الأربعاء 23 / جمادى الآخرة / 1446 - 25 / ديسمبر 2024
(005) من قوله تعالى (وذر الذين اتخذوا دينهم لعباً ولهواً..) الآية 70 – إلى قوله تعالى (فبهداهم اقتده..) الآية 91
تاريخ النشر: ٠٣ / ربيع الآخر / ١٤٣٩
التحميل: 622
مرات الإستماع: 491

قوله تعالى: وَذَرِ الَّذِينَ.. [الأنعام:70]، قيل: إنها متاركة منسوخة بالسيف، وقيل: بل هي تهديد فلا متاركة، فلا نسخ فيها.

قوله: (إنها متاركة منسوخة بالسيف)، هذا ذهب إليه في نظائرها كثير من المفسرين من السلف فمن بعدهم، كما هو معلوم، وقد مضى الكلام على نحو هذا، وهم يقولون: إن كل آية فيها الإعراض عن المشركين والصفح وما إلى ذلك، فهي منسوخة بآية السيف، وهي الآية الخامسة من سورة براءة، ولكن هذا القول فيه نظر، والله أعلم، والأقرب أن هذه الآيات لم تنسخ، فهي محكمة، وإنما يكون إعمالها في أوقات الضعف، ضعف الأمة، وممن ذهب إلى أنها منسوخة: أبو جعفر بن جرير -رحمه الله-[1].

وعلى كل حال فالنسخ لا يثبت بالاحتمال.

قوله تعالى:

اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا.. [الأنعام:70] أي: اتخذوا الدين الذي كان ينبغي لهم لعبًا ولهوًا؛ لأنهم سخروا منه، أو اتخذوا الدين الذي يعتقدونه لعبًا ولهوًا؛ لأنهم لا يؤمنون بالبعث، فهم يلعبون ويلهون.

إذًا هي أو وليست الواو، أو اتخذوا الدين، احتمال آخر في المعنى، لأنهم لا يؤمنون بالبعث؛ فهم يلعبون ويلهون، يعني يتصرفون بحسب أهوائهم ونزواتهم، تصرف اللاعب وهذا الثاني كأنه أقرب، والأول حاصل وواقع بلا شك، فهم يسخرون، ومن اللهو أيضًا الذي كانوا يفعلونه كما قال الله -تبارك وتعالى-: وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً.. [الأنفال:35]؛ باعتبار أن المكاء هو التصفير، والتصدية: التصفيق.

قوله تعالى: وَذَكِّرْ بِهِ.. [الأنعام:70]، الضمير عائد على الدين أو على القرآن.

ويحتمل أن يكون أيضًا، أن يعود على الحساب وَذَكِّرْ بِهِ.. وهذه الأقوال بينها ملازمة فالقرآن يذكر به، وهو متضمن للحساب، وهو أيضًا مصدر الدين.

قوله تعالى: أَنْ تُبْسَلَ.. [الأنعام:70] قيل: معناه أن تحبس، وقيل: تفضح، وقيل: تهلك وهو في موضع مفعول من أجله.

تبسل تحبس، هذا قال به قتادة[2]، قيل: تفضح وهو مروي عن ابن عباس -ا-[3] وجاء عنه أيضًا في رواية، وكذا قال مجاهد وعكرمة والحسن والسدي، تسلم للهلكة[4]، فأصل المادة يدل على الحبس والمنع، وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ [الأنعام:70]، يعني: كي لا تبسل نفس بجرائرها، وجناياتها وكفرها عما فيه نجاتها، وتسلم للهلاك والعذاب.

ذكر الحافظ ابن كثير -رحمه الله- أن العبارات هذه متقاربة، التي قالها السلف، وأن حاصلها الإسلام للهلكة والحبس عن الخير، والارتهان عن درك المطلوب[5]، أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ، والله أعلم.

وهو في وضع مفعول من أجله؛ أي ذكر به كراهة أن تبسل نفس.

ذكر به كراهة أن تبسل نفس، كراهة أن تبسل نفس، يقول: (هو في موضع مفعول من أجله)، أي: ذكر به كراهة أو مخافة أن تبسل نفس، أو لئلا تبسل نفس، كل ذلك بمعنًى متقارب، نعم.

قوله تعالى: وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ [الأنعام:70] أي: وإن تعط كل فدية لا يؤخذ منها.

كقوله -تبارك وتعالى-: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ.. [آل عمران:91].

قوله تعالى: قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ [الأنعام:71] الآية: إقامة حجة وتوبيخ للكفار وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا [الأنعام:71]، أي نرجع من الهدى إلى الضلال وأصل الرجوع على العقب في المشي، ثم استعير في المعاني.

والعقب معروف، وهو مؤخر الرجل، فيعبر بذلك عن التراجع، النكوص، نعم.

وهذه جملة معطوفة على أندعو، والهمزة فيه للإنكار والتوبيخ.

قوله تعالى: كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ [الأنعام:71] الكاف في موضع نصب على الحال من الضمير في نرد: أي كيف نرجع مشبهين من اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ، أو نعت لمصدر محذوف تقديره ردًا كرد الذي، ومعنى اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ: ذهبت به في مهامه الأرض، وأخرجته عن الطريق فهو: استفعال من هوى في الأرض إذا ذهب فيها.

وقال الفارسي: استهوى بمعنى: أهوى مثل استزل بمعنى أزل[6].

قوله: "كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ[الأنعام:71]؛ الكاف في موضع نصب على الحال من الضمير في نرد"،  يعني كحال، يقول: "(كيف نرجع مشبهين من اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ، أو نعت لمصدر محذوف تقديره ردًا كرد الذي، ومعنى اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ: ذهبت به في مهامه الأرض، وأخرجته عن الطريق)، اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ" وذكر الحافظ ابن كثير -رحمه الله- يقول: كمثل رجل خرج مع قوم على الطريق، فضل الطريق، فحيرته الشياطين واستهوته في الأرض، وأصحابه على الطريق، فجعلوا يدعونه إليهم يقولون: ائتنا فإنا على الطريق، فأبا أن يأتيهم، فذلك مثل من يتبعهم بعد المعرفة بمحمد ﷺ ومحمد هو الذي يدعو إلى الطريق، والطريق هو الإسلام[7].

هذا الكلام الذي ذكره ابن كثير -رحمه الله- هو من كلام السدي، وذكر ابن كثير -رحمه الله- في المعنى كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ، ذكر على كل حال الغيلان يدعونه باسمه واسم أبيه وجده فيتبعها، وهو يرى أنه في شيء، فيصبح وقد ألقته في هلكة، وربما أكلته أو تلقيه في مضلة من الأرض، يهلك فيها عطشًا، فهذا مثل من أجاب الآلهة التي تعبد من دون الله ، وهذا أيضًا في الواقع من تمام كلامه، من تمام كلام السدي.

وقوله هنا: "(فهو: استفعال من هوى في الأرض إذا ذهب فيها)" يعني: استهوته هوت به وذهبت، فضل في الأرض في حال حيرته، وذهبت به مردة الشياطين بالمفاوز البعيدة، كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ.

