الثلاثاء 17 / جمادى الأولى / 1446 - 19 / نوفمبر 2024
(008-ب) من قوله تعالى (..شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت..) الآية 107 – إلى قوله (..وإذ كففت بني إسرائيل عنك..) الآية 111
تاريخ النشر: ٢٧ / صفر / ١٤٣٩
التحميل: 723
مرات الإستماع: 820

قول الله تعالى: شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ [المائدة:106] قال مكي: هذه الآية أشكل آية في القرآن إعرابا ومعنى وحكما[1]، ونحن نبين معناها على الجملة ثم نبين أحكامها وإعرابها على التفصيل.

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فهذا الذي ذكره نقله عن مكي ابن أبي طالب -رحمه الله-، ومكي معروف أنه قد صنف كتابًا في التفسير، وله أيضا مصنف خاص في هذه الآية، وكذلك أيضًا هذا المعنى الذي ذكره هنا نقله عن مكي قال به غيره فهو مسبوق إلى هذا ذكره أبو جعفر النحاس[2]، وكذلك أيضًا السعد التفتازاني في حاشيته على كتاب: "الكشاف" أن هذه أشكل آية إعرابا ومعنى وحكمًا[3].

وسببها أنّ رجلين خرجا إلى الشام، وخرج معهما رجل آخر بتجارة، فمرض في الطريق فكتب كتابًا قيد فيه كل ما معه، وجعله في متاعه وأوصى الرجلين أن يؤديا رحله إلى ورثته فمات فقدم الرجلان المدينة، ودفعا رحله إلى ورثته، فوجدوا فيه كتابه وفقدوا منه أشياء قد كتبها، فسألوهما فقالا: لا ندري هذا الذي قبضناه، فرفعوهما إلى رسول الله ﷺ فاستحلفهما رسول الله ﷺ، فبقى الأمر مدّة، ثم عثر على إناء عظيم من فضة، فقيل لمن وجده عنده: من أين لك هذا؟ فقال: اشتريته من فلان وفلان، يعني الرجلين، فارتفع الأمر في ذلك إلى رسول الله -صلّى الله عليه واله وسلّم-، فأمر رسول الله ﷺ رجلين من أولياء الميت أن يحلفا فحلفا واستحقا.

فمعنى الآية: إذا حضر الموت أحد في السفر، فليشهد عدلين بما معه، فإن وقعت ريبة في شهادتهما.

قبل المعنى بالنسبة لسبب النزول ذكر حاصله هنا، وجاء عن ابن عباس -ا- في صحيح البخاري قال خرج رجل من بني سهم مع تميم الداري وعدي بن بداء، فمات السهمي بأرض ليس بها مسلم، فلما قدما بتركته فقدوا جاما من فضة مخوصًا من ذهب يعني إناء من فضة عليه صفائح من ذهب كالخوص فأحلفهما رسول الله ﷺ ثم وجد الجام بمكة فقالوا: "ابتعناه من تميم وعدي فقام رجلان من أوليائه فحلفا لشهادتنا أحق من شهادتهما، وإن الجام لصاحبهم يعني السهمي قال: وفيهم نزلت هذه الآية: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ [المائدة:106]"[4]، وفيهم نزلت لاحظ هذه العبارة هنا غير صريحة الذي يظهر -والله تعالى أعلم- أن المقصود بقوله هنا: وفيهم نزلت أنه سبب النزول لمثل هذا السياق، يعني قوله: فيهم نزلت في فلان نزلت، نزلت في كذا ليست بالصريح كما عرفنا يحتمل ففي مثل هذا الموضع الذي يظهر أنه قصد به سبب النزول، -والله أعلم-؛ لأن هذه الحادثة وقعت في زمن النبي ﷺ ولم تقع إلا مرة واحدة كما سيأتي.

فمعنى الآية: إذا حضر الموت أحد في السفر، فليشهد عدلين بما معه، فإن وقعت ريبة في شهادتهما حلفا أنهما ما كذبا ولا بدّلا، فإن عثر بعد ذلك على أنهما كذبا أو خانا حلف رجلان من أولياء الميت، وغرم الشاهدان ما ظهر عليهما.

هذا في استشهاد عدلين "فليشهد عدلين بما معه" يعني من المسلمين أو آخرين من غيركم كما سيأتي يعني من غير المسلمين هذا خلاصة سبب النزول لكن التفصيل يذكره بعده.

شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ مرفوع بالابتداء وخبره: اثنان التقدير شهادة بينكم شهادة اثنين، أو مقيم شهادة بينكم اثنان.

يعني هنا شهادة بينكم يقول: "مرفوع بالابتداء وخبره اثنان" يعني على نية حذف مضاف مقدر التقدير شهادة بينكم شهادة اثنين يعني شهادة بينكم اثنان، يعني شهادة اثنين فالمضاف المحذوف هو شهادة الثاني شهادة اثنين؛ وذلك أن الشهادة لا تكون هي الاثنان يعني الشهادة بينكم اثنان، لا، وإنما شهادة اثنين، أو أن يشهد اثنان يعني هناك مقدر هل هو المضاف، أو فعل يشهد أن يشهد اثنان حتى يتضح المعنى، شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ وبعضهم يقول: أصله شهادة ما بينكم فحذف ما كقوله: بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ [سبأ:33] يعني بل مكر في الليل وفي النهار، وبعضهم يقول: الشهادة هنا بمعنى الوصية شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ [المائدة:106] يعني بمعنى الوصية، وهذا بعيد.

وبعضهم يقول: الشهادة هنا بمعنى الحضور للوصية وأبو جعفر ابن جرير -رحمه الله- فسرها باليمين[5]، يعني يمين ما بينكم أن يحلف اثنان، والواقع أن هذا إنما يكون في مقام الشهادة فهي شهادة، وإنما يكون للحلف إذا وجدت الريبة وليس ابتداء، كما سيأتي، ولهذا الحافظ ابن القيم -رحمه الله-[6] رد هذا القول الذي اختاره ابن جرير من أحد عشر وجها: أنها بمعنى اليمين، وحمله على الشهادة المعروفة، هذا هو الصحيح[7]، -والله أعلم-.

