الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين، أما بعد:
فاللهم ارزقنا العلم النافع، والعمل الصالح.
قال ابن جُزَّيٍ -رحمه الله تعالى- في قوله تعالى:
فالخمر معروف، والميسر يقول: "ذُكر في البقرة" وهذا مضى في صفحة (284) والميسر هو القمار، من قولهم: يَسَر، يعني ضرب بالقدح، فيُقَال للقمار: الميسر، وبهذا فسّر جماعة من السلف، كابن عباس -ا-، وعطاء، وطاووس، ومجاهد، فقالوا: كل شيء من القمار فهو من الميسر[1]، حتى لعب الصبيان بالجوز، وجاء عن عليّ أنه عد منه الشطرنج، فالمقصود أن القمار بجمع أنواعه يدخل في جملة الميسر، والله أعلم.
تجدون هذا في صفحة (470)، و(478).
وَالْأَنْصابُ مضى أنها أحجار يذبحون عليها، تقربًا لآلهتهم ومعبوداتهم، من دون الله ، أو أنها أصنام يذبحون عندها، أو تُنصَب للعبادة، يعني أحجار يذبحون عندها، أو ما يُنصَب للعبادة من الأصنام ونحوها، وبعض السلف فسره بالحجارة التي يذبحون عندها على سبيل الخصوص، يعني غير الأصنام، وبعضهم عممه، فكل ما نُصِب للعبادة فهو داخلٌ فيه، وقد جاء عن ابن عباس، ومجاهد، وعطاء، وسعيد بن جبير، والحسن أنها حجارة، كانوا يذبحون قرابينهم عندها[2]، يعني غير الأصنام.
والحافظ ابن القيم -رحمه الله فسره: بكل ما نُصِب ليُعبَد من دون الله، فهو من جملة الأنصاب[3]، سواءً كان حجرًا، أو شجرًا، أو وثنًا، أو قبرًا، فهو يدخل في جملة الأنصاب.
وَالْأَزْلامُ فُسِرَت: بالقداح التي يضربون بها، يعني للتكهن، ومعرفة الغيب، هل يفعل أو لا يفعل؟ هل يُسافِر أو لا يُسافِر؟ هل يتزوج أو لا يتزوج؟ ونحو ذلك، فيضعون ثلاثة أقداح، أحد هذه الأقداح موجب يعني افعل، والثاني: سالب، لا تفعل، والثالث: ليس فيه شيء، وإذا خرج الذي ليس فيه شيء أعاد، ويفعل بمقتضى ذلك، يعني إذا خرج له لا تفعل، فلا يفعل، فهذا من عمل الجاهلية، يطلبون علم ما استأثر الله به بهذه الأمور.
ابن عباس -ا- فسره هنا بالسخط رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ أي: سخطٌ من عمل الشيطان.
وابن جرير -رحمه الله- يقول: إثم ونتن[5]، والرجس يُقال للنجس نجاسةً حسية، أو نجاسةً معنوية، ومن هنا اختلفوا في هذا الموضع: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ هل الخمر نجسة نجاسة معنوية، أو أنها نجاسة حسية؟ وإذا نظرنا إلى دلالة الاقتران، ودلالة الاقتران فيها كلام معروف للأصوليين، وهي على مراتب، ليست على ميزانٍ واحد، فمنها القوي، ومنها الضعيف، ومنها ما هو بين بين.
فالمقصود أن الله قرن هنا بين الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ ولا شك أن الميسر، والأنصاب، والأزلام أن نجاستها معنوية وليست حسية، فبهذا الاقتران فهم جماعة من أهل العلم أن الرجس هنا المقصود به النجاسة المعنوية، حتى في الخمر، وأنها ليست بنجسة العين، وهذا القول له وجه، ومما يدل عليه أنهم أهرقوها في الطرقات، قالوا: ولو كانت نجسة العين لما لوثوا بها الطرق ونجسوها، ويترتب على هذا من الأحكام فيما يكون من هذه الكحول المسكرة، فالكحول نوعان: نوع سام، ونوع مُسكِر، فالنوع المُسكِر إذا دخل في الطيب والعطور هل يُقال: بأن ذلك يكون نجسًا فإن أصاب الثوب يُغسَل؟ باعتبار أنها نجسة العين، وكل ما أسكر فهو خمر، فهي بهذا الاعتبار مُسكِرة، أو أن النجاسة معنوية؟ إذا قلنا: بأنها ليست بنجسة العين فيبقى عموم المقتضى، وهذه مسألة أخرى، لكن الكلام على نجاسة العين في قوله: فَاجْتَنِبُوهُ ولم يقل: اجتنبوا شربه فقط، فهل يدخل فيه سائر أنواع الانتفاع؟ وهل فيما إذا رُكِب مع أشياء أخرى مما لا يخلو منه كثير من مصالح الناس اليوم، مما تتعطل به مصالح حيوية لو أنه تُرِك، فهل يُقال بأن ذلك لا يجوز بإطلاق؛ لعموم قوله: فَاجْتَنِبُوهُ؟ ويسمونه عموم المقتضي، يعني المحذوف المقدر، كما يقول صاحب المراقي:
والمقتضي أعم جل السلف[6] |
فهل هذا يدخل فيما ذُكِر في هذا المثال، فيُجتَنب مطلقًا لا لأنه نجس العين؟ فهذا يحتمل، ولكنه يُشكِل عليه: أن هذه لم يُقصَد بها أصلاً الشرب، ولا تُعَد له، فهذه الأنواع من الأشياء التي يُقال عنها: إنها قد تُسكِر تدخل في أنواع من مثل الطلاء، بل أيضًا الوقود (البنزين) ونحو هذا، يسكر بعض الناس منه، فهل يُقال: إن هذا يحرم؟ لا يقال بحالٍ من الأحوال، ولا أعلم أحدًا يقول بهذا، فإذا تبيّن مثل هذا فقد يكون ذلك طريقًا للنظر، أو بيان حكم استعمال مثل هذه فيما دون ذلك، مثل العطور، بحيث لا يكون تفريق بلا مفرق، فتكون على نهجٍ واحد في الحكم، ما يُقال هذا نعم، وهذا لا، والله أعلم؛ لأن ذلك مما لا يُعد أصلاً للشرب، ومن ثم يجوز استعماله، كمثل هذه الطلاءات، ومواد الغراء، والوقود، فهل يقول أحد بأن هذا يُمنَع؟ الجواب: لا، والله أعلم.
