الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين، أما بعد:
فاللهم اغفر لنا ولشيخنا والحاضرين، والمستمعين، ولجميع المسلمين.
قال المصنف -رحمه الله تعالى- في قوله تعالى:
قوله -تبارك وتعالى-: وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ [الأنعام:120] وقال الله -تبارك وتعالى-: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَن [الأعراف:33] فذكر هنا في آية الأنعام الإثم، وفي الآية الأخرى: الفواحش، وهي أخص من الإثم، كما هو معلوم، لكن اشتركا في هذا الوصف مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَن وقوله هنا "بأن ذلك يعم أنواع المعاصي؛ لأن جميعها إما ظاهر وإما باطن" هذا هو الأقرب، فالإثم عام لكل ذنب يُعصى الله -تبارك وتعالى- به، وهذه الذنوب منها ما يتصل بأعمال القلوب، ومنها ما يتصل بأعمال الجوارح، وأعمال القلوب من شأنها أن تخفى، وكذلك أيضًا منها ما يعمل في الخفاء، ومنها ما يعمل في العلانية، فهذا كله مما يدخل في هذا الوصف مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَن لأن الإثم يشمل ذلك جميعًا.
وممن قال بأن الإثم هنا عام مجاهد -رحمه الله- من التابعين، حيث ذهب إلى أن الإثم المراد به: المعصية في السر والعلانية[1]، وقال قتادة أيضًا: سره وعلانيته، قليله وكثيره[2]، وحمله على العموم هو اختيار أبي جعفر ابن جرير -رحمه الله-[3].
وقال بعضهم: بأن الظاهر هو الزنا، والباطن هو الزنا خفية، يعني مع الخليلات، ونحو ذلك، وبعضهم فسر الظاهر بنكاح المحارم، والباطن بالزنا، باعتبار أنه يُفعل خفية بخلاف النكاح، فإنه يكون معلنًا، وهذه الأقوال هي أشبه ما تكون بالتفسير بالمثال، يعني كأنهم أرادوا أن يفسروا بالمثال، لا أن يحصر المعنى بما ذُكر، ومن ثم فلا إشكال أن هذه المعاني المذكورة داخلة تحت معنى الآية.
لكن قوله -تبارك وتعالى- في الآية الأخرى: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ [الأعراف:33] فالفواحش هنا نوع من الآثام، إما أنها تختص بالزنا ونحوه، أو أنها تختص بالعظائم من الذنوب والجرائم، ولا شك أن الآية الثانية أخص من الأولى، والله أعلم.
قوله: وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ [الأنعام:121] بعضهم يقول: إن الضمير في وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ يعود على الذبح لغير الله -تبارك وتعالى-، بذكر اسم غير الله، أو الذبح للأصنام والمعبودات من دون الله -تبارك وتعالى-، فما لم يذكر اسم الله عليه هو متروك التسمية على تفصيل.
جاء عند أبي داود[4] وابن ماجه[5] عن ابن عباس -ا- قال: كانوا يقولون: ما ذكر عليه اسم الله فلا تأكلوا، وما لم يذكر اسم الله عليه فكلوه، فقال الله : وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ [الأنعام:121] وهذا صححه الحافظ ابن كثير[6]، والحافظ ابن حجر[7] والألباني[8]، فالشاهد أنهم كانوا يحتجون على النبي ﷺ، وعلى المسلمين، وحاصل ذلك أنهم يقولون ما قتله الله بيده الشريفة بسكين من ذهب تقولون: حرام، وما قتلتموه بأيديكم تقولون: حلال، إذًا أنتم أحسن من الله، ونحو هذا من الجدال والشبهات التي يوحيها الشياطين إلى أوليائهم.
"أَوَ مَنْ كانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْناهُ الموت هنا عبارة عن الكفر، والإحياء عبارة عن الإيمان، والنور: نور الإيمان، والظلمات الكفر، فهي استعارات، وفي قوله: مَيْتًا فَأَحْيَيْناهُ مطابقة، وهي من أدوات البيان، ونزلت الآية في عمار بن ياسر[9]، وقيل: في عمر بن الخطاب[10]، والذي في الظلمات: أبو جهل[11]، ولفظها أعم من ذلك".
تفسير الموت بالكفر، والإحياء بالإيمان في قوله: أَوَ مَنْ كانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْناهُ هذا عند أرباب المجاز من قبيل المجاز، أو الاستعارة.