وبعضهم يقول: المعنى ليشهد بينكم، وبعضهم فسر الاثنين بالوصيين، وأن الشهادة هنا بمعنى الحضور للوصية لكن هذا كما سبق لا يخلو من بُعد، وذكر ابن القيم -رحمه الله- بأنه إخراج للكلام عن الفائدة[8]، الله يقول: شهادة فكيف يقال: هؤلاء أوصياء؟! -والله أعلم-.

إِذَا حَضَرَ [المائدة:106] أي: قارب الحضور.

هذا لا شك فيه إذا حضر أحدكم الموت حين قاربه الموت.

والعامل في إذا.

إذا هذا ظرف للشهادة إذا حضر أحدكم الموت، متى الشهادة؟ إذا هذا ظرفها العامل فيه المصدر الذي هو شهادة، والمصدر يعمل عمل فعله.

والعامل في إذا المصدر الذي هو شهادة، وهذا على أن يكون إذا بمنزلة حين لا تحتاج جوابا، ويجوز أن تكون شرطية وجوابها محذوف يدل عليه ما تقدم قبلها، فإنّ المعنى: إذا حضر أحدكم الموت، فينبغي أن يُشهد.

هذا الجواب اعتبار أنه محذوف.

حِينَ الْوَصِيَّةِ [المائدة:106]، ظرف، العامل فيه حضر، ويكون بدلا من إذا.

حِينَ الْوَصِيَّةِ ظرف، العامل فيه حضر، يعني حين حضر يعني حين حضر بعضهم يقول حين حضر الموت يعني أمارات الموت حين حضر أمارات الموت، أو يكون بدلا من إذا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية، فإذا قلنا: بأنه بدل من إذا يكون هكذا شهادة بينكم حين الوصية، بدل يقوم مقام المبدل منه، حين الوصية شهادة بينكم حين الوصية.

ذَوَا عَدْلٍ [المائدة:106] صفة للشاهدين.

اثنان صفة للشاهدين اثنين ذَوَا عَدْلٍ يعني صاحبا عدل.

مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ [المائدة:106] قيل: معنى منكم من عشيرتكم وأقاربكم.

منكم هذه صفة ثانية لاثنان، وصفه أولا ذَوَا عَدْلٍ وأنهم منكم، قال: أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ منكم قيل: من عشيرتكم وأقاربكم يعني ولو لم يكونوا من المسلمين أو من غيركم يعني من غير القرابات والعشيرة، لكن هذا فيه نظر.

وقال الجمهور: مِنْكُمْ أي: من المسلمين.

هذا هو الذي عليه عامة أهل العلم واختاره المحققون مِنْكُمْ من المسلمين، ومن غيركم من غير المسلمين من الكفار، جاء عن ابن عباس: مِنْ غَيْرِكُمْ، يعني من أهل الكتاب[9]، لكن لا يختص بهم، لكن الذي وقع بالشهادة هنا في عدي بن بداء وتميم هؤلاء كانوا على دين أهل الكتاب قبل إسلامهم.

ومن غيركم من الكفار، إذا لم يوجد مسلم، ثم اختلف على هذا هل هي منسوخة بقوله: وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ [الطلاق:2].

وقوله أيضًا: مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ [البقرة:282] هل هذا ناسخ لإشهاد غير المسلمين فلا تجوز شهادة الكفار أصلاً يعني لا في السفر ولا في غير السفر؟؛ هذا قول لبعض أهل العلم.

ثم اختلف على هذا هل هي منسوخة بقوله: وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ [الطلاق:2] فلا تجوز شهادة الكفار أصلا؟ وهو قول مالك، والشافعي[10] والجمهور، أو هي محكمة.

وهو قول أيضا أبي حنيفة[11]، أو هي محكمة.

وأن شهادة الكفار جائزة على الوجه في السفر، وهو قول ابن عباس[12].

يعني الآن بشرطين:

  • أن تكون شهادة الكفار في خصوص الوصية وليس في شيء آخر.
  •  وأن يكون ذلك في السفر حيث لا يوجد أحد من المسلمين.

وبهذين الشرطين قال: عن ابن عباس، وبهذا قال الإمام أحمد وعليه عامة السلف[13]، وهو اختيار الحافظ ابن كثير[14] أن الآية لم تنسخ، والقاعدة أن النسخ لا يثبت بالاحتمال، فيكون خاصًا بالسفر في خصوص الوصية.

إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ [المائدة:106] أي سافرتم، وجواب إن محذوف يدل عليه ما تقدّم قبلها، والمعنى: إن ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت، فشهادة بينكم شهادة اثنين.

يعني إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت فليشهد اثنان منكم، أو من غيركم أو فأشهدوا آخرين من غيركم.

 تَحْبِسُونَهُمَا [المائدة:106].

يعني توقفونهما.

 قال أبو علي الفارسي: هو صفة لآخران[15]، واعترض بين الصفة والموصوف بقوله: إِنْ أَنْتُمْ إلى قوله: الْمَوْتِ ليفيد أن العدول إلى آخرين من غير الملة، إنما يجوز لضرورة الضرب في الأرض، وحلول الموت في السفر، وقال الزمخشري: تحبسونهما استئناف كلام[16].

