بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال المفسر -رحمه الله تعالى- في تفسير قوله تعالى:
ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم مُّوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُواْ بِهَا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ [سورة الأعراف:103].
يقول تعالى: ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم أي: الرسل المتقدم ذكرهم كنوح وهود وصالح ولوط وشعيب -صلوات الله وسلامه عليهم وعلى سائر أنبياء الله أجمعين.
مُّوسَى بِآيَاتِنَا أي: بحججنا ودلائلنا إِلَى فِرْعَوْنَ وهو ملك مصر في زمن موسى، وَمَلَئِهِ أي: قومه، فَظَلَمُواْ بِهَا أي: جحدوا وكفروا بها ظلماً منهم وعناداً، كقوله تعالى: وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ [سورة النمل:14] أي: الذين صدوا عن سبيل الله وكذبوا رسله، أي: انظر كيف فعلنا بهم، أغرقناهم عن آخرهم بمرأى من موسى وقومه، وهذا أبلغ في النكال بفرعون وقومه، وأشفى لقلوب أولياء الله -موسى وقومه- من المؤمنين به.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فيقول الله -تبارك وتعالى: ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم مُّوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ [سورة الأعراف:103]، فالملأ هم علية القوم بصرف النظر عن السبب الذي من أجله سموا بذلك، كقول بعضهم: لأنهم يملئون صدور المجالس، يعني أنهم في مقدمة القوم، أي أنهم الكُبراء، أو قول من قال: إنهم يتمالئون على الأمر، يعني هم أهل الحل والعقد، فكل هذا حاصل في الملأ، فهم الذين يتصدرون المجالس، وهم الذين يتمالئون.
قوله تعالى: إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ قال الحافظ ابن كثير -رحمه الله: "أي: قومه" فإذا كان الملأ يطلق على علية القوم -كما ذكرنا- فما وجه تخصيص ذلك بالملأ مع أنه أرسل للجميع؟
الجواب: أنه عبر بالملأ؛ لأن غيرهم تبعٌ لهم، ولهذا قال ابن كثير -رحمه الله: "إلى فرعون وقومه" فلا يأتِ أحد ويستدرك على ابن كثير هذا التفسير ويقول: الملأ ليسوا كل القوم، بل علية القوم.
قال الله تعالى: فَظَلَمُواْ بِهَا [سورة الأعراف:103] قال الحافظ: "أي: جحدوا وكفروا بها ظلماً منهم وعناداً".
ويمكن أن يُختصر فيقال: فَظَلَمُواْ بِهَا أي: كفروا بها.
فإن قيل: لماذا سمي الكفر ظلماً؟ يقال: لأن الكفر أظلم الظلم، كما قال الله تعالى: لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [سورة لقمان:13].
وأصل الظلم هو وضع الشيء في غير موضعه، فكل من وضع شيئاً في غير موضعه فقد ظلم، ومنه قول المرأة التي تضرب اللبن قبل أن يروب قائلة:
ظلمتُ لكم سقائي | وهل يخفى على العَكِدِ الظَّليمُ |
العَكِد هو عصب اللسان، وقولها: ظلمت لكم سقائي: يعني أنها ضربته قبل أن يروب، وهذا يضيِّع زبده، فتكون بذلك قد وضعت الضرب في غير موضعه، وهكذا القبر لما كان محفوراً في مكان ليس محلاً للحفر، قيل لتلك الحفرة: المظلومة.
وعلى كل حال فقوله تعالى عن فرعون: فَظَلَمُواْ بِهَا [سورة الأعراف:103] أي: كفروا، كما قال عنهم: وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا [سورة النمل:14] فكفر فرعون كان من قبيل الجحود.
وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ حَقِيقٌ عَلَى أَن لاَّ أَقُولَ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُم بِبَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ قَالَ إِن كُنتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ [سورة الأعراف:104-106].
يخبر تعالى عن مناظرة موسى لفرعون وإلجامه إياه بالحجة، وإظهاره الآيات البينات بحضرة فرعون وقومه من قبط مصر، فقال تعالى: وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ [سورة الأعراف:104] أي: أرسلني الذي هو خالق كل شيء وربه ومليكه.
حَقِيقٌ عَلَى أَن لاَّ أَقُولَ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقَّ [سورة الأعراف:105] أي: واجب وحق عليَّ ذلك، أن لا أخبر عنه إلا بما هو حق وصدق لما أعلم من جلاله وعظيم شأنه.
