الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين، أما بعد:
اللهم اغفر لنا ولشيخنا والحاضرين، والمستمعين، ولجميع المسلمين.
قال الإمام ابن جزي في قوله تعالى:
"هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا أي: هل تعيبون علينا، وتنكرون منا إلا إيماننا بالله، وبجميع كتبه ورسله؛ وذلك أمر لا ينكر، ولا يُعاب، ونظير هذا في الاستثناء العجيب، قول النابغة:
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم | بهنّ فلول من قراع الكتائب[1] |
ونزلت الآية بسبب أبي ياسر بن أخطب، ونافع بن أبي نافع، وجماعة من اليهود سألوا رسول الله ﷺ عن الرسل الذين يؤمن بهم، فتلا: آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا [المائدة:59] إلى آخر الآية، فلما ذكر عيسى قالوا: لا نؤمن بعيسى، ولا بمن آمن به[2]".
فقوله -تبارك وتعالى-: هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا... الآية، يقول: "أي: هل تعيبون علينا، وتنكرون منا إلا" يعني الإيمان، وهذا كقوله -تبارك وتعالى-: وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ [البروج:8]، وكقوله: وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ [التوبة:74].
وما ذكر هنا من أنها نزلت بسبب هؤلاء النفر من اليهود، جاء هذا عن ابن عباس -ا-، لكنه لا يصح من جهة الإسناد، فالرواية في تمامها ولفظها مصرحة بأنه سبب النزول؛ لأنه قال في آخرها: "فأنزل الله فيهم: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا" لكنها لا تصح.
هذا من المواضع التي لا بد فيها من معرفة الإعراب، والإعراب كما هو معلوم مرتبطٌ بالمعنى، وكما يقال: الإعراب تحت المعنى، فقوله هنا: "وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ" يقول: "قيل: إنه معطوف على آمَنَّا" يعني التقدير: هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وآمنا بأن أكثركم فاسقون، وهذا الذي اختاره الحافظ ابن كثير -رحمه الله-[3].
ويقول: "وقيل: على مَا أُنْزِلَ" يعني معطوف على ما أُنزل، فيكون التقدير: هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا.. وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ وهذا قريب من الذي قبله، ومن قال بأنه معطوف على أَنْ آمَنَّا يكون المعنى: ما تنقمون إلا الجمع بين إيماننا وبين تمردكم وخروجكم عن الإيمان.
يقول: "وقيل: هو تعليل معطوف على تعليلٍ محذوف، تقديره: هل تنقمون منا إلا لقلة إنصافكم؛ ولأن أكثركم فاسقون" فالتعليل "ولأن أكثركم فاسقون" فقوله: وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ يكون تعليلاً لهذه النقمة.
يقول: "ويحتمل أن يكون: وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ مبتدأ، وخبره محذوف، تقديره: فِسقكم معلوم، أو ثابت"، هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ معلوم، أو وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ متقرر، لكن لا يخلو هذا من بُعد، ويحتمل أنه منصوب بفعلٍ محذوف، والتقدير: ولا تنقمون أن أكثركم فاسقون؛ يعني: هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ ولا تنقمون أن أكثركم فاسقون، ويحتمل أنه على تقدير حذف مضاف، هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ واعتقاد أنكم فاسقون، أو: ما تنقمون منا إلا أن آمنا بالله، وبأن أكثركم فاسقون، يعني: بسبب فسقكم حصلت هذه النقمة علينا، حيث نقمتم الإيمان، أو بسبب فسقكم نقمتم علينا الإيمان، يعني لئن آمنا ولأن أكثركم فاسقون.
وبعضهم يقول: هذا تخصيصٌ لهم بالفسق، فيدل على سبيل التعريض أنهم لم يتبعوهم على فسقهم، والمعنى: "وما تنقمون منا إلا أن آمنا، وما فسقنا مثلكم" فهذه الأوجه تحتملها الآية، لكن القاعدة -كما هو معلوم- أن الأصل عدم التقدير، وإذا دار الكلام بين الاستقلال والإضمار، فالأصل: الاستقلال، يعني أن الكلام تام بلا تقدير، وبعض هذه الوجوه -كما ترون- لا تحتاج إلى تقدير، مثلما ما ذكر هنا أولاً: بأنه معطوفٌ على آمَنَّا، هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وأن آمنا بالله، وأن أكثركم فاسقون، فهذا قريب، والله أعلم.
