الحمد لله الذي هدانا للإسلام، وعلمنا الحكمة والقرآن، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد، وعلى آله وصحابته الطيبين الطاهرين.
اللهم اغفر لنا ولوالدينا ولشيخنا والحاضرين والمستمعين، أما بعد:
فيقول الإمام ابن جزي الكلبي -رحمه الله- في مطلع سورة المائدة:
سورة المائدة هي من السور النازلة في المدينة إجماعًا، وهي معروفة بهذا الاسم، كما جاء عن جبير بن نفير، قال: "حججت فدخلت على عائشة -ا- فقالت لي: يا جبير تقرأ المائدة؟ فقلتُ: نعم، قالت: أما إنها آخر سورةٍ نزلت"[1]، فسمتها المائدة، والأصل أن أسماء السور توقيفية.
وهذه السور هي أجمع سور القرآن في الأحكام، كما هو معلوم، وقد ذكر أبو حيان: أنها تضمنت ثماني عشرة فريضة، لم تُبين في غيرها[2]، ومن ذلك: أحكام العقود، والصيد، والذبائح، والإحرام، ونكاح الكتابيات، والردة، وأحكام الطهارة، وحد السرقة، وحد البغي (الحرابة)، وتحريم الخمر والميسر، وكفارة اليمين، والنهي عن قتل الصيد في الإحرام، والوصية عند الموت، هذا بالإضافة إلى ما تضمنته من قضايا الاعتقاد، وكذلك أيضًا الموالاة والمعاداة، كما تضمن بعض أخبار بني إسرائيل، إلى غير ذلك مما جاء في ثنايا هذه السورة، فهي كما جاء عن عائشة -ا- آخر سورة نزلت، والمراد: ما يتعلق بالأحكام؛ ولذلك كانوا إذا أرادوا أن يبينوا أن الحكم لم يُنسخ، قالوا: هذا مما نزل في المائدة؛ وذلك أنها هي من أواخر ما نزل، وكانت سورة البقرة من أوائل ما نزل في المدينة، مع أنه قد يوجد نسخٌ يسير في المائدة، كما سيأتي -إن شاء الله-، لكن في الجملة هي آخر ما نزل في الأحكام، وأما آخر سورة كاملة نزلت فهي: سورة النصر، وسورة المائدة كانت تنزل شيئًا فشيئًا، فالآخرية نسبية، وليست مطلقة، والله تعالى أعلم.
وقوله: أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [المائدة:1] الوفاء معروف، وهو الأداء مع التتميم والتكميل، وقد مضى في الكلام على الغريب، يعني إتمام العهد على الوجه الأكمل، وكذلك فيما يتعلق بمقتضياته وشروطه، ونحو ذلك.
وأما العقود فقد نقل أبو جعفر بن جرير -رحمه الله- الإجماع على أنها العهود[3]، وكلام المفسرين من السلف، فمن بعدهم في تفسير العقود مختلف، ولكن الراجح أنها تشمل العقود مع الله، والعقود مع الخلق، والعقد مضى في الكلام على مقدمة الغريب بأنه يدل على شدةِ وثوق، وأصل العقد -كما هو معلوم- الربط، والعقود يمكن أن يقال عنها بهذا الاعتبار من جهة اللغة: الربوط، ويكون ذلك في الأمور الحسية كما تقول: عقدت الحبل، ويكون في الأمور المعنوية، فتقول: عقدت عهدًا مع الله، ونحو ذلك، فهو يدل على شدة الإحكام، تقول: عقدتُ فلانًا، فهذا أبلغ من قولك: اتفقتُ مع فلانٍ، أو نحو ذلك من العبارات؛ لأنه عقد يدل على شد وربط.
والعبارات التي ذكرناها مما يتعلق بعقد الإنسان مع غيره "من بيعٍ ونكاحٍ وعتقٍ وشبه ذلك، وقيل: ما عقده مع ربه من الطاعات: كالحج" هو يشمل هذا جميعًا: الأيمان والنذور، فهي عهود مع الله -تبارك وتعالى-، فالإيمان عقد، والتوبة عقد، والنذر عقد إلى غير ذلك، وهكذا.
يقول: "وقيل: ما عقده الله عليهم من التحليل والتحريم في دينه" فكل هذه المواثيق والعهود داخلةٌ في ذلك، والله أعلم.
وقد جاء عن ابن عباس -ا- من طريق ابن أبي طلحة: يعني ما أحل الله وما حرم، وما فرض، وما حد في القرآن كله فلا تغدروا ولا تنكثوا، ثم شدد في ذلك فقال: وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ [الرعد:25]"[4]، فهذه العبارة عن ابن عباس -ا- هي من العبارات الجامعة في تفسير هذا.
