الأربعاء 18 / جمادى الأولى / 1446 - 20 / نوفمبر 2024
(014-أ) من قوله تعالى (ومن أهل الكتاب إلا ليؤمنن به..) الآية 158 – إلى قوله تعالى (ورسلًا قد قصصناهم عليك..) الآية 163
تاريخ النشر: ٠٨ / شعبان / ١٤٣٨
التحميل: 555
مرات الإستماع: 948

يقول الإمام ابن جُزي عند قوله تعالى:

وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ [النساء:159] فيه تأويلان:

أحدهما: أنّ الضمير في مَوْتِهِ لعيسى، والمعنى: أن كل أحدٍ من أهل الكتاب يؤمن بعيسى حين ينزل إلى الأرض قبل أن يموت عيسى، وتصير الأديان كلها حينئذ دينًا واحدًا، وهو دين الإسلام.

والثاني: أنّ الضمير في مَوْتِهِ للكتاب الذي تضمَّنه، [وفي النسخة الخطية: أن الضمير في مَوْتِهِ للكتابي الذي تضمَّنه] قوله: وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، التقدير: وإن من أهل الكتاب أحدٌ إلّا ليؤمنن بعيسى، ويعلم أنه نبٌّي قبل أن يموت هذا الإنسان، وذلك حين معاينة الموت، وهو إيمانٌ لا ينفعه، وقد رُوي هذا المعنى عن ابن عباس[1] وغيره.

وفي مصحف أبيّ بن كعب: قبل موتهم[2]، وفي هذه القراءة تقويةٌ للقول الثاني، والضمير في بِهِ لعيسى على الوجهين، وقيل: هو لمحمد ﷺ.

قوله: وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ "إِنْ" هذه -كما هو معلوم- نافية، يعني وما من أهل الكتاب أحد إلا ليؤمنن به قبل موته، كقوله: إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ [فاطر:23]، يعني ما أنت إلا نذير، كقول الشاعر:

إن هو مستوليًا على أحدٍ إلا على أضعف المجانين

يعني: ما هو مستوليًا على أحد، إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا [إبراهيم:10].

وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ [النساء:159]، وذكر الاحتمالين في "مرجع الضمير"، وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ[النساء:159] أي بعيسى ، والقول الآخر الذي ذكره أنه يعود إلى محمد ﷺ أعني الضمير الأول بِهِ [النساء:159]، هذا بعيد، والذي عليه عامة أهل العلم سلفًا وخلفًا أنه يرجع إلى عيسى ، ومما يؤيد هذا أن القاعدة: توحيد مرجع الضمائر أولى من تفريقها، فالضمائر السابقة ترجع إلى عيسى ، وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ[النساء:157]، أي عيسى ، وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ[النساء:157]، أي عيسى .

فالضمير الثاني هو الذي ذكر فيه الخلاف قَبْلَ مَوْتِهِ [النساء:159]، قبل موت من؟

القول الأول: أنه يرجع إلى عيسى، ويؤيد هذا أيضًا القاعدة التي ذكرت آنفًا: وهي أن توحيد مرجع الضمائر أولى من تفريقها، يعني مهما أمكن أن تكون الضمائر ترجع إلى شيءٍ واحد فهذا أولى من القول بأن هذا يرجع إلى عيسى، وهذا يرجع إلى محمد ﷺ، وهذا يرجع إلى الكتابي، وهذا واضح.

يقول: "والمعنى أن كل أحدٍ من أهل الكتاب يؤمن بعيسى حين ينزل إلى الأرض قبل أن يموت عيسى"، وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ [النساء:159]، قبل موت عيسى حيث يكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ولا يقبل إلا الإسلام، لا يقبل الجزية.

"والثاني: أن الضمير في مَوْتِهِ [النساء:159] للكتابي الذي تضمَّنه قوله: وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ [النساء:159]"، قبل موت الكتابي على هذا المعنى، قبل موت الكتابي، يعني أي أحد من أهل الكتاب في أي وقتٍ من الأوقات يعني قبل نزول عيسى ، الآن أنه لا يموت أحدٌ منهم إلا ويؤمن بعيسى أنه عبدٌ لله وليس بإله، لكن الإيمان الذي لا ينفعه، الإيمان الذي قَبْلَ مَوْتِهِ[النساء:159].

