الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحابته الطيبين الطاهرين، اللهم اغفر لنا ولوالدينا ولشيخنا والحاضرين والمستمعين، أما بعد:
قال الإمام ابن جزي عند قوله تعالى:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فقوله: "النقيب هو: كبير القوم القائم بأمورهم" وذكر بعض أهل العلم أن النقيب أعلى مكانة من العريف، وقيل بأن أصله من النقب وهو الطريق بين جبلين، أو الطريق في الجبل سُمي به نقيب القوم؛ لأنه طريق إلى معرفة أمورهم، ولهذا فإن إقامة هؤلاء النقباء من بني إسرائيل ذكرها ابن جرير -رحمه الله-[1]، وابن كثير[2] بأن ذلك من أجل أن يتلقوا مبايعة من تحتهم على السمع والطاعة وفاءً بعهد الله، مع توجيههم وحثهم وإرشادهم ونصحهم، ويحثونهم على القيام بهذا العهد والتزامه ونحو ذلك.
وذكر ابن عطية الإجماع على أن النقيب كبير القوم القائم بأمورهم الذي يُنقب عنها وعن مصالحهم فيها، نقيب يُنقب عن مصالحهم وأمورهم، ونحو ذلك[3].
فالمقصود أن هؤلاء أُمناء على الاطلاع على أحوال قومهم، وبعضهم يقول: إن المقصود ببعثهم ليكونوا أمناء على الاطلاع على الجبارين، لما أُمروا بدخول الأرض المقدسة فاختير هؤلاء ليأتوا بخبر القوم.
قد جاء عن ابن عباس وجماعة بأن هذا كان لما توجه موسى في قتال هؤلاء الجبارين، فأُمر عندئذٍ أن يقيم نقباء كل سبت نقيب[4].
وهكذا لما بايع النبي ﷺ الأنصار ليلة العقبة كان فيهم أثنى عشر نقيبًا ثلاثة من الأوس وتسعة من الخزرج، فكانوا عُرفاء على قومهم من الأنصار ، وهم الذين تولوا المبايعة عن النبي ﷺ لقومهم بالسمع والطاعة[5]، -من يدخل في الإسلام يبايع على السمع والطاعة-، وأيضًا النقيب يُقال له: الضمين، والأمين، والشاهد، أو الكفيل فلكونه يعلم دخيلة القوم قيل له: نقيب، من التنقيب أو من النقب الذي هو الطريق في الجبل، فهو طريقٌ إلى معرفة حال قومه ومن معه، -والله أعلم-.
هذه المعية معية خاصة كما هو معلوم بالنصر والتأييد، وقال الله: إِنِّي مَعَكُمْ [المائدة:12] هل هذا يرجع في الخطاب إلى بني إسرائيل، أو يرجع إلى النقباء؟
اللفظ: وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ [المائدة:12] الضمير يرجع إلى بني إسرائيل، وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ [المائدة:12] لما ذكر النقباء، وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ [المائدة:12] يرجع إلى أقرب مذكور النقباء، ولذلك قال من قال بأنهم النقباء، لكن هناك قاعدة أخرى وهي: "توحيد مرجع الضمائر أولى من تفريقها"، الضمائر في الآية ترجع إلى بني إسرائيل، فإذا قلت بأن هذا يرجع إلى النقباء تكون قد فرقت الضمائر، فهذا مرجح لكون الضمير هنا، وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ [المائدة:12] أي لبني إسرائيل، والقول بأنه يرجع إلى النقباء يرجحه قاعدة عود الضمير إلى أقرب مذكور، فتنازعته هذه القواعد فيحتاج إلى الترجيح معها، فقاعدة توحيد مرجع الضمائر مقدمة على هذه، -والله أعلم-.
الخلاف واقع بين أهل العلم هل حُرفت التوراة مثلاً حُرفت ألفاظها وبُدلت، أو كانوا يحرفون المعاني، أو يحرفون ما يبدونه في القراطيس؟ أما النسخة الأصلية من التوراة لم تحرف هذا قول لبعض أهل العلم، والأقرب -والله أعلم- أنهم جمعوا ذلك كله حرفوا الألفاظ، وحرفوا المعاني، ولا أدل على هذا من اختلاف النسخ الموجودة والتباين الذي بينها، بل التناقض فهذا تحريفٌ للألفاظ، وأما تحريف المعاني فهو تبعٌ لذلك؛ إذا حُرفت الألفاظ حُرفت المعاني، فضلاً عن المعاني التي حُرفت من غير تحريف الألفاظ يعني في صفة النبي ﷺ يجدون أنه مثلاً أبيض مُشرب بحمرة مربوع القامة، يذكرون أنه آدم وأنه طويل بائن الطول، وهكذا في صفاته -عليه الصلاة والسلام-.