بهيمة هذا عام، وإذا أضيفت إلى الأنعام: الإبل والبقر والغنم، فهذا إضافة الشيء إلى ما هو أخص منه، وإلا فالبهيمة يدخل فيها جميع أنواع البهائم، من الأنعام، وغيرها، فأضاف ذلك إلى الأنعام وإلا فالبهيمة هي: كل ما استبهم عن الجواب، وما لا نطق له من الطير، وأنواع الدواب، وأما الأنعام فيقولون بأن أصلها: الإبل، ثم توسعوا بالاستعمال فأدخلوا فيها البقر والغنم، والقرآن نزل بلغة العرب ومعهودهم، فإذا ذُكِرَت بهيمة الأنعام دخل فيها الأصناف الثلاثة، فهي تُطلق بهذا الاعتبار، وأما تخصيص الإبل في الأصل، كما قال بعضهم، فهذا باعتبار أن الإبل هي أنفس هذه الأصناف، وهي أموال العرب، وبها جاء تقدير الديات، والنصوص التي ورد فيها (حمر النعم) لا تخفى، والمقصود بها: الإبل.
وأما البهيمة فقد خصّها بعضهم بذوات الأربع، وإلا فالواقع أنها تشمل ذوات الأربع، وكل ما لا نطق له، وما استبهم عن الجواب.
وبعضهم يقول: إنها سميت الأنعام لما في مشيتها من اللين، والنعومة، لكن هذا قاله بعضهم، وإلا فظهور النعمة فيها لا يخفى.
"قال الزمخشري: هي الإضافة التي بمعنى: مِنْ، كخاتمٍ من حديد[5]، أي: البهيمة من الأنعام، وقيل: هي الوحش كالظباء، وبقر الوحش، والمعروف من كلام العرب أن الأنعام لا تقع إلّا على الإبل والبقر والغنم، وأن البهيمة تقع على كل حيوانٍ ما عدا الإنسان.
إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ يريد الميتة وأخواتها".
إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ يعني قوله: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ... [المائدة:3] الآية، فهذا الذي يُتلى علينا، وهو تحريم الميتة، وما إلى ذلك.
غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ يعني الاصطياد، والصيد: تناول ما يظفر به، أو ما كان ممتنعًا، فلا يقال لبهيمة الأنعام على هذا صيد، وإنما ما كان ممتنعًا، ولم يكن له مالك، وكان حلالاً، فهذه الأوصاف: الامتناع، والحلِّية، وليس له مالك، فهذا هو الصيد، كالظباء ونحوها، ولا يقال لغيره صيد.
قوله: غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ هذا من إضافة اسم الفاعل إلى مفعوله، فاسم الفاعل: مُحِلِّي، و الصَّيْدِ هو المفعول، والصَّيْدِ مصدر بمعنى: المصيد، فالمصدر يأتي -كما هو معلوم- بالمعنى المصدري، ويأتي أيضًا بمعنى: المفعول، وقد ذكرنا هذا في مناسبات سابقة، مثل ما تقول: الكتابة تأتي بالمعنى المصدري، الذي هو الفعل، وتأتي بمعنى المفعول، يعني المكتوب، تقول: هذه كتابة زيد، كذلك الأكل يأتي بالمعنى المصدري، وهو نفس الفعل، ويأتي بمعنى المفعول، فتشير إلى الطعام الذي يؤكل، وتقول: هذا أكل، وكذلك الصيد، فإن ملاحقة الصيود يقال لهذه العملية: صيد، فلان ذهب للصيد، ويقال للمصيد: هذا صيد، بمعنى المفعول.
يقول: "غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ منصوب على الحال من الضمير في لَكُمْ" وهذا على قول الجمهور، أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ يعني أُحِلَّتْ لَكُمْ حال كونكم كذا وكذا، يعني أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إلا أن تحلوا الصيد في حال الإحرام، فإنه لا يحل لكم ذلك، أعني في حال إحرامكم.
وَأَنْتُمْ حُرُمٌ حال من مُحِلِّي الصَّيْدِ يعني من الضمير في قوله: مُحِلِّي كأنه قيل: أحللنا لكم بعض الأنعام في حال امتناعكم من الصيد، وأنتم محرمون؛ يعني لئلا نضيق عليكم، فالله شرّع ذلك توسعةً على الناس.
يقول: "والحرم: جمع حرام، وهو المحرم بالحج، فالاستثناء بـ(إلّا) من البهائم المحللة، والاستثناء بــغَيْرَ من القوم المخاطبين" وهذه آية واحدة، وقد ذكرتُ في بعض المناسبات أن الفيلسوف الكندي المشهور قال له بعض تلامذته: نريد أن تصنع لنا قرآنًا أو كلامًا نظير القرآن، واحتبس في بيته أيامًا، ثم خرج إليهم، فقال: فتحت المصحف فظهرت سورة المائدة، فرأيته قال في سطرين: خاطب فأحل، ثم استثنى، ثم استثنى بعد استثناء، ثم أخبر وحكم، يقول: وهذا لا يقدر عليه أحد، فعجز، والفلاسفة عند أنفسهم وعند مريديهم أنهم في منزلة ليس فوقها أحد، فهذا كلام الله -تبارك وتعالى-[6].
وقد ذكر القرطبي -رحمه الله- أن هذه الآية، التي هي أول آية في هذه السورة، تضمنت خمسة أحكام:
الأمر بالوفاء بالعقود.
وتحليل بهيمة الأنعام.
واستثناء ما يلي بعد ذلك.