يقول: "والتقدير وإن من أهل الكتاب أحدٌ إلا ليؤمنن بعيسى، ويعلم أنه نبي قبل أن يموت هذا الإنسان وذلك حين معاينة الموت، وهو إيمانٌ لا ينفعه، وقد رُوي هذا المعنى عن ابن عباس -ا- وغيره"، هذا قول معروف لابن عباس، حتى أنه سُئل يعني عمن يموت يُقطع رأسه بصورة مفاجئة، فقال: يؤمن به قبل أن يموت.

وكما ذكر ابن جُزي: أن المقصود الإيمان الذي لا ينفع، يؤمن بحقيقة عيسى في حالةٍ لا ينفعه فيها الإيمان، معلومٌ أن الإنسان إذا بلغت الروح الحلقوم فإن توبته لا تنفع، وإيمانه لا ينفع، وما ورد من الأحاديث بدعوة النبي ﷺ لعمه أبي طالب ونحو ذلك هذا يُقال في مرض الموت قبل الغرغرة -والله أعلم-.

يقول: "وفي مصحف أبيّ بن كعب: قبل موتهم"، هذه القراءة مُفسرة، معروف أن القراءة الآحادية تفسر المتواترة لكن إذا صحَّ سندها، وهذه لا يصح سندها، وإلا فهي تفسر تلك القراءة، قبل موتهم يعني قبل موت الكتابيين يؤمنون الإيمان الصحيح به.

يقول: "والضمير في بِهِ [النساء:159] لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ [النساء:159] لعيسى على الوجهين".

سواءً قلنا: قَبْلَ مَوْتِهِ [النساء:159] قبل موت عيسى ، أو قبل موت الكتابي، إلا في القول الآخر الضعيف: أن ذلك يرجع إلى النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-.

والمقصود أن الأرجح وهو مقتضى القاعدة السابقة وهو قول الجمهور: أن ذلك يرجع إلى عيسى -أعني الضمير - قَبْلَ مَوْتِهِ [النساء:159]، أي: قبل موت عيسى بعد ما ينزل، فعند ذلك يتبين لمن وُجد في ذلك الوقت من أهل الكتاب أنه نبيٌ وعبدٌ لله وليس بإله، فلا يقبل منهم إلا الإسلام.

أريد أن أنبه إلى أمر: في الآية التي قبلها في قوله: بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ [النساء:158] هنا يقول: "إلى سمائه"، أي إلى سمائه، ذكرت حديث مالك بن صعصعة، حديث الإسراء وحديث المعراج: وأن النبي ﷺ لمّا أتى السماء الثانية قال: فأتيت على عيسى ويحيى[3].

بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ [النساء:158]، قال: "أي إلى سمائه"، وهذا من أدلة أهل السنة على علو الله : ذكر رفع بعض الأشياء إليه، يعني أجناس الأدلة الدالة على العلو متنوعة، أوصلها بعض أهل العلم إلى أكثر من عشرين نوعًا من الأدلة، يعني كل نوع تحته أفراد من الأدلة، من أنواع هذه الأدلة: الإخبار برفع بعض الأشياء إليه، مثل: رفع عيسى ، فهذا مما يدل على علو الله ، لكن عبارة المؤلف لا تدل على هذا المعنى، يعني قال: "رفعه إلى سمائه"، فهذه العبارة إذا قالها من يؤمن بالعلو ويثبت صفة العلو فيكون هذا لا إشكال فيه، رفعه إلى السماء الثانية، وإذا قالها من لا يثبت العلو، فإنك تحتاج أن توضح هذا المعنى: أن هذه الآية تدل على إثبات صفة العلو لله -تبارك وتعالى-، رفع بعض الأشياء إليه هذا يدل على أنه متصفٌ بالعلو، فإنه لا يُرفع إلا إلى أعلى، لا يُرفع إلى أسفل، أو يُرفع إلى كل مكان، أو نحو ذلك.

وَبِصَدِّهِمْ [النساء:160] يحتمل أن يكون بمعنى الإعراض، فيكون كَثِيرًا [النساء:160] صفةً لمصدرٍ محذوف تقديره صدًّا كثيرًا، أو بمعنى صدّهم لغيرهم، فيكون كَثِيرًا مفعولاً بالصدّ، أي صدّوا كثيرًا من الناس عن سبيل الله.

"وَبِصَدِّهِمْ يحتمل أن يكون بمعنى الإعراض، فيكون صفةً لمصدرٍ محذوف تقديره صدًّا كثيرا، المصدر المُقدَّر هنا صدًّا كثيرًا، ويكون بهذا الاعتبار نائبًا عن المفعول المطلق، صدًّا كثيرا.