على قول أبي علي الفارسي، وأبو علي الفارسي له كتاب في الحجة في توجيه القراءات، وهو أيضا من النحاة، على قول أبي علي الفارسي أنه صفة لآخران أن ذلك لا يتوقف على الريبة، تحبسونهما من بعد الصلاة أنهم إن كانوا من غير المسلمين فهنا يطلب اليمين تطلب اليمين؛ لزيادة التوثق من هذه الشهادة، لكن ظاهر الآية لا يدل على هذا، -والله أعلم-، وإنما ذلك إذا وقعت الريبة فلا يكون مختصا بالآخرين يعني من غير المسلمين وإنما لعموم الشهود إذا وقعت الريبة، ولا يستحلفون ابتداء، يعني إن لم توجد ريبة فلا يستحلفون، وعلى قول أبي علي الفارسي: "إنهم إن كانوا من غير المسلمين فيستحلفون وجدت ريبة أو لم توجد  الريبة"، لكن هذا غير صحيح، -والله أعلم-.

"وقال صاحب الكشاف: تحبسونهما استئناف كلام" يعني لا محل لها من الإعراب، وهذا أولى من كونها صفة؛ لما يترتب عليه من الفصل بكلام طويل بين الصفة وموصوفها، يعني ما ذكره أبو علي الفارسي فيه هذا الإشكال، ومن حيث المعنى أيضًا أنه يعني استحلاف الشهود من غير المسلمين مطلقًا، والصحيح أن هذا الاستحلاف إنما يكون إذا وجدت الريبة.

من بعد الصلاة قال الجمهور: هي صلاة العصر.

هذا منقول عن ابن عباس -ا- وسعيد بن جبير، وإبراهيم النخعي، وقتادة، وعكرمة، وابن سيرين وغير هؤلاء[17]، هذا قول أكثر أهل العلم سلفا وخلفا، واختاره أبو جعفر ابن جرير[18].

وجاء عن الزهري وهو من صغار التابعين بأن ذلك بعد الصلاة يعني بعد صلاة المسلمين[19].

والحافظ ابن كثير يقول: "بعد صلاة اجتمع الناس فيها"[20]، والذي عليه الجمهور كما سبق أنها صلاة العصر؛ لأنه وقت معظم.

فاللام للعهد، لأنها وقت اجتماع الناس.

هذا تعليل ولكن الوقت نفسه كقوله -تبارك وتعالى-: وَالْعَصْرِ ۝ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ [العصر:1-2] الأقرب أن ذلك يشمل العصر الذي هو الزمان مطلقًا أقسم الله به، ويشمل الوقت المعروف من العشي فذلك وقت معظم ويدل عليه الحديث الذي ذكره بعد: من حلف على سلعة بعد العصر[21]، فهذا وقت له حرمته، وذكر لفظه هنا: ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم رجل حلف على سلعة لقد أعطي بها أكثر مما أعطي وهو كاذب، ورجل حلف على يمين كاذبة بعد العصر ليقتطع بها مال رجل مسلم، الحديث وهو مخرج في الصحيحين فهذا الوقت لحرمته وقت معظم.

وبعدها أمر النبي ﷺ بالأيمان، وقال: من حلف على سلعة بعد صلاة العصر، وكان التحليف بعدها معروف عندهم، وقال ابن عباس: هي صلاة الكافرين في دينهما لأنهما لا يعظمان صلاة العصر[22].

باللعان أقرب، ويحتمل أن يكون بالأيمان يعني النبي ﷺ استحلفهما بعد العصر، والله أعلم هذا يحتاج أن يراجع أمر النبي ﷺ بالأيمان يراجع في الشروح متى كان ذلك، وكذلك في اللعان أحاديث اللعان هل كان ذلك بعد العصر؟.

فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ [المائدة:106] أي: يحلفان ومذهب الجمهور أن تحليف الشاهدين منسوخ، وقد استحلفهما عليّ بن أبي طالب وأبو موسى الأشعري.

عن ابن عباس: "هي صلاة الكافرين في دينهما لأنهما لا يعظمان صلاة العصر"، وهذا فيه إشكال من بعد الصلاة فأل للعهد وهي الصلاة المعهودة عند المسلمين المقصود بها صلاة العصر فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ أي: يحلفان قال: "ومذهب الجمهور أن تحليف الشاهدين منسوخ" لكن كما سبق: النسخ لا يثبت بالاحتمال.

وجاء عن الشعبي: "أن رجلا حضرته الوفاة بدقوقا -مدينة بين إربل وبغداد في العراق- فلم يجد أحدا من المسلمين يشهده على وصيته فأشهد رجلين من أهل الكتاب فقدما بتركته إلى أبي موسى الأشعري فأخبراه فقال الأشعري: هذا أمر لم يكن بعد الذي كان في عهد رسول الله ﷺ"، هذه الذي أشرت إليه قبل قليل وقلت إن هذا لم يقع في عهد النبي ﷺ إلا مرة واحدة، "فأحلفهما بعد صلاة العصر بالله ما خانا ولا كذبا ولا بدلا، -بعد صلاة العصر- وإنها لتركته ثم أجاز شهادتهما"[23]، هذا صححه الحاكم[24]، والحافظ ابن كثير[25]، والزيلعي[26]، والألباني[27]، وقال الحافظ: "إسناد رجاله ثقات"[28]، وقال الشوكاني: "صالح للاحتجاج"[29].

فأبو موسى استحلفهما من غير ذكر الريبة وبعد صلاة العصر، فهذا يستدل به من يقول: إن الاستحلاف لغير المسلمين مطلقا وإن لم توجد الريبة؛ ليكون زيادة في التوثق، لكن ظاهر الآية كما قلت قد لا يدل على هذا، لقوله: إِنِ ارْتَبْتُمْ فهو معلق على شرط الريبة، والمعلق على شرط ينتفي بانتفائه.

إِنِ ارْتَبْتُمْ [المائدة:106] أي: شككتم في صدقهما أو أمانتهما، وهذه الكلمة اعتراض بين القسم والمقسوم عليه.

هذه الكلمة يعني إِنِ ارْتَبْتُمْ الذي هو الشرط وجوابه المقدر، جواب الشرط المقدر إن ارتبتم يعني فاستحلفوهما.