واستثناء حال الإحرام بما يُصاد.
وإباحة الصيد لغير المحرم[7].
لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ جمع شعيرة، والشعائر: هي ما جعله الله علمًا لطاعته، فالشعائر لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ يدخل فيها أعلام الحج، وأعمال الحج، ومشاعر الحج، مواضع المناسك، ويقول بعض أهل العلم بأن المعنى: لا تحلوا هذه المذكورات بأن يقع منكم الإخلال بشيءٍ منها، أو بأن تحولوا بينها وبين من أراد فعلها، والواقع أن هذا يدخل فيه: أعمال الحج، ويدخل فيه أيضًا المواضع، كالصفا والمروة، ومزدلفة ومنى وعرفة والجمار.
وهكذا الأفعال: الطواف، والإحرام، والسعي، والرمي، والذبح والهدي، فكل ذلك يدخل فيه، وهذا الذي ذهب إليه أبو جعفر ابن جرير -رحمه الله- حيث حملها على العموم[8].
وقد ذكرتُ في بعض المناسبات بأن بعض أهل العلم يقسمون الشرائع إلى شعائر وأمانات، فالشعائر: هي الأمور الظاهرة، مثل: الأذان، والتكبير، والأعياد، وصلاة الجماعة، والتلبية ورفع الصوت بها، وما إلى ذلك مما هو ظاهر.
والأمانات: مما لا يطلع عليه الناس، مما يكون بين الإنسان وربه، كالطهارة؛ فالناس لا يعلمون هل صلى بطهارة أو لا؟ وهل اغتسل من الجنابة؟ وهل اغتسلت المرأة من الحيض؟ وكذلك الصيام ونحو هذا، وهذا تقسيم اصطلاحي، لا إشكال فيه، ولكن حينما يقال الشعائر كقوله: لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ يدخل فيها المواضع من أعلام النسك، ونحو ذلك، ويدخل فيها الأعمال، وهذا يعني أن يأتي بها العبد على الوجه المشهور من غير تبديل، ولا إخلال؛ ولذلك ختم الله في آية الحج بذكر هذا الوصف شَدِيدُ الْعِقَابِ [البقرة:196] بمعنى أن من أخل، أو تلاعب بالنسك، فإنه متوعدٌ بالعقاب الشديد، وهنا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ والهدي داخل في ذلك أيضًا، فلا تنتهك حرمة ما يُساق إلى البيت منه، أو مما يكون في الحرم، من الهدي وغير الهدي، فالمعنى عام، فهي أعلام الحج وأعماله، فيدخل فيها هذا وهذا.
وهنا يقول: "قيل: هي مناسك الحج، كان المشركون يحجون ويعتمرون، فأراد المسلمون أن يُغيروا عليهم، فقيل لهم: لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ أي: لا تغيروا عليهم، ولا تصدّوهم، وقيل: هي الحرم، وإحلاله الصيد فيه، وقيل: هي ما يحرم على الحاج من النساء والطيب" فكل هذه المعاني التي ذكرها داخلة في ذلك من الصد، والصيد، وحرمة الحرم، ومراعاة ذلك، ومواضع النسك، والله أعلم.
الأقرب أن المقصود بالشهر الحرام: الأشهر الحرم، لا يُنتهك فيها ما حرمه الله -تبارك وتعالى- من القتال، وكذلك أيضًا يُراعى ما لها من الحرمة، فالمعصية فيها تكون أعظم، ونحن في هذا الشهر الحرام، في أوله، شهر الله المحرم، وآخر هذه الأشهر الحرم المتوالية، فهي ثلاثةٌ سرد، وواحدٌ فرد، الذي هو رجب، فيذكرون شهر رجب أولاً، ثم يذكرون ما بعده، فيكون ذكر المحرم تبعًا للشهرين قبله، وهكذا تُذكر بهذا الترتيب الذي ذكره ابن جزي -رحمه الله-، مرتبة بهذه الطريقة.
فالحاصل: أن ما ذكره المؤلف من القتال فيها، وتغيير حالها، ومعنى: تغيير حال الأشهر الحرم: كما كان يفعله أهل الجاهلية من النسيء إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ [التوبة:37] فيؤخرون الأشهر الحرم -كما هو معلوم- من عادتهم، حيث يقوم سيدٌ من ساداتهم في منى بعد رجوع الحاج إليها، فيعلن للناس أنَّ المحرم سيكون في صفر مثلاً؛ من أجل أن يغيروا، أو من أجل أن يحصل لهم بذلك من المباهاة والفخر، ويقولون كلامًا قبله مفاده: الفخر والكِبر، وأنه لا راد لما يقول إلى غير ذلك مما تجدونه في أخبار العرب وتاريخهم، كمثل كتاب المفصل لتاريخ العرب قبل الإسلام، وهو كتابٌ جامع لأحوالهم وأخبارهم وأعمالهم ومعبوداتهم ومناسكهم ومواضع الذبح عندهم، وأحكام الإحرام، إلى غير ذلك من التفاصيل الكثيرة، تجدونها مجتمعةً فيه، مما تفرق في الكتب غيره.