أو بمعنى صدّهم لغيرهم، فيكون كَثِيرًا مفعولاً بالصدّ، أي صدّوا كثيرًا من الناس عن سبيل الله، أو نعت لمفعول به محذوف، أي وَبِصَدِّهِمْ يعني: أناسًا كثيرا، صدهم عن سبيل الله أناسًا كثيرا، مضى في بعض المناسبات أن صدَّ تأتي لازمة وتأتي متعدية، المعنى الأول الذي ذكره أو الاحتمال الأول هو باعتبار اللزوم، أنها لازمة، بمعنى الإعراض، بِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا أي: صدًّا كثيرا يعني في أنفسهم، تقول: فلان صد، يعني في نفسه.

وتأتي متعدية، بِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، الأول: بصدهم في أنفسهم، بقاء هؤلاء على كفرهم وضلالهم، الثاني: بِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، أي: صدهم الناس عن سبيل الله، بصدهم الناس عن الإيمان، عن اتباع الرسل -عليهم الصلاة والسلام- بالدعايات الفاسدة، وغير ذلك من الأكاذيب، والتحريف، والتبديل، وما إلى ذلك.

كما قال الله عن المنافقين: اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [المجادلة:16]، يحتمل أن يكون صدُّوا في أنفسهم، يعني استمرأ ذلك وصار يحلف إذا وُجه إليه الاتهام، واطمئن إلى هذا، وبقي على كفره وفساد قلبه، اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا [المجادلة:16]، اليمين كالترس يصد بها التهم التي تُوجه إليه، يحلف أنه ما قال، فحمله ذلك على البقاء على الكفر، فَصَدُّوا أي في أنفسهم، ويحتمل فَصَدُّوا غيرهم عن الدخول في الإسلام، صدُّوا عن اتباع النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-، صدُّوا عن الجهاد معه، قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا [الأحزاب:18]، فهذا المعني المتعدي لصدَّ، وإذا كانت اللفظة تحتمل معنيين، ويمكن حملها على الجميع، ولا يوجد ما يمنع من حملها على هذا وهذا، فإنها تُحمل على المعنيين؛ لأن القرآن يُعبَّر به بالألفاظ القليلة الدالة على المعاني الكثيرة، ولا يوجد دليل في تحديد أحد هذين المعنيين، وكلاهما صحيح، وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا [النساء:160] بصدهم في أنفسهم يصدُّون كثيرًا، وبصدهم لغيرهم عن سبيل الله، وبين المعنيين ملازمة، فالذي يصد غيره كثيرًا فلا شك أنه يكون في نفسه في حالٍ من الصدود كثير، وإذا كان بين المعنيين ملازمة فذلك أدعى إلى حمل الآية على المعنيين، ولا يُحتاج إلى ترجيح، والله أعلم.

لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ [النساء:162] هو عبد الله بن سلام، [وفي النسخة الخطية: هم عبد الله بن سلام ومخيريقٌ، ومن جرى مجراهم].

عبد الله بن سلام، ومخيريق، يقول: عندكم هنا مخيريق في الحاشية الناضري، أسلم واستُشهد بأحد، يُقال: إنه من بني قينقاع، ويُقال: من بني الفطيون.

لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ [النساء:162]، الراسخون أي الثابتون، الرسوخ يدل على الثبوت، الرسوخ يعني الذين تمكنوا في العلم حتى صار سجيةً لهم، يعني لا يتكلفون ذلك.

يقول: "هو عبد الله بن سلام ومخيريق ومن جرى مجراهم"، هو لا يُختص بهؤلاء، لكن من كان على شاكلتهم، هؤلاء ومن كان بهذه المثابة، يكون من أهل العلم وآمن بمجموع هاتين الصفتين من أهل الرسوخ وكذلك أيضًا آمن بالنبي -صلى الله عليه وآله وسلم-.

وَالْمُقِيمِينَ [النساء:162] منصوبٌ على المدح بإضمار فعلٍ، وهو جائزٌ كثيرًا في الكلام، وقالت عائشة: هو من لحن كُتَّاب المصحف[4]، وفي مصحف ابن مسعود: والمقيمون، على الأصل.