والأقرب أن نجاسة الخمر نجاسة معنوية، وليس حسية، لما سبق، ولا سيما إذا فُسِر بما ذُكِر هنا عن ابن عباس بأنه سخط، فهنا لم يذكر النجاسة، وكذلك قول ابن جرير بأنه: إثم ونتن، فلم يذكر النجاسة، سواءً كانت معنوية أو حسية، مع أن الرجس كما سبق يُطلَق على النجس.
وبهذا قال ابن كثير -رحمه الله-: إن الخمر، والميسر، والأنصاب، والأزلام هذه الأربعة رجس[7].
هناك مرويات في سبب النزول صحيحة منها: ما في صحيح مسلم عن مصعب بن سعد عن أبيه أنه قال: أتيت على نفرٍ من الأنصار والمهاجرين، فقالوا: تعال نُطعِمُك، ونسقيك -يعني خمرًا-؛ وذلك قبل أن تُحرَم الخمر، قال: فأتيتهم في حشٍ -يعني بستان-، فإذا رأس جزورٍ مشوي عندهم، وزقٌ من خمر، قال: فأكلت وشربت معهم، قال: ذكرت الأنصار والمهاجرين عندهم، فقلت: المهاجرون خيرٌ من الأنصار، قال: فأخذ رجلٌ أحد لحيي الرأس، فضربني به، فجرح بأنفي، فأتيت رسول الله ﷺ فأخبرته، فأنزل الله فيّ -يعني نفسه- شأن الخمر: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ... إلى آخره[8]، هذا في صحيح مسلم، فهي رواية ثابتة، لا مطعن فيها، وهي صريحة في سبب النزول، وجاءت روايات أخرى لكن تكفي هذه الرواية.
هذا أخرجه بعض أصحاب السنن، كأبي داود[10]، والترمذي[11]، وقال عن إسناده عليِّ بن المديني: بأنه إسنادٌ صالح[12]، فهذا ثابت عن عمر تُلِيت عليه لأنه كان يسأل النبي ﷺ، ويترقب نزول حكم واضح في الخمر، ويدعو بهذا، فتُلِيَت عليه الآية الأولى فيهما فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ [البقرة:219] على القول بأنها الآية الأولى في الخمر، ثم قال: "اللهم بيِّن لنا في الخمر بيانًا شافيًا"[13]، ثم تُلِيَت عليه الآية التي في سورة النساء: لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى [النساء:43] فدعا أيضًا، ثم تُلِيَت عليه هذه الآية، فقال: انتهينا، انتهينا.
"قوله تعالى: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا [المائدة:93] قال: فيها تأويلان:
أحدهما: أنه لما نزل تحريم الخمر قال قوم من الصحابة: كيف بمن مات منا وهو يشربها؟ فنزلت الآية معلمةً أنه: لا جناح على من شربها قبل التحريم؛ لأنه لم يعص الله بشربها حينئذٍ.
والآخر: أن المعنى رفع الجناح عن المؤمنين فيما طعموا من المطاعم إذا اجتنبوا الحرام منها، وعلى هذا أخذها عمر حين قال لقدامة: إنك إذا اتقيت الله اجتنبت ما حرم عليك، وكان قدامة قد شربها، واحتج بهذه الآية على رفع الجناح عنه، فقال عمر: أخطأت التأويل[14]".
لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ الجناح هو الإثم كما مضى في الغريب، وقيل له ذلك لميله عن الحق.
يقول: "فيها تأويلان:
أحدهما: أنه لما نزل تحريم الخمر قال قوم من الصحابة: كيف بمن مات منا وهو يشربها؟ فنزلت الآية" هذا جاء عن جماعة من الصحابة كبراء، وأنس بن مالك، وابن عباس -رضي الله عن الجميع-[15]، يعني من شربها قبل التحريم، وهذا واضح وظاهر لا إشكال فيه، وقد جاء عن أنس قال: كنت ساقي القوم في منزل أبي طلحة، وكان خمرهم يومئذٍ الفضيخ، يعني من البسر المفضوخ، فأمر رسول الله ﷺ مناديًا: ألا إن الخمر قد حُرِمَت قال: فقال لي أبو طلحة: اخرج فأهرقها، فخرجت فهرقتها، فجرت في سكك المدينة، فقال بعض القوم: قد قُتِل قومٌ وهي في بطونهم، فأنزل الله: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا[16]، وهذا مخرج في الصحيحين، وهو صريح في سبب النزول، يعني أن قوله: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا نزل بسبب هذا الإشكال والسؤال عن أولئك الذين ماتوا وهي في أجوافهم، شربوها قبل نزول التحريم، ومعلومٌ أن من الشروط العامة في التكليف العقل، وبلوغ الخطاب، هذا في كل التكاليف، وتبقى بعض التكاليف الخاصة لها شروطٌ تتعلق بها، يعني مثل الصلاة: دخول الوقت، واستقبال القبلة، والطهارة، ونحو ذلك، فهناك شروط خاصة بالعبادة، وهناك شروط عامة، فهؤلاء لم يبلغهم الخطاب.
قال: "والآخر: أن المعنى رفع الجناح عن المؤمنين فيما طعموا من المطاعم" وهذا لا يتعلق بالخمر، لكن سبب النزول يدل على أن المراد الخمر، وليس فيما تناولوا من الأطعمة إذا اجتنبوا الحرام.
قال: "وعلى هذا أخذها عمر حين قال لقدامة" قدامة بن مظعون، وهو من المهاجرين، وكذلك أيضًا شهد بدرًا كان في البحرين، تأول هذه الآية، باعتبار أنه آمن، واتقى، وهاجر، وجاهد، فشرب الخمر، فدعاه عمر ، وسأله عن ذلك، فتأول الآية، ورد عليه عمر ، وهذا أيضًا ثابت وصحيح، لكن سبب النزول يوضح المعنى، ومعلومٌ أن من فوائد معرفة أسباب النزول بيان المعنى لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا... إلى آخره، ولولا سبب النزل هنا لحُمِلَت على المعنى الآخر، فهو إن كان صحيحًا في نفسه، إلا أن سبب النزل يُبيِن المراد، والله أعلم.