وبعضهم يدخل الاستعارة في المجاز، فيكون تفسيرًا للفظ على غير ظاهره كما يقولون، والاستعارة عرفنا أنها تشبيه حذف أداته، مع أحد طرفيه، ومثل هذا التفسير على كل حال بصرف النظر عن تسميته دلّ عليه القرآن في مواضع، ولا إشكال فيه، فالله -تبارك وتعالى- يسمي المؤمن حيًا، والكافر ميتًا، والسياق يدل على هذا بلا شك، فليس المقصود هنا في هذه الآية أنه كان فاقدًا للحياة، بمعنى فارقت روحه جسده، فأحياه الله ، وشيخ الإسلام -رحمه الله- كما هو معلوم يقول: بأن مثل هذه القرائن السياق والسباق واللحاق كل ذلك من شأنه أن يتبادر معه معنى يكون هو الحقيقة، فالحقيقة هي المعنى المتبادر إلى الذهن، فإنه لا يتبادر مع هذه القرائن إلا معنى الإيمان والكفر، فهذه هي الحقيقة.
فيقول: "وفي قوله: مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ [الأنعام:122] مطابقة، وهي من أدوات البيان" المطابقة أن تجمع بين ضدين مختلفين مثل: السواد والبياض، والليل والنهار، والهدى والضلال، والحياة والموت وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ [الكهف:18] فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا [التوبة:82] فهذا يسمونه طباقا، ويقول: "ونزلت الآية في عمار بن ياسر"[12]، نزولها في عمار بن ياسر لا يصح، والآية عامة، ظاهرها العموم، وهذه الرواية: أنها نزلت في عمار ، جاءت عن عكرمة، وهي مرسلة[13]، والمرسل من أنواع الضعيف، وكذلك أيضًا الراوي عن عكرمة هنا غير معروف، "عن رجل عن عكرمة" فرجل هنا مبهم.
وابن الجوزي -رحمه الله- علقه عن أبي صالح عن ابن عباس، وأبي صالح لم يسمع من ابن عباس -ا-[14]، وهكذا أيضًا القول بأنها نزلت في عمر بن الخطاب ، كذلك هو أيضًا لا يصح.
وقد جاء عن زيد بن أسلم أن النبي ﷺ دعا: اللهم أعز الإسلام بأبي جهل بن هشام، أو بعمر بن الخطاب[15]، قال: "وكانا ميتين في ضلالتهما، فأحيا الله عمر بالإسلام، وأعزه، وأبقى أبا جهل في ضلالته وموته، قال: ففيهما أنزلت هذه الآية"[16]، وهذه رواية مرسلة عن زيد بن أسلم، وهو من التابعين، كما هو معروف، وهي كذلك ليست صريحة في سبب النزول؛ لأنه قال: "ففيهما أنزلت هذه الآية" وقد عرفنا أن الروايات في أسباب النزول منها ما هو صريح، ومنها ما هو غير صريح، فيكون ذلك من قبيل التفسير، يعني مما يدخل في المعنى، وهذا لو صحت، مع أنها لم تصح.
كذلك أخرجه ابن أبي حاتم عن أبي سنان الشيباني[17]: أنها نزلت في عمر، وهو أيضًا مرسل، فالآية عامة، ولا تختص بعمار وعمر -ا-، وهكذا قوله: "والذي في الظلمات أبو جهل" وهذا كما سبق في رواية زيد بن أسلم، لكنها لا تصح، فالآية تشمل هؤلاء وغيرهم.
يقول: "مثل هنا بمعنى الصفة" كمن صفته، وأكثر أهل العلم من أهل اللغة والمفسرين، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: أن المثل في جميع المواضع بلا استثناء يرجع إلى معنى الشبه[18]، لكنه يشكل على هذا بعض المواضع، كقوله -تبارك وتعالى-: مَثَلُ الْجَنَّة [الرعد:35] فهذا بمعنى صفة الجنة، وبهذا فسره بعضهم، لكن الأكثرين يحملون هذا على معنى الشبه، وفي مثل هذا الموضع -أعني قوله: مَثَلُ الْجَنَّة [الرعد:35]- لا يخلو حمله على معنى الشبه من تكلف، ويمكن أن يقال -والله تعالى أعلم-: إن المثل يرجع إلى معنى الشبه في عامة استعمالاته، يعني من حيث الأصل اللغوي؛ ولكنه في مواضع قليلة يأتي بمعنى آخر، كالصفة، فهنا في قوله: كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ [الأنعام:122] فهنا الجمهور يفسرونه بالشبه، يعني أنه مشابه لمن كان في ظلمات، كما قال الله -تعالى-: اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ [البقرة:257].