وجواب إن محذوف يدل عليه يقسمان.

جواب إن هذا أداة شرط، الجواب محذوف يدل عليه يقسمان، يعني فحلفوهما، إِنِ ارْتَبْتُمْ فحلفوهما، يعني مفهوم المخالفة إن لم نرتب فلا تحليف.

لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا [المائدة:106] هذا هو المقسوم عليه.

لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا يعني ذا ثمن هذا هو المقسوم عليه.

والضمير في به للقسم.

هذا الذي قاله ابن جرير[30]، وابن كثير[31] لا نشتري به، وبعضهم يقول: المقصود التحريف لا نشتري بالتحريف أو لا نشتري بالشهادة لَا نَشْتَرِي بِهِ وهذه بينها ملازمة كما لا يخفى، -والله أعلم- لكن حمل ذلك على القسم أقرب، -والله أعلم-.

وفي كان للمقسم له: أي لا نستبدل بصحة القسم بالله عرضا من الدنيا: أي لا نحلف بالله كاذبين لأجل المال، ولو كان من نقسم له قريبا لنا، وهذا لأن عادة الناس الميل إلى أقاربهم.

يقول: "الضمير في به للقسم وفي كان للمقسم له لا نستبدل بصحة القسم بالله عرضا من الدنيا" يعني لا نحلف بالله كاذبين لأجل المال، وبعضهم يقول: لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا أي: الله، يعني لا نبيع حظنا من الله بهذا العرض، وبعضهم يقول: الشهادة يعني لا نستبدل بشهادتنا ثمنا لا نشتري به، وكما سبق أن حمل ذلك على القسم أقرب.

وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ [المائدة:106] أي الشهادة التي أمر الله بحفظها وأدائها، وإضافتها إلى الله تعظيما لها.

فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا [المائدة:107] أي: إن طلع بعد ذلك على أنهما فعلا ما أوجب إثما.

أو فإن اطلع على استحقاقهما الإثم يعني مثل هذا الإناء الذي وجد في مكة وسئل من هو بحوزته فذكر أنه اشتراه من تميم وعدي هذا أوجب الريبة، وهم قد وجدوا في الوصية المكتوبة في مضامين ما ترك هذا الجام فما وجدوه.

والإثم الكذب والخيانة، واستحقاقه الأهلية للوصف به.

يعني واستحقاقه الأهلية للوصف به هذا تفسير لاستحقاق، فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا ما هذا الاستحقاق استحقا الإثم يعني أنهما تأهلا له، أو كانا أهلا له يعني هذا هو.

فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا [المائدة:107] اثنان من أولياء الميت، يقومان مقام الشاهدين في اليمين.

فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا يعني فشاهدان آخران، اثنان من أولياء الميت المستحقين للتركة، وليكونا من أولى من يرث هذا الميت.

مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ أي: من الذين استحق عليهم الإثم أو المال.

مِنَ الَّذِينَ اسْتُحَقَّ هذه قراءة الجمهور أي من الذين استحق عليهم الإثم، أو إثم الأوليين، أو استحق عليهما انتداب الأوليين، أو المال استحق عليهم المال، ومعناها من الذين جني عليهم وهم أولياء الميت، يعني من الذين استحق عليهم الإثم باعتبار أن ما فعله الأولون جناية في حقهما من حيث كتما هذا في الوصية وأخذا هذا المال، فهو إثم وجناية في حق أولياء الميت، ظلم لهم هذا معنى قوله: "استحق عليهم الإثم أو المال" فهم أصحابه، ومعناه من الذين جني عليهم وهم أولياء الميت فهم أولى بالشهادة، قال ابن جرير: "فآخران من أهل الميت الذين استحق المؤتمنان على مال الميت الإثم فيهما"[32]، مِنَ الَّذِينَ اسْتُحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ فيكون بهذا يحتمل أن يكون الأوليان يعني الذين حصل منهم الجناية الشاهدين الأولين.

ويحتمل الأوليان بالميت يقومان يعني الأقرب إليه أقرب قرابة الميت، أو أحق الناس بهذا المال، وهذا يرجع إلى ما قبله يعني هم أقرب أهل الميت الأوليان به من الذين استحق عليهم يعني حصلت الجناية في حقهم أو استحق المال وبعدين الأوليان يعني يقوم الأوليان منهم أولى الناس بالميت يقوم منهم اثنان أقرب قرابة الميت فيحلفان بدلا من الشاهدين الأولين الْأَوْلَيَانِ.

ومعناه من الذي جنى عليهم وهم أولياء الميت الْأَوْلَيَانِ [المائدة:107] تثنية أولى بمعنى أحق: أي الأحقان بالشهادة لمعرفتهما.

هؤلاء من قرابة الميت الأوليان يعني الأحق بالشهادة؛ لمعرفتهما أو لقرابتهما هم الأقرب إلى الميت، قال: "أو الأحقان بالمال أو الأحقان بالميت" وكونهما أحق بالمال معنى ذلك أنهما أقرب من غيرهما إلى الميت.

أو الأحقان بالمال: لقرابتهما، وهو مرفوع على أنه خبر ابتداء.

خبر مبتدأ محذوف المبتدأ محذوف التقدير: هما الأوليان؛ لأنه لما قال: فَآخَرَانِ يَقُومَانِ فكأنه قيل: من هما؟ فقيل: الأوليان، هما الأوليان.

تقديره: هما الأوليان، أو مبتدأ مؤخر تقديره الأوليان آخران يقومان، أو بدل من الضمير في يقومان.