يعني باعتبار أن التأسيس مقدم على التوكيد، فتكون التقوى الثانية غير الأولى، فتلمسوا لها مثل هذه المخارج، والمعاني، والمحامل، والله تعالى أعلم، وهذا لا إشكال فيه إذا كان قريبًا من غير تكلف، يعني كما مضى في بعض المناسبات في قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ [الحشر:18] فكثير من المفسرين يقولون: الثانية تأكيد للأولى، ولكن يمكن أن يُقال: بأن الثانية غير الأولى، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ فهذا أمرٌ بالتقوى ليكون توطئةً لهذه المحاسبة، ثم قال: وَاتَّقُوا اللَّهَ أي في هذه المحاسبة، فكثير من الناس لا يتقي الله في محاسبة نفسه، فهذا وجه، وهكذا في صور وأمثلة كثيرة بناءً على أن التأسيس مقدم على التوكيد.
وإن كان الذين يقولون بالتوكيد يقولون: هذا من سنن العرب في كلامهم، والقرآن نزل بلغة العرب، فهذا التوكيد جارٍ على طريقتهم، ومخاطباتهم، وكلامهم؛ لذلك تجد الذين يجرون على هذا التأسيس دائمًا، يقولون: لا يوجد ما هو مكرر في القرآن، يعني حتى مثل الآيات: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ [الرحمن:13] يقول: كل واحدة تتعلق بالتي قبلها وليس مجرد تكرار، وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ [المرسلات:15] تتعلق بالتي قبلها، وكل واحدة تتعلق بالتي قبلها، وهكذا قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ [الكافرون2:1] يعني الآن، وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ [الكافرون:3] يعني في المستقبل، وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدتُّمْ [الكافرون:4] في المستقبل، وبعضهم يقول عكس هذا، لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ في المستقبل، وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ في المستقبل، ولا أنا الآن مقيم على عبادة الأصنام، وهكذا، وذكر مثل هذا شيخ الإسلام -رحمه الله-[17]، وكثير من أهل العلم.
"قال: وقيل: الأولى للزمان الماضي، والثانية للحال، والثالثة للمستقبل.
قوله تعالى: وَأَحْسَنُوا [المائدة:93] يحتمل أن يريد الإحسان إلى الناس، أو الإحسان في طاعة الله، وهو المراقبة".
يعني مرتبة الإحسان.
على كل حال هذا لا يُحتاج معه إلى كلام الصوفية، فالنبي ﷺ ذكر مراتب الدين: الإسلام، والإيمان، والإحسان، كما في حديث جبريل -عليه الصلاة والسلام-، وكما ذكرنا من قبل في الكلام على الكتاب بأن المؤلف -رحمه الله- أحيانًا ينقل بعض كلام الصوفية.
وعلى كل حال هذا يحتمل أن يكون باعتبار الحالات الثلاث، يعني استعمال التقوى والإيمان بينه وبين نفسه، وبينه وبين الناس، وبينه وبين الله، فتكون هذه بهذا الاعتبار، أو باعتبار ما يُتقَى، فيترك المحرمات خشية العقاب، والشبهات لئلا يقع في الحرام، وبعض المباحات من أجل التحفظ للنفس، فمثل هذا يحتمل.
وكما ذكر الشاطبي -رحمه الله- بأن التوسع في المباحات يُوقِع في المشتبهات، يعني أنه لا يُحمَد التوسع في المباحات.
وبعضهم يقول بأن: إِذا مَا اتَّقَوْا الأولى يعني المحرمات، ثُمَّ اتَّقَوْا يعني ما حُرِم عليهم بعد ذلك، ثُمَّ اتَّقَوْا ما حُرِم عليهم بعد ذلك التحريم يعني في التشريعاتٍ الجديدة، فهم منقادون متبعون لشرع الله -تبارك وتعالى- النازل، وأيضًا هم في غاية الاستسلام لما ينزل.
وهذه الأوجه التي ذُكِرَت قد لا تكون من القوة والظهور بمكان، وابن جرير -رحمه الله- يقول: بأن الأول إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا يعني بتلقي أمر الله بالقبول، والتصديق والدينونة والعمل، والثاني: ثُمَّ اتَّقَوْا الثبات على هذا التصديق، والثالث: بالإحسان والتقرب بالنوافل[18]، وهذا له وجه، لكن كل هذا بناءً على أن التأسيس أولى من التوكيد.
مع الإحرام وفي الحرم، وكان الصيد من معاش العرب ومن معايش العرب، كل هذا لا إشكال فيه.
لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ في حال الإحرام أو في الحرم وبعض أهل العلم كالإمام مالك قال: إن الخطاب هنا: لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ كان هذا الخطاب للمحلين في عام الحديبية[19]، والحديبية بعضها في الحرم، وبعضها في الحل، وقال ابن عباس: للمحرمين[20]، والأقرب -والله أعلم- أنها للعموم، فهو خطاب لأهل الإيمان، فسواءً كان محلاً في الحرم فلا يحل له أن يصيد من صيد الحرم، أو كان محرمًا فلا يحل له الصيد لا في الحرم ولا خارج الحرم، للإحرام، هكذا يبدو، والله تعالى أعلم.
تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ يقول مجاهد: "الذي تناله الأيدي: الفراخ والبيض" قال: "وصغار الصيد" يعني مما لا يستطيع أن يفر.
وجاء عن ابن عباس -ا-: الضعيف من الصيد، وصغيره[22]، والذي تناله الرماح: كبار الصيد، والظاهر عدم هذا التخصيص، فمعنى: تناله أيديكم ورماحكم: أنه من القرب بمكان بحيث تناله الأيدي أو الرماح، يعني يحوم حولهم، والعادة أن الوحشي يفر، فهذا يحوم حولهم بحيث تناله أيديهم ورماحهم، وهذا يحصل أحيانًا ابتلاءً، ويحصل في غير الحرم ولغير المحرم، في البلاد التي ما اعتاد الصيد أن يتعرض له أحد، فتجد أن هذه الصيود لا سيما في الليل، واقفة لا تتحرك حركةً تذكر، ويأتي الإنسان بجانبها ويكاد يأخذ ذلك بيده، وهي من كبار الصيد، من الظباء ونحوها، يعني ليس بينه وبينه إلا أقل من متر، وهي لا تذهب ولا تتحرك؛ لأنها ما اعتادت أن يتحرك لها أحد أصلاً.