وهنا قال: "هو بمعنى الصفة" يقول: "وقيل: زائدة" يعني إعرابًا، والمعنى: كمن هو في الظلمات، وكأنهم استشكلوا اجتماع (مثل) مع كاف التشبيه، فهي تدل على الشبه، والكاف تدل على التشبيه أيضًا، فاستشكلوا مثل هذا، وهذا معلوم حينما تشق الشعرة والشعيرة في التفسير فتولد وتوجد مثل هذه الإشكالات، كما لا يخفى، وإلا فأنت حينما تقرأ هذه الآية: كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ [الأنعام:122] لا تشكل عليك، لكن إذا شققت الحروف والألفاظ وجدت مثل هذه الإشكالات، وهذا كثير.
وسبق الكلام على دعوى الزيادة، وهل يقال في القرآن: زائد أو لا؟ وهم يقصدون زائد إعرابًا، وإلا فلا شك أن زيادة المبنى لزيادة المعنى، فيقولون: للتوكيد، وبعضهم -كما ذكرنا سابقًا- يتحاشى التعبير بلفظ الزيادة فيقول: اللفظة الفلانية، أو الحرف الفلاني صلة، ويقصد أنها زيدت للتوكيد.
قوله: وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ فـ(جعل) فسره بعض أهل العلم بصيّر، أي: صيرنا؛ لأن (جعل) تأتي لمعانٍ، منها: بمعنى خلق وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ [الأنعام:1] وتأتي بمعنى (صيّر).
والشنقيطي -رحمه الله- فسّر (الجعل) في قوله: جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ [الأنعام:112] بالتصيير[19]، يعني كبراء وعظماء يمكرون فيها، يقول: "كما جعلنا في مكة أكابرها ليمكروا فيها جعلنا في كل قرية كذلك" والقرية -كما هو معلوم- في الاستعمال القرآني تطلق على مجمع البنيان والسكان، سواء كان كبيرًا، أو صغيرًا، والتفريق بينهما فالصغير نسميه قرية، والكبير نسميه مدينة اصطلاح متأخر، ليس على الاستعمال القرآني، وإنما هو اصطلاح حادث.
وهذا المعنى الذي ذكره ابن جزي: "كما جعلنا في مكة أكابرها؛ ليمكروا فيها جعلنا في كل قرية" بنحو هذا قال ابن كثير[20].
لكن ابن جرير -رحمه الله- حمله على معنى آخر، حيث قال: وكما زينا للكافرين ما كانوا يعملون، كذلك جعلنا في كل قرية عظماءها مجرميها[21] كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأنعام:122] والمعنى: كما فعلنا ذلك جعلنا أيضًا هؤلاء الأكابر بهذه المثابة، كما قال الله -تبارك وتعالى-: وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ [سبأ:34] وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ [الزخرف:23] فذكر هؤلاء المترفين، وهم الأكابر.
ومثل هذه الآية وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا [الأنعام:123] استدل بها بعضهم على فضل الأعراب على أهل القرى، وأن الله ذكر هؤلاء الأكابر من المجرمين في القرى، ولم يذكر ذلك في الأعراب، ولكن هذا الاستنباط غير صحيح؛ لأن الرسل -عليهم الصلاة والسلام- من أهل القرى، ولم يكن أحد منهم من الأعراب، فكان الحديث عن القرى التي أرسلوا فيها، وإلا فالأعراب ذكر الله عنهم: وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ [التوبة:101] فذكر هؤلاء وهؤلاء؛ لما ذكر المنافقين، وهكذا لما فصّل في الأعراب قال: الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا [التوبة:97] فجاء بـ(أفعل) التفضيل باعتبار أن ذلك يكون مصحوبًا بالجفاء، فهم أشد من أهل القرى في كفرهم ونفاقهم، وأشد كفرًا ونفاقًا، وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله، ثم ذكر الطائفة الثانية: وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ [التوبة:99] فهذه مواضع ذكر فيها التفصيل، فذكر هؤلاء وهؤلاء، لكن لما كان الحديث عن الأنبياء، وبعثتهم، ومواجهة دعوة الأنبياء، فكان الأنبياء في القرى، فذكر هؤلاء من المجرمين الأكابر في القرى، والله تعالى أعلم.
قوله هنا: "وإنما ذكر الأكابر؛ لأن غيرهم تبع لهم" كما قال الله : وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا [سبأ:33] هذا مكر الأكابر، وخصهم بالذكر مع أن هذه القرى قد تكون مُكذِّبة بمجموعها، يعني الأكابر والضعفاء، لكن ذكر هؤلاء لأنهم هم الذين يواجهون الرسل -عليهم الصلاة والسلام-، ويمكرون بهم.
قوله: "مُجْرِمِيها إعرابه مضاف إليه عند الفارسي" يعني عند أبي علي الفارسي، يعني المضاف أكابر، ومجرميها مضاف إليه.
"وقال ابن عطية وغيره: إنه مفعول أول بـ(جعلنا)" فعل (جعل) يتعدى إلى مفعولين، المفعول الأول لجعلنا: مجرميها، وأكابر مفعول ثاني مقدم، أي: جعلنا مجرميها أكابرها، ولكن هذا ليس محل اتفاق.
