الخميس 24 / جمادى الآخرة / 1446 - 26 / ديسمبر 2024
(004-أ) من قوله تعالى (مِنْ أَجْلِ ذَٰلِكَ كَتَبْنَا..) الآية 32 – إلى قوله (أَوْ يُنفَوْا مِنَ الْأَرْضِ) الآية 33
تاريخ النشر: ٢٨ / محرّم / ١٤٣٩
التحميل: 754
مرات الإستماع: 679

الحمد لله الذي هدانا للإسلام، وعلمنا الحكمة والقرآن، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد، وعلى آله وصحابته الطيبين الطاهرين.

اللهم اغفر لنا ولوالدينا ولشيخنا والحاضرين والمستمعين، أما بعد:

فيقول الإمام ابن جزي عند قوله تعالى:

"مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ [المائدة:32] يتعلق بـكَتَبْنَا وقيل: بـالنَّادِمِينَ [المائدة:31] وهو ضعيف".

قوله: "مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ [المائدة:32] يتعلق بـكَتَبْنَا" يعني أن يكون ذلك تعليلاً للكتب مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ [المائدة:32] فيكون متعلقًا بفعلٍ بعده، يعني لماذا كان ذلك الكتْب عليهم وهو أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا [المائدة:32]؟ كتبه من أجل ما وقع من قتل ابن آدم لأخيه، يقول: "وقيل: بـالنَّادِمِينَ" يعني فأصبح من النادمين مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ [المائدة:32] يعني لماذا ندم؟ من أجل ذلك ندم، حينما وقع له ما وقع من قتل أخيه، ثم بعد ذلك تحير كيف يصنع بجثته حتى جاء ذلك الغراب، فأعلمه، فندم من أجل ذلك، فعلى هذا يكون سياق الكلام هكذا: فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ  [المائدة:31] مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ [المائدة32] هكذا التقدير، لكن هذا بعيد، فالظاهر -والذي عليه عامة أهل العلم- أن ذلك تعليلٌ للكتْب، ولله أعلم.

"كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ [المائدة:32] أي: فرضنا عليهم، أو كتبناه في كتبهم".

الكتْب -كما هو معلوم- يأتي بمعنى الكتابة، ويأتي بمعنى الفرض، كقوله: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ [البقرة:216]، وكقوله: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ [البقرة:183] سواء كان ذلك الكتْب شرعيًا، كما في الأمثلة التي ذكرتها، أو كان كونيًا قدريًا كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ [الحج:4] وكقوله: كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي [المجادلة:21] هذا كتبٌ كوني.

وقوله هنا: "كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ [المائدة:32] يعني: فرضنا، أو كتبناه في كتبهم" إذا كان كتبه في كتبهم لا يكون ذلك مما أُلزموا به، وفُرض عليهم، وغالبًا إذا كان قد فُرض عليهم، أي يكون ذلك في كتبهم أيضًا، والله أعلم.

وخص بني إسرائيل هنا بالذكر بعض أهل العلم يقول: لأن السياق والمقام هنا إنما هو في تعديد جنايتهم، فخصهم بذلك، ويحتمل أن يكون لكثرة ما يقع منهم من القتل، يقتلون الأنبياء فمن دونهم، وإلا فإن ذلك لا يختص ببني إسرائيل، وأما من قال: بأن القصة المذكورة في ابني آدم إنما هي في بني إسرائيل، في رجلين من بني إسرائيل، وليس ابني آدم من صلبه، فهذا سبق الإشارة إليه، فتكون الجناية وقعت في بني إسرائيل، فكتب عليهم بسبب ذلك، لكن قلنا: بأن هذا غير صحيح.

"بِغَيْرِ نَفْسٍ [المائدة:32] معناه: من غير أن يقتل نفسًا يجب عليه القصاص".

معلوم أنه لا يحل دم مسلم إلا بإحدى ثلاث، ومنها: النفس بالنفس.

"أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ [المائدة:32] يعني: الفساد الذي يجب به القتل كالحرابة".

كما قال الله في المحاربين: أَنْ يُقَتَّلُوا [المائدة:33] يعني أن يكون هذا القتل بغير جنايةٍ توجبه.

"فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا [المائدة:32] تمثيل قاتل الواحد بقاتل الجميع يُتصور من ثلاث جهات:

إحداها: القصاص، فإن القصاص في قاتل الواحد والجميع سواء.

الثانية: انتهاك الحرمة، والإقدام على العصيان.

والثالثة: الإثم، والعذاب الأخروي، قال مجاهد: وعد الله قاتل النفس بجهنم والخلود فيها، والغضب واللعنة والعذاب العظيم، فلو قتل جميع الناس لم يزد على ذلك، وهذا الوجه هو الأظهر؛ لأن القصد بالآية: تعظيم قتل النفس، والتشديد فيه؛ لينزجر الناس عنه، وكذلك الثواب في إحيائها كثواب إحياء الجميع؛ لتعظيم الأمر، والترغيب فيه، وإحياؤها: هو إنقاذها من الموت، كإنقاذ الحريق، أو الغريق، وشبه ذلك، وقيل: بترك قتلها، وقيل: بالعفو إذا وجب القصاص".

قوله: فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا [المائدة:32] يرد سؤال وهو: كيف يكون قتْل النفس الواحدة بمنزلة قتل جميع الناس؟ فذكر هذه الأجوبة الثلاث، وهي أجوبة لسؤالٍ مُقدر، فأول هذه الأجوبة: القصاص، بمعنى لو أن أحدًا قتل نفسًا واحدة، وآخر قتل أهل بلد، أو قتل جميع الناس، فما حكمه؟ يُقتص من الذي قتل الواحد، والذي قتل العشرة، والذي قتل الألف، يُقتص منهم جميعًا، فاستويا من هذه الحيثية، لا من حيث الإثم على هذا الجواب.