ومن الأقوال القريبة مع التقدير القول الآخر الذي ذكره أنه "تعليل معطوف على تعليلٍ محذوف" يعني: "ولأن أكثركم فاسقون" والمحذوف: هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا لكن ما قبله أولى منه، والله أعلم.
وأيضًا من الأشياء التي تحتملها الآية من المعنى والإعراب والتقدير، يقول: هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ يعني باعتبار أنه لما ذكر ما ينقمون منه من الإيمان، وليس ذلك مما يُنقم، ذكر في مقابله فسقهم، وهو مما يُنقم من باب المقابلة، كقولك مثلاً: هل تنقِم مني إلا أني عفيف، وأنك كذا؟ يعني بخلاف هذا الوصف، وبعضهم يقول بأن الواو هذه في قوله: وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ هي بمعنى (مع) يعني: هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ مع أن أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ فكل هذا يحتمل، والله أعلم، وأبو حيان في البحر المحيط ذكر فيه ثمانية أوجه[4].
هذا باعتبار أن المثوبة مختصة بالخير، كما أن العقوبة مختصة بالشر، فتكون بمعنى: الجزاء الثابت، أو الثواب، وهو المنفعة الخالصة المقرونة بالتعظيم.
هنا على البدل يقول: "أو في موضع خفضٍ على البدل من شرّ" ففي هذه الحال لا بد في الكلام من حذف مضاف، تقديره: شرٍّ من أهل ذلك من لعنه الله، أو تقديره: "دين من لعنه الله" ويحتمل أن يكون في موضع نصب على البدل من محل قوله: بشر، باعتبار أن محله النصب، أو في موضع نصب بفعلٍ محذوف، دلَّ عليه ما قبله، من قوله: أُنَبِّئُكُمْ أي: أعرفكم من لعنه الله.
وبعضهم يقول بأن ذلك فيمن كفر من أصحاب المائدة.
قوله -تبارك وتعالى- هنا: وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ فهذه الصيغة كما هو ظاهر خبر عنهم بذلك، ولكن كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- بأنه ليس المقصود هنا مجرد الإخبار عنهم بهذا، وإنما بالذم، فعابهم بلعنة الله، وعقوبته، والشرك الذي فيهم وهو عبادة الطاغوت[5].
وقوله: وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ فالطاغوت عرفنا من قبل بأنه ما تجاوز العبد حده وقدره من معبودٍ، أو متبوعٍ، أو مُطاع، وهو راضٍ بذلك.
يقول هنا: "القراءة بفتح الباء" أي في وَعَبَدَ والفتح قراءة الجمهور، وبضم الباء قراءة حمزة[6]، (عَبُدَ الطَّاغُوتِ)، وهنا وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ على الفتح وفسرها ابن كثير: بخدم الطاغوت، يعن خدامه وعبيده[7]، يكون عَبَدَ بفتحتين فعل ماضي، والطَّاغُوتَ معموله، نُصِبَ به.
يقول: "وقُرئ بضم الباء، وخفض الطاغوت، على أن يكون (عَبُدَ) اسمًا على وجه المبالغة، أُضيف إلى الطاغوت" يعني يكون اسمًا مفردًا، على وزن (فَعُلَ) وليس بجمع، وإنما هو مفرد، والعَبُد هو المبالِغ في العبودية، عبدٌ، وعَبُد فـ(عَبُدَ) منصوب عطفًا على الْقِرَدَةَ، وبعضهم يقول: هو جمع (عَبْد) يعني: جعل منهم خدمًا للطاغوت، فهاتان القراءتان المتواترتان في الآية: (عَبَدَ) و(عَبُدَ) وما عداهما فهي قراءات غير متواترة.
يقول: "وقُرئ وعابد وعباد" وهذه القراءات مروية عن بعض السلف[8]، يعني: وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وعابد الطَّاغُوتَ، وعباد الطَّاغُوتَ، عطفًا على الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ.
ونقل في الحاشية عن ابن عطية عن عكرمة عن ابن عباس -ا-: وعابدو الطاغوت[9]، قال: وقرأ ابن بريدة: وعابد[10]، وقرأ بعض البصريين: وعِبَاد[11]، والله أعلم.