(وقال الفارسي: استهوى بمعنى: أهوى مثل استزل بمعنى أزل) ويحتمل على كل حال هذا استهوى، يقول: مثل استزل بمعنى أزل، قال: هوى إلى الشيء أسرع إليه، وبعضهم يقول: هذا من هوى النفس، يعني زين له الشيطان هواه في قراءة حمزة، استهواه، في قراءة ابن مسعود والحسن وأبي، هي غير متواترة، استهواه الشيطان.

قوله تعالى: وحَيْرانَ [الأنعام:71] أي: ضال عن الطريق، وهو نصب على الحال من المفعول في استهوته. قوله تعالى: لَهُ أَصْحابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنا [الأنعام:71] أي: لهذا المستهوي أصحاب وهم رفقة يدعونه إلى الهدى.

كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ؛ فهو مستهوَى.

من هوى يهوي؟ إذا كان بهذا الاعتبار فلا إشكال، لكن إذا قلنا ذلك بمعنى أن الشياطين أخرجته عن الطريق، وصرفته أو ألقته في مهواة أو نحو ذلك فهو مستهوى، وهذا هو المعنى الأقرب -والله أعلم- من أنه بمعنى أهوى، والله أعلم.

 أي: لهذا المستهوى أصحاب وهم رفقة، يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى، أي: إلى أن يهدوه إلى الطريق، يقولون له: ائْتِنَا، وهو قد تاه وبعد عنهم فلا يجيبهم وهذا كله تمثيل لمن ضل في الدين عن الهدى، وهو يدعى إلى الإسلام فلا يجيب، وقيل: نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق، حين كان أبواه يدعوانه إلى الإسلام، ويبطل هذا قول عائشة ما نزل في آل أبي بكر شيء من القرآن إلا براءتي[8].

هنا ذكر نقل عن ابن عطية، قال: حكى مكي يعني ابن أبي طالب، له تفسير وغيره أن المراد بالذي في هذه الآية عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق، وبالأصحاب: أبوه وأمه، لكن لم ينقل هنا في هذا التعليق كلام ابن عطية على هذا النقل عن مكي، ابن عطية يقول: هذا ضعيف[9]؛ لأن في الصحيح أن عائشة لما سمعت قول القائل: إن قوله: وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ.. [الأحقاف:17]؛ هذا في قصة مروان بن الحكم -كما هو معروف- حينما كان على المنبر، وذكر يزيد بن معاوية، يعني أنه يكون الخليفة من بعد أبيه، وقال: سنة أبي بكر وعمر، معنى أن أبا بكر استخلف عمر -ا- وأن عمر جعلها في الستة نفر، وإن لم يحدد واحدًا منهم، وهو يقول: سنة أبي بكر وعمر، فقال عبد الرحمن: سنة هرقل وقيصر، فقال مروان للحرس: خذوه، فدخل بيت عائشة -ا-، فقال مروان: هذا الذي أنزل الله فيه: وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا..[الأحقاف:17]، فقالت عائشة -ا- من وراء الحجاب: والله ما نزلت فينا، وما نزل فينا من القرآن غير براءتي أو عذري[10].

فابن عطية رد هذا القول، وقال للماوردي وحكى أبو صالح عن ابن عباس أن هذه الآية نزلت في أبي بكر وامرأته، حين دعوا إليهما عبد الرحمن إلى الإسلام، قال: وهذا ضعيف للانقطاع، فإن أبا صالح لم يسمع من ابن عباس -ا-.

على كل حال لا يصح هذا، أنها نزلت في عبد الرحمن، وعبد الرحمن أسلم كما هو معلوم، فلا يصدق عليه هذا، يعني هذا أيضا من جهة المعنى.

قوله تعالى: وَأَنْ أَقِيمُوا [الأنعام:72] عطف على لنسلم، أو على مفعول أمرنا.

 قوله تعالى: قَوْلُهُ الْحَقُّ [الأنعام:73] مرفوع بالابتداء وخبره يوم يقول، وهو مقدم عليه والعامل فيه معنى الاستقرار كقولك: يوم الجمعة القتال، واليوم بمعنى الحين وفاعل يكون مضمر، وهو فاعل كن؛ أي: حين يقول لشيء كن: فيكون ذلك الشيء.

يقول: (قَوْلُهُ الْحَقُّ [الأنعام:73] مرفوع بالابتداء وخبره يوم)، يعني: يوم يقول، ويمكن أن يكون يوم مفعول به لفعل محذوف تقديره: واذكر، كما ذكرنا هذا في عدد من المناسبات، أو معطوف على الضمير المنصوب في قوله: اتقوه، اتقوه على حذف مضاف، أي: اتقوا عذاب يوم يقول، هذا يحتمل، وكون ذلك بأنه معمول لـ اذكر، هذا واضح وأيسر في الإعراب، فيه وفي نظائره، ويحتمل أن يكون ظرف زمان منصوبًا متعلقًا بمحذوف خبر مقدم للمبتدأ المؤخر قوله، ويكون الحق صفته، قَوْلُهُ الْحَقُّ، أي: وقوله الحق في يوم يقول: كن فيكون؛ أو أن قَوْلُهُ: مبتدأ و الْحَقُّ: خبره، قَوْلُهُ الْحَقُّ، وبعضهم يقول: التقدير: واتقوا يوما، فيكون معطوفًا على قوله، واتقوه، أو معطوف على قوله: خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ؛ أي: وخلق يوم يقول كن فيكون، ذكر بدأ الخلق وإعادته، لكن هذا لا يخلو من تكلف، والله أعلم.

يقول: (والعامل فيه معنى الاستقرار كقولك: يوم الجمعة القتال، واليوم بمعنى الحين وفاعل يكون مضمر)؛ يعني: تقديره هو، يرجع إلى كل ما خلق، ويحتمل أن يكون الفاعل: قوله كما سبق، والحق: صفته، صفة لذلك، أعني: قوله، يعني: فيوجد قَوْلُهُ الْحَقُّ؛ ويكون الكلام على هذا الاعتبار، على هذا الإعراب تامًا على الحق، يعني قَوْلُهُ الْحَقُّ، وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ.

يقول: (وفاعل يكون مضمر، وهو فاعل كن)، يعني: تقدير الفاعل: أنت، كن أنت، يرجع إلى كل ما خلق، (أي: حين يقول لشيء كن: فيكون ذلك الشيء)

 قوله تعالى: يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ [الأنعام:73] ظرف لقوله: لَهُ الْمُلْكُ كقوله: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ [غافر:66] وقيل في إعراب الآية غير هذا مما هو ضعيف أو تخليط.

في قوله: قَوْلُهُ الْحَقُّ ووَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ، في الذي يقول له كن، قيل: يوم القيامة وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ؛ يقول لماذا؟ يحتمل أن يقول ليوم القيامة كما يقول ابن كثير[11]، أو ما يكون فيها في القيامة، أو الصور، أو كما سبق أن ذلك يرجع إلى كل ما خلق الله -تبارك وتعالى-.