الجواب الثاني: قال: "انتهاك الحرمة، والإقدام على العصيان" يعني: باعتبار أن النفس الواحدة في ذلك وجميع الأنفس سواء، لا فرق كلها محرمة، والمنتهك لواحدةٍ منها ملحوظ بانتهاك جميع الأنفس، فهذا الذي لم يُحرم هذه النفس وانتهك حرمتها لا فرق بين نفسٍ ونفس، فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا [المائدة:32] فالحرمة واحدة، فانتهكها، فلا فرق بين نفسٍ ونفس بهذا الاعتبار، كما قال ابن كثير -رحمه الله-: لأنه لا فرق عنده بين نفسٍ ونفس[1]، فيمكن أن يقتل هذا أو هذا، وفي مقابل هذا أن من حرم قتلها ولم يقدم عليه فقد أحيا جميع النفوس، وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا [المائدة:32] فهذان متقابلان.

وبعضهم يقول: بأن قوله: فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا [المائدة:32] المقصود به من قتل نبيًا، أو إمامًا عادلاً، وفي مقابل ذلك لو عضده، لكن هذا بعيد، ولا دليل عليه.

مَنْ قَتَلَ نَفْسًا [المائدة:32] النفس هنا نكرة في سياق الشرط، فهي للعموم، وبعضهم نظر إلى الجزاء الأخروي، وهذا الجواب الثالث، حيث قال: "الإثم والعذاب الأخروي" يعني كما ذكر عن مجاهد -رحمه الله-[2].

قال: "وعد الله قاتل النفس بجهنم، والخلود فيها، والغضب واللعنة، والعذاب العظيم" يعني لو قتل واحدًا حق عليه ذلك، لو قتل اثنين كذلك، لو قتل ألف كذلك، فتقع عليه اللعنة، ودخول النار، فهذا بالنسبة للجزاء والعذاب الأخروي.

وجاء عن سعيد بن جُبير -رحمه الله- بأن من استحل دم مسلم فكأنما استحل دماء الناس جميعًا، ومن حرم دم مسلم، فكأنما حرم دماء الناس جميعًا[3]، هذا جواب متجه، وكأنه أليق، والله تعالى أعلم، وهو موافق لقول من قال: بأن ذلك باعتبار انتهاك الحرمة، وهو الجواب الثاني.

قال: "وكذلك الثواب في إحيائها، كثواب إحياء الجميع؛ لتعظيم الأمر، والترغيب فيه، وإحياؤها: هو إنقاذها من الموت، كإنقاذ الحريق، أو الغريق، وشبه ذلك، وقيل: بترك قتلها، وقيل: بالعفو إذا وجب القصاص"، أو دفع الصائل، فإذا قلنا: بأن ذلك في انتهاك الحرمة، يكون إحيائها بترك قتلها، فيكون فكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا [المائدة:32] يعني: بمعنى أنه إذا التزم ذلك، وامتنع من القتل لحرمة الأنفس سلم منه جميع الأنفس، وإذا لم يُبالِ فإنه ينتهك هذه الحرمة، ولا فرق عنده بين نفسٍ ونفس، وهذه الأجوبة التي ذكرها ابن جُزي ليست بمستبعدة، فكلها قريب، لكن ما ذكرته كأنه أقرب -والله تعالى أعلم-، باعتبار أن من حرم قتلها ولم يُقدم عليه، فقد أحيا الناس جميعًا بسلامتهم منه، ومن أقدم فقتل نفسًا فهو مهدد لكل الأنفس.

وإن كان بالنسبة للدنيا فالقِصاص واحد، وإن كان بالنسبة للآخرة فهو يقصد بذلك ما ذُكر وما رتُب بعده من قوله: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا [النساء:93] فهذا لو قتل واحدًا حقت عليه هذه الأمور.

فقاتل الواحد وقاتل الألف لا فرق من هذه الحيثية، لكن لا شك أن عذاب أهل النار يتفاوت، فقاتل النفس ليس كقاتل النفسين، والثلاث، وهكذا، لكن المقصود جنس العذاب، وما تُوعد به أن ذلك متحقق فيه، والله أعلم.

لكن هذه الأجوبة -كما سبق- هي ليست بمستبعدة، لماذا؟ لأنه نزله منزلة من قتل الناس جميعًا فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا [المائدة:32] فهذا يحتمل أن يكون في الجزاء الدنيوي، باعتبار أن القصاص واحد، لكن هل هذا هو المراد في سياقٍ كهذا يُقصد به تعظيم حرمة الأنفس، وتشنيع الجناية عليها بالقتل؟ يعني أن جزاءه هو القصاص قتل واحدًا أو قتل جماعةً، هل هذا هو المقصود من الزجر؟ من هذه الحيثية يستبعد هذا الجواب، وإن كان له وجه، باعتبار التساوي في ذلك.