فالشاهد: أنه يدخل في ذلك القتال، وتغيير الأشهر الحرم، وكذلك أنواع الظلم، وأهل العلم مختلفون -كما هو معلوم- هل يحرم القتال في الأشهر الحرم، أو أن ذلك منسوخ؟ فالجمهور على أنه قد نُسِخَ منعُ القتال فيها، والأقرب -والله أعلم- أن ذلك باقٍ لم يُنسخ، ولا يحل القتال في الأشهر الحرم، وأن قول الله -تبارك وتعالى-: وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً [التوبة:36] ليس بناسخ، وأما قتال النبي ﷺ لهوازن، فإنه ﷺ إنما خرج إليهم حينما بلغه أنهم قد اجتمعوا، يريدون كيدًا، وقد توافوا في وادي حنين، فيكون ذلك من باب الصد العدوان، ولم يكن ذلك ابتداءً.
والحافظ ابن كثير -رحمه الله- يقول في قوله تعالى: لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ عطف على ذلك: وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ يقول يعني بذلك تحريمه، والاعتراف بتعظيمه، وترك ما نهى الله عن تعاطيه فيه، من الابتداء في القتال، وتأكيد اجتناب المحارم[9]، وهذه العبارة التي قالها ابن كثير جيدة، فهي جامعة لمعانٍ صحيحة، وهذا من مزايا كتاب ابن كثير -رحمه الله- في التفسير، فهو كتاب يجمع المعاني التي تفرقت في عبارات السلف.
وهنا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ تحريم الشهر الحرام، الاعتراف بتعظيمه، وترك ما نهى الله عنه فيه من القتال ابتداءً، وكذلك ما يتأكد فيه من اجتناب المعاصي، ونحو ذلك.
فيبقى كما قال المؤلف يقول: "قيل: هو جنس الأشهر الحرام، فهذا جنس يصدق على الأشهر، وهذا معروف، وقد ذكرتُ في بعض المناسبات أمثلةً له، مثل هذا جنس، لفظ مفرد، هو اسم جنسٍ يصدق على الواحد والكثير: أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ [النور:31]، ولم يقل: الذي لم يظهر على عورات النساء، وإنما قال: الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ لأن المقصود الجمع، سواء كان المفرد من غير إضافة، أو كان مضافًا، كقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ [الأحزاب:9] أي: نعم الله، نعمة مفرد، فأضافها إلى المعرفة، وهو الله، أَوْ صَدِيقِكُمْ [النور:61] أي: أو أصدقائكم، وهكذا.
والحافظ ابن كثير -رحمه الله- ذهب إلى أن معنى: لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ: لا تتركوا الإهداء إلى البيت الحرام، فإن فيه تعظيمًا لشعائر الله، ولا تتركوا تقليدها في أعناقها لتتميز به عما هداها من الأنعام، يعني كانوا يقلدونها شيئًا من لحاء شجر الحرم، ونحو ذلك؛ ليُعرف أنها من الهدي، فيتوقى الناس الإغارة عليها، ولا يريدها أحد بسوء، كما أن ذلك -كما يقول ابن كثير- يدعو من شاهدها إلى أن يأتي بمثلها[10]، يعني الاقتداء والاتساء.
هذا المعنى الذي ذكره ابن كثير -رحمه الله-، ويدخل فيه أيضًا ما ذكره ابن جزي هنا: "فنهى الله أن يُستحل بأن يُغار عليه، أو يُصد عن البيت" فهذا داخل فيه، من حيث المعنى، فإحلال الهدي بمثل هذا انتهاك حرمته، وما ذكره ابن كثير فيه زيادة على هذا: بـأن لا يُترك الهدي، سواء كان ذلك مما يُساق من خارج الحرم، أو مما يكون في الحرم، فذلك كله يُقال له: هدي، إلا أن الذي يُساق من خارج الحرم قد يكون أكمل، والله أعلم، ولذلك كانوا يسوقون الهدي، وكان النبي ﷺ يبعث هديه إلى الحرم وهو في المدينة، لم يحج، فالهدي لا يختص بالحاج، وإنما ذلك يُساق إلى الحرم تعظيمًا له، وقد يُطلق الهدي بمعنًى أوسع من بهيمة الأنعام التي تُذبح هناك، فيُقال لكل ما يُهدى للكعبة، من الطيب والستور، ونحو ذلك، لكن في أعمال الحج ومناسك الحج المقصود به: ما يُذبح هناك من بهيمة الأنعام.
(وجردها) أوضح في المعنى، وإن كان يصح أن يُقال: (وجددها).