قوله: حَقِيقٌ عَلَى أَن لاَّ أَقُولَ يقول: "أي واجب وحق عليّ ذلك" وقرأ بعضهم (حقيق عليَّ أن لا أقول على الله إلا الحق)، وفي قراءة لابن مسعود: (حقيق ألا أقول على الله إلا الحق).
وبعض أهل العلم في القراءة المشهورة حَقِيقٌ عَلَى أَن لاَّ أَقُولَ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقَّ [سورة الأعراف:105] قال: إن "على" بمعنى الباء، ومعلوم أن حروف الجر تتناوب، فيكون المعنى: حقيق بأن لا أقول على الله إلا الحق"، وبهذا وردت قراءة غير متواترة قرأ بها بعض السلف كأُبَيّ والأعمش (حقيق بأن لا أقول).
والقراءة الآحادية يستفاد منها ثلاث فوائد، ومن هذه الفوائد أنه يفسر بها القراءة المتواترة، فقوله تعالى في القراءة المشهورة حَقِيقٌ عَلَى أَن لاَّ أَقُولَ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقَّ [سورة الأعراف:105] تفسرها قراءة أُبَيّ والأعمش فيقال: أي: حقيق بأن لا أقول على الله إلا الحق.
وبعض أهل العلم يقول بتضمين الفعل وما في معناه معنى الفعل، ففي هذا الموضع يقولون: إن لفظة حَقِيقٌ ليست فعلاً لكنها مضمنة معنى الفعل حرص، ولفظة حريص تُعدَّى بـ"على" فتقول: فلان حريص على فلان، وفلان حريص على ماله، وفلان حريص على شبابه، وهكذا فإن قوله: حَقِيقٌ عَلَى أَن لاَّ أَقُولَ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقَّ [سورة الأعراف:105] إذا كانت مضمنة معنى حريص يكون المعنى: حريص على أن لا أقول على الله إلا الحق.
وإذا ضمن الفعل أو ما في معناه معنى الفعل فإنه يُعدَّى تعديته كما في قوله تعالى: عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ [سورة الإنسان:6] فقوله: يَشْرَبُ بِهَا مضمّن معنى يرتوي أو يلتذُّ، فيكون المعنى عيناً يرتوي بها، حيث ضمِّن الشرب معنى الارتواء أو الالتذاذ، وهكذا يمكن أن يقال في قوله: حَقِيقٌ عَلَى أنه مضمن معنى حريص، وحريص يتعدى بـ"على" ويكون المعنى كما سبق: حريص على أن لا أقول على الله إلا الحق، وهذا ليس ببعيد، وإن كان القول الذي قبله قد يقال: إنه أوضح وأقرب وأسهل منه، لكن تضمين الفعل وما في معناه معنى الفعل أبلغ، والله أعلم.
قَدْ جِئْتُكُم بِبَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ [سورة الأعراف:105] أي: بحجة قاطعة من الله أعطانيها دليلاً على صدقي فيما جئتكم به.
فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ [سورة الأعراف:105] أي: أطلقهم من أسرك وقهرك، ودعهم وعبادة ربك وربهم، فإنهم من سلالة نبي كريم إسرائيل، وهو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم خليل الرحمن.
قَالَ إِن كُنتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ [سورة الأعراف:106] أي: قال فرعون: لستُ بمصدقك فيما قلت ولا بمطيعك فيما طلبت، فإن كانت معك حجة فأظهرها لنراها إن كنت صادقاً فيما ادعيت.
فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاء لِلنَّاظِرِينَ [سورة الأعراف:107-108].
قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس -ا- في قوله: ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ الحية الذَّكر، وكذا قال السدي والضحاك.
فسَّر الثعبان بأنه الحية الذكر، وأما المبين فيعني البيّن الظاهر الذي لا لبس فيه، أي أن العصا تحولت إلى حية لا لبس فيها ولا خفاء، فأمرها لا يلتبس أنها حية بل هي واضحة وليس ذلك من الأمور التي تَحتمل أن يكون البصر اختلط عليه الأمر أو نحو ذلك، بل هي حية ظاهرة لا لبس فيها.