قوله: يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ [الأنعام:73] ظرف لقوله: لَهُ الْمُلْكُ؛ يعني: يوم ينفخ في الصور، مثل: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة:4]، يعني: أضاف ذلك إليه، يعني: يوم الدين، الملك في ذلك اليوم باعتبار أنه اليوم الأعظم، فإذا كان مالكًا له؛ فهو لما دونه أملك، لأنه لا يدعي في ذلك اليوم الملك أحد، ويحتمل أن يكون قوله ذلك، يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ، يكون بدلاً من قوله: وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ؛ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ،

 قوله تعالى: عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ [الأنعام:73] خبر ابتداء مضمر.

قوله تعالى: لِأَبِيهِ آزَرَ [الأنعام:74] هو اسم أبي إبراهيم، فإعرابه عطف بيان أو بدل، ومنع من الصرف للعجمة والعلمية، لا للوزن لأن وزنه فاعل نحو عابر وشالح، وقرئ بالرفع على النداء، وقيل: إنه اسم صنم؛ لأنه ثبت أن اسم أبي إبراهيم تارح، فعلى هذا يحتمل أن يكون لقب به لملازمته له، أو أريد عابد آزر، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه، وذلك بعيد، ولا يبعد أن يكون له اسمان.

قوله: بأن آزر (هو اسم أبي إبراهيم) هذا هو ظاهر القرآن، ولا حاجة للعدول عنه، لأقوال مؤرخين مبناها على روايات لا أسانيد لها، مما ينقلونه عن كتب بني إسرائيل ونحو ذلك، فلا يعدل عن ظاهر القرآن بمثل هذا.

يقول: (فإعرابه عطف بيان أو بدل)، نحن نعرف الفرق بين عطف البيان والبدل، هما متقاربان، لكن إذا كان الثاني أوضح من الأول، فهو عطف بيان، وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ.. [الأنعام:74]؛ من أبوه؟ آزر، يعني كأنه قال: وإذ قال إبراهيم لآزر؛ فالبدل وعطف البيان يقوم أحدهما مقام الآخر، لكن عطف البيان، يكون الثاني أوضح من الأول، وعادةً يمثل النحاة لهذا بالمثال المعروف، قال أبو حفص عمر، فعمر أوضح من أبي حفص، فهو عطف بيان، لكن لو قلت: قال عمر أبو حفص، فأبو حفص بدل من عمر، فهو يعرف عطف بيان إذا كان الثاني أوضح، فهذا هو إعرابه باعتبار أنه أبوه.

يقول: (ومنع من الصرف للعجمة)؛ لأن هذه أسماء أعجمية، والعلمية، يعني اجتمع فيه علتان، فيكون ممنوعًا من الصرف، (لا للوزن فإن وزنه فاعل على نحو عابر وشالح)، ويقول: (وقرئ بالرفع على النداء)، بالرفع: آزر، (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرُ..)، يعني: على النداء، آزرُ؛ يعني: يا آزرُ، حذف حرف النداء، وهذه ليست من القراءات السبع، لكن قرأ بها يعقوب، (وقيل: إنه اسم صنم)، وهذا غير صحيح، الله يقول: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ.. [الأنعام:74]، يقول: (لأنه ثبت أن اسم أبي إبراهيم تارح)، وإن ثبت هذا، هذا لا يثبت، فعلى هذا يحتمل أن يكون لَقب لُقب به لملازمته، يعني: لُقب باسم الصنم، هذا غير صحيح، لملازمته، لاحظوا الفاصلة عندكم لملازمته قبل له، هي تكون بعد له، غيروا موضع الفاصلة، في طبعة الضياء.

(أو أريد عابد آزر، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه)، وهذا خلاف الظاهر أيضًا، والأصل عدم التقدير.

يقول: (ولا يبعد أن يكون له اسمان)، لا حاجة لمثل هذا، وبعضهم يقول: بأن آزر لقب وتارح اسم، لكن هذا أيضًا لا دليل عليه، وبعضهم يقول: آزر هذه ليست من قبيل التسمية، وإنما هي سبٌ وعتاب.

وهذا أيضًا خلاف ظاهر القرآن، يعني: كأنه يعاتبه، يعني معناه عندهم: المعوج آزر وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ [الأنعام:74]، يعني: المعوج، وهذا غير صحيح؛ لأن الكلمة على هذا أعجمية آزر، المعوج وهذا يقتضي -والله أعلم- أن يكون ذلك من قبيل التركيب، يعني كأنه يقول له: آزر أنت، أو أنت آزر، أو نحو هذا، وباتفاق العلماء، في مسألة المعرب، وهي الكلمات التي يقال إن أصلها أعجمي، لا يوجد منها شيء مركب في القرآن، وإنما الألفاظ المنكرة، مثل: سندس، واستبرق، ومشكاة، ونحو ذلك، وأما الأسماء الأعلام، فهذه متفق عليها، وأنها تقال كما هي، فلا إشكال في هذا، وإنما خلافهم في المنكر، الأسماء الأعلام اتفقوا على أنها واقعة، موجودة في القرآن أعجمية، وأما التراكيب فاتفقوا على أنها غير موجودة، واختلفوا في الألفاظ المنكرة، نعم تفضل.

قوله تعالى: نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الأنعام:75]، قيل: إنه فرج الله السماوات والأرض حتى رأى ببصره الملك الأعلى والأسفل، وهذا يحتاج إلى صحة نقل، وقيل: رأى ما يراه الناس من الملكوت، ولكنه وقع له بها من الاعتبار والاستدلال ما لم يقع لأحد من أهل زمانه.

وهذا كأنه -والله أعلم- أقرب، والأول لا دليل عليه كما ذكر المؤلف، وقد ذكر الحافظ ابن كثير في المعنى أن المراد: نبين له وجه الدلالة في نظره إلى خلقهما على وحدانية الله في ملكه وخلقه، وأنه لا إله غيره، ولا رب سواه، يعني: هذا الكلام الأخير الذي ذكره ابن جزي.

نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، فهو يرى وينظر نظر اعتبار يتوصل به إلى معرفة المعبود وحده، وأنه خالق كل شيء ولا إله غيره، كأن هذا هو الأقرب، والله تعالى أعلم.

ومَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، ملكوت يعني ملك السماوات والأرض، نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، أي: ملكهما، نعم وملكوت وزيادة التاء هذه مع الواو، للمبالغة في الصفة، مثل: الرغبوت، والرهبوت، ونحو ذلك.

قوله تعالى: وَلِيَكُونَ [الأنعام:75]، متعلق بمحذوف تقديره: وليكون من الموقنين فعلنا به ذلك.

نعم، يعني حذف ما يعلم هذا كثير في اللغة والقرآن، ثقةً بفهم المخاطب.