وأيضًا في أمورٍ أخرى مثل الذبيح حرفوا في كتابهم وأنه إسحاق مع أن الذبيح إسماعيل ، وفيه: إني آمرك أن تذبح ابنك ووحيدك، ومعلومٌ أنه وحيده الابن الأكبر معروف أنه إسماعيل ، فيحرفون ثم بعد ذلك يقعون في مثل هذه التناقضات.
أو بمعنى: خائن، وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ [المائدة:13] كما يُقال: رجلٌ طاغية، والحافظ ابن كثير -رحمه الله- فسره بمكرهم، خائِنَةٍ مِنْهُمْ [المائدة:13]: "مكرهم وغدرهم لك ولأصحابك"[6].
وجاء عن مجاهد يعني: تمالؤهم، يعني بذلك ما تمالؤا عليه من الفتك بالنبي -صلى الله عليه وآله وسلم-[7]، وهذا كأنه تفسيرٌ بالمثال وإلا فالمعنى أعم من ذلك.
وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ [المائدة:13] يعني خيانة، "وقيل: على طائفةٍ خائنة"، فهنا قول من قال بأن خائنة يعني خائن مثل طاغية، والآخر هنا يقول: طائفة خائنة، خائنة يعني كأنه اكتفى بالوصف وحذف الموصوف للعلم به، على طائفةٍ خائنة، وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ [المائدة:13] يعني أن هذا يقول: "إخبارٌ بأمرٍ مستقبل".
طائفة من أهل العلم يقولون: بأن آية السيف نسخت مائة وأربعة وعشرين آية، يقولون: كل عفو، وصفح، وإعراض، وصبر على أذى المشركين فهو منسوخٌ بآية السيف، وهذا الكلام غير صحيح، وإنما هذه الآيات ثابتة وذلك أن إعمالها يكون بحسب حال الأمة، فإذا كانت الأمة في حالة من الضعف والاستضعاف فتُعمل آيات الصبر والعفو والصفح والاحتمال، وإذا كانت الأمة قوية ممكنة فإنها تُعمل آيات العزائم كآيات السيف، فلا يُقال إنها ناسخة لهذه الآيات، قالوا حتى نسخت قوله -تبارك وتعالى-: أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ [التين:8] هم لا يقصدون نسخ المعنى هنا، لكن يقصدون إن المراد من هذه الآية دعهم لله هو الذي يتولاهم، وهو الذي يجازيهم، لكن هذا القول فيه نظر.
والقول بأنه منسوخة بآية السيف قال به قتادة هنا في هذه الآية[8]، لكن ابن كثير -رحمه الله- حمل ذلك على جهة تألف قلوب هؤلاء[9]، ولاحظ أن سورة المائدة قالوا: هي آخر ما نزلت وما نُسخ منها شيء، فدعاوى النسخ هذه بالاحتمال لا تُقبل، فابن كثير -رحمه الله- يقول: هذا من باب التألف لهم تجاوز عن مثل هذه الإساءات والخيانات، علّهم يسلمون.
هنا ادعوا أنهم أنصار هذا قول مشهور، وبعضهم يقول: بأن نصارى جمع نصران ونصرانه، بعضهم يقول: بأنها منسوب إلى قرية اسمها: نصرة أو نصرانه، يُقال إن المسيح نزلها.
وبعضهم يقول غير ذلك في تسمية موضع، وبصرف النظر، فالقول الذي ذكره هنا أنهم أنصار قول مشهور، الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى [المائدة:14] إنهم نصروا المسيح، نحن أنصار الله مع أن الذي قال ذلك إنما هم طائفة منهم وهم الحواريون بنص القرآن.
وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ [المائدة:14] يعني أخذنا ميثاق الذين قالوا: إنا نصارى، فيكون ذلك متعلقًا بما بعده والضمير عائد إلى النصارى، أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ [المائدة:14] وهذا الميثاق الذي أُخذ عليهم، الحافظ ابن كثير -رحمه الله- حمله على متابعة النبي ﷺ والإيمان به إذا بُعث[10]، نصر النبي ﷺ والإيمان به وبكل نبي، ولا يبعد أن يُقال: بأن ذلك من جملة العهد الذي أخذه الله عليهم، الإيمان بالأنبياء لاسيما محمد -عليه الصلاة والسلام-، والإيمان بالقرآن، واتباع النبي ﷺ، وكذلك أيضًا العمل بكتابهم والوفاء بعهد الله .