يقول تعالى: فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ [سورة الأعراف:107] قال ابن عباس –ا: "الحية الذَّكَر" وفي موضع آخر قال الله -تبارك وتعالى: فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ [سورة النمل:10] فالعرب تطلق الجان على صغار الحيات.
وبالنسبة للجمع بين قوله تعالى: فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ [سورة الأعراف:107] وقوله تعالى: فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى [سورة طـه:20] يقال: إنها في ضخامتها ثعبان مبين وفي سرعة الحركة كأنها صغار الحيات لا تكاد تدركها لسرعتها وخفة حركتها، والله أعلم.
وأما الروايات الإسرائيلية فحدِّث ولا حرج، ومن ذلك أن هذه الحية وضعت فكها الأسفل في الأرض وفكها الأعلى على جدار القصر، وكذلك يذكرون من طول الحية وضخامتها الشيء العجيب، ويقولون: إنها توجهت إلى فرعون فاغرة فاها وأن الرجل ولّى هارباً وجعل يستغيث بموسى، ويذكرون أموراً يستحي الإنسان من ذكرها، فالله تعالى أعلم.
حديث الفتون -وفي بعض الكتب يقولون: حديث النتوق من قوله تعالى: وَإِذ نَتَقْنَا الْجَبَلَ [سورة الأعراف:171]- هو حديث طويل في نحو اثنتي عشرة صفحة وهو من حديث ابن عباس وليس من حديث النبي ﷺ فابن عباس يورد فيه خبر موسى ﷺ دون أن يضيف ذلك إلى رسول الله ﷺ لكن يظهر -والله أعلم- أن هذا الحديث يوجد منه قطع هي من كلام النبي ﷺ أي أن ابن عباس –ا- سمعها من النبي ﷺ مباشرة أو بواسطة، وفيه قطع أخرى هي من أخبار بني إسرائيل، فابن عباس -ا- مزج ذلك في سياق واحد طويل، هذا هو حديث الفتون.
هذا كله من الإسرائيليات، وهذا الكلام لا يصدَّق ولا يكذب.
وصاح يا موسى خذها وأنا أؤمن بك وأُرسل معك بني إسرائيل، فأخذها موسى فعادت عصا.
وقوله: وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاء لِلنَّاظِرِينَ [سورة الأعراف:108] أي: أخرج يده من درعه بعدما أدخلها فيه فإذا هي بيضاء تتلألأ من غير برَص ولا مرض، كما قال تعالى: وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاء مِنْ غَيْرِ سُوءٍ الآية [سورة النمل:12].
وقال ابن عباس -ا- في حديث الفتون: مِنْ غَيْرِ سُوءٍ [سورة النمل:12] يعني من غير برص، ثم أعادها إلى كمِّه فعادت إلى لونها الأول، وكذا قال مجاهد وغير واحد.
قوله تعالى: وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاء مِنْ غَيْرِ سُوءٍ [سورة النمل:12] هذه آية غير الآية التي في قوله تعالى: وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ [سورة القصص:32] فالأولى هي أنه كان إذا أدخل يده في جيبه ثم أخرجها صار لها نور ساطع، أما الثانية فهي أنه إذا أصابه شيء من الخوف فضمَّ إليه جناحه اطمأنت نفسه وذهب عنه ما يجد من الخوف، فإذا جاء إلى فرعون أعتى أهل الأرض فإنه يصيبه ما يصيبه من الخوف الذي ذكره الله في قوله: إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَن يَطْغَى [سورة طـه:45] فالله قال: لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى [سورة طـه:46] وأرشده إلى أنه إذا ضم إليه جناحه ذهب عنه هذا الخوف، فالمقصود أن هذه الآية غير إدخال اليد في الجيب.
أراد الحافظ ابن كثير –رحمه الله- أن يجمع بين الآيات فأضاف هذا القول إلى الملأ، وفي الموضع الآخر قال: إن هذا من قول فرعون، أعني قوله: إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ [سورة الشعراء:34] فهو أراد أن يجمع بين هذه الآيات فقال: لما هدأ فرعون وذهب عنه الفزع حينما رأى الحية تشاوروا فيما بينهم ماذا يقولون؛ من أجل أن تصدر عنهم كلمة موحدة يتناقلها الناس، وذلك أن هذه الإسقاطات تؤثر في الناس، فاتفقوا وائتمروا على إطلاق معين يرِد على ألسنة هؤلاء الكبراء جميعاً فيتبعهم الناس في ذلك وينفرهم من موسى، فاجتمعوا كما اجتمع كبراء قريش لينتقوا بعناية لقباً أو إطلاقاً يطلقونه على النبيء ﷺ فيصدر على ألسنتهم ويتناقله الناس وينطبع ذلك فيه لينفّروا الناس منه، فهنا ائتمروا فصدر ذلك الإطلاق من فرعون وصدر من الملأ حيث كلهم قالوا: إنه ساحر عليم، يريد أن يخرجكم من أرضكم فماذا تأمرون؟.
