإيذانًا بقدومها، كما كانت عادة الناس في الجاهلية، فهم لم يخرجوا من أجل الطبل الذي هو اللهو بهذا الاعتبار، وإنما خرجوا من أجل القافلة والتجارة؛ ولهذا قال: وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا [الجمعة:11] فاللهو مذكر، وقد جاء الضمير مؤنثًا إِلَيْهَا [الجمعة:11] أي: التجارة، خرجوا من أجلها، ومن فسَّر اللهو بأنه كل ما يشغل عن ذكر الله، يكون معنى: انفَضُّوا إِلَيْهَا [الجمعة:11] أي: اللهو والتجارة، فقال: أعاد الضمير إلى أحدهما اكتفاءً ليدل على الآخر.

"لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ [النساء:113] هم الذين جاءوا إلى النبي ﷺ وأبرئوا ابن الأُبيرق من السرقة[20]، وهذه الآية وإن كانت إنما نزلت بسبب هذا القصة، فهي أيضًا تتضمن أحكامًا غيرها، وبقية الآية تشريفٌ للنبي ﷺ، وتقريرٌ لنعم الله عليه".

وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ [النساء:113] باعتبار أنهم يصورون له الأمر على غير حقيقته.

  1. أخرجه البخاري في كتاب تفسير القرآن، باب قوله: {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ..} [النساء:102] برقم: (4599).
  2. المجموع شرح المهذب (4/423).
  3. انظر: فتح القدير للشوكاني (1/587).
  4. تفسير الزمخشري = الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل (1/560).
  5. تفسير ابن كثير ت سلامة (2/403).
  6. أخرجه مسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب استحباب الذكر بعد الصلاة وبيان صفته برقم: (591).
  7. تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (9/166).
  8. تفسير ابن كثير ت سلامة (2/403).
  9. روضة الطالبين وعمدة المفتين (2/63).
  10. البحر المحيط في التفسير (4/54).
  11. أخرج القصة الترمذي ت شاكر في أبواب تفسير القرآن باب ومن سورة النساء (5/244-3036) وقال الترمذي: "هذا حديث غريب" والطبراني في المعجم الكبير (19/9-15) وحسنه الألباني.
  12. البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (1/557).
  13. أخرج القصة الترمذي ت شاكر في أبواب تفسير القرآن باب ومن سورة النساء (5/244-3036) وقال الترمذي: "هذا حديث غريب" والطبراني في المعجم الكبير (19/9-15) وحسنه الألباني.
  14. صحيح سنن الترمذي (7/36-3036).
  15. التقريب (2/62).
  16. تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (9/197).
  17. المفردات في غريب القرآن (ص:288).
  18. الفروق اللغوية للعسكري (ص:233).
  19. البيت غير منسوب لقائل في لسان العرب (12/6) وتاج العروس (31/184) وتهذيب اللغة (15/117).
  20. أخرج القصة الترمذي ت شاكر في أبواب تفسير القرآن باب ومن سورة النساء (5/244-3036) وقال الترمذي: "هذا حديث غريب" والطبراني في المعجم الكبير (19/9-15) وحسنه الألباني.

مواد ذات صلة