أو بدل من الضمير في يقومان؛ والتقدير: فيقوم الأوليان، يقول: "أو بدل من الضمير في يقومان" فآخران يقومان يعني يقومان، يعني ممن استحق عليهم الأوليان، فَآخَرَانِ يَقُومَانِ هما الأوليان بالميت هذا باعتبار أنه بدل من الضمير في يقومان، يقوم الأوليان يقومان فسره بقوله الأوليان، ويحتمل أنه بدل من آخران، فآخران: من هما؟

-فالأوليان بالميت يقومان بهذه الشهادة- الأوليان.

ومنع الفارسي أن يسند استحق إلى الأوليان، وأجازه ابن عطية.

الكلام في هذا كثير، ووجوه الإعراب أكثر بكثير مما ذكر هنا لكن اعتراض الفارسي على هذا التقدير اعترض أن يستند استحق إلى الأوليان -هذا أحد الأوجه وهو السابع- الأوليان: مرفوع على من لم يسم فاعله باستحق، إلا أن كل من أعربه كذا قدر قبله مضافا محذوفا على اختلاف في تقديرات المعربين.

وقال مكي: "تقديره: استحق عليهم إثم الأوليين"[33]، وهذا الذي قال به ابن جرير الطبري -رحمه الله-[34] استحق عليهم إثم الأوليين، يعني الجناية وقعت في حق هؤلاء من أولئك الشهود الذين حصل منهم الكتمان وأخذ بعض المال فكانت الجناية في حق أولئك الذين يقوم اثنان منهم، وقدره الزمخشري فقال: "من الذين استحق عليهم انتداب الأوليين منهم للشهادة لاطلاعهم على حقيقة الحال"[35].

وممن ذهب إلى ارتفاع الأوليان -هذا في "الدر المصون"- باستحق: أبو علي الفارسي ثم منعه، قال: "لأن المستحق إنما يكون الوصية أو شيئا منها، وأما الأوليان بالميت فلا يجوز أن يستحقا فيسند استحق إليهما"[36].

يقول الحلبي: "إنما منع أبو علي ذلك على ظاهر اللفظ فإن الأوليين لم يستحقهما أحد كما ذكر، ولكن يجوز أن يسند استحق إليهما بتأويل حذف المضاف المتقدم -كما سبق ولا إشكال- يقول: وهذا الذي منعه الفارسي ظاهرًا -فالتأويلات التي ذكرها بعض المفسرين كابن عطية هو كله من أجل هذا الإشكال الذي أورده الفارسي-، يقول: "وهذا الذي منعه الفارسي ظاهرًا هو الذي حمل الناس على إضمار ذلك المضاف، وتقدير الزمخشري بانتداب الأوليين، هذا أحسن من تقدير غيره فإن المعنى يساعده، وأما إضمار الإثم فلا يظهر أصلا إلا بتأويل بعيد"[37]، مع أن الإثم قاله ابن جرير -رحمه الله-[38].

يقول: "وأجازه ابن عطية" يعني أن يرتفع الأولين باستحق أيضًا، ولكن ظاهر عبارته أنه لم يُقدر مضافًا فإنه استشعر باستشكال الفارسي المتقدم فاحتال في الجواب عنه وهذا نصه -قال ما ملخصه: يعني لما أبو علي الفارسي ضعف تقدير المحذوف المضاف- قال ابن عطية: "ولفظة الاستحقاق في الآية إنما هي استعارة وليست بمعنى استحقا إثمًا، فإن الاستحقاق هنا حقيقة، وفي قوله: استحق مستعار؛ لأنه لا وجه لهذا الاستحقاق إلا الغلبة على الحال بحكم انفراد هذا الميت وعدمه لقرابته أو لأهل دينه"[39]، فجعل تسورهم عليه استحقاقًا مجازًا، والمعنى من الجماعة التي غارت وكان من حقها أن تحضر وليها، فلما غابت وانفرد هذا الموصي استحقت هذه الحال، وهذان الشاهدان من غير أهل الدين والولاية وأمر الأوليين على هذه الجماعة فبني الفعل للمفعول على هذا المعنى إيجازًا، إلى آخر ما ذكر.

فهذا المحمل الذي قال به ابن عطية وهو بناء على إشكال الفارسي لما منع من هذا قال: "وأجازه ابن عطية".

وأما على قراءة استحق بفتح التاء والحاء على البناء للفاعل، فالأوليان فاعل باستحق، ومعنى استحق على هذا أخذ المال وجعل يده عليه، والأوليان على هذا هما الشاهدان اللذان ظهرت خيانتهما: أي الأوليان بالتحليف والتعنيف والفضيحة.

الأوليان بالتحليف والتعنيف قال ابن كثير: "أي متى تحقق ذلك بالخبر الصحيح على خيانتهما فليقم اثنان من الورثة المستحقين للتركة وليكونا من أولى من يرث ذلك المال"[40].

 وقرئ الأولين جمع أول.

هذه قراءة حمزة.

وهو مخفوض على الصفة للذين استحق عليهم.

الأولين جمع أول يعني المتقدم ذكرهم يعني من الأولين على هذه القراءة الذين استحق عليهم الإيصاء أو الإثم من الأولين مخفوض على الصفة للذين استحق عليهم، أو بدل من الضمير في عليهم، أو منصوب على المدح، أو بدل من الذين، يقول: "أو منصوب بإضمار فعل".

أو منصوبا بإضمار فعل، ووصفهم بالأولية لتقدمهم على الأجانب في استحقاق المال وفي صدق الشهادة، فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا [المائدة:107] أي: يحلف هذان الآخران أن شهادتهما أحق.

بعضهم فسره بيمينهما كما سبق، يعني لقولهما إنهما خانا، فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا فيحلفان بالله لشهادتنا يعني أن يميننا حينما قالا بأنهما خانا، قرابة الميت لما قاموا لأنها أحق من شهادة أولئك الأوصياء الذين حصلت منهم الريبة.