وقولهم: فماذا تأمرون يحتمل أن يكون من كلام الملأ موجهاً إلى الملأ؛ لأنها بصيغة الجمع؛ لأنهم هم أهل الحل والعقد، أي ما هو الشيء الذي تتفقون عليه وترون أن يُفعل تجاه موسى؟ ويحتمل أن يكونوا وجهوا الخطاب إلى فرعون ولكن خاطبوه بصيغة الجمع من باب التعظيم، فما قالوا له: ماذا تأمر وإنما قالوا: ماذا تأمرون، أي ماذا ترون في هذا الأمر؟
ويحتمل أن يكون هذا من كلام فرعون، فالملأ قالوا: إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ [سورة الأعراف:109] وفرعون قال: فَمَاذَا تَأْمُرُونَ [سورة الأعراف:110] ويكون بهذا الاعتبار من قبيل الموصول لفظاً المفصول معنىً، وذكرنا له أمثلة من قبل، كقوله تعالى في سورة النمل: وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ [سورة النمل:34] فقوله تعالى: وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ يحتمل أن يكون من كلام ملكة سبأ، ويحتمل أن يكون من كلام الله يقرر كلامها، ومن ذلك قوله تعالى في سورة مريم: وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى [سورة آل عمران:36] وقوله تعالى في سورة يوسف: ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ [سورة يوسف:52] يحتمل أن يكون من بقية كلامها، ويحتمل أن يكون من كلام يوسف -عليه الصلاة والسلام.
فلما تشاوروا في شأنه وائتمروا فيه اتفق رأيهم على ما حكاه الله تعالى عنهم في قوله تعالى: قَالُواْ أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَآئِنِ حَاشِرِينَ يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ [سورة الأعراف:111-112].
قال ابن عباس -ا: أَرْجِهْ [سورة الأعراف:111] أخِّرْه وَأَرْسِلْ [سورة الأعراف:111] أي: ابعث فِي الْمَدَآئِنِ أي: في الأقاليم ومدائن ملكك حَاشِرِينَ أي: من يحشر لك السحرة من سائر البلاد ويجمعهم.
وقد كان السحر في زمانهم غالباً كثيراً ظاهراً، واعتقد من اعتقد منهم وأوهم من أوهم منهم أن ما جاء به موسى من قبيل ما تشعبذه سحرتهم، فلهذا جمعوا له السحرة يعارضوه بنظير ما أراهم من البينات كما أخبر تعالى عن فرعون حيث قال: فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِّثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَّا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنتَ مَكَانًا سُوًى قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَن يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى [سورة طـه:58-60].
قوله تعالى: يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ [سورة الأعراف:112] فيها قراءة أخرى متواترة للكوفيين عدا عاصماً (يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّاِرٍ عَلِيمٍ) [سورة الأعراف:112] والسحار صيغة مبالغة، والمعنى شديد السحر أو عظيم السحر، أي أنهم لم يجمعوا له كل من اشتغل بالسحر وإنما جمعوا أعلم السحرة وأشدهم، والروايات الإسرائيلية كثيرة في ذكر ذلك، فبعضهم يقدّرهم بثمانين ألفاً، وبعضهم يذكر أنهم عشرات فقط، وهذا من التباين الشديد في الأخبار الإسرائيلية، فلم يكن الفرق يسيراً حتى يمكن أن يقال: هذا من جبر الكسر أو نحو ذلك، وإنما بعضهم يذكر أنهم عشرات، وبعضهم يقول: مئات، وبعضهم يقول: إنهم آلاف، وبعضهم يقول: هم ثمانون ألفاً، وبعضهم يقول: أكثر من ذلك، فالله أعلم.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.