قوله تعالى: فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ [الأنعام:76]، أي ستره يقال: جنّ عليه الليل وأجنه، قوله تعالى: رَأى كَوْكَبًا قالَ هذا رَبِّي [الأنعام:76] يحتمل أن يكون هذا الذي جرى لإبراهيم في الكوكب والقمر والشمس أن يكون قبل البلوغ والتكليف.

وقد روي أن أمه ولدته في غار خوفًا من نمروذ؛ إذ كان يقتل الأطفال لأن المنجمين أخبروه أن هلاكه على يد صبي، ويحتمل أن يكون جرى له ذلك بعد بلوغه وتكليفه، وأنه قال ذلك لقومه على وجه الرد عليهم والتوبيخ لهم، وهذا أرجح لقوله بعد ذلك: إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ [الأنعام:78]، ولا يتصور أن يقول ذلك وهو منفرد في الغار لأن ذلك يقتضي محاجةً وردّا على قومه، وذلك أنهم كانوا يعبدون الأصنام والشمس والقمر والكواكب، فأراد أن يُبين لهم الخطأ في دينهم، وأن يُرشدهم إلى أن هذه الأشياء لا يصح أن يكون واحد منها إلهًا، لقيام الدليل على حدوثها. وأن الذي أحدثها ودبر طلوعها وغروبها وأفولها هو الإله الحق وحده، فقوله: هَذَا رَبِّي [الأنعام:76]، قول من ينصف خصمه، مع علمه أنه مبطل لأن ذلك أدعى إلى الحق وأقرب إلى رجوع الخصم، ثم أقام عليهم الحجة بقوله، لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ [الأنعام:76].

هنا هذا المعنى الأول الذي ذكره، أن ذلك كان قبل البلوغ، منشأ هذا القول هو استشكال، أن يقول إبراهيم في الكوكب هَذَا رَبِّي، بمعنى خلاف العلماء في هذا الموضع، هل قال ذلك إبراهيم ناظرًا أو مناظرًا؟ هذا السؤال، هل قاله ناظرًا، يعني قاله ناظرًا بمعنى أنه اعتقد ربوبية الكوكب، فلما أفل أعرض عن ذلك، ونزع عنه، ثم قال ذلك فيما هو أكبر منه، وهو القمر، فلما أفل نزع عن ذلك، فلما رأى الشمس قال: هذا أكبر، يعني: أنه هو ربه، فلما أفلت تبرأ من ذلك كله، ومن معبودات المشركين، وذكر أنهم كانوا مع عبادتهم الأصنام، يعبدون الكواكب، أنهم كانوا يعبدون الكواكب، فقال ذلك في الرد عليهم، وأنه اعتقد ربوبية الكواكب، يعني أنه قاله ناظرًا، ولم يقله مناظرًا، لم يقله مناظرًا؛ يعني: على سبيل التنزل مع الخصم، هذا معنى مناظر، يعني في مقام المناظرة تنزلاً مع الخصم، نعم، يعني كأنه يقول: هَذَا رَبِّي؛ هب ذلك، لا أنه يعتقد ربوبية الكوكب، وهذا هو الصحيح، أن إبراهيم قاله مناظرًا، قاله على سبيل المناظرة، من باب التنزل مع الخصم، ولا حاجة أن يقال: قال ذلك قبل البلوغ، والتكليف، وإبراهيم ما كان قط على دين قومه، وقد ذكرنا من قبل في بعض المناسبات مثل هذا، هل كان الأنبياء على دين قومهم؟

أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا.. [الأعراف:88]، فهل ذلك يقتضي أنهم كانوا عليها، فطولبوا بالرجوع ثانيةً إلى تلك الملة؟ قلنا هناك: بأن لفظ العود قد يأتي بمعنى مطلق الصيرورة، يعني تصيرون إلى ملتنا، لا يقتضي أنهم كانوا قبل ذلك عليها، وذكرت هناك بعض الأمثلة، مثل: عاد الماء ثلجًا، ولم يكن كذلك قبل، وعاد الصبي شيخًا، وعاد الطين خزفًا، ولم يكن قبل ذلك على هذه الحال؛ فهذا معنًى صحيح في اللغة، فالأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- ما كانوا على دين قومهم، مع أن لفظة عاد تأتي أيضًا بمعنى الرجوع إلى، رجوع الشيء على حاله الأولى، حتى يعود اللبن في الضرع، لكنه ليس بمراد هنا، فهذا الزعم بأن أمه ولدته في غار خوفًا من النمرود، هذا كله لا يثبت.

وبعضهم يقول: بأن ذلك يمكن أن يكون على سبيل الاستفهام هَذَا رَبِّي، أي: أهذا ربي؟ فقد يحذف حرف الاستفهام، تقول: هذا الذي يقول كذا، أي: أهذا الذي يقول كذا؟ كقوله: أَفَإِينْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ [الأنبياء:34]، يعني: أفهم الخالدون؟ لكن لا حاجة لهذا، وإنما كان ذلك على وجه الرد عليهم، وهذا هو الذي اختاره الحافظ ابن كثير[12]، والشيخ محمد الأمين الشنقيطي[13] وجماعة من المحققين، أنه قاله مناظرًا على سبيل التنزل مع الخصم.

ويقول: لأن ذلك أدعى إلى الحق، وأقرب إلى رجوع الخصم، بدليل أن الله قال عن إبراهيم : وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [البقرة:135]؛ فذلك نفي الكون الماضي يستغرق جميع الزمان الماضي، بدليل أن قوله: فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ [الأنعام:76]، معطوف على قوله: وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ.. [الأنعام:75]، فكيف يكون ذلك؟ يعني: يقول: هَذَا رَبِّي؛ معتقدًا وقد أراه الله ملكوت السماوات والأرض؟ يعني: لما أراه الله ذلك؛ ناظر قومه فاحتج عليهم، وظهر عليهم في الحجة، فكيف يقال: أنه قاله معتقدًا وقد أراه الله ملكوت السماوات والأرض.

ثم أقام عليه الحجة بقوله: لا أُحِبُّ الآفِلِينَ [الأنعام:76] أي: لا أحب عبادة المتغيرين؛ لأن التغير دليل على الحدوث، والحدوث ليس من صفات الإله.

في الطبعة الجديدة، قال الشيخ عبد الرحمن البراك -حفظه الله تعالى-: قوله: (ثم أقام عليه الحجة بقوله: لا أُحِبُّ الآفِلِينَ [الأنعام:76] أي: لا أحب عبادة المتغيرين؛ لأن التغير دليل على الحدوث، ..)، إلى آخر كلامه، أقول عليه في هذا الكلام مأخذان:

أحدهما: تفسير الأفول بالتغير، وهو من التفسير باللازم، فإن أفل في اللغة بمعنى: غاب، والأفول: هو الغياب بعد الظهور، فعليه يكون: لا أُحِبُّ الآفِلِينَ، أي: الغائبين بعد الظهور.