وكذلك القول بأن ذلك في الجزاء الأخروي من اللعنة... إلى آخره، هل هذا مقصود فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا [المائدة:32]؟ يعني باعتبار أنه تحق عليه اللعنة، ويستوي قاتل الواحد وقاتل الجماعة؟ كأن هذا يستبعد، يعني من جهة المقصود في الآية، لماذا سيقت؟ هي سيقت للزجر، وتعظيم قتل الأنفس، وبيان حرمة النفس، ونحو ذلك، فكأنه يقول -والله أعلم-: بأن المنتهك للنفس الواحدة كالمنتهك لجميع الأنفس؛ لأنه تجاوز ما حد الله، وأقدم على قتلها، فلا فرق بين نفس ونفس عنده، وهكذا من أحياها فكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا [المائدة:32] بترك قتلها، فيسلم الناس منه جميعًا مثلاً، لكن لا يستبعد أن يكون إحياء ذلك بالعفو عن القصاص، وكذلك أيضًا بإنقاذه من هلكةٍ محققةٍ، فهذا ليس ببعيد، وقد يكون ذلك جميعًا مرادًا بإحيائها، ولا يبعد أيضًا أن يقال: بأن ذلك قد يراد بقتل الأنفس جميعًا في الجزاء الأخروي، ومن حيث القصاص منه، والجزاء الدنيوي، والجزاء في الآخرة، وفي الدنيا، وكذلك في عمله الذي أقدم عليه وهو منتهك لحرمة جميع الأنفس، هذا كله مما تحتمله الآية، ولا دليل على تحديد واحد من هذه المعاني.

"وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ [المائدة:32] الضمير لبني إسرائيل، والمعنى تقبيح أفعالهم، وفي ذلك إشارةٌ إلى ما همّوا به من قتل رسول الله ﷺ".

وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ [المائدة:32] يقول: "في ذلك إشارة إلى ما هموا به من قتل النبي ﷺ" الإشارة في قوله: بَعْدَ ذَلِكَ [المائدة:32] فمن إسرافهم بعد ذلك محاولتهم قتل النبي ﷺ، لكن العلماء يذكرون هذا عادةً في تعليل التعبير بالفعل المضارع في وصف بني إسرائيل بأنهم يقتلون الأنبياء، عبّر بالفعل المضارع إما لتصوير الحالة الماضية بصورة الواقع، كأنك تشاهده؛ لتشنيع وتقبيح هذا الفعل، أو قالوا: بأن ذلك مستمر منهم، فقد حاولوا قتل النبي ﷺ، ووضعوا له السم، وحاولوا قتله، كما رُوي بإلقاء الحجر، أو الرحى عليه، وإن كانت الرواية في ذلك لا تصح من جهة الإسناد.

"إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [المائدة:33] الآية، سببها عند ابن عباس: أن قومًا من اليهود كان بينهم وبين رسول الله ﷺ عهدٌ، فنقضوا العهد، وقطعوا السبيل[4]، وقال جماعةٌ: نزلت في نفرٍ من عُكلٍ وعُرينة، أسلموا، ثم إنهم قتلوا راعي النبي ﷺ، وأخذوا إبله، ثم حكمها بعد ذلك في كل محارب".

إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [المائدة:33] المحاربة فسرها ابن كثير -رحمه الله- بالمضادة والمخالفة، وقال: هي صادقةٌ على الكفر، وعلى قطع الطريق، وإخافة السبيل[5]، والمقصود هنا هو الأخير وهو الكفر، فلا شك أنه محاربة، لكن هذه الآية -والله أعلم- ما سيقت لبيان عقوبة الكافر، وإنما قاطع الطريق، والذي يخيف السبيل، ونحو ذلك، فهذا حد الحرابة، وهو حدٌ خاص على جنايةٍ معينة، وليس المقصود بذلك الكفار من المحاربين، فالكفار منهم: المحارب، ومنهم المهادن، ومنهم المعاهد، ومنهم الذمي، فهم يختلفون، فليس المقصود هنا الكفار من المحاربين، وإنما أصحاب جنايات رُتب عليها هذا الحد.

قال: "الآية سببها عند ابن عباس: أن قومًا من اليهود كان بينهم وبين النبي ﷺ عهد، فنقضوا العهد، وقطعوا السبيل"[6]، هذا ثابت عن ابن عباس -ا- عن طريق ابن أبي طلحة، لكن ليس فيه ذكر سبب النزول، يعني أنها نزلت بسبب هذا، لكن وقع ذلك من بعض اليهود، فكانوا من جملة المحاربين، لكن كما تعلمون أن سبب النزول هو ما نزلت الآية، أو الآيات، أو السورة متحدثةً عنه أيام وقوعه من واقعةٍ، أو سؤال.

فقول ابن عباس -ا- لم يصرح فيه بأنه سبب النزول، قال فيه: "فخيّر الله رسوله إن شاء أن يقتل..." إلى آخره، فهذه العبارة ليست من العبارات المعروفة في صيغ سبب النزول الصريح، ولا غير الصريح، فالعبارات التي يذكرها أهل العلم غير الصريح يقولون: نزلت أهل الآية في كذا، في نفرٍ من اليهود، والصريح أن يذكر الواقعة، فيقول: فنزلت الآيات، أو نزلت الآية، أو فأنزل الله، أو سبب نزول هذه الآية كذا، لكن هنا: "فخير الله رسول إن شاء أن يقتل" فهذا يحتمل أن يقصد به سبب النزول "فخير" لأن الفاء تدل على ترتيب ما قبلها، فخيره لذلك، لكن قد تكون الآية نازلة قبل، فابن عباس -ا- يخبر عن حكم هؤلاء، وأن هذا التخيير كان بآيةٍ قد نزلت في كتاب الله -تبارك وتعالى-، ويحتمل أن يكون هذا التخيير بإنزال هذه الآية بسببهم، على كل حال هذه صيغة مغايرة للصيغ المعروفة، التي يذكرها العلماء في أسباب النزول، وتجد حينما تتتبع بدقة ولطافة نظر في الصيغ والروايات الواردة تجد بعض ما يخرج عما يُذكر كثيرًا.