فهذا ابتلاء من الله -تبارك وتعالى- لهم، كما ابتُلِيَ بنو إسرائيل في الصيد في يوم السبت، فيوم السبت تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ [الأعراف:163] فلم يصبروا، ويثبتوا مع هذا الابتلاء، وأصحاب النبي ﷺ ثبتوا، مر بظبيٍ حاقف، يعني: قد مال عنقه إلى جنبه، فقال: لا يريبه أحد[23]، فلم يتعرض له أحد، مع أن النفوس إذا رأت الصيد في بلاد العرب فإنها لا تتمالك، ومع ذلك لم يتعرض له أحد، وهو في غاية الإغراء.
وخص الأيدي في قوله: تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ باعتبار أنها أعظم تصرفًا في الاصطياد، وفيها تدخل الجوارح والحبالات، وما عُمِل باليد من شباك وفخاخ، ويدخل في ذلك السهم، ونحوه، وهذا المعنى ذكره بعض أهل العلم كابن عطية[24]، وغيره، فالمعنى يكون أوسع من مجرد القبض باليد، فكل ما يكون عن طريق اليد من جوارح الكلاب والصقور، ونحو ذلك، وكذلك أيضًا ما يُنصَب ويُوضَع من الشباك ونحوها، والرماح يدخل في وقتنا هذا الرمي بهذه الآلات والأسلحة الحديثة.
وبعضهم يقول: عبّر بالأيدي والرماح؛ ليشمل الصيد القريب والبعيد، وهذا يرجع إلى معنى ما سبق إلى حدٍ ما، فبعضٌ من الصيد يُتناول بالأيدي لقربه، حتى تتمكن منه اليد وبعضٌ منه يُنَال بالرماح لبعده وتفرقه.
وبعضهم يقولون: عبّر بقوله: تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ للدلالة على غاية قرب الصيد، وكأن هذا هو التي يُشعِر به ظاهر الآية؛ لأن الله قال: لِيَعْلَمَ فهو ابتلاء على غير العادة، حتى لو شاءوا لتناولوه بأيديهم، فنهاهم الله أن يقربوه، وبهذا يقع الابتلاء، ويغشاهم في رحالهم، ويتمكنون من أخذه بالأيدي والرماح؛ ليظهر من يطيع ويعصي.
فمثل هذا الذي يُعلَق بعلم الله في المستقبل لِيَعْلَمَ اللَّهُ كذا، فالمقصود به دائمًا العلم الذي يترتب عليه الجزاء، يعني علم الوقوع، فالله يعلم ما كان، وما يكون، وما لم يكن لو كان كيف يكون، لكن الله لا يُحاسِب الناس بمقتضى علمه، وإنما إذا وقع ذلك منهم، فهذا علم الوقوع الذي يترتب عليه الجزاء.
يعني اعتدى بعد هذا الإنذار.
ومقاتل بن حيان يقول: إن هذه الآية نزلت في عمرة الحديبية، كما سبق، يقول: فكانت الوحش والطير والصيد تغشاهم في رحالهم، لم يروا مثله قط فيما خلا، فنهاهم الله عن قتله وهم محرمون[25]، يعني حتى الطير، وهذا لا يُستَغرب أولاً لأنه ابتلاء، وأيضًا كما ذكرت لكم: أن في البلاد غير بلاد العرب ما اعتاد الصيد أن يُتعرَض له، يعني تجلس في مكان والطيور التي يذهب الناس ويُسافِرون من أجل صيدها بجوارك، وتحوم بكثرة، وهذا شاهدته، ولم أكن متتبعًا للصيد، ولا مسافرًا له، لكن شاهدته، وشاهدت كبار الصيد من الظباء ونحوها تنالها الأيدي، وليس في الحرم ولا في الإحرام، وإنما في بلاد أخرى، وليست في أماكن حدائق حيوانات مفتوحة ولا غيرها، وإنما في الفلوات والصيد يحوم، والطيور تحوم، وكذلك كبار الصيد تنالها الأيدي، وبكثرة، هذا في الليل، وأما في النهار فتجدها على بعد مائة متر، ونحو ذلك بكثرة، فلا يُستغرَب مثل هذا، لا سيما أن الذي وقع هنا في هذه الآية ابتلاء.
يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ [المائدة:95] الحُرُم يدخل فيه حال الإحرام، والتلبس به، وكذلك إذا كان في الحرم، ولو كان غير محرم.
قال: "والصيد هنا عامٌ خصّص منه الحديث: الغراب..." إلخ آخره، وهذا جاء عن جماعة الصحابة يرونه عن النبي ﷺ، من حديث عائشة[28]، وابن عمر عن حفصة[29]، وأبي هريرة[30]، وأبي سعيد الخدري[31].
قال: "وأدخل مالكٌ في الكلب العقور كل ما يؤذي الناس من السباع وغيرها" يعني ما يكون منه إغارة على الناس، وهجوم عليهم، ونحو ذلك، فهو داخلٌ فيه، وهذا صحيح، لا سيما أن الكلب يُطلَق بإطلاقٍ أوسع، فيُدخِلون فيه الأسد، والنمر، والفهد، والذئب، ونحو ذلك، وذكرت في بعض المناسبات: أن أبا العلاء المعري لما دخل المسجد، وعثر برجل نائم، فقال النائم: من هذا الكلب؟ فقال أبو العلاء المعري: الكلب من لم يعرف للكلب سبعين اسمًا.
والسيوطي -رحمه الله- ألف رسالةً سماها التبري من معرة المعري؛ لئلا يقع في مثل هذا، فيناله مثل هذا الوصف، فجمع للكلب أكثر من سبعين اسم، ثم نظمها، لكن إذا نظرت في هذه الأسماء التي يذكرونها، ومثل حديث: اللهم سلط عليه كلبًا من كلابك[32]، فعدا عليه الأسد، فالكلب، والذئب، والأسد، والنمر، والفهد كلها يُقال لها: كلب، مع أن العلماء المعاصرين، وعلماء الحيوان يفرقون -كما هو معلوم- بين الكلبيات، فيدخلون فيها مثل الذئب، والسنوريات: فيدخلون فيها الأسد، والقط، والنمر، والفهد، ونحوها، فيجعلون هذه فصيلة، وهذه فصيلة، لكن في لغة العرب وكلامهم، وفي مقتضى الحديث أن ذلك سواء، فالكلب العقور قد يدخل في هذه جميعًا، فيدخل فيه الذئب وغيره.