الثاني: جزمه بأن كل متغير محدث؛ فيقتضي ذلك نفي التغير عن الله، وابن جزي وأمثاله، يطلقون نفي التغير عن الله بهذه الشبهة، والصواب: أن التغير من الألفاظ المحدثة المجملة، التي لا تجوز إضافتها إلى الله لا نفيًا ولا إثباتًا، إلا بعد الاستفصال عن مراد المتكلم بها، فإن أراد حقًا قُبل، وإن أراد باطلاً رُدَّ، وإن أرادهما مُيز البطل من الحق، فعلى هذا إن أريد بالتغير قيام الأفعال الاختيارية به سبحانه؛ فالنفي باطل والإثبات حق، وإن أريد بالتغير النقص بعد الكمال في ذاته -تعالى- وصفاته؛ فالنفي حق والإثبات باطل، وابن جزي -رحمه الله- وأمثاله، هم من نفاة الصفات الفعلية في الجملة".

صحيح، هذا سبق التعليق بنحو من هذا، في موضع سابق، في عبارة تشبه هذه لما ذكر صفات الحدوث، أعني: ابن جزي -رحمه الله- بنحو هذا الكلام، وهم يقصدون بذلك نفي الصفات الاختيارية المتعلقة بمشيئته وإرادته، كصفة النزول والكلام على عقيدة أهل السنة والجماعة؛ لأن المتكلمين من الأشاعرة يقولون: نثبت صفة الكلام، لكنهم في الواقع يوافقون المعتزلة في أن القرآن مخلوق، ويصرحون بهذا في بعض كتبهم، كشرح الجوهرة وغيره، ويقولون: لا نصرح بهذا إلا في مجالس العلم، يقصدون: من أجل ألا يفهم العامة أن القرآن مخلوق كما تقول المعتزلة، وهم يبدون أنفسهم على أنهم خصوم المعتزلة، ويردون عليهم في هذه المسألة وغيرها.

ولكن في الواقع فهم يثبتون كلامًا لا يتصور ثبوته ووقوعه، يقولون: بأن كلامه لا تعاقب فيه ولا انقضاء، وهو معنى واحد قائم بالنفس، معنى واحد معنى وليس بألفاظ، يقولون: الألفاظ مخلوقة، إما أن جبريل هو الذي عبر، إما فهم من المعنى عن الله، أو تلقفه من الله تلقفًا روحانيًا، أو أن الله خلقه في الهواء، خلقه: يعني القرآن في الهواء، أو يقولون: أخذه من اللوح المحفوظ، أن الله كتبه في اللوح المحفوظ فأخذه جبريل، أو أخذه من بيت العزة أو أن جبريل ألقاه إلى النبي ﷺ ألقى المعنى، والنبي ﷺ هو الذي عبر به، يعني أنه هذا القرآن من كلام النبي ﷺ ومعانيه من الله، هذه كلها عبارات للأشاعرة، وهذا كلام كله غير صحيح، والله قال عمن قال بأنه من قول البشر، قال: سَأُصْلِيهِ سَقَرَ[المدثر:26]، فهذا كلام الله : فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ.. [التوبة:6].

وقولهم: بأنه لا تعاقب فيه ولا انقضاء، هذا باطل يعني بمعنى أنهم يقولون: لا تعاقب فيه ولا انقضاء، بمعنى مثلاً: بسم الله، السين ليست بعد الباء والميم ليست بعد السين، إنما ذلك معنى واحد لا يتعاقب؛ لأن التعاقب يقتضي الحدوث، عندهم هكذا، ومن ثم ينفون بأن الله يتكلم متى شاء، يعني: إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ.. [آل عمران:55]، أو ..أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ.. [المائدة:116]، يعني حينما يتكلم الله يوم القيامة أو في أي وقت شاء، هم ينفون مثل هذا، ويقولون: كلامه هو معنًى واحد قائم في النفس، الأمر: عين النهي، عين الخبر، يعني الأمر عين النهي هذا لا يمكن، يقولون: إن عبر عنه بالعربية فهو قرآن، وإن عبر عنه بالعبرانية فهو توراة؛ وإن عبر عنه بالسريانية فهو إنجيل، وهذا المعنى الواحد، هذا كلام لا يعقل، يسمونه المعنى النفسي، وهذا لا يتصور أبدًا.

يعني: قول المعتزلة أحسن منه، المعتزلة لا يتصورون كلامًا من غير لفظ، فالكلام إنما هو مثل الإنسان، مجموع الروح والجسد، فالكلام: مجموع اللفظ والمعنى، ولا يتصور كلام من غير ألفاظ، فالمعتزلة يقولون: بأن القرآن هو هذه الألفاظ، لكنها مخلوقة، بناءً على أصل فاسد عندهم، والذي أوقع الأشاعرة في هذا أنهم ناظروا المعتزلة، فلما كان حظهم عن الأشاعرة من علم منقول ضعيفًا؛ ألزمهم المعتزلة بالتزامات فالتزموا بعضها، فوقعوا في مثل هذه الإشكالات، في مسألة الأفعال الاختيارية، فرارًا من إثبات حلول الحوادث بذات الله ، التي ألزمهم بها المعتزلة، قالوا: إذا كنتم تقرون بأن الله يفعل ما شاء متى شاء، ويتكلم متى شاء، فأنتم تقولون: بحلول الحوادث بذات الله، وهذا غلط، نعم فهؤلاء من الأشاعرة ما كان عندهم علم وافي بالمنقول، وإنما عندهم علم بهذه القضايا الكلامية، والعقل عندهم مقدم على النقل؛ فالتزموا بعض هذه اللوازم، فوقعوا في أمور عجيبة، أضحكت منهم العقلاء مثل الكلام النفسي، مثل مسألة الكسب في أفعال العباد في باب القدر، فلا حاجة للاسترسال في مثل هذا، لكن للأسف هذا وقع لهم، بسبب مناظراتهم للمعتزلة، فأوقعهم ذلك في هذه الأمور.

قال: ثم استمرّ على ذلك المنهاج في القمر وفي الشمس، فلما أوضح البرهان، وأقام عليهم الحجة، جاهرهم بالبراءة من باطلهم، فقال: إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُون [الأنعام:78]، ثم أعلن بعبادته لله وتوحيده له فقال: إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ [الأنعام:79]، ووصف الله -تعالى- بوصف يقتضي توحيده وانفراده بالملك، فإن قيل: لمَ احتج بالأفول دون الطلوع، وكلاهما دليل على الحدوث؟ لأنهما انتقال من حال إلى حال؟ فالجواب: لأنه أظهر في الدلالة، لأنه انتقال مع اختفاء واحتجاب.

قوله تعالى: أَتُحاجُّونِّي فِي اللَّهِ [الأنعام:80]، أي: في الإيمان بالله وفي توحيده، والأصل: أتحاجونني بنونين وقرئ بالتشديد على إدغام إحداهما في الآخر، وبالتخفيف على حذف إحداهما، واختلف هل حذفت الأولى أو الثانية.

نعم، لأن القراءة بالتشديد هي قراءة الجمهور، وفي قراءة نافع وابن عامر بالتخفيف، غير تشديد في النون، (أَتُحاجُّونِي)، هي أصلها.