فقوله: وَلَا الْقَلَائِدَ فُسِّر بما يُقلد من الهدي، وكما سبق أنهم كانوا يقلدونها من لحاء شجر الحرم، فلا يعتدي عليها أحد، فالهدي قد يكون مقلدًّا، وقد لا يكون مقلدًّا، فذكر ذلك بعد الهدي بهذا الاعتبار يمكن أن يكون من باب ذكر الخاص بعد العام، إذا أُريد بها ما قُلد، وإذا أريد نفس القلائد فهذا واضح، ولكن -والله أعلم- أن ذلك قد لا يكون راجحًا في المعنى؛ لأن القلائد ليست مقصودةً لذاتها، وإنما المقصود ما قُلّدها من الهدي، فلا تُنتهك حرمتها، وإلا فهذه القلادة لو أراد صاحب الهدي أن ينزعها، أو أن يغيرها، أو آذت البهيمة فحلها، فلا إشكال، لكن تبقى هذه قد تعيّنت للحرم، وتكلم الفقهاء -رحمهم الله- في أحكام: مثل لو أن هذه البهيمة أصابها شيءٌ في الطريق، وعرض لها من كسرٍ، أو مرضٍ أوشكت معه على الهلكة، أو انقطعت فحرنت ونحو هذا، فماذا يُصنع بها؟ وما كان منه بتسبب، وما لم يكن بتسبب، كل هذا يذكره الفقهاء مفصلاً.
وَلَا آمِّينَ الأَم: هو القصد، أو القصد المستقيم، أو التوجه نحو مقصود، أمَّ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يعني توجه إليه، أو قصده، وهذا معنى قول ابن جزي -رحمه الله- أي: القاصدين إلى البيت لحجٍّ، أو عمرة.
هذا هو الذي نزلت فيه الآية، لكن هذه روايات لا تصح، وهي مراسيل لا تثبت، وليس ذلك بسبب النزول.
وقال في الحاشية: وذلك أنه قال رسول الله ﷺ يومًا لأصحابه: يدخل اليوم عليكم رجلٌ من ربيعة، يتكلم بلسان شيطان، فجاء الحُطم، فخلَّف خيله خارجةً من المدينة، ودخل على رسول الله ﷺ، فدعاه النبي ﷺ إلى الإسلام، وكأنه استأنى واستمهل لينظر، فخرج من عند النبي ﷺ فعندما مرَّ بسرحٍ من سرح المدينة، ساقه وانطلق -يعني أنه أخذ السرح، وهو من الأنعام-، فجاء من العام القابل حاجًّا، وساق هديًا، فأراد النبي ﷺ أن يبعث إليه، وخفَّ إليه ناسٌ من أصحاب النبي ﷺ، يعني أسرعوا إليه، وتوافوا، فنزلت هذه الآية وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ[12]، لكن الرواية لا تصح.
فيما يتعلق بالقتال في الحرم، وفي الأشهر الحرم، فهذا الراجح أنه محكم وليس بمنسوخ، فيحرم القتال فيه، وقد قال النبي ﷺ: فإن هذا بلد حرم الله يوم خلق السماوات والأرض، وهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، وإنه لم يحل القتال فيه لأحد قبلي، ولم يحل لي إلا ساعة من نهار، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة[13]، فهذا ثابت، وكذلك في الأشهر الحرم.
فقول المؤلف هنا: "وهذا النهي عن إحلال هذه الأشياء عامٌّ في المسلمين والمشركين، ثم نُسِخَ النهي عن قتال المشركين بقوله: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [التوبة:5] وبقوله: فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ [التوبة:29]" فيكون هذا من العام المخصوص، وليس من قبيل النسخ، وهكذا في قوله: مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ [التوبة:17] الآية، فهذا ليس بنسخ.
وقد ذكر ابن جرير -رحمه الله- الإجماع على أن في الآية منسوخًا[14]، وإن اختلفوا في تحديده، واختار نسخ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ، وكذلك وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ، لكن فيما يتعلق بقاصدي البيت الحرام من المشركين، فإنهم يُمنعون من ذلك، يعني إذا قلنا: بأن الآية عامة وَلَا آمِّينَ فالعموم مأخوذٌ من لفظها وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ وكذلك مما ذكروا في سبب النزول بخبر الحُطم، لكن سبب النزول لا يصح، فبقي اللفظ هكذا على إطلاقه وَلَا آمِّينَ من غير تقييده بالمسلمين، فإذا كان ذلك مقصودًا، فيكون قد نُسِخ بقوله -تبارك وتعالى- في سورة براءة: فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا [التوبة:28] فهذا يقتضي صدهم، وسورة براءة هي آخر ما نزل في القتال، وسورة المائدة آخر ما نزل في الأحكام، وما ذكرته قبل قليل من أن سورة المائدة آخر ما نزل في الأحكام، ولم يُنسخ منها شيء: أن ذلك ليس على إطلاقه فهذا مثال، يعني ابن جرير -رحمه الله- نقل الإجماع على أن في الآية منسوخًا[15]، وإن اختلفوا في تحديده، فوجد فيها نسخ، فالمقصود أن قاصدي البيت الحرام من المشركين يُمنعون ويُصدون، ولا يُمكنون من دخول الحرم، لكن هل ذلك يُقال جزمًا باعتبار النسخ، يعني أن هذا من قبيل النسخ، فهذا يحتمل أن يكون قوله -تبارك وتعالى-: وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ من المسلمين؛ لأن سبب النزول لا يصح، ولو صح خبر الحُطم فيكون دالاً على العموم يعني في المسلمين وغيرهم، والله تعالى أعلم.
يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوانًا يقول: "الفضل: الربح في التجارة" ومما فسره بذلك: مجاهد، وعطاء، وأبو العالية، ومطرف، والربيع، وقتادة، ومقاتل[16]، وغير هؤلاء، وَرِضْوانًا "والرضوان: الرحمة في الدنيا والآخرة"، وفي النسخة الأخرى يقول: "الربح" لكن الذي يظهر أن الصواب "الرحمة في الدنيا والآخرة"؛ لأن الربح في الدنيا قد يُحمل على الربح في التجارة، وقد مضى الكلام عليه في الفضل، فالرضوان: هو ما عند الله -تبارك وتعالى- من الثواب والأجر والرحمة، ونحو ذلك.
في قوله: وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا ليس معنى ذلك أن يصيد في الحرم، فإنه لا يحل، فالصيد لا يحل في حالتين: في الحرم، ولو كان حلالاً، فإنه لا يحل صيده، ولا يُعضد شجره، وكذلك المحرم فإنه يحرم عليه الصيد في الحرم تحريمًا أعظم؛ لاجتماع الحرمة الحالية؛ وهو التلبس بالإحرام، والمكانية، وكذلك يحرم عليه الصيد مطلقًا خارج الحرم ما دام متلبسًا بإحرامه، فقوله: وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا، حَلَلْتُمْ يعني من إحرامكم، وقال بعضهم: وإذا حللتم من إحرامكم وخرجتم من الحرم، فيكون الإحلال من الإحرام مقيدًا بالخروج من الحرم أيضًا.
يقول: "فالأمر هنا إباحة بإجماع" وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا باعتبار أن القاعدة في هذا هي: أن الأمر بعد الحظر يعود فيه الحكم إلى حاله قبل الحظر، وهذا على الأرجح، وليس محل اتفاق، فإذا كان متلبسًا بالإحرام، أو في الحرم يحرم عليه الصيد، فإذا حل من إحرامه، أو خرج من الحرم حلَّ له الصيد، فلما قال الله : وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا كان الأصل أن الأمر للوجوب، فهل نقول: إنه إذا حل الإنسان من الإحرام وخرج من الحرم يجب عليه أن يبحث عن طريدًا ليصيدها؟ الجواب: لا بالإجماع، إذًا ما حكم الصيد قبل الإحرام، أو قبل دخوله في الحرم؟ الإباحة، فلما حُظِر، ثم حل هذا المحرم، أو خرج من الحرم حلَّ له الصيد، فقال: وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا فيكون الأمر للإباحة؛ لأنه يرجع إلى حاله قبل الحظر، فكان الصيد قبل الحظر مباحًا، فنُهي عنه في حال الإحرام، أو في الحرم، فلما زالت العلة رجع إلى حاله الأولى، وهذا كقوله تعالى: إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ [الجمعة:9] اتركوا البيع، ثم قال: فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ [الجمعة:10] والابتغاء من فضل الله فُسِّر بالبيع والشراء والتجارة، وفُسِّر كما جاء عن ابن عباس -ا- بعيادة المريض وما يُطلب به الأجر؛ كصلة الرحم[17]، ونحو ذلك، لكن الجمهور على أن المقصود بابتغاء فضل الله: التجارة والكسب والبيع والشراء، الذي يكون مُنع، فما حكم البيع والشراء بعد صلاة الجمعة؟ الله يقول: فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ فهذا أمر بالانتشار، بل ما حكم الخروج من المسجد؟ هل يُقال: يُمنع من البقاء في المسجد بعد صلاة الجمعة لقوله: فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ لأن هذا أمر؟ فهل يقال: هو للوجوب؟ الجواب: لا؛ لأن الأمر يرجع إلى حاله قبل الحظر، قبل أن يقول: وَذَرُوا الْبَيْعَ حيث كان الحكم قبل ذلك إباحة البيع والشراء، فلما حُظر، ثم زال ما من أجله كان هذا الحظر عاد إلى حكمه الأول، وهو الإباحة.
وهذا لا يكاد يقال إلا في الإجرام والاجترام، ونحو ذلك، ولا يقال في الكسب المحمود، فالغالب أنه يُستعمل في الكسب غير المحمود، في الكسب المذموم، يقال: جرم، واجترم، ومنه المجرم، والجريمة، والإجرام، ونحو ذلك.
يقول: "والشنآن: هو البغض والحقد" أو الشنآن: شدة البغض، فالبغض مراتب ودرجات، كما أن المحبة درجات، فالشنآن: بغض شديد، مثلما يقال: المقت: وهو شدة الكراهية والبغض.
"ويقال: بفتح النون، وإسكانها" شَنْآن في قراءة ابن عامر[18]، والتي نقرأ بها هي قراءة الجمهور[19]، وهما لغتان: شَنْآن، وشَنَآن، فهي لغات والمعنى واحد لا يختلف.