 

أي: أصح من شهادة الشاهدين الذين ظهرت خيانتهما، إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ [المائدة:107] أي: إن اعتدينا، فإنا من الظالمين وذلك على وجه التبرئة ومثله: قول الأولين.

المقصود أنه من حال الشهادة في السفر إن لم يوجد من لم يشهد من المسلمين فيصح إشهاد غير المسلمين، فإن وجدت ريبة فيقوم اثنان من الذين هم أولى الناس بالميت ومن ثم هم أولى الناس بالمال وهم من وقع في حقهم الجناية بشهادة أولئك، وكتم بعض الوصية، وأخذ بعض المال، استحق عليهم الأوليان بالميت فيقومان فيقسمان يحلفان بأن شهادتهما أحق من شهادة أولئك الأوصياء؛ لما وجد من الريبة بعد صلاة العصر يكون هذا اليمين والشهادة، فإن حلفوا استحقوا هذا المال المتنازع فيه، هذا المعنى، -والله أعلم-، حتى لا يشتتكم الإعراب والتقديرات والمحامل وما يذكره المعربون أكثر مما سمعتم بكثير.

إنا إذا لمن الآثمين ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا [المائدة:108] الإشارة بذلك إلى الحكم الذي وقع في هذه القضية ومعنى أدنى: أقرب.

يعني من التحليف تحليف الشاهدين الذميين إذا استريب بهما فيعرفان أنه سيقوم آخران من قرابة الميت ويحلفان ويستحقان المال؛ فيكون ذلك رادعا لهما عن مثل هذه الأمور من كتمان الشهادة، ومن البداية يأتي بها على وجهها؛ لئلا يقع في هذا الموقف ويظهر كذبه.

عَلَى وَجْهِهَا [المائدة:108] أي: كما وقعت من غير تغيير ولا تبديل، أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ [المائدة:108] أي: يخافوا أن يحلف غيرهم بعدهم فيفتضحوا.

يعني أن ترد اليمين على الورثة فيقوم اثنان منهم فيحلفان.

يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ [المائدة:109] هو يوم القيامة، وانتصب الظرف بفعل مضمر، أي: ماذا أجابكم به الأمم من إيمان وكفر وطاعة ومعصية؟

"يقول: هو يوم القيامة، وانتصب الظرف بفعل مضمر" حط نقطتين كأن هذا تفسير للفعل المضمر وهذا غير صحيح، علامات الترقيم هنا غير صحيحة في بعض المواضع هذا يسيئ في الفهم، يكون هكذا: يوم يجمع الله الرسل هو يوم القيامة، وانتصب الظرف بفعل مضمر فقط نقطة، يعني الفعل المضمر ما هو اذكر يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم، ثم ذكر المعنى هنا يفسر الآية ليس هذا الفعل المضمر، قال: "أي: ماذا أجابكم به الأمم من إيمان وكفر وطاعة ومعصية".

"أي: ماذا أجابكم" فيه جزء من الآية هنا نحط بين قوسين فيقول يكون تفسير لهذا مَاذَا أُجِبْتُمْ حتى لا يلتبس بين قوسين، فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ [المائدة:109] هذا تفسير له لقوله: مَاذَا أُجِبْتُمْ لكن الفعل المضمر انتصب به الظرف (يومَ) هو فعل مقدر: واذكر يوم، فما بعده من قوله: "أي: ماذا أجابكم" هذا تفسير لقوله: مَاذَا أُجِبْتُمْ.

فيقول: مَاذَا أُجِبْتُمْ يعني "ماذا أجابكم به الأمم من إيمان وكفر وطاعة ومعصية".

والمقصود بهذا السؤال توبيخ من كفر من الأمم، وإقامة الحجة عليهم، وانتصب ماذا بأجبتم انتصاب مصدره.

يعني باعتبار أن ماذا بمنزلة اسم واحد، ماذا هي بهذا التركيب يعني بعضهم يقول: "ما" لوحدها و"ذا" لوحدها فهي مركبة من "ما" الاستفهامية و"ذا"، لكن من نظر إليها إلى أنها كلمة واحدة اسم واحد، فهنا هذا الاسم الواحد جانب فيه الاستفهام ماذا فمحله النصب على المصدر بما بعده التقدير أي إجابة أجبتم أي: إجابة ماذا أجبتم، أيُّ إجابة أجبتم، هذا معنى قوله: "وانتصب ماذا بأجبتم انتصاب مصدره" مصدر أجبتم إجابة، أي إجابة أجبتم، ولو أريد الجواب يعني الكلام المجاب لقيل: بماذا أجبتم.

ولو أريد الجواب، لقيل: بماذا أجبتم.

يعني هو المقصود التوبيخ أي إجابة أجبتم فلا ينتظر هنا يقول بماذا أجابوكم؟ ماذا قالوا لكم؟ هل قالوا ساحر؟ أو كذا، لا، هو يقول: لو أراد الجواب لقيل بماذا أجبتم؛ لكنه قال: ماذا أجبتم؟ أي إجابة أجبتم.

قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا [المائدة:109] إنما قالوا ذلك تأدبا مع الله.

هذا الذي اختاره ابن جرير[41]، وهو ظاهر كلام ابن كثير أنهم قالوا لا علم لنا تأدبًا[42]، وإلا كانوا يعلمون ماذا أجابهم أقوامهم.

فوكلوا العلم إليه قال ابن عباس: المعنى لا علم لنا إلا ما علمتنا.

والمعنى: "لا علم لنا إلا علم أنت أعلم به منا"[43]، هذه عبارة ابن عباس -ا-.

والمقصود أنه تفويض منهم وإظهار للعجز، وعدم القدرة، وبعضهم يقول يعني كأن البعض استشكل لا علم لنا وهم لا يعلمون بجواب أقوامهم فبعضهم قال: لا علم لنا بما أحدثوا بعدنا وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ [المائدة:117].