يقول: (على إدغام إحداهما بالآخر)، يعني: أتحاجونني هذا أصلها، (وبالتخفيف على حذف أحدهما واختلف هل حذفت الأولى أو الثانية)، الأولى: هي نون الرفع، نون تحاجون، هذه نون الرفع، تقول: لم يحاجوا؛ تحذف في حال الجزم مثلاً، والثانية: هي نون الوقاية، فمن قال بهذا؛ يعني: المحذوف هو نون الوقاية، أن الثانية هي المحذوفة، قالوا: لأنها زائدة حصل بها الاستثقال، تحاجوني؛ فبقيت نون الرفع.

يقول: (اختلف هل حذفت الأولى أو الثانية)، ومن قال بنون الرفع؛ فذلك باعتبار أن الحاجة دعت إلى نون مكسورة من أجل الياء، ونون الرفع لا تكسر، فحذفت نون الرفع.

قوله تعالى: وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ [الأنعام:80] ما هنا بمعنى الذي ويريد بها الأصنام، وكانوا قد خوفوه أن تصيبه أصنامهم بضر، فقال: لا أخاف منهم لأنهم لا يقدرون على شيء.

قوله تعالى: إِلَّا أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئًا [الأنعام:80] استثناء منقطع بمعنى لكن: أي إنما أخاف من ربي إن أراد بي شيئا.

يعني: إن أراد بي شيئًا نالني وأصابني، وليس آلهتكم هي التي تفعل ذلك، والقول بأنه استثناء منقطع بمعنى: لكن، هذا الذي اختاره المحققون، كشيخ الإسلام ابن تيمية[14]، والحافظ ابن القيم[15]، وابن كثير[16]، والشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله- لكن إن أراد بي ربي شيئًا وقع، ليست أصنامكم هي التي توصله إليه؛ لأن بعضهم يقول: بأن الاستثناء متصل، يعني: إلا أن يشاء ربي شيئًا؛ فيصلني منها، لكن هذا غير صحيح.

قوله تعالى: وَكَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ [الأنعام:81]، أي كيف أخاف شركاءكم الذين لا يقدرون على شيء؟ وأنتم لا تخافون ما فيه كل خوف، وهو إشراككم بالله، فأنتم تنكرون عليّ الأمن في موضع الأمن، ولا تنكرون على أنفسكم الأمن في موضع الخوف؟ ثم أوقفهم على ذلك بقوله: فأيّ الفريقين أحق بالأمن؟ يعني فريق المؤمنين، وفريق الكافرين، ثم أجاب عن السؤال بقوله: الَّذِينَ آمَنُوا [الأنعام:82]، الآية وقيل: إن الَّذِينَ آمَنُوا الآية: استئناف، وليس من كلام إبراهيم.

هذا يحتمل كما ذكرنا في عدد من المناسبات أن يكون من قبيل الموصول لفظًا، المفصول معنى، يعني ظاهر الكلام: كأنه لمتكلم واحد، وهما جملتان منفصلتان:

الأولى لقائل، والثانية لقائل آخر، نعم فيكون قوله: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ [الأنعام:82]؛ من كلام الله ، في الفصل بين الفريقين.

يعني: كأن الله حكم بهذا، ويحتمل أنه من كلام إبراهيم في جملة ما احتج به عليهم، فالقول بأنه استئناف، أنه من كلام الله ، هذا الذي اختاره ابن جرير[17]، وابن كثير[18]، والشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله[19].

فهذه المواضع ذكرت لها أمثلة في بعض المناسبات، كقوله تعالى في قصة ملكة سبأ: إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً [النمل: 34]، قال: وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ [النمل:34]، فيحتمل أن يكون من جملة قولها: وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ، ويحتمل أن يكون من كلام الله ، تصديقًا لقولها.

وكذلك في قوله امرأة العزيز: الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدتُّهُ عَنْ نَفْسِهِ.. [يوسف:51]، إلى أن قال: ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ.. [يوسف:52]، فيحتمل أن يكون هذا من جملة كلامها، ويحتمل أنه من كلام يوسف يعني: أنه طلب السؤال قبل خروجه من السجن؛ ليعلم العزيز أن يوسف ما خانه بالغيب، هذا يحتمل، وهذه المواضع منها ما يظهر فيها القول أو الاحتمال بأن ذلك استئناف، أو أنه من قبيل الموصول لفظًا، المفصول معنى، وفي بعضها يكون الاحتمال ضعيفًا، وعلى كل حال يدخل تحت هذا بعض الصور والأنواع، لها متعلقات أخرى، قد يتقوى بها هذا أو هذا.

قوله تعالى: وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ [الأنعام:82] لما نزلت هذه الآية أشفق منها أصحاب النبي ﷺ، فقالوا: وأينا لم يظلم نفسه؟ فقال رسول الله -صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم-: إنما ذلك كما قال لقمان لابنه: يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان: 13][20].

ذكر الحافظ ابن القيم -رحمه الله-: وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ؛ قال: لم يقل: ولم يظلموا أنفسهم، وإنما قال: وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ؛ ولبس الشيء بالشيء تغطيته به، وإحاطته به من جميع جهاته، ولا يغطي الإيمان ويحيط به ويلبسه إلا الكفر[21].

يعني على قول ابن القيم هذا، يكون اللفظ يدل على أن المراد الكفر، لكن هذا مع أنه ملحظ جميل، إلا أنه لا يخلو من إشكال؛ لأن الصحابة عرب خلص فصحاء؛ ففهموا من اللفظ الخلط وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ، أي: لم يخلطوا إيمانهم بظلم، وظلم نكرة في سياق النفي فتعم، يعني: أي ظلم، حتى ظلم الإنسان لنفسه، أو ظلم الإنسان لغيره من الناس، فظاهر اللفظ أنه يشمل ذلك جميعًا؛ فبين لهم النبي ﷺ أن هذا من العام، لفظ عام، ظلم نكرة في سياق النفي، فهي للعموم، بين لهم أنه من العام المراد به الخصوص، وهذا استعمال صحيح في القرآن وفي اللغة كما هو معلوم، هذا مقتضى التفسير النبوي.

ومن أهل العلم من ينظر إلى الآية بنظر لا ينفي هذا ولا يمكن لأحد أن ينفيه، يعني ما جاء عن النبي ﷺ أن المقصود: الشرك، لكن هل الظلم يؤثر في نقص، الظلم مطلقًا، المعصية هل يؤثر في نقص الاهتداء والأمن؟ هل يؤثر في نقص نصيب العبد من الأمن والاهتداء باعتبار أن الحكم المعلق على وصف يزيد بزيادته وينقص بنقصانه، فتجد مثل الشيخ عبد الرحمن السعدي -رحمه الله- في مثل هذا الموضع، يشير إلى هذا المعنى، ويحوم حوله[22]، باعتبار أن الإنسان إذا كان صاحب معاصي وذنوب ونحو ذلك يكون ذلك نقصًا في أمنه واهتدائه.