ويحتمل أن المفعول الثاني هو الجار والمجرور "في كل قرية" أي: جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها، وقدمه للاهتمام به، ولبيان العموم، في كل قرية، كأنه يقول: جعلنا كبار المجرمين هم الذين يتولون المكر فيها، أو جعلنا مجرميها هم الأكابر، ففي فرق في المعنى، والأصل أن يكون الكلام على وجهه من الترتيب، والقاعدة: أنه إذا دار الكلام بين دعوى التقديم والتأخير، أو الترتيب، فالمقدم الترتيب، يعني يكون كما ذكره الله : وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا [الأنعام:123] فهو جعل هؤلاء الأكابر هم أهل المكر فيها، يعني أن فيها مجرمين كبار وصغار، فجعل الأكابر هؤلاء هم أهل المكر، والمكر معروف وهو إيصال الشر والضرر بخفاء، وبالطرق الخفية، ودعوى التقديم والتأخير التي نقلها عن ابن عطية يقول: "هذا جيد في المعنى، ضعيف في العربية" لأن أكابر جمع أكبر، وهو من أفعل، فلا يستعمل إلا بـ(من) أو الإضافة.
وجاء عن ابن عباس من رواية ابن أبي طلحة في هذه الآية: سلطنا شرارهم فعصوا فيها فإذا فعلوا ذلك أهلكناهم بالعذاب[23]، وشرارهم هم هؤلاء الأكابر من المجرمين، فيقصد بقوله: "فلا يستعمل إلا بـ(من) أو بالإضافة" تقول: أكابر من المجرمين، أكابر من أهلها، ونحو هذا.
مثل هذه المقالات لا أعلم أنه يثبت منها شيء، ومن ثم فلا حاجة للاشتغال بمثل هذا، وهذا الذي يُذكر في كتب المبهمات (مبهمات القرآن) ومثل هذا لا فائدة منه، ويمكن أن يضاف ذلك إلى مجموعهم، وقائل ذلك واحد باعتبار أنهم وافقوه عليه، وقالوا: لن نؤمن، سواء كان قائل ذلك فلان، أو فلان، فهذا لا أثر له.
يقول الله -تعالى-: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ والمعنى: "أن الله علم أن محمدًا ﷺ هو أهل للرسالة، وخصه بها، وعلم أنهم ليسوا" كذلك، يعني كأنه تعريض بهم، قال: "وفي الآية من أدوات البيان الترديد؛ لكونه ختم كلامهم باسم الله، ثم رده في أول كلامه" ثم رده يقصد اسم الجلالة، رده ثانية، وهذا الترديد عند أهل البلاغة بمعنى أن تعلق اللفظة بمعنى من المعاني، ثم ترد اللفظة بعينها، لكن معلقة بمعنى آخر، كقول أبي نواس في وصف الخمر:
صفراء لا تنزل الأحزان ساحتها | لو مسها حجر مسته سراء[24] |
فأعاد لفظة (المس) مرتين "لو مسها حجر مسته سراء" فهذا يسمونه ترديد، لكن في كل موضع هي متعلقة بمعنى غير المعنى الآخر، وهذا عندهم يُعد من ضروب البلاغة؛ لأن الترديد من غير هذا يكون مورثًا للسآمة، ويكون ذلك من ضعف الفصاحة والبلاغة؛ ولهذا قالوا: إذا كان اللفظ في جملتين مستقلتين، ولو مع التقارب، كما في: لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ [الأنعام:124] اسم الجلالة الله الله ليس بينهما فاصل، لكن كل واحد وقع في جملة مستقلة، وكل واحد يتعلق بمعنى غير ما تعلق به الآخر، فيكون ذلك من ضروب البلاغة، ويسمونه الترديد، ردد اللفظة نفسها، لكن مع اختلاف متعلقها من جهة المعنى.
الذلة والحقارة، والصغار أشد من الذل وأخص منه، كأنه ذل مع حقارة، أو أشد الذل يقال له: صغار.
قوله هنا: يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ بمعنى فسح الصدر وتوسعته لقبول الهدى، أفمن شرح الله صدره للإسلام فيفسح صدره لقبول الحق، وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ [الحجرات:7] فهذا هو شرح الصدر.
قال: "شرح الصدر وضيقه وحرجه ألفاظ مستعارة" يقصد أنها ليست حقيقية، يعني أن ذلك يكون من قبيل الاستعارة التي يجعلها بعضهم من ضروب المجاز، بمعنى أن ذلك لا يكون بصورة حسية، وهذا ليس بلازم، فإن الإنسان يشعر بانشراح الصدر، وسعة الصدر، وانفساح الصدر لقبول الحق، لكنه يقصد هنا أن هذا الشرح ليس بشرح حسي، والشرح الحسي أن يوسع حسيًا، وهذا المذكور هنا هو من قبيل الفسح المعنوي.