الإغراء مأخوذٌ من الإغراء، فَأَغْرَيْنا [المائدة:14] مأخوذٌ من الإغراء، ومادة الاشتقاق في أغرينا الفعل بإرجاعها إلى المصدر مأخوذ من الإغراء، والاشتقاق في اللغة إعادة ذلك إلى المصادر أولى من إعادتها إلى الأفعال، فالقول: بأنه مأخوذ من الإغراء في أصل الاشتقاق اللغوي لا إشكال صحيح، ولكن هل هو مأخوذ من الغِراء؟ لا يستبعد أن يقصد المؤلف هذا، هذا في جميع النسخ الخطية، لا يستبعد أن يريد المؤلف هذا باعتبار أنه قال في معناه: أي: أثبتنا وألصقنا هو مأخوذٌ من الغراء، أَغْرَيْنا [المائدة:14] لاحظ إذا قلنا: إنه مأخوذٌ من الإغراء أَغْرَيْنا [المائدة:14] فلان بكذا من الإغراء بمعنى دفعناه إلى ذلك، تقول: أغراه بالمال بعثه على ما يريد بهذا المال، وإذا قلنا: من الغراء أغرينا تقل أغريت هذه الورقة، أغريت غلاف الكتاب يعني بالغراء أغريته، وهذا لا يستبعد أن يريد المؤلف هذا المعنى.
فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ [المائدة:14] يعني ألصقناها بهم، كلامه في البداية أثبتنا وألصقنا مأخوذٌ من الغراء الذي يحصل به إلصاق شيء بشيء وإثباته؛ لكن هذا لا يخلو من بُعد والله أعلم، والسبب أن حمل معاني القرآن على المتبادر المشهور أولى، فما هو المتبادر المشهور إذا ذُكر الإغراء؟ أغرى فلانًا بفلان، بهذا المعنى بمعنى فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ [المائدة:14] يعني أنه بعث ذلك في نفوسهم، ودفعهم إليه دفعًا قويًا ونحو ذلك، لهذا فُسر بهيجنا، ومن قولهم: غري بكذا أي لهج به وغري، وبعضهم جمع بين المعنيين: هيجنا وألزمنا، معنى الغراء هذا هيجنا هذا المعنى الذي ذكرت أنه مشهور، وألزمنا يقولون: غري بكذا لهج به ولصق؛ لصق هذه باعتبار أن أصل ذلك من الغراء، وهو ما يُلصق به فهذا الموجود في النسخ الخطية اكتبوه من الغراء، "أثبتنا وألصقنا، مأخوذٌ من الإغراء".
فَأَغْرَيْنا [المائدة:14] في الموضعين بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ [المائدة:14] يعم اليهود والنصارى باعتبار أن العداوة بين اليهود والنصارى أغرى الله هؤلاء بالعداوة، فصارت لازمةً ثابتةً لا تزول.
وبعضهم يقول: بأن ذلك في اليهود والنصارى بين طوائف اليهود وبين طوائف النصارى، فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ [المائدة:14] ولا يبعد أن يُقال والله أعلم: بأن هذا الإطلاق في الآية: فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ [المائدة:14] يشمل ذلك جميعًا، يعني أن الله -تبارك وتعالى- أغرى بعضهم ببعض اليهود والنصارى والعداوة لا شك أنها متجذرة بينهم، وكذلك اليهود طوائف يكفر بعضها بعضًا، وكذلك النصارى فكل ذلك حاصل فالعداوة بين طوائف اليهود وبين طوائف النصارى أيضًا، وكذلك بين اليهود والنصارى، ولا دليل على أن المراد أحد هذين المعنيين، فيُحمل عليه.
وهنا يقول: إن المقصود يَا أَهْلَ الْكِتَابِ [المائدة:15] وليس فَأَغْرَيْنَا [المائدة:14] الآية هنا قوله: فَأَغْرَيْنَا [المائدة:14] الحديث كان قال: وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ [المائدة:14]، قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ [المائدة:15] لا إشكال، لكن هل هذا هو المراد أو لا؟ لا شك أن أهل الكتاب يراد بها اليهود والنصارى، ولكن حمل ذلك على أغرينا والله أعلم يبدو أنه هو المراد، مراده قال: "الموضعين يعم اليهود والنصارى، وقيل: إنها نزلت بسبب اليهود الذين كانوا بالمدينة، فإنهم كانوا يذكرون رسول الله ﷺ، ويصفونه بصفته فلما حل بالمدينة كفروا به": يعم اليهود والنصارى، وقيل: إنها نزلت قد جاءكم ما يستبعد، وقيل: إنها نزلت بسبب اليهود والنصارى كونها: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ [المائدة:15] عمومًا إن كان المراد فَأَغْرَيْنَا [المائدة:14] فبعض أهل العلم يقولون: إن قوله: فَأَغْرَيْنَا [المائدة:14] يعني بين اليهود والنصارى العداوة، هذا كلام أهل العلم فيها كلام المفسرين في قوله: فَأَغْرَيْنَا [المائدة:14] أن العداوة بين اليهود والنصارى.