يقول: "وقال جماعةٌ: نزلت في نفرٍ من عُكلٍ وعُرينة" هؤلاء قبائل الذين قتلوا الراعي، وأخذوا الإبل، وهذا الحديث هو حديث أنس ، مخرج في الصحيحين[7]، لكن ليس فيه التصريح أنها نزلت في هؤلاء، لكن أصل القصة في قتل الراعي، وأخذ الإبل ثابتة في الصحيحين.

لكن في سنن أبي داود[8]، والنسائي[9]، وهكذا عند الإمام أحمد[10]، وفيه: "فبلغنا أنَّ هذه الآية نزلت فيهم: إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [المائدة:33]" وهذا إسناده صحيح، وعرفنا أن هذه الصيغة ليست من قبيل الصريح، وجاء نحو هذا عن ابن عمر، وأبي هريرة، وجرير ، فلو فُرض أن هذه أُريد بها أسباب النزول، وأنها نزلت في هؤلاء الذين قتلوا الراعي، وسملوا عينيه، وأخذوا الإبل، أو في اليهود، لو فرض أن هذا كله يُراد به أسباب النزول، فيمكن أن يقال: بأن ذلك إن كان وقع في وقتٍ متقارب فتكون الآية نزلت بعد هؤلاء جميعًا، وإن كان الوقت متباعدًا ونحن لا نعلم، فيكون ذلك من قبيل تكرر النزول، لكن لا نجزم بهذا؛ لأن الصيغ المذكورة غير صريحة، فيحتمل أن ذلك يراد به جميعًا التفسير، فكل ذلك داخلٌ فيه، يعني ما وقع لهؤلاء اليهود، وما وقع مع هؤلاء من عُكلٍ وعُرينة.

"والمحاربة عند مالك هي: حمل السلاح على الناس في بلدٍ، أو في خارج بلد[11]، وقال أبو حنيفة: لا يكون المحارب إلا خارج البلد[12]".

يقول: "المحاربة عند مالك هي: حمل السلاح على الناس في بلدٍ، أو في خارج بلد، وقال أبو حنيفة: لا يكون المحارب إلا خارج البلد" وجاء عن ابن عباس -ا- من طريق ابن أبي طلحة أيضًا: من شهر السلاح في فئة الإسلام، وأخاف السبيل، ثم ظفر به، وقُدر عليه، فإمام المسلمين في الخيار، إن شاء قتله، وإن شاء صلبه، وإن شاء قطع يده ورجله[13]، وبهذا قال أيضًا جماعة من السلف، كابن المسيب، ومجاهد، والحسن، والنخعي، والضحاك[14]، فذكر هنا وصفين: شهر السلاح في فئة المسلمين، وأخاف السبيل، يعني بمجموع الوصفين، وإخافة السبيل لا تكون إلا خارج البلد، وهذا هو المشهور، بأن المحاربين هم من كان خارج البلد لإخافة السبيل.

"وقوله: يُحَارِبُونَ اللَّهَ [المائدة:33] تغليظٌ ومبالغة، وقال بعضهم: تقديره يحاربون رسول الله ﷺ وذلك ضعيف؛ لأن الرسول -عليه الصلاة والسلام- قد ذُكر بعد ذلك، وقيل: يحاربون عباد الله، وهو أحسن".

قوله: يُحَارِبُونَ اللَّهَ [المائدة:33] يقول: "تغليظٌ ومبالغة" يعني كأن القائل استشكل كونهم يحاربون الله؛ لأن الخلق أضعف من ذلك، "وقال بعضهم: تقديره يحاربون رسول الله" وهذا غلط؛ لأنه قال: يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [المائدة:33] لكن ما ذكره من أنه "تغليظٌ ومبالغة" باعتبار أن الذين يحاربون رسول الله ﷺ محاربين لله، والذين ينتهكون حدود الله ، ويخيفون السبيل، وينتهكون الأنفس المعصومة، والأموال المعصومة هم في الواقع محاربون لله.

يقول: "وقال بعضهم: تقديره يحاربون رسول الله ﷺ وذلك ضعيف؛ لأن الرسول -عليه الصلاة والسلام- قد ذُكر بعد ذلك، وقيل: يحاربون عباد الله، وهو أحسن" والواقع أن أولئك يبارزون الله ورسوله بالكفر، والعداوة، والجراءة على حدوده استكبارًا وعنادًا، فهذا لا إشكال أن يقال معه: بأنهم يحاربون الله ورسوله.

كما ذكر الله في سخرية المنافقين واستهزائهم بالقراء، حيث قالوا: ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء، أحرص على البطون، وأجبن عند اللقاء، فقال الله : قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ ۝ لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ [التوبة:65-66] فهم استهزءوا بالقراء لا بشيءٍ يختص بهم من عيوب الأنفس والنقص الذي يكون فيها، وإنما باعتبار أنهم قُراء، فكان ذلك عائدًا إلى ما يحمله هؤلاء القراء، فقال: قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ [التوبة:65] بإيمانهم بالله، واتصالهم به، وحملهم لكتابه، والعلم المستخرج منه، كل ذلك مع اتباع النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-، فكان ذلك داعيًا إلى هذه السخرية.

ويقول سعيد بن جبير: الكفر بعد الإسلام[15]، ويقول مقاتل: الشرك[16]، وما في معناه، فالذي يفسد في الأرض، وينتهك حدود الله، ويجترئ على عباده وخلقه بسفك الدماء، وأخذ الأموال، والسطو المسلح على الناس، ونحو ذلك، فهذا محاربٌ لله ولرسوله؛ لأنه منابذٌ لشرعه بهذا الاعتبار، والله أعلم.

"وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسادًا [المائدة:33] بيان للحرابة، وهي على درجات: أدناها إخافة الطريق، ثم أخذ المال، ثم قتل النفس".

وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسادًا [المائدة:33] الفساد -كما هو معلوم- يُطلق على أنواع من الشر، هنا قال: "هذا بيانٌ للحرابة، وهي على درجات: أدناها إخافة الطريق" يعني من غير قتل، ولا أخذ للمال "ثم أخذ المال، ثم قتل النفس" وجاء عن مجاهد بأن الفساد: القتل والزنا والسرقة[17]، وجاء عن ابن عباس بأن السعي في الأرض بالفساد هو بالمعاصي[18]، وبهذا قال أيضًا مقاتل[19]، وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسادًا [المائدة:33]، والفساد يصدق على القتل، وأخذ الأموال، ونحو ذلك، فهذه الآية جاءت في سياق الكلام على الحرابة، وهؤلاء المحاربين يقدمون على قتل الأنفس، وإخافة السبيل، وأخذ الأموال، فهذه الثلاثة التي يدور عليها كلام أهل العلم في حكم المحاربين، وإلا فالأصل أن السعي في الأرض في الفساد يشمل هذا ويشمل غيره، يعني مثل: الزنا، ونشر الرذيلة، والدعوى إلى الكفر، وتزيينها في نفوس الناس، وتزيين الفواحش والمعاصي، فكل هذا من السعي في الأرض بالفساد، وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا [الأعراف:56]، وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ [الأعراف:74] فهذا عام، لكن هنا في سياق الحرابة وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ [المائدة:33]، يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [المائدة:33] في انتهاك حدوده، والجراءة عليها، ويسعون في الأرض فسادًا بقتل الأنفس المعصومة، وأخذ الأموال المعصومة، وكذلك إخافة السبيل، والله أعلم.

"أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا [المائدة:33] الصلب: مضاف إلى القتل، وقيل: يقتل، ثم يُصلب؛ ليراه أهل الفساد فينزجروا، وهو قول أشهب، وقيل: يُصلب حيًا، ويُقتل على الخشبة، وهو قول ابن القاسم[20]".

أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا [المائدة:33] الصلب معروف، وهو أن يثبت على خشبة، أو على جذع أو نحو ذلك ليراه الناس، يعني لا يكون طريحًا على الأرض، لكن هل هذا الصلب قبل القتل أو بعده للنكاية والزجر والتشهير به وردع الناس؟ فهذا الذي ذكر فيه الخلاف، قال: أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا [المائدة:33] قال: "الصلب مضافٌ إلى القتل" معناه: أنه يُقتل ويُترك أو يُقتل ويُصلب بحسب المصلحة، إذا كان مثلاً ذلك كثير الوقوع، وكثر قطاع الطرق، ومن يخيفون الناس في سبلهم فهنا يحتاج إلى ردع وزجر، فإذا أُخذ الواحد منهم قُتل وصُلب؛ ليرتدع الناس، وإذا كان ذلك نادرًا مثلاً أكتُفي بقتله دون صلبه، فهذا قوله: "الصلب مضافٌ إلى القتل" يعني إنها ليست عقوبة مباينة للقتل، بمعنى أنه لا يُفهم أن العقوبة الأولى القتل، والعقوبة الثانية: صلبٌ من غير قتل، فكونه يصلب من غير قتل هذا لا معنى له، يقول: "وقيل: يقتل، ثم يُصلب ليراه أهل الفساد، فينزجروا" هنا كأنه ذكر هذا للتعليل، وإلا فإن قوله: "الصلب مضافٌ إلى القتل" هو نفس المعنى، لكن كأنه ذكر الثاني للعلة ليراه أهل الفساد فينزجروا، وهذا عزاه ابن عطية للجمهور[21]، أي أن المقصود: أنه يُقتل، ثم يُصلب، وبه يقول الشافعي -رحمه الله-[22] لينزجر الناس، ومن المعاصرين قال بهذا الشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله-[23].

يقول: "وهو قول أشهب"[24] من المالكية.

"وقيل يُصلب حيًا، ويُقتل على الخشبة" فهذا قولٌ آخر، يعني الأول: أن يكون الصلب بعد القتل، والقول الثاني: أنه يُقتل أو يُصلب، يعني أما أن يُقتل هكذا بالسيف من غير صلب، أو يُقتل ويُصلب بعد القتل، وهؤلاء يقولون: إن قوله: أَنْ يُقَتَّلُوا [المائدة:33] أي يُقتل من غير صلب هذه الصورة الأولى، أَوْ يُصَلَّبُوا [المائدة:33] أن يُصلب ويُقتل مصلوبًا، "وهذا قول ابن القاسم" من المالكية، وهو مروي عن مالك -رحمه الله-[25]، ورجحه ابن عطية[26]، وهو أن يُقتل مصلوبًا، كأن يطعن بحربة، أو رمح، أو نحو ذلك، وليس المقصود أنه يُجعل هدفًا فيُرمى بالسهام إلى أن يموت مثلاً، أو نحو ذلك فهذا تعذيب للأنفس، وفيه النهي المعروف عن وضع البهيمة، أو الطائر، أو نحو ذلك هدفًا للقتل، وجاء عن ابن عمر: "لعن الله من فعل هذا"[27] لما وجد مع الغلمان طائرًا يستهدفونه بالرمي، لكن يُصلب، ثم يُقتل بطعنه برمحٍ، أو حربةٍ، أو نحو ذلك، وهو مصلوب.