هذا جاء عن السدي مرسلاً[12]، بإسنادٍ ضعيف، وهو مرسل أيضًا عن قتادة[13].
لا إشكال؛ متلبسين بالكفر يعني أنهم لم ينتفعوا بدخولهم هذا، دخلوا كفارًا، وخرجوا كفارًا.
بالنسبة للإثم هو أعم من العدوان؛ فالإثم فيما يكون بين العبد وربه، وما يكون أيضًا مع الخلق، فالعدوان أخص؛ وهو ما يكون فيه التعدي، وفسره هنا بالظلم، لكن الظلم لفظ عام، فقد يكون الظلم للنفس، وقد يكون فيما بينه وبين الله -تبارك وتعالى-، ولكن على كل حال لو فُسِّر بما يدل على التعدي لكان أولى، والله أعلم.
يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ فالإثم: الذنب والمعصية، والعدوان: ما يكون فيه التعدي على الخلق، والإساءة إليهم.
يعني بمعنى: هلا ينهاهم، وقد مضى في مناسبات سابقة: أن مثل هذا إذا كان مما مضى وفات، ولا يمكن استدراكه فيكون للتقريع والتبكيت، كـلَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ وإذا كان لأمرٍ يمكن استدراكه، أو في المستقبل، فيكون ذلك للتحضيض، وعلى ضوء هذا تفهم الآيات، كـلَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ [النور: 13]، وما أشبه ذلك مثل: لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ [النور: 12].
"قوله تعالى: لَبِئْسَ اللام في الموضعين للقسم.
وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلُّ اليد كناية عن البخل، وبسطها كناية عن الجود".
س: هل تُقرئ يا شيخ [غَلُّ] أو [غُلُّ]؟
يمكن أن يقال: غَلُّ اليد، ويمكن أن يكون على سبيل الحكاية والتفسير، غُلُّ اليد، يراد به مغلولة، فالغُل يكون في العنق واليدين، والغِل يكون في القلب، وتقول: في عنقه غُل، وفي قلبه: غِل.
وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ يعني ممسكة عن العطاء، يقول: " كناية عن البخل، وبسطها كناية عن الجود"، وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ [الإسراء:29] وليس المراد أنه يجعل يده هكذا، وليس البسط أيضًا ألا يقول بها هكذا، وإنما المقصود: التوسع في النفقة إلى حد التضييع، أو التقتير.
هذا لا يصح من جهة الرواية؛ لأنه جاء مرسلاً عن عكرمة، فلا يصح في سبب النزول.
من قال بأنه من قبيل الخبر، وليس من قبيل الدعاء، قال: بأن الله يفعل ما يشاء فلا يكون منه الدعاء؛ لأن الدعاء بمعنى: الطلب.
فيكون غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ إخبار عنهم بذلك، فإن كان في الدنيا فيكون بمعنى: الإخبار عنهم، والحكم عليهم بالبخل والتقتير، أو غل الأيدي بالأسر، وإن كان في الآخرة فهو الأغلال في النار.
بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يعني ممدودتان بالبذل والعطاء، وما ذكره المؤلف هنا من أن ذلك عبارة عن إنعامه وجوده، هذا تأويل للصفة، ولا يصح، وإنما فيه إثبات اليد على الوجه اللائق بجلال الله وعظمته، واليد ثابتة لله، جاء ذلك على سبيل الإفراد يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ [الفتح:10] وجاء بالتثنية كما هنا، وجاء أيضًا بما يدل على تحقيق الصفة من ذكر القبض والبسط، بل وذكر أيضًا الأصابع، فكل هذا مما يُقطع معه بأن الصفة حقيقية، فهي صفة ثابتة لا يصح تأويلها.
"وقوله هنا: وإنما ثنيت اليدان هنا وأفردت في قول اليهود: يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ ليكون ردًّا عليهم ومبالغةً في وصفه بالجود" فهذا يفترض أن يقال فيه بأنها ثُنيت مع قوله: يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ لتحقيق الصفة، ولا يقال: بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ أي نعمتاه مبسوطتان، فهذا لا يقال، وجاء في الصحيحين: إن يمين الله ملأى، لا يغيضها نفقة، ذكر اليمين، سحاء يعني دائمة العطاء الليل والنهار، أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماوات والأرض فإنه لم ينقص ما في يمينه[15].