ويقول: "ومن قرأ حَرَجًا بفتح الراء" وهي قراءة الجمهور[25]، "فهو مصدر وُصف به" الحرج هنا مصدر، وليس بفعل يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا [الأنعام:125] الحرج هو بمعنى شدة الضيق؛ ولذلك كما جاء عن عمر ، حينما سأل عن الحرجة من الشجر، فقيل: هي التي لا تصل إليها راعية أو وحشية[26]، يعني لا يصل إليها شيء من البهائم؛ لأنها تكون بين الشجر، وكما جاء في صفة أبي جهل في غزوة بدر، كأنه "في مثل الحرجة"[27]؛ وذلك لكثرة من حوله من الرجال والمقاتلين الذين يحملون الرماح والسلاح، يعني كأنه في مثل هذا الشجر الكثيف الملتف، فتوجد فيه شجرة لا يوصل إليها، وهي الحرجة.
فالحرج أصله: تجمع الشيء وضيقه، يجعل صدره ضيقًا حرجًا، يعني هذا لبيان شدة هذا الضيق، فهو أشد الضيق، فالضيق وصف نسبي، لكن هذا الضيق الذي بهذه المثابة ضيقًا حرجًا، بمعنى أنه لا يحتمل الهدى، ولا يصل إليه، ولا يقبله بحال من الأحوال، يعني قد يكون هناك ضيق، لكن يتقبل بصعوبة؛ لكراهته من جاء بالحق، أو لكراهته للحق نفسه، أو نحو ذلك من الأسباب، لكن أن يكون بهذه المثابة وبهذه الصفة "ضيقًا حرجًا" فمعنى ذلك أنه لا يوصل إليه بحال من الأحوال.
أما على قراءة نافع، وكذلك في قراءة أبي بكر عن عاصم فبالكسر: (حرِجًا)[28].
قوله هنا: كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ هذه المادة تدل على ارتفاع ومشقة، يعني يتصعد، فيصعد أصلها يتصعد، فحصل فيها إدغام للتاء بالصاد، فشددت الصاد، يعني كأنه يتصعد مع مشقة، فتدل على ارتفاع ومشقة.
يقول: "كأنما يحاول الصعود إلى السماء" وذلك غير ممكن، يعني الإنسان لا يستطيع الصعود بنفسه؛ لأنه لا يطير، فيجد لذلك صعوبة ومشقة وامتناعًا، فذلك مثل هذا الذي جعل الله صدره ضيقًا حرجًا، فهو لا يقبل الهدى، ولا يصل إليه من ذلك شيء، كما أن الإنسان لو أراد الصعود إلى السماء فإنه لا يستطيع، ولا يمكنه ذلك، فكذلك يصعب على هذا الإيمان.
فقوله هنا: "كأنما يحاول الصعود إلى السماء، وذلك غير ممكن" هذا الذي قال به ابن عباس[30]، وعطاء الخراساني[31]، واختاره ابن جرير[32]، والواحدي[33]، والقرطبي[34]، ومن المعاصرين السعدي[35]، وعامة المفسرين.
وأما ما يذكره من يتكلم في الإعجاز العلمي، فيقول: كأنما يصعد في السماء أنه حينما يصعد إلى الأعلى تقل نسبة الأكسجين، فيضيق النفس، فهذا لا أعلم قائلاً به من المفسرين، فنحن إن قبلنا التفسير أو الإعجاز العلمي، فمن أول الشروط: ألا يعود على أقوال السلف بالإبطال يعني التخطئة، فمثل هذا القول أن المقصود أنه يصعد إلى الأعلى، ثم تقل نسبة الأكسجين، ثم بعد ذلك يضيق النفس، هذا لم يقل به أحد من المفسرين أبدًا، ولا يمكن أن تخطئ الأمة، وخير القرون في فهم الآية، ويذكرون المعنى السابق: يحاول الصعود ولا يستطيع... إلى آخره، ثم يأتي هؤلاء ويقولون: نحن الذين فهمنا الآية، وأولئك فهموها بحسب المعطيات المتاحة في عصرهم، وهذا كلام غلط، وهو إزراء بالسلف، ونسبة هؤلاء الأكابر الذين هم أعلم بالقرآن إلى الجهل، وأنهم لم يفهموا الآية أصلاً، فأي إزراء بالسلف أكثر من هذا؟!