يقول أيوب السختياني -رحمه الله-: فقلت لنافع: فالحية؟ قال: الحية لا شك فيها، ولا يُختَلف في قتلها[33]، يعني لا تحتاج إلى تنبيه.
قال ابن كثير: وأُلحِق بالكلب العقور: الذئب، والسبع، والنمر، والفهد؛ لأنها أشد ضررًا منه[34]، أو أن الكلب يُطلَق عليها، إما أنها من باب أولى إذا قلنا: إنه لا تدخل في مسمى الكلب، أو باعتبار أنها داخلة في هذا الإطلاق.
يقول: "وقاس الشافعي على كل ما لا يؤكل لحمه" هذا فيه إشكال، وإنما ما يؤذي.
يقول: "ولفظ الصيد يدخل فيه ما صيد، وما لم يصد" يعني الصيد مصدر، فيكون بمعنى المفعول، يعني ما صيد، المصيد، يعني لو أن أحدًا في حوزته صيد هل له أن يذبحه، الجواب: لا، لو أُهدِي له صيد هل له أن يذبحه؟ الجواب: لا، ولو طلب منه أحد أن يذبح صيدًا، يعني وجد امرأة معها صيد، فقالت: اذبح لي هذا الظبي، فليس له أن يقتل الصيد وهو محرم، لا لنفسه، ولا لغيره، فيُطلَق الصيد على ما صيد وعلى ما لم يُصَد: لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ فذاك يُسمَى صيد، قبل أن يُصاد وبعد أن يُصاد، كل ذلك منهي عنه.
أما الاصطياد وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ماَ دُمْتُمْ حُرُمًا الصيد هنا أيضًا يشمل ما صيد، لكن لو أنه صاده غير محرمٍ، فهنا يُنظَر إن صاده لمحرم، أو أعانه عليه محرم بإشارةٍ، أو دلالةٍ، أو بأي نوع من المعاونة، فلا يصح للمحرم أن يأكل منه، وأما ما صاده المحرم، فهذا لا يجوز أن يأكله لا المحرم ولا غير المحرم، يعني بمنزلة الميتة على الراجح.
وأما ما صاده الحلال للمحرم، فهذا لا يجوز للمحرم أن يأكله، ويجوز للحلال أن يأكله؛ لحديث الصعب بن جثامة لما أهدى للنبي ﷺ حمارًا وحشيًا فرده، فلما رأى الكراهة في وجهه، قال: إنا لم نرده عليك إلا أنا حرم[35]، ودلالة عليه ونحو ذلك وهذا يدل أيضًا الحديث الآخر لما سأل النبي ﷺ أصحابه: أمنكم أحد أمره أن يحمل عليها، أو أشار إليها؟[36].
هذا قال به أهل الظاهر وغير أهل الظاهر، وممن قال به: سعيد بن جبير، وطاووس، والحسن، والنخعي، وأبو ثور[37]، وداود الظاهري[38]، وهو رواية عن الإمام أحمد[39]، ومن المعاصرين قال بهذا الشيخ محمد الشنقيطي -رحمه الله-[40]، باعتبار أن القيد هنا معتبر في المفهوم، وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فهذا مفهوم صفة، فمفهوم المخالفة هنا أنه إن لم يكن متعمدًا، فليس عليه شيء، وكأن هذا هو الأرجح، والله تعالى أعلم.
وأما من لم يُفرِق بين المتعمد وغيره، فماذا قالوا عن مثل هذا القيد؟ قالوا: لا مفهوم له، لماذا؟ قالوا: إما لأنه عبر بالمتعمد باعتبار أنه أشد وأشنع، أو باعتبار أن ذلك غالبًا لا يكاد يقع إلا بطريق العمد، فعبّر بهذا، يعني خرج مخرج الغالب، ومفهوم المخالفة حجة إلا في نحو سبعة مواضع فلا يكون فيها حجة، أو جرى على الغالب، كما قال في المراقي:
أو جرى على الذي غلب[41] |
ففي هذه لا يكون له مفهوم.
وممن قال: إنه لا فرق بين متعمد وغير المتعمد ابن جرير أيضًا[42].
"وقال جمهور الفقهاء: المتعمد والناسي سواء في وجوب الجزاء، ثم اختلفوا في تأويل قوله: مُتَعَمِّدًا على ثلاثة أقوال:
أحدها: أن المتعمد إنما ذكر ليناط به الوعيد الذي في قوله: وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ إذ لا وعيد على الناسي".
قد لا يرد النسيان هنا بصورته المعهودة الظاهرة، اللهم إن أصابه ذهول ونسي إحرامه حينما رأى الصيد، لكن الغالب أن ذلك يقع بالخطأ، كأن يصدمه مثلاً بالسيارة خطأ، فلو أنه صدم طائرًا، أو صدم يربوعًا، أو نحو ذلك، فماذا عليه؟
والثاني: أن الجزاء على الناسي بالقياس على المتعمد.
والثالث: أن الجزاء على المتعمد ثبت بالقرآن، وأنّ الجزاء على الناسي ثبت بالسنة".
يعني على الثاني والثالث أن تكون الآية في المتعمد، وأن ذلك ليس بطريق أنه خرج مخرج الغالب؛ وإنما المقصود المتعمد، طيب والناسي ما حكمه؟ قالوا: قياسًا، أو باعتبار أن ذلك دلت عليه السنة.
والحافظ ابن كثير -رحمه الله- نقل عن الزهري قوله: دل الكتاب على العامد، وجرت السنة على الناسي[43]، قال ابن كثير: ومعنى هذا أن القرآن دل على وجوب الجزاء على المتعمد، وعلى تأثيمه بقوله: لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ وجاءت السنة من أحكام النبي ﷺ، وأصحابه في وجوب الجزاء في الخطأ، كما دل الكتاب عليه في العمد، وأيضًا فإن قتل الصيد إتلاف، والإتلاف مضمون في العمد والنسيان، لكن المتعمد مأثوم، والمخطئ غير ملوم[44].
يعني باعتبار أن إتلاف فيضمن ما أتلفه، هكذا يحتج من يقول بأن عليه الجزاء، هو يجب عليه ضمان ما أتلفه في حقوق الآدميين ولو كان مخطئًا، لكن في مثل هذا في الصيد، فالله نص على المتعمد، فظاهر الآية -والله أعلم- أن غير متعمد لا يشمله الحكم.