وبعضهم يقول: بين طوائف اليهود بعضهم مع بعض، وطوائف النصارى بعضهم مع بعض، ولكن هذا الإطلاق في الآية: فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ [المائدة:14] يشمل هذا وهذا يعني العداوة الواقعة بين اليهود والنصارى، وبين طوائف النصارى فيما بينهم وطوائف اليهود فيما بينهم، هذا كلام المفسرين في قوله: فَأَغْرَيْنَا [المائدة:14] يختص بالنصارى أو أن ذلك يشمل أيضًا اليهود، وهذا واضح والله -تبارك وتعالى- يقول: وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ [المائدة:12] قبلها فيشمل هؤلاء وهؤلاء وإن كان ذِكر النقباء يصدق على اليهود، لكن قال: فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ [المائدة:13] إلى آخره، ثم ذكر النصارى صراحة: الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ [المائدة:14] فهذا كلام المفسرين عمومًا، لكن ابن جزي -رحمه الله- هنا يمكن أن يريد بذلك قوله: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ [المائدة:15]؛ لأن قوله: فَأَغْرَيْنَا [المائدة:14] في هذه السورة وردت مرة واحدة، فقوله: فَأَغْرَيْنَا [المائدة:14] في الموضعين يعم اليهود والنصارى.
إذن نقول: إن قوله: فَأَغْرَيْنَا [المائدة:14] بعض المفسرين قال: بين اليهود والنصارى، وبعضهم قال: بين طوائف من كل أهل ملة، ويمكن أن يُحمل على هذا وهذا، لكن هنا مراد ابن كثير بدلاً من فأغرينا نغير هذه، ويكون يَا أَهْلَ الْكِتَابِ [المائدة:15] شوف هذا غريب هذه في الطبعة الأولى أليس كذلك؟ الطبعة الأولى شوف هذا من الغرائب، الطبعة الثانية على الخطأ وسائر النسخ الخطية ما تطرقت لهذا، على كل حال نقرأها يَا أَهْلَ الْكِتَابِ [المائدة:15] يكون يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ [المائدة:15] هذا واضح أنها في اليهود والنصارى، والموضع الآخر: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ [المائدة:19]، أيضًا أنها في اليهود والنصارى هذا لا إشكال فيه، في الموضعين يعم اليهود والنصارى.
مداخلة (الطالب): بدل أغرينا تكون يَا أَهْلَ الْكِتَابِ [المائدة:15]؟
الشيخ: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ [المائدة:15] تكون الآية: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ [المائدة:19].
وهذا يؤيد أن المقصود يَا أَهْلَ الْكِتَابِ [المائدة:15] ويتحدث عن هذا؛ لأن سبب النزول المذكور هو يتعلق بقوله: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ [المائدة:15] هذا في الطبعة الأولى وفي نسخة البيان، وهذا سبب النزول الذي ذكره تجدون لفظه في تفسير ابن جرير قد أخرج هذه الرواية[11]، لكنها لا تصح هي عن ابن عباس -ا- عن طريق محمد بن أبي محمد.
فالحاصل أن القول بأنه سبب النزول هذا لا يثبت، لا يثبت ما ذكره من أنها نزلت بسبب اليهود الذين كانوا بالمدينة إلى آخره.
ذكر ابن جرير -رحمه الله- بأن المراد أنه يترك ويعفو عن كثير[12]، يعني يترك أخذكم بكثيرٍ مما كنتم تخفون من كتابكم الذي أنزله الله عليكم، فلا تعملون به حتى يأمره الله بأخذكم به، يَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ [المائدة:15] يتجاوز عن هذا الترك، ترك العمل بكتابكم ما تخفونه منه مثل الزاني المحصن، وهكذا ذكر ابن كثير بأنه يسكت عن كثيرٍ مما غيروه ولا فائدة في بيانه، يُبَيِّنُ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ [المائدة:15] يترك بعض ذلك، وإنما يذكر الأهم مثلاً وما يتبين به الكتمان، -والله أعلم-.