وهذا جانب، والجانب الآخر: وهو أنه لو فُرض أن المعنى هو ما ذكره -أعني أصحاب الإعجاز- وهو أنه إذا صعد في الأعلى قلت نسبة الأكسجين، فضاق النفس، فليس هذا من الإعجاز أصلاً؛ لأن الإعجاز إنما يكون في شيء لم يكن في مدارك السابقين الذين خوطبوا بالقرآن، ولا يُوجد من الأدوات والإمكانات ما يكشف عنه، فذكره القرآن، فلما وجدت الإمكانات بعد ذلك من الصعود عبر هذه الوسائل، وعرفوا بهذه العلوم علة ذلك من نقص الأكسجين، وأن الإنسان إذا صعد قلت نسبة الأكسجين، وضاق نفسه بسبب هذا، فالواقع أن هذا ليس منه، فإن العرب والناس ما زالوا إلى اليوم ممن لم يدرسوا هذه العلوم، ولم يسمعوا بها، يعرفون أن الإنسان كلما صعد إلى الأعلى ضاق نفسه، حتى العامة يعرفون هذا، بعيدًا عن هذه العلوم، ولم يسمعوا بها، من لا يقرأ ولا يكتب يعرف هذا الكلام، وفي بلاد الجنوب يعرفون أنهم إذا كانوا في الأعالي أن من عنده مشكلة في النفس أنه يضيق؛ ولذلك يتحاشونها، أليس كذلك؟! فهذا موجود، ويعرفونه جيلاً عن جيل، فهو ليس من الإعجاز، لكن ما هو التعليل؟ وفلسفة ذلك من الناحية العلمية كما يقال؟ أنها تقل نسبة الأكسجين، وهذه ليس قضية إعجاز، يعني ضيق النفس هو معلوم عندهم، وأنه إذا ارتفع أعلى يضيق نفسه، لكن هل هذا معنى الآية؟ فإذا كان معلومًا عندهم فمعنى ذلك أنه لا علاقة له بالإعجاز، وما جئت بجديد، فقط أنت جئت بتعليل لماذا يضيق النفس فقط؟ فهذا ليس من الإعجاز، أما أنه يضيق، كلما ارتفع فهذا ما عرفه الناس؛ لما وجدت الطائرات، وارتفع الناس إلى طبقات عليا في الجو، فما عُرف من هذا، وإنما كانوا يعرفونه بالمواضع المرتفعة، ونحو ذلك، فليس من الإعجاز أصلاً، يعني حتى لو فُسِّر بهذا التفسير، وهذا كثير في الأمثلة التي تذكر في الإعجاز، فبعضها حتى لو حملت الآية عليها فهو ليس من الإعجاز، وهذا غير الأشياء التي هي خطأ أصلاً، إما بكون الآية لا علاقة لها بها، فهمت الآية خطأ، أو بكون ذلك من النظريات التي لم تثبت، وليست بحقائق علمية.
يقول: "وقرئ بالتخفيف" هذه قراءة ابن كثير[36]، وقراءة الجمهور التي نقرأ بها كأنما يصَّعد في السماء.
قال: "يحتمل أن يكون اسم الله، فأضافها إليه" وهذا اختيار ابن جرير -رحمه الله- دار السلام[37]، لكن هذه الإضافة لخصوص هذا الاسم على هذا القول له دلالة تتصل بالمعنى الآخر أنه من السلامة، فإن اسم الله السلام يدل على هذا المعنى ويتضمنه، فيكون بين المعنيين ملازمة، وإذا كان بين المعنيين ملازمة فيمكن الجمع بينهما، قال: "فأضافها إليه؛ لأنها ملكه وخلقه، أو بمعنى السلامة" يعني هي دار السلامة من كل آفة، فليس فيها علة، ولا مرض، ولا هم، ولا آفة من الآفات، وهذا الذي اختاره الحافظ ابن القيم -رحمه الله-، بأنها دار السلامة[38].
والمعنى الثالث قال: "أو التحية" تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ [إبراهيم:23] فابن القيم -رحمه الله- ذكر أن هذه المعاني الثلاثة متلازمة، فهي دار السلام، أي الله -تبارك وتعالى-، وهذا الاسم يتضمن معنى السلامة، والتحية التي يلقونها بينهم، ويحيون بها من قبل الله، ومن قبل الملائكة هي السلام، فلا يحتاج مثل هذا إلى ترجيح، والله أعلم.
يقول: "العامل في يوم محذوف، تقديره: اذكر" وهذا ذكرنا نظائره مرارًا، واذكر يومًا، واذكروا يوم نحشرهم.