يعني هذه القراءة التي نقرأ بها فَجَزاءٌ مِثْلُ [المائدة:95] وهي قراءة عاصم، ومن معه من قراء أهل الكوفة، وقراءة الجمهور كما في قراءة المؤلف هنا، وهي قراءة نافع بغير التنوين، (فجزاءُ مثلِ)[45].
يقول هنا: "المعنى: فعليه جزاء، وقرئ بإضافة جزاء إلى مثل، وهو من إضافة المصدر إلى المفعول به" (فجزاءُ مثلِ)، فجزاء مصدر، فيكون من إضافة المصدر إلى المفعول به "وقيل: (مثل) زائدة، كقولك: أنا أكرم مثلك، أي: أكرمك" وهذا سبق الكلام على قضية الزيادة، وهل يليق أن يقال: في القرآن زائد أو لا؟ فمنع بعض أهل العلم من هذا، والكلام كثير في مثل قوله: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11].
"وقرئ فجزاءٌ بالتنوين، و(مثلُ) بالرفع على البدل أو الصفة" ويمكن أن يكون جزاءٌ مبتدأ، والخبر محذوف، والتقدير: فعليه جزاء، أو أنه خبر لمبتدأ محذوف، والتقدير: فالواجب جزاء، أو أنه فاعل لفعلٍ محذوف، والتقدير: فيلزمه جزاء.
الأقرب: أنه يُنظَر فيه إن كان له مثل فيجب عليه أن يُخرِج المثل هذا الأصل، وإن لم يكن له مثل فعند ذلك يُقوَم، وما حكم به الصحابة فلا يحتاج على حكم حكمين، فيكفي حكم الصحابة .
وهذا الأقرب، لكن الإمام مالك -رحمه الله- أخذ ذلك من قوله تعالى: يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ كأن كل واقعة عنده تحتاج إلى تحكيم.
المثل في اللحم يعني في المقدار، فلا يُشترَط السن، وهَدْيًا جمع هدية، وهنا مختص بما يُهدَى إلى البيت من الأنعام.
المقصود إخراج المثل، فهذا هو الجزاء الذي يحصل به، ولو اشتراه من الحرم.
يُقدر، لا إشكال.
أن يقال، أو أي يُقال، لا إشكال.
فقوله هنا: أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِيامًا العدل هنا يمكن أن يكون مثل ذلك صيامًا، أو ما يُعادِله، يقول: "فذكر أولاً الجزاء من النعم، ثم الطعام، ثم الصيام بهذا الترتيب" يعني أنه يجب أن يكون مرتبًا هكذا، قال: "ومذهب مالكٍ والجمهور أنها: على التخيير" وهذا الذي اختار ابن جرير -رحمه الله-[56]، يقول: "وهو الذي يقتضيه العطف بـ(أو) ومذهب ابن عباسٍ أنها: على الترتيب".
وقال في الحاشية هنا: إذا أصاب المحرم الصيد وجب عليه جزاؤه، فإن كان عنده جزاؤه ذبحه، وتصدق بلحمه، وإن لم يكن عنده جزاؤه قُوِم جزاؤه دراهم، ثم قُوِمت الدراهم طعامًا، لاحظ هنا الذي يقوم هو الجزاء، يعني على قول الشافعي -رحمه الله-، فصام مكان كل نصف صاع يومًا، وإنما أريد بالطعام الصيام، وأنه إذا وجد الطعام وجد جزاؤه.
وهنا يقول: "على الترتيب" وعن ابن عباس -ا- من طريق ابن أبي طلحة: فإذا قتل المحرم شيئًا من الصيد حُكِم عليه فيه، فإن قتل ظبيًا أو نحوه فعليه شاة تُذبَح بمكة، فإن لم يجد فإطعام ستة مساكين، فإن لم يجد فصيام ثلاثة أيام، فإن قتل أيلاً أو نحوه فعليه بقرة، فإن لم يجد أطعم عشرين مسكينًا، فإن لم يجد صام عشرين يومًا، فإن قتل نعامةً أو حمار وحش، أو نحوه فعليه بدنة من الإبل، فإن لم يجد أطعم ثلاثين مسكينًا، فإن لم يجد صام ثلاثين يومًا[57]، وهذا فيه إشكال في تقدير الطعام، والصيام.
هنا يقول: ولم يبين الله هنا مقدار الطعام، فرأى العلماء أن يقدّر الجزاء من النعم، إلا أنهم اختلفوا في كيفية التقدير، فقال مالك: يقدر الصيد المقتول نفسه بالطعام أو الدراهم، ثم تقوم الدراهم بالطعام، فينظر كم يساوي من طعام أو من دراهم وهو حي، وقال بعض أصحابه: يُقدَر الصيد بالطعام، وليس بالدراهم، يعني البدنة والشاة مثلاً كم تُشبِع من نفس، البدنة مثلاً مائة، فكم طعام المائة، يعني تُخرِج مثلاً مائة مد، كل مد بصيام يوم، وهكذا، ثم يُخرِج قدر شبعهم طعامًا.
"وقال الشافعي: لا يقدر الصيد نفسه، وإنما يقدّر مثله، وهو الجزاء الواجب على القاتل له" يعني إذا كانت الحمامة فيها شاة، باعتبار أنها تشرب مثل الشاة، يعني وُجِدت المشابهة في الشرب، فإذا كانت فيها الشاة هل يُقدَر الحمامة بالطعام، أو يُقدَر الجزاء التي هو الشاة؟ فالفرق كبير، أليس كذلك؟ يعني يترتب على أنه يُقدَر الصيد أو جزاء الصيد يترتب عليه فرق ليس باليسير.
يعني جزاء الذنب، أو ثقل فعله مثلاً، أو نحو ذلك، وأصل الوبال كما مضى في بعض المناسبات، وفي الغريب: الوبال والوبيل، فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ [التغابن:5] أصله المرعى الوخيم الذي تنجذب إليه البهائم ثم يقتلوها، يعني يكون فيه نباتات سامة ونحو هذا، يُقال: مرعىً وبيل، ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ يعني عاقبة أمرهم السيئة.
ينتقم الله منه بوجوب الكفارة هذا قال به بعض السلف، كسعيد ابن جبير، وعطاء[60]، أو ينتقم منه بعذاب الآخرة.