وذكرت لكم في الوقائع في التاريخ ذلك الرجل الذي كان على صلاحٍ وطاعةٍ، ثم بعد ذلك صار الشيطان يتلاعب به، وأنه كتب لأبيه في ذلك، فأجابه أبوه بجواب أرداه، وأن الشياطين تتنزل على كل أفاكٍ أثيم، ولست بأفاكٍ ولا أثيم، كأن الشيطان صار يصور له أشياء، ويزين له أمور، حتى ادعى النبوة، وذكر عن شيخ الإسلام -رحمه الله- كيف كان يُظهر لهم أشياء على أنها خوارق، ويريهم رجالاً يلبسون البياض على خيل، يقول: هؤلاء ملائكة، أو رجال الغيب، ونحو ذلك، إلا أن أخذه الخليفة في قصةٍ ذكرتها مفصلةً فالشاهد أنه صُلب، فأمر الخليفة بقتله، وهو مصلوب، فلما طعنه بالرمح لم ينفذ فيه، وليس عليه درع؛ لأن الشياطين تمثل حماية لمثل هذا الدجال، قال: ويحك، هل سميت الله؟ فقال: نسيت، فلما قال: بسم الله، نفذ فيه الرمح فقتله[28].

فالمقصود إن هذا إحدى الصور التي يكون عليها القتل للمفسدين، أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا [المائدة:33] فقوله: أَوْ يُصَلَّبُوا [المائدة:33] يحتمل أن يكون ذلك بعد القتل، أو أن يُصلب ويُقتل أثناء الصلب.

"أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ [المائدة:33] معناه: أن تُقطع يده اليمنى ورجله اليسرى، ثم إن عاد: قطعت يده اليسرى، ورجله اليمنى".

"أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ [المائدة:33] "معناه: أن تُقطع يده اليمنى ورجله اليسرى، ثم إن عاد: قطعت يده اليسرى ورجله اليمنى" تُقطع اليد اليمنى والرجل اليسرى هكذا، وذكر أهل العلم علة هذا، وأظن أنني ذكرت هذا في هذا الموضع في الكلام على المصباح المنير، وهو أنه إذا قُطعت اليد اليمنى يكون فيه ميل إلى هذا الجانب، فإذا قُطع طرفٌ من الجهة الأخرى صار الميل من الجانبين، فيكون ذلك أقرب إلى الاعتدال، فلو قُطعت اليد اليمنى والرجل اليمنى فصار منكفئًا على جنب لا يستطيع التصرف، كأن ذلك فيه زجر له، وأيضًا مراعاة لحاله، فهذا لا يبعد، ولكن لا يُقطع به، لماذا لا يقطع بهذا، وإن ذكره بعض أهل العلم؟ يعني هذا متصور فيه أحكام الله ، لكن قول فرعون للسحرة متوعدًا: لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ [الأعراف:124] هل قصد بذلك مراعاة حالهم مع النكاية؟ أبدًا لم يقصد هذا، والله أعلم.

"وقطع اليد عند مالكٍ والجمهور من الرسغ[29]، وقطع الرجل من المفصل؛ وذلك في الحرابة، وفي السرقة".

الرسغ يعني مفصل الكف؛ لأن اليد تُطلق على كل ذلك، من الكف وأطراف الأصابع إلى المنكب، فهل تُقطع اليد بمفصل المنكب، أو يقال بأن ذلك مقيد بما جاء في الوضوء إلى المرافق، فتُقطع من المرفق، أو تُقطع من الرسغ؟ الذي دلت عليه السنة أنها تقطع من الرسغ، يقول: "كذلك في الحرابة، وفي السرقة" كذلك الرجل من المفصل، يعني مفصل القدم مع الساق، وليس من الركبة، أو أعلى الفخذ.

"أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ [المائدة:33] مشهور مذهب مالكٍ: أن يُنفى من بلدٍ إلى بلدٍ آخر، ويُسجن فيه إلى أن تظهر توبته[30]، ورُوي عنه مطرفٍ: أنه يسجن في البلد بعينه[31]، وبذلك قال أبو حنيفة[32]، وقيل: ينفى إلى بلدٍ آخر دون أن يُسجن فيه".

قوله هنا: أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ [المائدة:33] يقول: "مشهور مذهب مالكٍ: أن يُنفى من بلدٍ إلى بلدٍ آخر" وهذا ظاهر الآية، فالنفي على حقيقته من بلد إلى بلد.

وجاء عن جماعة من السلف، كسعيد بن جبير، وأبي الشعثاء، والحسن، والزهري، والضحاك، ومقاتل[33]: مقيدًا بأن لا يكون النفي إلى خارج بلاد الإسلام، وهذا قيدٌ معتبر له وجه، باعتبار أن النبي ﷺ نهى أن تُقام الحدود بأرض العدو، من أجل ألا يكون ذلك سببًا لالتجائه إليهم خوفًا من إقامة الحد، فيفتن في دينه، فكذلك هذا المنفي كيف يُنفى إلى بلاد الكفر؟ والنبي ﷺ نهى أصلاً عن الإقامة بين ظهراني المشركين، وهذه العقوبة له، وقد تكون سببًا لردته عن الإسلام، وبعضهم يقول: يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ [المائدة:33] يُطلب حتى يُقدر عليه، فيُقام عليه الحد، أو يهرب من دار الإسلام، يعني كأن هذا ليس من جملة العقوبة، أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ [المائدة:33] كأنه يقول: إلى أن يفر من بلاد المسلمين، وهذا لا يخلو من إشكال، وهو مروي عن جماعة من السلف: كابن عباس، وأنس، وسعيد بن جبير، والضحاك، والربيع بن أنس، والزهري، والليث[34]، وهو مروي أيضًا عن الإمام مالك[35]، والمعنى: أن يطلب حتى يُقام عليه الحد، أو يخرج من دار الإسلام.