قوله هنا: "ومعنى الآية: لا تحملنكم عداوة قوم على أن تعتدوا عليهم من أجل أن صدوكم عن المسجد الحرام" هذا بناءً على قراءة الجمهور[21] أَنْ صَدُّوكُمْ بفتح همزة (أن)، لكن في قراءة ابن كثير وأبي عمرو: (إِنْ صَدُّوكُمْ)[22]، فهنا (إن) شرطية، وفي: أَنْ صَدُّوكُمْ قال: "مفعول من أجله" فهذا المعنى الذي فسر به هو على قراءة الجمهور، يعني من أجل أن صدوكم.
وقوله: "بأنها نزلت عام الفتح، حين ظفر المسلمون بأهل مكة، فأرادوا أن يستأصلوهم بالقتل" يعني مقابلةً لصدهم للمسلمين عن المسجد الحرام عام الحديبية "فنهاهم الله عن ذلك".
هذا جاء عن زيد بن أسلم، وزيد بن أسلم معروف أنه من التابعين، فالرواية مرسلة، قال: "كان رسول الله ﷺ بالحديبية وأصحابه حينما صدهم المشركون عن البيت، وقد اشتد ذلك عليه، فمر بهم أناسٌ من المشركين من أهل المشرق يريدون العمرة، فقال أصحاب النبي ﷺ: نصد هؤلاء كما صدنا أصحابهم، فأنزل الله هذه الآية"[23]، هذا عام الحديبية، لكن الرواية لا تصح، فليس ذلك بسبب النزول، فيكون ذلك في عام الحديبية، وليس عام الفتح، والله أعلم.
س: شيخنا -أحسن الله إليكم- قوله: "لأن الله علم أنهم يؤمنون" هل هذا توجيه صحيح؟
لا ليس كذلك، وإنما من باب حرمة المكان وهو الحرم، والسياق كله في هذا.
البر والتقوى متقاربان، وهذه الوجوه التي يذكرها أهل العلم في التفريق بينهما حيث اجتمعا؛ من أجل التفريق بينهما.
وذكر بعضهم بأن البر: هو الواجب والمندوب، والتقوى: هي الواجب، وهذا لا دليل عليه، ولكن كأنهم نظروا إلى أن التقوى مأمورٌ بها، وهي واجبة، لكن وجوب التقوى من حيث الأصل والجملة، وأما تفاصيل التقوى، فمنه ما هو واجب، ومنه ما هو مستحب، ففعل الواجب واجب، وترك المحرم واجب، واجتناب المكروه والمشتبه وفعل المستحب كل ذلك من المستحب، فتفاصيل التقوى تختلف.
وذكر بعضهم بأن في البر رضا الناس، وفي التقوى رضا الله، وهذا ليس صحيح، فهذا كأنه نظر إلى أن البر هو ما يتعلق بالإحسان إلى الخلق، والتقوى بالإحسان مع الخالق بفعل ما أمر، واجتناب ما نهى.
لكن ابن القيم -رحمه الله- ذكر كلامًا أحسن من هذا، وهو: أن كل واحدٍ منهما إذا أُفرد دخل فيه الآخر تضمنًا، مثل ما يقال في الإسلام والإيمان إذا اجتمعا افترقا، أي إذا اجتمعا في اللفظ، فقُرنا افترقا في المعنى، وصار لكل واحد معنًى يخصه، وإذا افترقا يعني ذُكر كل واحد على سبيل الانفراد، اجتمعا في المعنى، فدخل فيه معنى الآخر[24].
فذكر ابن القيم أن البر: هو الكمال المطلوب من الشيء، والمنافع التي فيه، والخير فيدخل فيه الإيمان، وأجزاؤه الظاهرة والباطنة.
وأما التقوى: فهي العمل بطاعة الله أمرًا ونهيًا، إيمانًا واحتسابًا، والبر داخلٌ في ذلك، وعند الاقتران، فالفرق: أن البر مقصودٌ لذاته، والتقوى مقصودةٌ لغيرها، فهي وسيلة إلى البر الذي هو الكمال[25].
والحافظ ابن كثير -رحمه الله- ذكر بأن البر: فعل الخيرات، والتقوى: ترك المنكرات[26]، وهذا إذا اجتمعا (البر والتقوى) كقوله هنا: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى لأن الأصل أن التأسيس مقدم على التوكيد، فلا يقال مثلاً بأن التقوى هو توكيد للبر، وهي بنفس معناها، ولا سيما على القول بأنه لا يوجد ترادف في القرآن، وبعضهم يمنع من وجوده في اللغة، ومن هنا يذكرون هذه الفروقات إذا اجتمعا، وإلا فالتقوى والبر كل ذلك من الألفاظ الجامعة، التي تجمع طاعة الله -تبارك وتعالى-، وطاعة رسوله ﷺ بفعل المأمورات، واجتناب المنهيات، ولكن يغلب استعمال البر في وجوه الإحسان والمعروف، ونحو ذلك، والتقوى يكون ذلك بفعل المأمور، واجتناب المحظور، وإذا اجتمع فالبر يدخل فيه جميع محاب الله ، والتقوى: ما يُتقى به سخطه وعقابه، والله أعلم.
هذا مثل ما سبق أيضًا، فالإثم والعدوان متقاربان، وإن كان الفرق هنا أوضح من البر والتقوى.