يُقال: مالحًا وملحًا، كل هذا في اللغة صحيح، لكن الغالب أو الأصح والأفصح أن يُقَال: ماء مِلح وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ [الفرقان:53] قال: أو عذبًا، وابن جرير -رحمه الله- حمله على الأنهار[61]، والأقرب أنه يعم ذلك جميعًا.
القول بأن ذلك قال به أبو بكر لا يصح عنه، وثبت ذلك عن عمر ، وجاء عن جماعة كبيرة من الصحابة ، كابن عباس -ا-، وزيد بن ثابت، وأبي هريرة، وأبي سلمية بن عبد الرحمن من التابعين، وسعيد بن جبير، والسدي، وقتادة، وسعيد بن المسيب، ومجاهد[64].
قال: "وقال ابن عباسٍ: طعامه ما ملح منه، وبقي" يعني المجفف الذي يحملونه معهم في السفر، ويدخرونه، ولكن رده ابن جرير -رحمه الله- باعتبار أن المليح إن كان مما صيد فهو راجع للأول[65]، فهو صيد، يعني لا يتقيد بالمليح، والرواية المشهورة عن ابن عباس -ا-: أن طعامه ما لفظه ميتًا، وهذا الذي اختاره ابن جرير -رحمه الله-[66]، وبعضهم يقول: طعامه ملحه الذي ينعقد من مائه، وسائر ما فيه من النباتات[67]، وهذا في غاية البُعد، طعام البحر يعني الملح، يعني يجوز لك أن تأخذ الملح البحري، وتضع ذلك في طعامك، أو النباتات البحرية، فهذا حديث عن الصيد وليس عن هذا، صيد البحر وطعامه، يعني ما لفظه ميتًا، والله أعلم.
مَتاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ خطاب بـ(لكم) للحاضرين في البحر، وللسيارة للمسافرين، وابن جرير -رحمه الله- حمل لكم يعني للمقيمين، يعني يا معاشر المقيمين في بلادكم[68]، وبهذا قال الواحدي[69]، وابن عطية[70]، وسبقهم إلى ذلك مقاتل[71]، وحمله ابن عاشور على المخاطبين[72] بقوله: أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ باعتبار كونهم متناولين الصيد، يعني متاعًا للصائدين، وللسيارة، والسيارة هم المسافرون، يعني متاعًا للجميع للمقيم، والمسافر، أو لمعاشر المخاطبين، الذين قال لهم: أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ.
وجاء عن عكرمة لمن كان بحضرة البحر والسفر[73]، وبعضهم يقول: الطري لمن يصطاده من حاضرة البحر، وطعامه ما مات فيه، أو اصطيد منه، وملح وقدد زادًا للمسافرين والنائين عن البحر[74]، وتعرفون ذكرت كلام ابن جرير واعتراضه على هذا، وجاء نحو هذا عن مجاهد والسدي بالإضافة إلى ما نقل عن ابن عباس -ا-، مع أن الرواية في هذا عن ابن عباس يعني قوله: إنه المملح، لا تثبت عنه، والمشهور عنه أن طعامه: ما لفظه ميتًا، يعني مثل قول الجمهور.
هنا قوله: مَتاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ قال: "أي: هو متاعٌ تأتدمون به" هو أعم من هذا، تأتدمون به، وتبيعونه، إلى آخره، فالمتاع أوسع وأعم مما ذُكر.
قوله: وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا [المائدة: 96] حمله ابن جرير -رحمه الله- على أعم معانيه وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ أي: بيعه، وشراؤه، واصطياده، وقتله، إلا إن وجده مذبوحًا ذبحه حلال لحلال فيجوز، يعني بخلاف ما ذبحه حلال لمحرم، أو ذبحه حلال لنفسه مثلاً، فلا إشكال أن يأكل المحرم منه.
يقول: "الصيد هنا يحتمل أن يراد به المصدر" يعني المصدر، ومعنى المصدر: عملية الاصطياد، "أو الشيء المصيد" يعني: يطلق المصدر على المفعول، يقال: هذا ظبي صيد، هذه الطيور صيد، يعني مصيدة، مثلما يقال: الأكل، يطلق على نفس العملية، فيقال: هذا أكل، ويطلق على نفس الطعام، فيقال: هذا أكل، "أو كلاهما" يعني يشمل هذا وهذا "فنشأ من هذا أن ما صاده المحرم، فلا يحل له أكله بوجه" والراجح أنه لا يحل له أكله، ولا لغيره، "ونشأ الخلاف فيما صاد غيره، فإذا اصطاد حلال، فقيل: يجوز للمحرم أكله" بشرط أنه لم يصده للمحرم، لحديث أبي قتادة حين صاد حمار وحش وكان حلالاً، فسألهم النبي ﷺ: أمنكم أحد أمره أن يحمل عليها، أو أشار إليها؟[78]. فلم أجابوه بالنفي أباح لهم الأكل منه، وأيضًا أخذ منه -عليه الصلاة والسلام-، ولكن هنا يقول: "وقيل: لا يجوز إن اصطاده لمحرم" كما سبق لحديث الصعب بن جثامة [79]، "والأقوال الثلاثة مروية عن مالك، وإن اصطاد حرام لم يجز لغيره أكله عند مالك خلافًا للشافعي" يعني تنزيلاً له منزلة الميتة، وأن النفي يقتضي الفساد، والله أعلم.
- تفسير ابن كثير ت سلامة (3/178).
- تفسير ابن كثير ت سلامة (3/179).
- إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان (ص:193).
- تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (10/565).
- تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (10/564).
- نشر البنود على مراقي السعود (1/226) وتمامه:
والمقتضي أعم جل للسلف *** كذاك مفهوم بلا مختلف. - تفسير ابن كثير ت سلامة (3/180).
- أخرجه مسلم في كتاب فضائل الصحابة ، باب في فضل سعد بن أبي وقاص (1748).
- أخرجه الترمذي ت شاكر في أبواب تفسير القرآن، باب ومن سورة المائدة برقم: (3049).
- أخرجه أبو داود في كتاب الأشربة باب في تحريم الخمر برقم: (3670) وصححه الألباني.
- أخرجه الترمذي ت شاكر في أبواب تفسير القرآن، باب ومن سورة المائدة برقم: (3049).
- تفسير ابن كثير ت سلامة (1/578) وفتح الباري لابن حجر (8/279).