وبعضهم يقول لا علم لنا بما اشتملت عليه بواطنهم نحن نعرف الظاهر، لكن الذي يظهر أن هذا قالوه على سبيل التفويض والتأدب مع الله -تبارك وتعالى- ولا حاجة لمثل هذه المحامل.

وقيل: معناه علمنا ساقط في جنب علمك.

هذا يرجع إلى المعنى الذي ذكرته من أنهم قالوا ذلك على سبيل التأدب.

ويقوي ذلك قوله: إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ [المائدة:109]، لأنّ من علم الخفيات لم تخف عليه الظواهر، وقيل: ذهلوا عن الجواب لهول ذلك اليوم.

هذا جواب آخر يعني من قال بأن المقصود لا نعلم ما في بواطنهم قال يشعر به قوله: إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ نحن نعلم الظاهر، وأما الباطن لا علم لنا لكن هذا فيه بعد.

"وقيل: ذهلوا عن الجواب لهول ذلك اليوم" هذا جاء عن جماعة من السلف كمجاهد والحسن والسدي[44]، فمن هول ذلك اليوم أصابهم ذهول قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا.

وجاء عن مجاهد: "فيفزعون فيقولون: لا علم لنا"[45]، وهذا يرجع إلى ما سبق من قول هؤلاء إنهم قالوا ذلك من هول ذلك اليوم، يعني أصابهم ذهول لكن حمل ذلك على أنه من باب التفويض والتأدب أقرب، -والله أعلم-.

وهذا بعيد؛ لأنّ الأنبياء في ذلك اليوم آمنون، وقيل: أرادوا بذلك توبيخ الكفار.

يعني حينما يقولون: لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ [المائدة:109] فالكفار يزدادون خوفًا. فكأنه يقول: أنا ما أدري عنهم فيكون أشد وقعا في نفوسهم. يعني كأنه يتبرأ منهم تمامًا حتى من العلم بهم لا علم لي بهم تسأل عن أحد مسيء أو نحو ذلك تقول: لا علم لي به.

إِذْ قَالَ اللَّهُ يحتمل أن يكون (إذ) بدل من يوم يجمع، ويكون هذا القول يوم القيامة.

يقول: "إذ قال الله يحتمل أن يكون إذ بدلا من يوم القيامة" إذ قال الله يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ [المائدة:109]، إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ إذ بدل من يوم يجمع، يعني أن ذلك يكون يوم القيامة يوم يجمع الله الرسل فيقول لعيسى يوم يجمع الله الرسل إذ قال الله يا عيسى فيكون هذا بدل من هذا، فمعنى ذلك أنه يوم القيامة يقول لعيسى هذا الكلام فيكون هذا القول يوم القيامة، وهذا الذي اختاره ابن عطية[46]، والقرطبي[47]، ومن المعاصرين الطاهر ابن عاشور[48].

وهذا هو الأقرب أن هذا يقوله الله لعيسى يوم القيامة توبيخا للنصارى: إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى، أو يكون العامل في إذ مضمرا؛ يعني: اذكر واذكر إذ قال الله يا عيسى، دائما إذا رأيتم مثل هذا فيمكن يقدر محذوف، واذكر جاء مصرحا به في قوله: وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ [الأنفال:26]، إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى، وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ واذكر إذ قال موسى لقومه، وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى [البقرة:55]، واذكروا إذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة.

ويحتمل على هذا أن يكون القول يوم القيامة هذا الذي عليه المحققون وهو اختيار الحافظ ابن كثير[49]، لكن يقول فقوله قال بمعنى يقول قد تقدم إلى آخره، يعني الآن الذين قالوا في الدنيا قال له ذلك، قالوا لأنه جاء بالفعل الماضي إِذْ قَالَ فهذا كان في الماضي: إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ [المائدة:110]، أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ [المائدة:116] فهذا في الدنيا؛ لأنه قال جاء بصيغة الماضي هذا الذي حمل هؤلاء القائلين على هذا المعنى ولا حاجة إليه، إِذْ قَالَ فهو يعبر عن الأمر المستقبل بالماضي لتحقق الوقوع، ومن هنا قالوا: إن قوله هنا: إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى يعني إذ يقول الله هذا معنى قوله هنا: فقوله قال بمعنى يقول من أجل توجيه هذا الفعل الماضي قال: لئلا يتوهم أن ذلك كان في الماضي يعني في الدنيا وقع، فهو يقول: إن هذا كان في يوم القيامة فهو بمعنى يقول: إِذْ قَالَ يعني: إذ يقول.

أو يكون العامل في إذ مضمرا، ويحتمل على هذا أن يكون القول في الدنيا أو يوم القيامة وإذا جعلناه يوم القيامة فقوله قال بمعنى يقول، وقد تقدم تفسير ألفاظ هذه الآية في آل عمران.

فَتَنْفُخُ فِيها الضمير المؤنث عائد على الكاف؛ لأنها صفة للهيئة، وكذلك الضمير في تكون، وكذلك الضمير المذكور في قوله في آل عمران: [وفي النسخة الخطية: وكذلك الضمير المذكر في قوله في آل عمران:] فَأَنْفُخُ فِيهِ [آل عمران:49].

يقول: "فَتَنْفُخُ فِيها الضمير المؤنث عائد على الكاف لأنها صفة للهيئة" يعني كهيئة الطير هذا الكاف التي يقصدها يقول لأنها صفة للهيئة فتنفخ فيها كهيئة الطير، فتنفخ فيها فالضمير هنا فيها يعود إلى الكاف على هذا القول، وكذلك الضمير في فتكون، وكذلك الضمير المذكور في قوله في آل عمران: فَأَنفُخُ فِيهِ عائد على الكاف أيضًا كهيئة؛ لأنها بمعنى مثل، وإن شئت قلت: هو الموضعين عائد على الموصوف المحذوف الذي وصف بقوله: كَهَيْئَةِ [آل عمران:49] فتقديره في التأنيث صورة الطير، وفي التذكير شخصا يعني صورة كهيئة الطير.