هنا جمع بين المعنيين ابن جرير -رحمه الله- يقول: بأنه محمد ﷺ جاءكم من الله نورٌ[13]، وَكِتابٌ مُبِينٌ [المائدة:15] لا شك أنه القرآن، وهنا فسر ذلك النور يعني بمحمد ﷺ لم يجمع بين القولين، لكن ابن جرير يقول بأن النور هو محمد ﷺ، وابن كثير يقول: بأن النور هو القرآن[14]، يعني هذه أوصاف له.
وبعضهم يقول: بأن النور هو الإسلام، القول بأنه الإسلام أو القرآن هذا اختلاف تنوع؛ لأن الإسلام إنما يؤخذ من القرآن فالقرآن هو كتاب الإسلام لا إشكال، لكن القول بأنه النبي ﷺ، أو بأنه القرآن هذا اختلاف تضاد، لكن هل يمكن أن تجتمع هذه الأقوال؟
الجواب: نعم يمكن باعتبار الملازمة بينهم، فالذي جاء بالقرآن هو النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-، قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ [المائدة:15] والله قد وصف القرآن بأنه نور، وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا [الشورى:52] فيصدق ذلك على القرآن، وكذلك من جاء بهذا القرآن فلا شك بأنه نور، والله وصف النبي ﷺ بأنه سراج منير، أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا [الأحزاب:45-46].
قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ [المائدة:17] فهذا يكون رد على الذين قالوا: إن الله هو عيسى، وهم طائفة من النصارى قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ [المائدة:17] الملك يُقال للقدرة، والتصرف المطلق، والضبط، والحفظ تقول: ملكت على فلان أمره، يعني صار لك قدرة عليه لذلك يُقال: ملك على أمره، ونحو ذلك فمن يقدر يعني المعنى فمن يقدر أن يمنع، فمن يملك فمن يقدر أن يمنع، تقول: أنا لا أملك أن أفعل ذلك يعني لا أقدر عليه قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ [المائدة:17] هذا ذكره بعد قوله: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ [المائدة:17] هذا قول طائفة منهم، وبعضهم يقول: هو ابن الله.
لا يقصدون هنا بنوة مثل ما ادعوا في المسيح ، أو ادعى اليهود بعُزير، لكن يعني بنوة الحنان والرأفة، يعني كما قال ابن كثير -رحمه الله-: نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ: "أي نحن منتسبون إلى أنبيائه وهم بنوه، وله بهم عناية وهو يحبنا"[15].
هنا ذكر عبارة صاحب الكشاف في الحاشية قالت اليهود والنصارى: نحن أبناء الله، الأشياع ابني لله: عُزير والمسيح، كما قيل لأشياع أبي خبيب وهو عبد الله بن الزبير : الخبيبيون وكما كان يقول رهط مسيلمة: نحن أنبياء الله، يعني أنهم أتباع نبي، ويقول أقرباء الملك وذووه وحشمه: نحن الملوك، وإذا قال مؤمن آل فرعون: لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ [غافر:29]، وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ [المائدة:18]، لا يدعون البنوة بالمعنى الذي نسبوه للمسيح .
قولهم: بأنهم لا يعذبون إلا بقدر عبادتهم أيام معدودة، يعني بقدر عبادتهم العجل المدة التي عبدوا فيها العجل يعذبون فيها أيامًا معدودات، وهذا الذي اختاره ابن جرير[16].
فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ [المائدة:18] "ردٌ عليهم بأنهم قد اعترفوا أنهم يدخلون النار أيامًا معدودات،" يعني بقدر عبادتهم العجل، ابن كثير -رحمه الله- قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ [المائدة:18] يعني فلما أعد لكم نار جهنم على كفركم؟ يعني لو كنتم كما تقولون: إنكم أحباب الله[17]، فلما يعذبكم؟ يقول: "منه أخذ الصوفيون أن المحب لا يعذب حبيبه" لو كنتم أحباب الله لم يعذبكم، لكن من الذي يستطيع أن يثبت أنه كذلك؟ ولا تكون محبة الله وتتحقق للعبد إلا إذا كان في حالة من الإيمان والتقوى، واتباع النبي ﷺ، إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ [آل عمران:31] والحكم المعلق على وصف يزيد بزيادته وينقص بنقصانه، فيكون للعبد من محبة الله بقدر ما عنده من المتابعة، فيقول: إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ [آل عمران:31] فالحكم يحببكم الله، والوصف الاتباع، فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ [آل عمران:31] فبقدر الاتباع تكون محبة الله للعبد.
وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا [المائدة:20] قيل: جعل منكم ملوكًا يعني على تقدير منكم، جعلكم ملوكًا يعني "جعل منكم ملوكًا، وقيل: الملك من له مسكن وامرأة وخادم" يعني أنه يكون مستغنيًا بذلك، قد جاء عن ابن عباس -ا-: "كان الرجل من بني إسرائيل إذا كانت له الزوجة، والخادم، والدار سُمي ملكًا"[18]، يعني أن هذا كان معروفًا عندهم يعني في هذا الإطلاق والتسمية، وجاء في صحيح مسلم أن رجلاً قال لعبد الله بن عمرو -ا-: "ألسنا من فقراء المهاجرين؟ قال: ألك امرأة تأوي إليها؟ قال: نعم، قال: ألك مسكن تسكنه؟ قال: نعم، قال: فأنت من الأغنياء، قال: إن لي خادمًا، قال: فأنت من الملوك"[19].
وجاء عن قتادة أيضًا: "بأن بني إسرائيل كانوا أول من اتخذ الخدم"[20]، وهذا القول بأن المراد وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا [المائدة:20] يعني هذه الثلاثة: المسكن، والمرأة، والخادم هذا مروي عن كثير من السلف كابن عباس، وابن عمرو كما سبق، ومجاهد، والحسن، والحكم[21].
وجاء عن قتادة: "سخر لكم خدمًا وحشمًا"[22]، وهو نفس المعنى، واختار هذا ابن جرير -رحمه الله-[23].
وبعضهم يقول: وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا [المائدة:20] يعني سيركم أحرارا تملكون أمركم بعدما كانوا مستعبدين عند فرعون، وهذا قال به السدي[24]، واختاره القرطبي[25]، يعني جعلكم تملكون أمركم بعد أن كنتم مستعبدين لفرعون.
وبعضهم عمم المعنى يعني أن ذلك يشمل كل ما ذُكر، صاروا يملكون أمرهم، وصار لهم من الخدم والحشم وإلى آخره، فسُموا بذلك.
وبعضهم يقول: المراد وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا [المائدة:20] يعني صار لكم منازل لا يُدخل عليكم إلا بالإذن، تُستأذنون بخلاف من لا شأن له، وابن عاشور -رحمه الله-[26] يرى أن ذلك جميعًا يدخل في المعنى وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا [المائدة:20] فكان فيهم الملوك، قول من قال بأن هنا من قدره منكم ملوكًا، وكذلك أيضًا ما صار لهم من الرفعة والمنزلة، وصاروا يملكون أمرهم بعد الاستعباد، وكذلك صار لهم من الخدم ونحو ذلك، مما ذُكر، -والله أعلم-.
وَآتَاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعالَمِينَ [المائدة:20] كما قال الله : وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ [الجاثية:16] فهذا الإيتاء دخل فيه الكتاب والحكم والنبوة إضافةً إلى ما رزقهم من الطيبات، ويدخل فيها المن والسلوى وغير ذلك، وذكر الحافظ ابن كثير -رحمه الله- أن هذه الأمة أكرم، وأشرف، وأفضل، وأكمل شريعةً، وأقوى منهاجًا، وأكرم نبيًا، وأعظم ملكًا، وأغزر أرزاقًا، وأكثر أموالاً وأولادًا، وأوسع مملكةً، وأدوم عزًا، وتخصيص ذلك ولهذا ابن كثير -رحمه الله- يرى أن ذلك مخصص بأهل زمانهم[27]، يعني أن المراد: وَآتَاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعالَمِينَ [المائدة:20] أنه من قبيل العام المراد به الخصوص، يعني آتَاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعالَمِينَ [المائدة:20] من عالم زمانكم، فضلهم عليه بأن هذه الأمة أفضل منهم، لكن من قال: بأن المراد بذلك كثرة الأنبياء فيكون على ظاهره أنه عام المراد به معنى العموم المطلق، يعني حتى هذه الأمة؛ لأنه لم يكن فيها من الأنبياء مثل ما كان في من قبلها من الأمم، لكن المشهور الذي كان عليه أكثر أهل العلم، والذي أيضًا اختاره الشنقيطي -رحمه الله- أن المقصود بذلك عالم زمانهم[28].