يقول هنا: "عبارة عن الخذلان، وعدم النصر" وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في أصل هذا التعبير: أن المحاربين يوقدون نارًا، يجتمع إليها أعوانهم، فلا تتم محاربتهم إلا بها[16]، فإذا طُفأت لم يجتمع أمرهم، يعني هذا في أصل الاستعمال، ثم صار هذا كما تُستعمل الأمثال في كل محاربٍ بطل كيده، كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ يعني: كلما عقدوا أسبابًا لحرب أعدائهم أبطلها الله، فانحل عزمهم، وكلما أقاموا حربًا ردَّ الله كيدهم في نحورهم، فانهزموا.
"قوله تعالى: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا... الآية، يحتمل أن يُراد أسلافهم أو المعاصرون للنبي -صلى الله تعالى عليه وسلّم-، فيكون على هذا ترغيبًا لهم في الإيمان والتقوى.
"قوله تعالى: وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ إقامتها بالعلم والعمل، وذكر الإنجيل دليلٌ على دخول النصارى في لفظ أهل الكتاب".
هذا لا شك فيه.
يعني فيما يكون أعم من ذلك، كقوله تعالى: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ [الأعراف:96].
أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ يعني معتدلة، أو مؤمنة، والاقتصاد هو الاستواء في العمل من غير إفراط ولا تفريط.
وحمله ابن جرير -رحمه الله- على القصد في المسيح ، فلا تغلو، ولا تجفو[17].
والذي يظهر -والله أعلم- أن المعنى أوسع من ذلك؛ لأنه يتحدث عن أهل الكتاب عمومًا، وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ [المائدة:66].
والحافظ ابن كثير -رحمه الله- يقول: كقوله تعالى: وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ [الأعراف:159][18]، فالمعنى هنا: مقتصدة، وكقوله -تبارك وتعالى- عن أتباع عيسى : فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ [الحديد:27].
وأشار ابن كثير -رحمه الله- إلى أنه جعل أعلى مقاماتهم الاقتصاد، وهو أوسط مقامات هذه الأمة، يعني في قوله تعالى: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ [فاطر:32] ويكون فوق ذلك مرتبة السابقين[19]، لكن ليس هذا هو المراد؛ لأنه هنا في مقام الثناء عليهم، فقال: مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ والاقتصاد في قوله: ثُمَّ أَوْرَثْنَا معناه: لزوم الواجبات، وترك المحرمات، فهل هذا أعلى مقامات أهل الكتاب؟ الذي يظهر أنه ليس كذلك، فالاقتصاد هنا ليس بمعنى ما ذكره الله عن هذه الأمة.
- ديوانه (ص:13) طبعة الهلال، بالفجالة 1911م.
- الدر المنثور في التفسير بالمأثور (3/108).
- تفسير ابن كثير ت سلامة (3/142).
- البحر المحيط في التفسير (4/304).
- الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح لابن تيمية (5/93).
- السبعة في القراءات (ص:246) ومعاني القراءات للأزهري (1/335).
- تفسير ابن كثير ت سلامة (3/143).
- المحتسب في تبيين وجوه شواذ القراءات والإيضاح عنها (1/215).
- البحر المحيط في التفسير (4/308).
- المحتسب في تبيين وجوه شواذ القراءات والإيضاح عنها (1/215).
- المحتسب في تبيين وجوه شواذ القراءات والإيضاح عنها (1/215).
- تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (10/445).
- تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (10/445).
- تفسير ابن كثير ت سلامة (3/146) وتفسير الثعلبي = الكشف والبيان عن تفسير القرآن (4/87).
- أخرجه البخاري في كتاب التوحيد، باب {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} [هود:7]، {وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [التوبة:129] برقم: (7419) ومسلم في كتاب الزكاة، باب الحث على النفقة وتبشير المنفق بالخلف برقم: (993).
- مجموع الفتاوى (20/471).
- تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (10/465).
- تفسير ابن كثير ت سلامة (3/149).
- تفسير ابن كثير ت سلامة (3/149).