فَتَنْفُخُ فِيها الصورة أو فتكون شخصًا يعني كون متشخص فتكون شخصا كهيئة الطير فتنفخ فيه؛ هنا يوجه الآيتين في آل عمران وفي المائدة: فَأَنفُخُ فِيهِ فَتَنْفُخُ فِيها فيقول الموصوف محذوف فتكون يعني صورة كهيئة الطير فَتَنْفُخُ فِيها فالضمير يرجع إلى صورة الموصوف المحذوف تنفخ في الصورة فيها، وفي الآية الأخرى فَأَنفُخُ فِيهِ يعني فتكون شخصًا فتنفخ فيه، ويمكن ألّا يحتاج إلى مثل هذا فتكون يعني فتنفخ فيها فتنفخ فيه، فَتَنْفُخُ فِيها يعني هذه المذكورة، فَأَنفُخُ فِيهِ يعني هذا المفعول أو المجعول أو نحو ذلك كهيئة الطير، -والله أعلم-.

[وفي النسخة الخطية: وكذلك الضمير المذكر في قوله في آل عمران]: فَأَنْفُخُ فِيهِ بالإفراد.

المذكر أوضح وهو عائد على الكاف لأنها بمعنى مثل، أو يكون عائد على الموصوف المحذوف الذي وصف بقوله: كَهَيْئَةِ.

 فينفخ فيه عائد على الكاف أيضا، لأنها بمعنى مثل وإن شئت قلت: هو في الموضعين عائد على الموصوف المحذوف الذي وُصف بقوله: كَهَيْئَةِ فتقديره في التأنيث صورة.

صورة فتنفخ فيها، وفي التذكير شخصًا فتنفخ فيه، أو خلقًا وشبه ذلك.

 [وفي النسخة الخطية: كَهَيْئَةِ فتقدره في التأنيث].

يصح هذا كله.

وفي التذكير شخصا أو خلقا وشبه ذلك، وقيل: المؤنث يعود على الهيئة، والمذكر يعود على الطير، والطين، [وفي النسخة الخطية يعود على الطير أو الطين]، وهو بعيد في المعنى بِإِذْنِي [المائدة:110] كرره مع كل معجزة ردّا على من نسب الربوبية إلى عيسى وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ يعني اليهود حين همّوا بقتله فرفعه الله إليه.

 

 

  1. انظر: تفسير القرطبي (6/346)، وتفسير ابن عطية (المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز) (2/250).
  2. تفسير القرطبي (6/346).
  3. انظر: فتح البيان في مقاصد القرآن (4/72)، وتفسير القاسمي (محاسن التأويل) (4/289)، وفتح القدير للشوكاني (2/98).
  4. انظر: تفسير ابن كثير (3/219)، والدر المنثور في التفسير بالمأثور (3/221).
  5. تفسير الطبري (9/58).
  6. انظر: الطرق الحكمية (ص:157)، وما بعدها.
  7. تفسير الطبري (9/58-59).
  8. انظر: الطرق الحكمية (ص:157)، وما بعدها.
  9. تفسير ابن كثير (3/216).
  10. انظر: تفسير القرطبي (6/350).
  11. [تفسير القرطبي (6/350).
  12. تفسير الطبري (9/76).
  13. انظر: المغني لابن قدامة (10/164-165).
  14. تفسير ابن كثير (3/215).
  15. انظر: الحجة في القراءات السبع (ص:135).
  16. تفسير الزمخشري (الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل) (1/688).
  17. تفسير ابن كثير (3/217).
  18. تفسير الطبري (9/79).
  19. تفسير ابن كثير (3/217).
  20. تفسير ابن كثير (3/217).
  21. أخرجه البخاري، كتاب الشهادات، باب اليمين بعد العصر، برقم (2672)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب بيان غلظ تحريم إسبال الإزار، والمن بالعطية، وتنفيق السلعة بالحلف، وبيان الثلاثة الذين لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم، برقم (106).
  22. تفسير الطبري (9/78).
  23. أخرجه أبو داود، كتاب الأقضية، باب شهادة أهل الذمة وفي الوصية في السفر، برقم (3605).
  24. أخرجه الحاكم في المستدرك على الصحيحين (2/343)، برقم (3224)، وقال: "صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه".
  25. تفسير ابن كثير (3/220).
  26. انظر: تخريج الكشاف (1/429)، وقال: "وهذا إسناد صحيح".
  27. انظر: صحيح أبي داود (1/687).
  28. فتح الباري لابن حجر (5/412).
  29. لم أقف عليه.
  30. تفسير الطبري (9/98).
  31. تفسير ابن كثير (3/217).
  32. تفسير الطبري (9/96).
  33. الدر المصون في علوم الكتاب المكنون (4/476).
  34. تفسير الطبري (9/96).
  35. تفسير الزمخشري (الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل) (1/689).
  36. الدر المصون في علوم الكتاب المكنون (4/476).
  37. الدر المصون في علوم الكتاب المكنون (4/476).
  38. تفسير الطبري (9/96).
  39. تفسير ابن عطية (2/254).
  40. تفسير ابن كثير (3/218).
  41. تفسير الطبري (9/112).
  42. تفسير ابن كثير (1/225).
  43. انظر: تفسير الطبري (9/111)، وتفسير ابن كثير (3/222).
  44. تفسير ابن كثير (3/222).
  45. انظر: تفسير الطبري (9/111)، وتفسير ابن كثير (3/222).
  46. تفسير ابن عطية (2/257).
  47. تفسير القرطبي (6/362).
  48. التحرير والتنوير (7/112).
  49. انظر: تفسير ابن كثير (1/264).

مواد ذات صلة