تأمل قوله: لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ[النساء:162]، يعني: هذا منصوب بين مرفوعات، وَالْمُقِيمِينَ[النساء:162] قبله مرفوعات وبعده كذلك، وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أُوْلَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا[النساء:162]، فما وجه النصب هنا لقوله: وَالْمُقِيمِينَ بين هذه المرفوعات؟ يقول: "منصوبٌ على المدح"، يعني على القطع الذي يفيد المدح، يكون التقدير وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ أي وأمدح الْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ، أو أعني الْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ كما يقول سيبويه -رحمه الله- يقول: وهذا باب ما ينتصب على التعظيم، وذكر شواهده في كلام العرب، ويمكن أن يكون بمعنى وأخص الْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ هذا معنى قول المؤلف: "منصوبٌ على المدح بإضمار فعلٍ"، بإضمار فعل، أمدح، أعني، أخص، ونحو ذلك، يقول: "وهو جائزٌ كثيرًا في كلام العرب".

وبعضهم يقول: إنه مجرور وَالْمُقِيمِينَ عطفًا على "مَا"، فـ "مَا" هنا اسم موصول، في محل جر، يعني بالذي أُنزل إليك وبالمقيمين الصلاة، يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وبـ الْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ، ما وجه هذا؟ يؤمنون بالمقيمين الصلاة، يعني قالوا: يعني الملائكة يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وبـ الْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وهم الملائكة أو الأنبياء، وهذا بعيد مُتكلَّف، كيف يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وبـ الْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ بين هذه المرفوعات، ولا يوجد ما يدل على ذلك من قرينةٍ أو نحو هذا؟ هذا بعيد، وهو خلاف الظاهر المتبادر، والعجيب أن أبا جعفر ابن جرير -رحمه الله- اختار بأنهم الملائكة[5] يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ، يعني: يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وبـ الْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ يعني: الملائكة، طبعًا يؤيد هذا القول قاعدة ترجيحية وهي: "أن الكلام إذا دار بين الإضمار والاستقلال فالأولى الاستقلال"، الاستقلال أولى من الإضمار، فالقول الآخر الذي هو قول الجمهور ومن هؤلاء سيبويه -رحمه الله-: أنه فيه إضمار، فيه إضمار كما سمعتم، لكن هذا الإضمار قد يُضطر إليه إذا كان يقابل ذلك -يقابل القول بالإضمار- قول مُتكلَّف بعيد، فالإضمار يكون مقدَّمًا في هذه الحالة -والله أعلم-.

وعلى كل حال على قول ابن جرير -رحمه الله- ومن وافقه: أنه مجرور وليس بمنصوب، وبعضهم يقول: بأن التقدير وبدين الْمُقِيمِينَ، يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ[النساء:162] وبدين الْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ ويكون بهذا مجرورًا بالإضافة، وهذا مبني على تقدير، ويكون المراد بهم أهل الإسلام، وهذا لا يخلو من بعد، لكن القول الآخر المشهور الذي ذكرته آنفًا، وذكره ابن جُزي أولاً هو أن ذلك منصوبٌ على المدح، ويؤيده قاعدة: وهي أن العرب إذا استطالت الأوصاف في باب المدح والذم، فإنها تقطع بالرفع تارةً وبالنصب تارة، وهذا عندهم أبلغ في الكلام، أبلغ عندهم حينما يغاير في الإعراب بهذه الأوصاف المتتابعة الطويلة، فيرفع صفةً من بينها -بين منصوبات- أو ينصب بين مرفوعات، أو يرفع بين منصوبات، وهذا له نظائر أخرى في كتاب الله -تبارك وتعالى-، وذكرت شواهد ذلك في قواعد التفسير.

فالمقصود أن هذا يؤيده قاعدة، وهذا يؤيده قاعدة، وإذا كان كذلك تجاذبه قاعدتان، وفي هذه الحالة يُنظر، عندنا قاعدة أخرى: وهي أن المتبادر إلى الأذهان الذي يسبق إلى الذهن أولى من غيره؛ يعني من البعيد الذي يحتاج إلى إعمال ذهن وتكلف ليُفهم -والله أعلم-.

وأما قوله هنا: "وقالت عائشة: هو من لحن كُتَّاب المصحف"، يقول: هذا الكلام صحيح عن بعض السلف لكنه لا يقدح في القراءة المتواترة، ونقل كلام الزرقاني في كتابه "المناهل" يقول: والجواب على غرار ما سبق أن ابن جُبير لا يريد بكلمة لحن الخطأ، وإنما يريد بها اللغة والوجه في القراءة على حد قوله -تعالى-: وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ[محمد:30]، والدليل على هذا التوجيه أن سعيد بن جُبير نفسه كان يقرأ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ فلو كان يريد باللحن الخطأ ما رضي لنفسه هذه القراءة، وكيف يرضى ما يعتقد أنه خطأ؟ وهذه الكلمة في آيةٍ من سورة النساء إلى آخره.