يقول: "أو تقديره: قلنا، ويكون على هذا عاملاً في يوم يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ [الأنعام:128] يعني يكون ويوم نحشرهم جميعًا قلنا: يا معشر الجن قد استكثرتم من الإنس، أو يكون: وقلنا يوم نحشرهم: يا معشر الجن والإنس، فعلى كل قول هناك مقدر محذوف، والمشهور أنه: اذكر، والله أعلم.
المعشر كل جماعة أمرهم واحد، وأصل هذه المادة يدل على مداخلة ومخالطة، والعشيرة يقال لها: عشيرة لأنها قرابة أدنون، يعني خلطتهم كثيرة، ومعاشرتهم وتداخلهم كثير، وكذلك أيضًا يقال للزوج: عشير، لكثرة المعاشرة بين الزوجين.
يقول: قد استكثرتم من الإنس أي أضللتم منهم كثيرًا، واستكثرتم من إضلالهم.
هذا الاستمتاع استمتاع الجن بالإنس، قال: "طاعتهم لهم" وكذلك عبادتهم، وتعظيمهم، والاستعاذة بهم، والذبح لهم، فكل ذلك من استمتاع الجن بالإنس.
واستمتاع الإنس بالجن ما يتحقق على أيديهم من أمور يطلبها الإنس من الجن، مثل أعمال السحر، وكذلك تسخير هؤلاء الجن في تحقيق بعض مطالب الإنس، وما إلى ذلك، فهذا من الاستمتاع، ويدخل فيه كل نوع من أنواع الانتفاع، ولو كان محرمًا، اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا [الأنعام:128] فهؤلاء يعظمونهم، ويذبحون لهم، ويستعيذون بهم، فيتعاظم الجن بهذا، ويقولون: ملكنا الجن والإنس؛ لما يقول: أعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه، فيتعاظمون، وكما قال الله : وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا [الجن:6] يعني: رأوا أن الإنس يخافون منهم، ويستعيذون بهم، فازدادوا تسلطًا عليهم، وهؤلاء من الإنس، فيحصل لهم مع ذلك منافع بهذه القرابين التي يتقربون بها، وعبادة الجن، وتتحقق بعض مطالبهم، وربما سرقوا له المتاع، وجاءوا له بالمال المسروق، أو ربما حملوه من مكان إلى آخر، وأجروا على يده بعض الخوارق التي هي من جنس السحر أو الشعبذة، أو نحو ذلك.
القول بأنه الموت اختاره ابن جرير[39]، والقرطبي[40]، وبه قال السدي[41]، ومن المعاصرين الشيخ محمد الأمين الشنقيطي[42].
وبعضهم يقول: هو الحشر، وهذا الذي اختاره الواحدي[43]، ومن المعاصرين الطاهر بن عاشور[44]، والسعدي[45]، وكل ذلك من الأجل الذي أجله الله لهم، فيصدق على الموت فهو أجل، وكذلك البعث والنشور والحشر أيضًا، فكل ذلك من الأجل؛ ولهذا قال: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا [الأنعام:128] فذكر الحشر، ثم ذكر هذا الخطاب لهم، وما أجابوا به، قالوا: ربنا استمتع بعضنا ببعض، وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا، فهو هذا الحشر الذي صاروا إليه، فيمكن حمل الآية على المعنيين، بلغنا أجلنا بالموت والحشر، وإذا أردنا أن نرجح أحد المعنيين فكأن الحشر أقرب للقرينة في الآية، والله أعلم.
هذه الأقوال التي ذكرها هي بناء على إشكال في قوله -تبارك وتعالى-: قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ [الأنعام:128] هل يفهم من هذا أنهم يخرجون من النار وهم كفار؟ والكفار دلت الأدلة على أنه مخلدون فيها، فلا يخرجون منها، فما وجه هذا الاستثناء؟
فاختلفت فيه عبارات أهل العلم، فبعضهم جعله من الكاف من الضمير مَثْوَاكُمْ ولم يجعله من الخلود، فيكون مستثنى من بعضهم، وهم من آمن منهم، فلا يكون مخلدًا في النار، ومن جعل ذلك يرجع إلى الخلود خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ قال بأن ذلك إما باعتبار الانتقال بأحوال من العذاب، كالزمهرير، والواقع أن الزمهرير في النار، وهم خالدون فيها، فمثل هذا لا يخلو من ضعف ظاهر، والله أعلم.