الأرض المقدسة التقديس يعني التطهير مع التعظيم، يعني تقول: هذا مقدس، فهو يدل على الطهارة، وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ [البقرة:30] فالتقديس يعني التطهير والتنزيه وزيادة، ليس مجرد التطهير قدوس السلام، ما معنى القدوس؟ بعضهم قال: الطاهر من كل عيب، والسلام السالم من كل عيب، وبعضهم قال: هذا في الزمن الماضي وهذا في الحاضر والمستقبل، لكن كلمة التقديس تدل على تطهيرٍ مع تعظيم، مقرون بتعظيم، -والله تعالى أعلم-.
فالأرض المقدسة مطهرة معظمة كما قال الواحدي[29]، باعتبار أنها طُهرت مثلاً من الشرك.
وبعضهم يقول: الأرض المقدسة يعني المباركة، يعني: أرض بيت المقدس، وهذا المروي عن ابن عباس، والسدي، وابن زيد، والضحاك، واختاره ابن كثير[30]، ومن المعاصرين الشنقيطي[31]، وأيضًا الشيخ عبد الرحمن بن سعدي[32].
وبعضهم ذكر معنى أعم من هذا، مثل الطاهر بن عاشور قال: "هي فلسطين"[33].
وبعضهم يقول: بأنها أريح، يقول: "وقيل الطور" يعني وما حوله، طور ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ [المائدة:21] بالطور، "وقيل: دمشق" وهذا قال به الواحدي[34].
وبعضهم يقول: دمشق وفلسطين، وبعض الأردن، يعني كأنه يقول: الشام؛ ولهذا صرح بعضهم فقال: الشام هي الشام.
وبعضهم يقول: ما بين العريش إلى الفرات الأرض المقدسة، تعلمون أن هؤلاء اليهود الأنشودة التي يرددونها كل صباح في طلاب المدارس:
حدودك يا إسرائيل من الفرات إلى النيل.
ولذلك يقولون: بأن الشعار الموجود في العلم الخطين الأزرقين الفرات والنيل وبينهما نجمة داوود، هذه مملكتهم مملكة داوود كما يزعمون، نسأل الله أن يخيبهم ويخيب آمالهم.
إذن المشهور أن الأرض المقدسة التي أمروا بدخولها هي بيت المقدس، فوجدوا فيها الجبارين، ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ [المائدة:21] أنها بيت المقدس، -والله تعالى أعلم-.
بعضهم يقول: إنه قضى ذلك على لسان يعقوب، أن ذلك كان على لسان يعقوب، يعني أنها تكون موروثة لمن آمن منهم، وهذا قاله ابن كثير -رحمه الله-[35].
مداخلة: المراد هنا القضاء القدري؟
الشيخ: يُحتمل، هؤلاء لم يدخلوها، لكن صار لهم دخول بعد ذلك بعد موسى ، لما أبوا وحُرمت عليهم أربعين سنة دخلوا بعد ذلك، فيكون الكَتْبُ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ [المائدة:21] فتحقق ذلك الدخول ليس بشيءٍ ثابتٍ لهم، لذلك جاء بختنصر وخرب بيت المقدس وأخذ خيار بني إسرائيل إلى العراق كما هو معلوم، حصل لها خرابٌ آخر أيضًا.
ويحتمل أن الكتب هنا كتبٌ شرعي، الكتب يأتي بمعنى هذا وهذا، فقوله -تبارك وتعالى-: كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ [المجادلة:21] هذا كتبٌ قدري كوني، كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ [البقرة:216]، كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ [البقرة:183] ونحو ذلك هذا كتبٌ شرعي فالكتب يأتي بمعنى هذا وهذا، فيحتمل هنا أن يكون الكتب شرعي، بمعنى أن الله : كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ [المائدة:21] يعني أمركم وألزمكم بدخولها، فأمرهم موسى أن يدخلوا أرض الجبارين فامتنعوا وقالوا: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ [المائدة:24].
كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ [المائدة:21] فهذا يحتمل باعتبار أنهم امتنعوا، فكونه كتبًا شرعيًّا لا يلزم من تحقق الوقوع، وحمله على هذا كأنه والله أعلم أقرب، لكن هذا القول -بأنه لو قلنا بأن الاحتمال الآخر كتبٌ قدري يكون قد تحقق مقتضاه- يعني لا يلزم منه الدوام والاستمرار بدليل الواقع والتاريخ، أنهم أُخرجوا منها مرارًا ولم يكن لهم فيها بقاء، لو كان كتبًا قدريا لم يتحول، وهذا واضح، يعني يرد أن المراد به الكتب الدائم الثابت الأزلي القدري، هذا لابد أن يتحقق، فإما أن نقول: بأنه تحقق مقتضاه حينما دخلوه ولا يلزم منه الدوام؛ لأن الواقع يدل على ذلك، والله يقول: إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [الأعراف:128]، قال لهم ذلك على لسان موسى ، الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ [المائدة:21] صرح بعض أهل العلم أن المراد بذلك: أن الأمر به كأمرنا بالصلاة والزكاة، يعني يكون الكَتْبُ شرعيا وهذا كأنه أقرب، -والله تعالى أعلم-، مع الاحتمال الآخر، لكن الاحتمال بينت محمله الاحتمال الآخر وارد، لكن يكون محمله على ما ذكرت، -والله أعلم-.