- أخرجه أبو داود في كتاب الأشربة، باب في تحريم الخمر برقم: (3670) والترمذي ت شاكر في أبواب تفسير القرآن، باب ومن سورة المائدة برقم: (3049) وصححه الألباني.
- تاريخ المدينة لابن شبة (3/843).
- تفسير ابن عطية = المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (2/234).
- أخرجه البخاري في كتاب المظالم والغصب، باب صب الخمر في الطريق برقم: (2464) ومسلم في كتاب الأشربة، باب تحريم الخمر، وبيان أنها تكون من عصير العنب، ومن التمر والبسر والزبيب، وغيرها مما يسكر برقم: (1980).
- نقله عنه ابن كثير في تفسيره، ت سلامة (8/508) حيث قال: "وثم قول رابع: نصره أبو العباس ابن تيمية في بعض كتبه، وهو أن المراد بقوله: {لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} نفي الفعل لأنها جملة فعلية، {وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدتُّمْ} نفي قبوله لذلك بالكلية؛ لأن النفي بالجملة الاسمية آكد، فكأنه نفى الفعل، وكونه قابلاً لذلك، ومعناه نفي الوقوع، ونفي الإمكان الشرعي أيضًا، وهو قول حسن أيضًا، والله أعلم".
- تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (10/577).
- البحر المحيط في التفسير (4/361).
- البحر المحيط في التفسير (4/361).
- البحر المحيط في التفسير (4/362).
- تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (10/584).
- أخرجه بهذا اللفظ مالك في الموطأ رواية أبي مصعب الزهري برقم: (1139) وهو عند أحمد بنحوه، ط الرسالة برقم: (15450) وقال محققو المسند: "إسناده صحيح على شرط الشيخين".
- تفسير ابن عطية = المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (2/236).
- تفسير ابن كثير ت سلامة (3/190).
- بداية المجتهد ونهاية المقتصد (2/128).
- المجموع شرح المهذب (7/333).
- أخرجه مسلم في كتاب الحج، باب ما يندب للمحرم وغيره قتله من الدواب في الحل والحرم برقم: (1198).
- أخرجه البخاري في كتاب جزاء الصيد، باب ما يقتل المحرم من الدواب برقم: (1828) ومسلم في كتاب الحج، باب ما يندب للمحرم وغيره قتله من الدواب في الحل والحرم برقم: (1200).
- أخرجه أبو داود في كتاب المناسك، باب ما يقتل المحرم من الدواب برقم: (1847) وقال الألباني: حسن صحيح.
- أخرجه أبو داود في كتاب المناسك، باب ما يقتل المحرم من الدواب برقم: (1848) [حكم الألباني]: ضعيف وقوله: يرمي الغراب ولا يقتله، منكر.
- أخرجه البيهقي في السنن الكبرى برقم: (10052).
- تفسير ابن كثير ت سلامة (3/190).
- تفسير ابن كثير ت سلامة (3/191).
- أخرجه البخاري في كتاب جزاء الصيد، باب إذا أهدى للمحرم حمارًا وحشيًا حيًا لم يقبل برقم: (1825) ومسلم في كتاب الحج، باب تحريم الصيد للمحرم برقم: (1193).
- أخرجه البخاري في كتاب جزاء الصيد، باب لا يشير المحرم إلى الصيد لكي يصطاده الحلال برقم: (1824) ومسلم في كتاب الحج، باب تحريم الصيد للمحرم برقم: (1196).
- فتح القدير للشوكاني (2/88).
- بداية المجتهد ونهاية المقتصد (2/123).
- المغني لابن قدامة (3/439).
- أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (1/438).
- نشر البنود على مراقي السعود (1/98) وتمامه:
أَوْ جَهْلُ الْحُكْمِ أَوِ النُّطْقُ اِنْجَلَبْ *** لِلسّؤل أو جرى على الذي غلب. - تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (10/12).
- تفسير ابن كثير ت سلامة (3/192).
- تفسير ابن كثير ت سلامة (3/192).
- السبعة في القراءات (ص: 247-248) ومعاني القراءات للأزهري (1/338).
- ينظر: بداية المجتهد ونهاية المقتصد (2/123) ونهاية المطلب في دراية المذهب (4/399).
- بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (2/199).
- الكافي في فقه أهل المدينة (1/395) والدر الثمين والمورد المعين (ص: 532) والمختصر الفقهي لابن عرفة (2/273).
- المعونة على مذهب عالم المدينة (ص:546).
- المجموع شرح المهذب (7/439).
- المجموع شرح المهذب (7/439).
- الحجة على أهل المدينة (2/339).
- بداية المجتهد ونهاية المقتصد (2/123) وبحر المذهب للروياني (4/47) والمغني لابن قدامة (3/449).
- تفسير ابن كثير ت سلامة (3/195).
- المجموع شرح المهذب (7/438).
- تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (10/31).
- تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (10/18).
- الكافي في فقه أهل المدينة (1/395) والمدونة (1/444).
- بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (2/201).
- التفسير الوسيط للواحدي (2/230) وتفسير ابن أبي حاتم - محققا (4/1209).
- تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (11/61).
- تفسير ابن عطية = المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (2/241).
- تفسير ابن عطية = المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (2/241).
- تفسير ابن كثير ت سلامة (3/197).
- تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (11/69).
- تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (11/69).
- تفسير ابن عطية = المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (2/241).
- تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (11/73).
- الوجيز للواحدي (ص: 336).
- تفسير ابن عطية = المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (2/241).
- زاد المسير في علم التفسير (1/588).
- التحرير والتنوير (7/52).
- تفسير ابن أبي حاتم - محققا (12/355).
- تفسير ابن أبي حاتم - محققا (12/355).
- بداية المجتهد ونهاية المقتصد (2/95) وعقد الجواهر الثمينة في مذهب عالم المدينة (1/300).
- الشامل في فقه الإمام مالك (1/240).
- المجموع شرح المهذب (7/324).
- أخرجه البخاري في كتاب جزاء الصيد، باب لا يشير المحرم إلى الصيد لكي يصطاده الحلال برقم: (1824) ومسلم في كتاب الحج، باب تحريم الصيد للمحرم برقم: (1196).
- أخرجه البخاري في كتاب جزاء الصيد، باب إذا أهدى للمحرم حمارًا وحشيًا حيًا لم يقبل برقم: (1825) ومسلم في كتاب الحج، باب تحريم الصيد للمحرم برقم: (1193).