بمعنى أنه يكون له من الأمن والاهتداء بحسب ما يكون عليه من هذه الجهة، من هذه الحيثية، يعني إن كان سالـمًا من الظلم مطلقًا بما فيه المعاصي، الظلم بينه وبين الله، بينه وبين المخلوقين، مع نفسه، نعم فيكون له الأمن والاهتداء على وجه الكمال، فإذا نقص فوقع منه الظلم، نقص الحكم المرتب عليه، وهو الأمن والاهتداء، بمعنى أنه لا يكون بسبب المعصية لا ينتفي عنه أصل الأمن والاهتداء كيف؟ بسبب المعصية، لا ينتفي عنه أصل الأمن والاهتداء.

الصحابة فهموا من مفهوم المخالفة الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ  [الأنعام:82]، يعني: إذًا من حصل منه خلط، من حصل منه شيء من الظلم أيًا كان، فليس له -هذا مفهوم المخالفة- فليس له أمن ولا اهتداء، الحديث دل على أن ذلك لا ينتفي عنه وإنما يكون هذا الانتفاء بالكفر، طيب هل ينقص أو لا ينقص؟ كلام بعض أهل العلم مثل الشيخ عبد الرحمن، ومثل مقتضى هذه القاعدة أنه يحصل له نقص، الناس يتفاوتون في أمنهم واهتدائهم، فأهل الإيمان لا ينتفي عنهم أصل الأمن والاهتداء، لكنهم يتفاوتون فيه، فبعضهم يكون له الأمن والاهتداء على وجه الكمال، وبعضهم يكون دون ذلك، هذا معنى يمكن أن يكون مقبولاً بهذا الاعتبار، أن ذلك لا ينفي الأصل، ويكون ذلك لا ينافي ما جاء في الحديث، والله أعلم.

قوله تعالى: وَتِلْكَ حُجَّتُنا [الأنعام:83] إشارة إلى ما تقدم من استدلاله واحتجاجه.

إلى ما تقدم من الاستدلال والاحتجاج، هذا هو الظاهر والله أعلم، وذهب ابن جرير -رحمه الله- إلى أن المراد بذلك: هو قوله: فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [الأنعام:81]، قال: وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ.. [الأنعام:83] [23].

وذهب آخرون كالواحدي[24]، وابن عاشور[25]، والشنقيطي[26]، إلى أنها جميع المناظرة، وهذا هو الأقرب وهو الذي ذكره ابن جزي -رحمه الله-.

وجاء عن مجاهد أن المراد بذلك: وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ.. [الأنعام:81][27] إلى آخره، احتج عليهم بهذا، وهذا على كل حال وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [الأنعام:81].

قوله تعالى: وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ [الأنعام:84] الضمير لنوح أو إبراهيم -عليهما السلام-، والأول هو الصحيح لذكر لوط وليس من ذرية إبراهيم.

إلا أن يقال: بأنه دخل فيهم تغليبًا كقوله -تعالى-: أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ [البقرة:133]، فأدخل إسماعيل فيهم وهو عمه، مع أن بعض أهل العلم أخذ من ذلك أن عم الرجل، كما جاء في الحديث: عم الرجل صنو أبيه[28]، فيقال: للعم أب بهذا الاعتبار، وبعضهم يقول: كان ذلك على سبيل التغليب، وَمِنْ ذُرِّيَّتِه.

الذرية هم الأولاد، وأولاد الأولاد، يقول: الضمير لإبراهيم، وهذا مروي عن جماعة، كعطاء ويحيى بن يعمر، وبه قال القرطبي، وقبله الزجاج[29]، وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ۝ وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاً هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ.. [الأنعام:83-84].

فمن مشى على أن الضمير يرجع إلى أقرب مذكور، قالوا: أقرب مذكور منه هو نوح هذا الدليل الأول، أن الضمير يرجع إلى أقرب مذكور وهو نوح .

والدليل الثاني: هو أنه ذكر لوطًا، ولوط ليس من ذرية إبراهيم وإنما هو ابن أخيه، والقول بأنه نوح أن ذلك يرجع إلى نوح هذا مروي عن ابن عباس ومقاتل[30].

وبه قال ابن جرير[31] وابن عطية[32]، وابن عاشور[33]، ومن أهل المعاني قال به الفراء[34].

يقول: (والأول هو الصحيح لذكر لوط وليس من ذرية إبراهيم)، وليس من ذرية إبراهيم والأول هو الصحيح.

الذين يقولون: بأنه إبراهيم من ذريته، الضمير يرجع إلى أقرب مذكور، قالوا: لكن كان السياق كله في إبراهيم، والثناء عليه، ويرد عليهم الأمر الآخر: ذكر لوط، قالوا: يدخل من باب التغليب، دخل من باب التغليب، على كل حال: كل الأنبياء من ذرية نوح وإبراهيم هو أبو الأنبياء، كل من جاء بعده من الأنبياء، فهو من ذريته، إلا لوط فهو ابن أخيه، كان معاصرًا له.

قوله:

داود عطف على نوحا أي وهدينا داود، وَعِيسى فيه دليل على أن أولاد البنات يقال لهم ذرية؛ لأن عيسى ليس له أب فهو ابن بنت نوح.

في هذا المناظرة أو الاحتجاج الذي حصل مع الحجاج، فكان الحجاج يتوعد من يقول بأن الحسن والحسين من ذرية النبي ﷺ ووقع له هذا مع غير واحد، واحتجوا عليه بهذه الآية.

قوله تعالى: وَمِنْ آبائِهِمْ [الأنعام:87] في موضع نصب عطفًا على كلاً، أي: وهدينا بعض آبائهم.

باعتبار أن من للتبعيض.

قوله تعالى: فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ [الأنعام:89] أي أهل مكة.

فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ، ابن كثير يقول: أي النبوة[35]، ويحتمل أن يكون الضمير عائدًا على هذه الثلاثة، أُوْلَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ.. [الأنعام:89]، ومن قال بأنها النبوة باعتبار أن الضمير يرجع إلى أقرب مذكور، وكأن بين هذا القول وغيره ملازمة؛ يعني: إذا كفروا بالنبوة، كفروا بما معها، والله أعلم.

وحمله ابن القيم -رحمه الله- على من كفر من قومه أصلاً، ومن عداهم على سبيل التبع[36]، يعني: فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا [الأنعام:89]، يعني: إن يكفر بها هؤلاء من أهل مكة، ويدخل غيرهم على سبيل التبع، فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ [الأنعام:89]، والقول بأن المراد أهل مكة هذا مروي عن ابن عباس، وسعيد بن المسيب، والضحاك، وقتادة، والسدي، واختاره الحافظ ابن كثير -رحمه الله-[37].

قوله تعالى: وَكَّلْنا بِها قَوْمًا [الأنعام:89] هم الأنبياء المذكورون، وقيل: الصحابة، وقيل: كل مؤمن.

وَكَّلْنَا بِهَا، يعني ألزمنا الإيمان بها، قال: "هم الأنبياء المذكورون".

فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ، يعني: يكفر بها قومك، فقد وكلنا بها هؤلاء الأنبياء الكرام -عليهم الصلاة والسلام- وهذا الذي اختاره ابن جرير[38]، والشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله-.

(وقيل: الصحابة)، يعني: وأتباع الصحابة إلى يوم القيامة، يعني من آمن، وهذا الذي اختاره ابن كثير -رحمه الله-[39].

وبعضهم يقول: (كل مؤمن)، وبعضهم يقول: الملائكة، وبعضهم يقول: الأنصار، وحمله ابن القيم على الأنبياء[40]، ويدخل فيه المؤمنون تبعًا، فيدخل فيها كل من قام بدينه، ونصره وذب عنه، فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ، باعتبار الواقع، من هداه الله واجتباه واصطفاه لذلك، فالأنبياء هم كذلك، وهم أئمة أهل الإيمان.

يقول: (والأول أرجح لدلالة ما بعده على ذلك)؛ لأنه قال بعده: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ فالكلام متصل.

يقول: (ومعنى توكيلهم بها: توفيقهم للإيمان بها والقيام بحقوقها)، على كل حال، الشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله- يرى أنه لا منافاة بين هذه الأقوال الثلاثة، يعني: من قال بأنه الأنبياء أو الصحابة، أو كل مؤمن بأن ذلك كله داخل فيه، فوكل بها من هداه للإيمان، وأئمة هؤلاء الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- والصحابة هم كذلك، آمنوا دخلوا في الإيمان ومن تبعهم، بخلاف المشركين.

قال: والأول أرجح لدلالة ما بعده على ذلك، ومعنى توكيلهم بها توفيقهم للإيمان بها والقيام بحقوقها.

قوله تعالى: أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ [الأنعام:90] إشارة إلى الأنبياء المذكورين فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ [الأنعام:90] استدل به من قال: إن شرع من قبلنا شرع لنا، فأما أصول الدين من التوحيد والإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، فاتفقت فيه جميع الشرائع، وأما الفروع ففيها وقع الاختلاف بين الشرائع والخلاف: هل يقتدي النبي ﷺ فيها بمن قبله أم لا؟ والهاء في اقْتَدِهْ للوقف فينبغي أن تسقط في الوصل، ولكن من أثبتها فيه راعى ثبوتها في خط المصحف.

هذه التي يسمونها هاء السكت، دخلت لتبيين حركة الدال، اقْتَدِهْ، وهذه اقْتَدِهْ؛ تحذف لفظًا في الوصل دون الوقف، هذا مروي عن حمزة والكسائي[41] والباقين يثبتونها، أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ.. [الأنعام:90].

يقول: (ولكن من أثبتها راعى خط المصحف).

أما مسألة شرع من قبلنا، فالكلام فيها معروف وسبق في بعض المناسبات، بعضهم يقول: شرع من قبلنا شرع لنا، ما لم ينسخ، وبعضهم يقول: ليس بشرع لنا إلا ما جاء في شرعنا موافقًا له؛ فيكون المعمول به ما جاء في شرعنا، هذا خلاف بين الأصوليين معروف.

وقوله: فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ، يمكن أن يحمل على أصول الدين، التي لا تختلف، والمفسرون كثيرًا ما يستنبطون من قصص الأنبياء أحكامًا، يستنبطون أحكامًا، يعني مثل الخضر لما خرق السفينة، في قصة الخضر مع موسى بمسألة جواز إتلاف البعض في سبيل إبقاء الكل، أو استصلاح الكل، في قتل الغلام، هل يجوز للقاضي أن يحكم بعلمه؟ .

وفي قصة يوسف وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ [يوسف:72]، الكفالة والضمان والجعالة، حمل بعير، وكذلك أيضًا في باب الحيل المباحة، كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ.. [يوسف:76]، ولكن لا شك أن ما جاء في شرعنا ما يخالفه أنه لا عبرة به، يعني مثلاً السجود: وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا.. [يوسف:100]، ليوسف جاء في الشرع ما يخالفه قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا [الكهف:21]، بخلاف من الذين قالوا هذا، وقد مضى في بعض المناسبات في المصباح فهل هم الكفار؟

وبعضهم يقول: الذين قالوا هذا هم المؤمنون؛ لأنهم يعرفون المساجد، فهذا في شرعنا ما يخالفه، والنهي عنه والتحذير، بل لا يصح القول بأنهم أهل الإيمان؛ لأن النبي ﷺ قال: لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد[42]، فلو كان ذلك مباحًا لهم لم يلعنهم، والله أعلم.

 

  1. تفسير الطبري (11/442).
  2. تفسير الطبري (11/443).
  3. تفسير الطبري (11/444).
  4. تفسير ابن كثير (3/279).
  5. تفسير ابن كثير (3/279).
  6. الحجة للقراء السبعة (3/325).
  7. تفسير ابن كثير (3/279).
  8. أخرجه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب {وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَّكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ....} رقم: (4827).
  9. تفسير ابن عطية = المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (2/307).
  10. أخرجه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب {وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَّكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ....} رقم: (4827).
  11. تفسير ابن كثير (3/281).
  12. تفسير ابن كثير (3/292).
  13. أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (1/486).
  14. درء تعارض العقل والنقل (7/393).
  15. إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان (2/254).
  16. تفسير ابن كثير (3/293).
  17. تفسير الطبري (11/494).
  18. تفسير ابن كثير (3/293).
  19. أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (1/486).
  20. أخرجه البخاري، كتاب استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم، باب ما جاء في المتأولين، رقم: (6937)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب صدق الإيمان وإخلاصه، رقم: (124).
  21. إعلام الموقعين عن رب العالمين (1/265).
  22. تفسير السعدي (ص:263).
  23. تفسير الطبري (11/504).
  24. التفسير الوسيط للواحدي (2/294).
  25. التحرير والتنوير (7/334).
  26. أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (1/486).
  27. تفسير ابن كثير (3/296).
  28. أخرجه مسلم، كتاب الزكاة، باب في تقديم الزكاة ومنعها، رقم: (983).
  29. انظر: تفسير القرطبي (7/31).
  30. تفسير القرطبي (7/31).
  31. تفسير الطبري (11/507).
  32. تفسير ابن عطية (2/316).
  33. التحرير والتنوير (7/338).
  34. تفسير القرطبي (7/31).
  35. تفسير ابن كثير (3/299).
  36. مدارج السالكين (3/446).
  37. تفسير ابن كثير (3/299).
  38. تفسير الطبري (11/515).
  39. تفسير ابن كثير (3/299).
  40. بدائع الفوائد (3/111).
  41. تفسير القرطبي (7/36).
  42. أخرجه البخاري، كتاب الجنائز، باب ما جاء في قبر النبي ﷺ، وأبي بكر، وعمر -ا-، رقم: (1390)، ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب النهي عن بناء المساجد، على القبور واتخاذ الصور فيها والنهي عن اتخاذ القبور مساجد (529).

مواد ذات صلة