يقول: "مشهور مذهب مالكٍ: أن يُنفى من بلدٍ إلى بلدٍ آخر، ويُسجن فيه إلى أن تظهر توبته" وهذا الذي نقله من مذهب مالك هو اختيار ابن جرير[36]، والقرطبي أيضًا[37]، لكن السجن في البلد التي ينفى إليها لا دليل عليه، وليس في الآية ما يدل عليه، فيكفي نفيه، وكأن هؤلاء نظروا -والله أعلم- إلى أن المقصود ردعه وحجزه أيضًا عن الإفساد؛ لأنه قد يُنفى إلى بلدٍ آخر، فيقوم بنفس العمل، ومن كان طبعه الجريمة فإنه يفعل ذلك متى ما سنحت له الفرصة، يُذكر عن أحد السُراق في مكانٍ شريف أنه قُطعت يده اليمنى، ولم يرتدع، فظل يسرق الحجيج والعمار، ثم قطعت يده اليسرى، ولم يرتدع، ثم قُطعت رجله اليمنى ولم يرتدع، ثم قُطعت رجله اليسرى ولم يرتدع، ما زال يسرق، وكأن هؤلاء نظروا إلى هذا المعنى، إنه إذا نُفي إلى بلد سيفسد فيها، إذًا يُنفى حتى يُكف شره عن الناس، ويُحبس في البلد التي يُنفى إليها، وهذا غير النفي الذي هو التغريب عام للزاني البكر، فهنا لا يُسجن، لكن المحارب لأنه مجرم يقتل ويعتدي على الناس، فقالوا: يسجن بهذا الاعتبار، قال: "وروى عنه مطرفٍ أنه يسجن في بلد بعينه" وهذا الذي اختاره الواحدي[38]، فيكون هنا فسر النفي بالحبس، بأن من حُجز عن الناس، كأنما نُفي، لكن هذا خلاف الظاهر، قال: "وبذلك قال أبو حنيفة، وقيل: ينفى إلى بلدٍ آخر دون أن يُسجن فيه" وهذا هو ظاهر الآية، وبعضهم يقول: يُطرد من البلاد التي يحارب فيها إلى غيرها، يعني: من بلد إلى بلد، وهذا معنى النفي، وهذا اختاره ابن عطية[39]، والقرطبي[40]، فالمقصود بالأرض في قوله: أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ [المائدة:33] هي الأرض التي حارب فيها، وعبر بعضهم بقوله: ينفى من وطنه إلى بلدٍ آخر، وهذا قال به من المعاصرين الشيخ محمد الأمين الشنقيطي[41]، وطاهر بن عاشور[42]، وهو مروي عن بعض السلف: كسعيد بن جبير[43]، وهو نحو قول من قال: إنه يُنقل من البلد التي حارب فيها، ويُنفى منها، فـ(أل) في (الأرض) في قوله: أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ [المائدة:33] لا يتأتى أن تكون جنسية، فأين يُنفى؟ بل هي للعهد، الأرض التي وقعت منه المحاربة فيها، ينفى منها إلى غيرها، هذا إذا كانت هذه العقوبة تردعه؛ ولهذا قيل: بأن ظاهر الآية أنه لا يحبس إذا كانت هذه العقوبة تردعه، أما إذا كان لا يردعه إلا القتل فيُقتل، أو الصلب فيُصلب، أو تُقطع يده ورجله من خلاف.

"ومذهب مالك: أن الإمام مخير في المحارب بين أن يقتله ويصلبه، أو يقتله، ولا يصلبه، أو يقطع يده ورجله، أو ينفيه[44]، إلا أنه قال: إن كان قتل فلا بدّ من قتله، وإن لم يقتل، فالأحسن أن يُأخذ فيه بأيسر العقاب، وقال الشافعي وغيره: هذه العقوبات مرتبة[45]، فمن قتل وأخذ المال قُتل وصُلب، ومن قتل ولم يأخذ المال قُتل ولم يُصلب، ومن أخذ المال ولم يقتل قُطعت يده ورجله، ومن أخاف السبيل ولم يقتل ولم يأخذ مالاً نُفي، وحُجة مالك عطف هذه العقوبات بـ(أو) التي تقتضي التخيير".

هذان قولان مشهوران لأهل العلم، بسبب (أو) هذه، هل هي للتخيير، أو أنها للتقسيم، والتنويع، والتفصيل وأنها ليست للتخيير؟ وهذا بعضهم يدخله في المشترك، فيجعلون الاشتراك إما في فعل مثل (عسعس)، أو في اسم مثل (القرء)، أو في حرف مثل (أو)، فهي تأتي بهذه المعاني؛ ولهذا اختلف أهل العلم في ذلك، فمنهم من يقول: بأن الإمام مخير في ذلك، وهل هذا التخيير المقصود به التشهي أو بحسب المصلحة؟ لا شك أنه بحسب المصلحة، وليس للتشهي، والقاعدة أن التخيير التي ذكرناها في الكلام في شرح القواعد الفقهية للشيخ عبد الرحمن بن سعدي -رحمه الله-، وذكر هذه القاعدة، ومر الكلام عليها هناك، وهي قاعدة مهمة: أن التخيير إن كان لمصلحة المكلف فهو تخيير تشهي، مثل: التخيير في كفارة اليمين: إطعام عشرة مساكين، أو كسوتهم، أو تحرير رقبة، يختار ما يناسبه، أو في فدية الأذى بالنسبة للمحرم، فهو مخير بين الثلاثة: يذبح في الحرم للفقراء، أو يطعم ستة مساكين من فقراء الحرم، أو يصوم ثلاثة أيام، في أي مكان، هذا تخييرٌ للتشهي؛ لأن ذلك لمصلحة المكلف، وإن كان لمصلحة غيره، كمصلحة الأمة مثلاً، فهو تخيير اجتهاد لمصلحة غيره، فيجتهد لمصلحة غيره، وهذا هو المراد هنا: أن الإمام مخير فيهم بحسب ما تقتضيه المصلحة، فإذا كثر قُطاع الطرق، والمفسدون في الأرض، ونحو ذلك، فيُشدد في العقوبة عليهم، فيختار الأشد، بخلاف ما إذا كان ذلك قليلاً، أو نادرًا، أو نحو ذلك.