يعني يُأمرون أحدهم ويرجعون إلى مصر مرةً أخرى -نسأل الله العافية- للاستعباد والقهر والذل الذي كانوا فيه، والنفوس التي نشأت على الذل وألفته لربما عز عليها مفارقته، -نسأل الله العافية-.
وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ [المائدة:21] يعني لا تنكلوا عن جهادهم وترجعوا القهقرة، فتخسروا دنياكم بما يفوتكم من النصر على الأعداء وفتح البلاد، وتخسروا آخرتكم مما يفوتكم من الثواب وما تستحقون من العقاب، لا تنكلوا يعني لا ترجعوا عن جهاد هؤلاء، وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ [المائدة:21] يعني بالرجوع عن جهادهم، وهذا الذي اختاره ابن كثير -رحمه الله-[36]، يعني ليس المقصود الرجوع عن الدين في أصله، وإنما وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ [المائدة:21] فتنكلوا عن جهاد عدوكم، والرجوع وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ [المائدة:21] رجوع على الأدبار يُقال للمنهزم، والناكص ونحو ذلك؛ لأن المنهزم يولي دبره وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ [الأنفال:16] ولهذا يقولون: بأن المنهزم يُصاب في قفاه، والمقدم الشجاع يصاب في مقدم جسده، قد جاء عن ابن الزبير أنه تمثل لما أصابه حجر المنجنيق، ووجد حرارة الدم على قدميه أنه تمثل بهذا البيت:
ولسنا على الأعقاب تدمى كلومنا | ولكن على أقدامنا تقطر الدم[37] |
فالمنهزم يسيل دمه على عاقبيه، والعقب مؤخر الرجل، بخلاف الشجاع فتقطر دمائه على قدميه، وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ [المائدة:21].
هنا نهاية الثُمن الآخر الآن أنهينا ربعين، كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ [المائدة:21-22] إلى هنا هذا الثمن.
- تفسير الطبري (8/238).
- تفسير ابن كثير (3/64).
- تفسير ابن عطية (2/167).
- انظر: تفسير ابن كثير (3/64).
- البداية والنهاية (3/161).
- تفسير ابن كثير (3/66).
- تفسير ابن كثير (3/66).
- تفسير ابن كثير (1/383).
- تفسير ابن كثير (3/67).
- تفسير ابن كثير (3/67).
- تفسير الطبري (8/274).
- تفسير الطبري (8/263).
- تفسير الطبري (8/262).
- تفسير الطبري (8/264).
- تفسير ابن كثير (3/68).
- تفسير الطبري (8/271).
- تفسير ابن كثير (3/68).
- تفسير ابن كثير (3/73).
- أخرجه مسلم، في أوائل كتاب الزهد والرقائق، برقم (2979).
- تفسير ابن كثير (3/73)، والدر المنثور في التفسير بالمأثور (3/46).
- انظر: تفسير ابن كثير (3/72-73)، والدر المنثور في التفسير بالمأثور (3/46).
- انظر: تفسير الطبري (8/278).
- تفسير الطبري (8/278).
- تفسير البغوي (3/35)، وتفسير القرطبي (6/123).
- تفسير القرطبي (6/123).
- التحرير والتنوير (13/190).
- تفسير ابن كثير (3/74).
- أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (7/198).
- الوجيز للواحدي (ص:314).
- تفسير ابن كثير (1/273).
- العذب النمير من مجالس الشنقيطي في التفسير (1/111).
- تفسير السعدي (ص:227).
- التحرير والتنوير (6/162).
- التفسير الوسيط للواحدي (2/172).
- تفسير ابن كثير (3/75).
- تفسير ابن كثير (3/75).
- انظر: شرح ديوان الحماسة (ص:146)، ونهاية الأرب في فنون الأدب (21/140)، والوساطة بين المتنبي وخصومه ونقد شعره (ص:382).