فيقول المؤلف: "الإثم كل ذنبٍ بين العبد وبين الله، أو بينه وبين الناس، والعدوان على الناس" فالعدوان فيه معنى التعدي، والإثم يقال للمعصية، كما يطلق على ما يترتب عليها من المؤاخذة، فتقول: الزنا والكذب إثم، ويقال: اجتنب الآثام، وشرب الخمر إثم، ويقال لما يترتب عليه من المؤاخذة، تقول: يأثم من يزني، ويأثم من شرب الخمر، ومن فعل كذا فهو آثم، والعرب قد تُطلق الإثم على معنًى أخص، يعني على نوعٍ خاصٍ من المعاصي، وهو الخمر، كما قال الشاعر:
شَرِبْتُ الإثْمَ حَتَّى ضَلَّ عَقْلِي | كَذَاكَ الإثْمُ تَفعلُ بالعُقُولِ[27] |
يعني باعتبار أنها أم الآثام، والحافظ ابن القيم -رحمه الله- فرّق بين الإثم والعدوان، باعتبار أن الإثم: ما كان محرم الجنس، كالخمر، والعدوان: ما كان محرم القدر، والزيادة[28]، فما كان محرم الجنس فهذا يقال: إثم، وما كان محرم القدر والزيادة فهو العدوان، فيكون إذا زاد عليه قد اعتدى.
يقول: وإلا فهما مما إذا اجتمعا افترقا، وإذا افترقا اجتمعا، مثل البر والتقوى، فإذا قيل: الإثم دخل فيه العدوان.
وابن جرير -رحمه الله- فسّر الإثم: بترك ما أمر الله بفعله، والعدوان: مجاوزة ما حد الله في الدين، ومجاوزة ما فرض الله على المكلفين في أنفسهم، وفي غيرهم[29]، وهذا مثل كلام ابن القيم، أعني: الشق الأخير في العدوان، وهو مجاوزة ما حد الله، فابن القيم -رحمه الله- يقول: ما كان محرم القدر والزيادة، فتجاوز الحد في هذا يعتبر من قبيل العدوان غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ [البقرة: 173] وهذا في أكل الميتة على سبيل المثال، فهذا المعتدي في أكل الميتة تجاوز الحد، فإذا كان لا يجوز له أن يأكل فوق حاجته، يعني مما يُبقي على المهجة، فإذا أكل أكثر من ذلك يُعتبر من العدوان.
وفسّره بعضهم -كما هو معلوم-: بأن لا يكون في سفر محرم، كقاطع طريق يستعين به على معصية، أو أن يأكل من غير ضرورة.
وبالنسبة لمعاملة الخلق، فالعدوان: هو التعدي على حرماتهم، وذواتهم، وأعراضهم، وما إلى ذلك، فهذا من العدوان، فالتعدي فيه مجاوزة، والإثم: ما يترتب عليه المؤاخذة، والعدوان نوعٌ من الإثم، ويمكن أن يقال -والله أعلم- بأن ذلك من قبيل عطف الخاص على العام، فكل عدوان فهو إثم، ولكنه خصَّ العدوان لأنه أشد؛ لأن فيه تجاوز حدود الله فيما حدّه، وكذلك أيضًا التعدي على الخلق.
- السنن الكبرى للبيهقي (7/278-13978) وشرح مشكل الآثار (6/304) ومسند الشاميين للطبراني (3/144-1963).
- البحر المحيط في التفسير (4/157).
- تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (9/447).
- تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (9/452-10907).
- تفسير الزمخشري = الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل (1/601).
- البحر المحيط في التفسير (4/157) وفتح القدير للشوكاني (2/6).
- تفسير القرطبي (6/31).
- تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (9/465).
- تفسير ابن كثير ت سلامة (2/9).
- تفسير ابن كثير ت سلامة (2/10).
- تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (9/472).
- تفسير ابن عطية = المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (2/147).
- أخرجه البخاري في كتاب جزاء الصيد، باب لا يحل القتال بمكة برقم: (1834) ومسلم في الحج باب تحريم مكة وصيدها وخلاها وشجرها ولقطتها. وفي الإمارة باب المبايعة بعد فتح مكة على الإسلام، برقم: (1353).
- تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (9/475).
- تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (9/475).
- تفسير ابن كثير ت سلامة (2/10-11).
- البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (7/45).
- السبعة في القراءات (ص:242) وحجة القراءات (ص:219).
- حجة القراءات (ص:220).
- تفسير القرطبي (6/30).
- السبعة في القراءات (ص:242).
- السبعة في القراءات (ص:242).
- أسباب النزول ت الحميدان (ص:189) وتفسير ابن كثير ت سلامة (2/12).
- الرسالة التبوكية = زاد المهاجر إلى ربه (ص:7).
- الرسالة التبوكية = زاد المهاجر إلى ربه (ص:7-8).
- تفسير ابن كثير ت سلامة (2/12).
- البيت في مقاييس اللغة (1/61) ولسان العرب (12/6) دون نسبة.
- الرسالة التبوكية = زاد المهاجر إلى ربه (ص:10).
- تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (9/490).