يقول: وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ قرأها الجمهور بالياء منصوبًا كما ترى، وقرأها جماعةٌ بالواو، منهم: أبو عمرو في رواية يونس وهارون عنه، ولكلٍ من القراءتين وجهٌ صحيح فصيح في اللغة العربية، فالنصب مُخرَّج على المدح والتقدير: وأمدح الْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ، والرفع مُخرَّجٌ على العطف، يعني كغيره معطوف على مرفوعات لا إشكال في هذا، لكنّ قوله هنا: بأن هذا القول يعني بأن هذا من لحن الكُتَّاب إلى آخره هذا غير صحيح، ولا يُحتاج إلى هذه الإجابات الطويلة، هذه الروايات لا يصح منها شيء، وهي رواياتٌ ضعيفة.

ومن جهة المضمون فإن هذا لا يمكن أن يقع في كتاب الله ، فكان كُتَّاب المصحف يسيرون فيه على نهجٍ في غاية الدقة، فهم لا يكتبون شيئًا حتى يشهد عليه شهيدان، بعضهم يقول: المقصود بالشهيدين الحفظ والكتابة، أن يكون محفوظًا، والأمر الثاني: أنه مكتوب.

وبعضهم يقول: يشهد شهيدان على المكتوب أنه مما كُتب بين يدي رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-، فكان هذا يُطلب في الجمع الذي جمعه أبو بكر ، ثم أخذ بهذه الصحف عثمان ، طلبها من حفصة كانت وارثة لعمر، ونسخ ذلك كتبوه، مع مزيد من التوثيق أربعة من الحُفَّاظ المشهود لهم بالإتقان من أصحاب النبي ﷺ، ومنهم: زيد الذي كان في الكتبة الأولى في عهد أبي بكر ، وكان في الكتبة الثانية ضمن أربعة، وزيد بن ثابت كان ممن شهد العرضة الأخيرة التي عرضها جبريل على النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- قبل موته، آخر عرضة شهدها، ولذلك اختير لكتابة الصحف في عهد أبي بكر باتفاق بين أبي بكرٍ وعمر -ا- ومشهد من الصحابة - جميعًا- من غير نكير.

وكذلك أيضًا في زمن عثمان كان عن إجماعٍ منهم، فهؤلاء أصحاب النبي ﷺ كانوا يحفظون، والحُفاظ كانوا كثيرا، ذكر جماعة منهم السيوطي في كتابه "الإتقان"، وذكر ذلك آخرون، لو نظرتم في كتاب "الطبقات" لابن سعد، ذكر جماعة من الحُفاظ من أصحاب النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-، فهذه الروايات بأن هذا من لحن الكاتب كل هذا لا يصح، ولا يمكن أن يُقال في القرآن ولا يتطرق إليه الخطأ، والله تولى حفظه، وإذا أشكل عليك موضع لم تدر جوابه مثل هذا أجبتكم عنه بأن هذه الروايات لا تصح، ولذلك لا نحتاج إلى الرد عليها من جهة المعنى أنه يقصد بذلك أن هذا اللحن بمعنى وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ[محمد:30] أنه وجه لكلام العرب كما يقول الزرقاني، لسنا بحاجة لهذا، الزرقاني أورد في كتابه أكثر من مائة شبهة وحاول الرد عليها، وفي بعض ردوده ضعف، ومبنى بعض هذه الشبه أصلاً على حديث ضعيف، وكان يكفي أن يُقال: هذا لا يصح من جهة الرواية، بعيدًا عن التكلفات في هذه الردود، وهذه الروايات كلها التي يُقال عنها: بأنها من لحن الكُتَّاب -كُتَّاب المصحف- أوردتها في تهذيب "مناهل العرفان" ولم يخرج بعد، ذكرت فيه جميع هذه الأشياء وهذه الروايات، لكن ليس بطريق الزرقاني بعرض الشبه، أزلت كل الشبه المائة هذه، فما كان فيه إشكال ضمَّنته في أثناء الكلام بطريقةٍ يفهم منها طالب العلم الرد لو عرضت عليه الشبهة من غير أن تُبرز الشبهة.