والقول بأنها للتخيير بحسب المصلحة رواية عن ابن عباس -ا-[46]، وجاء ذلك عن مجاهد، وهو مروي عن جماعة: كإبراهيم النخعي، وهو رواية عن الحسن البصري، وهو أيضًا مروي عن سعيد بن المسيب -رحم الله الجميع-[47].

لكن هنا يقول في مذهب مالك -رحمه الله-: "إلا أنه قال: إن كان قتل فلا بدّ من قتله، وإن لم يقتل فالأحسن أن يُأخذ فيه بأيسر العقاب" وهذا إذا اقتضت المصلحة ذلك، وليس بإطلاق، والله -تبارك وتعالى- بدأ بالأشد، ولم يبدأ بالأيسر.

"وقال الشافعي وغيره: هذه العقوبات مرتبة" يعني أن (أو) هذه ليست للتخيير، وهذه الرواية الأخرى عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن ذلك بحسب جنايته[48]، كذلك هو مروي عن جماعة كثيرة من السلف: كإبراهيم النخعي، وأبي مجلز[49]، وكذلك والرواية الأخرى عن الحسن، وهو مروي عن قتادة، والسدي، وسعيد بن جبير، والربيع بن أنس، وهو اختيار ابن جرير[50]، فهؤلاء قالوا: إن ذلك بحسب جرمه، فلا يكون الإمام مخيرًا فيه، وإنما بحسب جرمه، والآية تحتمل هذا وهذا، ولو قال قائل: بأن ذلك التخيير بحسب المصلحة، فكأن هذا قريب، والله أعلم.

  1. تفسير ابن كثير ت سلامة (3/92).
  2. تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (10/235).
  3. تفسير ابن كثير ت سلامة (3/93).
  4. تفسير ابن كثير (3/95).
  5. تفسير ابن كثير ت سلامة (3/94).
  6. تفسير ابن كثير ت سلامة (3/95).
  7. أخرجه البخاري في كتاب المغازي، باب قصة عكل وعرينة برقم: (4192) ومسلم في كتاب القسامة، والمحاربين والقصاص والديات، باب حكم المحاربين والمرتدين برقم: (1671).
  8. أخرجه أبو داود في كتاب الحدود، باب ما جاء في المحاربة برقم: (4366) وصححه الألباني.
  9. (([9]سنن النسائي دار المعرفة (7/109)
    4037 وصححه الألباني.
  10. أخرجه أحمد ط الرسالة برقم: (12668) وقال محققو المسند: "إسناده صحيح على شرط الشيخين".
  11. الإشراف على نكت مسائل الخلاف (2/853) والتفريع في فقه الإمام مالك بن أنس (2/232).
  12. النتف في الفتاوى للسعدي (2/657).
  13. تفسير ابن كثير ت سلامة (3/99-100).
  14. تفسير ابن كثير ت سلامة (3/100).
  15. زاد المسير في علم التفسير (1/542).
  16. زاد المسير في علم التفسير (1/542).
  17. تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (10/278).
  18. زاد المسير في علم التفسير (1/567).
  19. زاد المسير في علم التفسير (1/567).
  20. البيان والتحصيل (2/270) وبداية المجتهد ونهاية المقتصد (4/239).
  21. تفسير ابن عطية = المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (2/185).
  22. المجموع شرح المهذب (20/109).
  23. أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (1/396).
  24. البيان والتحصيل (2/270) وبداية المجتهد ونهاية المقتصد (4/239).
  25. البيان والتحصيل (2/270) وبداية المجتهد ونهاية المقتصد (4/239).
  26. تفسير ابن عطية = المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (2/185).
  27. أخرجه مسلم في كتاب الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان، باب النهي عن صبر البهائم برقم: (1958).
  28. الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان (ص:169).
  29. الجامع لمسائل المدونة (22/196).
  30. بداية المجتهد ونهاية المقتصد (4/240) والمقدمات الممهدات (3/234).
  31. المقدمات الممهدات (3/234).
  32. المقدمات الممهدات (3/234).
  33. تفسير ابن كثير ت سلامة (3/101).
  34. تفسير ابن كثير ت سلامة (3/101).
  35. تفسير ابن كثير ت سلامة (3/101).
  36. تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (10/274).
  37. تفسير القرطبي (6/153).
  38. التفسير الوسيط للواحدي (2/181).
  39. تفسير ابن عطية = المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (2/185).
  40. تفسير القرطبي (6/153).
  41. أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (1/396).
  42. التحرير والتنوير (8-أ/24).
  43. تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (10/270).
  44. المدونة (4/534) والبيان والتحصيل (16/418).
  45. بحر المذهب للروياني (13/104).
  46. تفسير الخازن = لباب التأويل في معاني التنزيل (2/38).
  47. تفسير ابن كثير ت سلامة (3/100).
  48. تفسير الخازن = لباب التأويل في معاني التنزيل (2/38).
  49. تفسير ابن كثير ت سلامة (3/100).
  50. تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (10/264).

مواد ذات صلة