فعلى كل حال وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ [النساء:162] هذه قراءةٌ متواترة، وهؤلاء الجبال الحُفاظ من أهل الإتقان الذين ضبطوا ليس كما يُقال الفرش والكلمات ونحو ذلك، وإنما الأداء، الهمس، وحتى الحركات بالشفة ونحو ذلك، الروم، وضبطوا مقادير المدود، يُمد هذا كذا حركة ونصف -نصف حركة- والهمس، والإشمام، وأمور دقيقة في غاية الدقة ضبطوها ضبطًا دقيقًا، ثم يقع مثل هذا الخطأ في كلمة ولحن من كاتب، هل القضية بهذه السهولة؟ أصحاب النبي ﷺ مع إتقانهم وضبطهم وحرصهم ونصحهم يقع مثل هذا، ويمضي، ويبقى في كتاب الله  الذي تعهد بحفظه، إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9]، تعهد بحفظه، أنزل الذكر، قال: إِنَّا للتوكيد.

فإذا أشكل عليك قاعدة، إذا أشكل عليك موضع ولا تعرف جوابه، يعني جواب هذه الجزئية فارجع إلى الأصل الكبير، اعتصم به فلا تضل، ولا يقع عندك ريبٌ وشك، الأصل الكبير ما هو هنا؟ أن الله تعهد بحفظ القرآن وانتهى، تعهد بحفظه، فهذا لا يمكن أن يقع، هكذا قد يعرض لك شبهة في صحابي، هل الصحابة عدول أو لا؟ ارجع إلى الأصل الكبير، إذا لم تعرف الجواب عن هذه فارجع إلى الأصل الكبير، تعديل الصحابة في القرآن مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ [الفتح:29]، وكذلك وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ [التوبة:100]، وكذلك لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ [الفتح:18].

وقوله: وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ [الحشر:9]، فترجع إلى هذا الأصل الكبير، تعديل الصحابة في القرآن، الشبهة هذه لا تعرف الجواب عنها، بمعنى أن الإنسان لا يُعرِّض قلبه للشبهات، لا تقرأ في الشبه، ولا تسمع الشبه، لكن لو عرض لك شيء ولم تعرف جوابه ارجع إلى الأصل الكبير، فهذا في غاية الأهمية ليكون عصمةً من الضلال والانحراف والشك وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا[المائدة:41] -والله المستعان-.

يقول: "وفي مصحف ابن مسعود : والمقيمون على الأصل"؛ لأن هذه القراءة التي ذكرها عن أبي عمرو بهذه الرواية -رواية يونس وهارون- بالرفع فهذا لا إشكال فيه، والعلماء يجيبون عن هذا بأجوبة متعددة، منها ما سمعتم، وهناك أجوبة أخرى غير هذا، لكن القاعدة التي ذكرت: أن من شأن العرب إذا تطاولت صفة الواحد في مقام المدح أو الذم، فإنها قد تقطع بالرفع تارةً، وبالنصب تارة، هذا من أساليب العرب في كلامهم، وجاء في أشعارهم.

إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ [النساء:163] الآية: ردٌ على اليهود الذين سألوا النبي ﷺ أن يُنزِل عليهم كتابًا من السماء، واحتجاجٌ عليهم بأن الذي أتى به وحيٌ كما أتى من تقدّم من الأنبياء بالوحي من غير إنزال الكتاب من السماء، ولذلك أكثر من ذكر الأنبياء الذين كان شأنهم هذا لتقوم بهم الحجة.

وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ [النساء:164] منصوبٌ بفعلٍ مضمر أي أرسلنا رسلا.

وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ يعني أرسلنا رسلاً، ويحتمل أنه منصوب على الاشتغال أي بفعلٍ محذوف تقديره: وقصصنا رسلاً عليك يعني على حذف مضاف، يعني قصصنا أخبارهم، أو منصوب وَرُسُلاً منصوب عطفًا على معنى الآية قبلها، أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ، يعني: أوحينا بمعنى أرسلنا، يعني من جهة المعنى على هذا القول على معنى الآية، يكون الإعراب هنا على المعنى وليس على اللفظ، أرسلنا معنى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ بمعنى أرسلنا، أو نبئنا نوحًا وَرُسُلاً، يعني أرسلنا رسلاً ونحو ذلك، لكن هذا كأن الذي قبله أولى منه -والله أعلم-.

  1. تفسير الطبري (9/382)، رقم: (10809).
  2. تفسير الطبري (9/383)، رقم: (10814).
  3. أخرجه البخاري، كتاب بدء الخلق، باب ذكر الملائكة، رقم: (3207).
  4. تفسير الطبري (9/395)، رقم: (10838).
  5. تفسير الطبري (9/397).

مواد ذات صلة