أو باعتبار أن التعليق هنا هو من باب قوله -تبارك وتعالى-: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ [الفتح:27] وقول النبي ﷺ في زيارة المقابر: وإنا إن شاء الله بكم لاحقون[46]، وهو يعلم أنه لاحق بهم قطعًا، والله علم أن النبي ﷺ وأصحابه داخلون المسجد الحرام قطعًا، لا محالة، وقد تحقق هذا، فقال: إن شاء الله، فيكون ذلك من باب التحقيق لا التعليق، يعني أنه لا يكون الشيء إلا بمشيئته، فيكون ذلك من باب التأدب في العبارة، هذا حاصل ما ذكره من الأقوال، سوى القول الثاني: وهو أن الاستثناء من مدة الخلود وهو الزمان الذي بين حشرهم إلى دخول النار، يعني هو يذكر لهم ذلك في مقام الحشر، يعني إلا هذه المدة التي تسبق دخولهم النار، وهم في محشرهم، ولكن هذا أيضًا لا يخلو من بعد.
وابن جرير -رحمه الله- حمله على مدة اللبث في القبور[47]، يعني إلا مدة البرزخ، فإذا حمل ذلك على المعنى الذي سبق من كون ذلك للتحقيق لا للتعليق، فكأن ذلك لا يحتاج إلى شيء من التكلف في المعنى؛ ولأن بقاءهم في القبور، أو في المحشر هو ليس من جملة عذابهم في النار، يعني إذا دخلوها هم في القبور يأتيهم من فيحها وسمومها وحرها، ونحو ذلك، لكن دخول النار هذا يكون بعد الحشر والنشر، فيكون الاستثناء بمكثهم هذا في النار، فهم ماكثون فيها أبدًا، وهو الخلود، فيكون الاستثناء للتحقيق وليس للتعليق، والله أعلم، وهذا كما في قوله -تبارك وتعالى-: فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ [هود:106-107] وهكذا في أهل الجنة أيضًا: وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ [هود:108] فذكر هؤلاء وهؤلاء، وحكم لهم بالخلود، وذكر الاستثناء، والشنقيطي[48] -رحمه الله- تكلم على هذه الآية، أعني قوله: فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ بكلام طويل مفصل في مجالسه في التفسير، وذكر الأقوال فيها، ورد قول من زعم أن ذلك يدل على الخروج من النار، وذكر في بعض الروايات الساقطة، ولا يصح في هذا شيء من الروايات التي يذكرونها مما يدل على فناء النار، وأهلها الذين هم أهلها -أعاذنا الله إياكم من ذلك- لا يخرجون منها أبدًا.
قوله: نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا قال: "أي: نجعل بعضهم وليًا لبعض" أي: أنه يزين له الكفر والمعاصي، ويدفعه إلى الآثام، وهذا الذي اختاره أبو جعفر بن جرير -رحمه الله-[49]، وجماعة من المفسرين، كالواحدي[50] وقال به من السلف قتادة[51]، وقال به من المعاصرين السعدي[52]، وهذا كأنه هو الظاهر المتبادر، والله تعالى أعلم.
"وقيل: نتبع بعضهم بعضًا في دخول النار" وأصل المادة (ولي) يدل على القرب، يعني ندخل هؤلاء، ثم هؤلاء، ثم هؤلاء، يتتابعون في دخول النار، وهذا مروي عن قتادة: نولي بعض الظالمين بعضًا[53]، لكن ليس هذا هو المعنى المتبادر، والله أعلم.
"وقيل: نسلط بعضهم على بعض" ونجعل بعضهم متسلطًا على بعض، وهذا مروي عن ابن زيد[54]، واختاره ابن كثير[55].
ويروى عن عبد الله بن الزبير -ا-[56] لما كان أميرًا في مكة، وقتل عبد الملك بن مروان، عمرو بن سعيد بن العاص، وكان يُلقب بالأشدق، وتجدون خبره في تاريخ ابن كثير، في قصة عجيبة في قتله، وكان الأشدق هذا أميرًا في المدينة، وكان يرسل الجيوش إلى مكة لمحاربة ابن الزبير، وكان عبد الملك قد عهد له بالخلافة، ثم بعد ذلك لما خرج عبد الملك لقتال مصعب بن الزبير في العراق، قام هذا الأشدق، وأغلق أبواب دمشق، وحصنها، وأعلن خلع عبد الملك، وأنه هو الخليفة، فرجع عبد الملك، وحصل قتال بين الطرفين، وليس بحرب عامة، وإنما كانت بأفراد من هؤلاء وهؤلاء، ثم بعد ذلك حصل اتفاق على أن يدخل عبد الملك دمشق، ولا يتعرض للأشدق، فدخلها، وبعد ذلك دعا الأشدق، وكان هذا الرجل من أقوى الناس، وأشدهم بأسًا، حتى أن أباه قال عند موته: من لي كذا، من لي كذا، يذكر دين عليه، فقال: ففيم؟ قال: في كذا وكذا، أي بسبب أمور من المكارم لحقه هذا الدين، فقال: أنا لها؛ فلما جمع بنيه، قال: من لأخواتكم؟ فقال: أنا، وكلما ذكر شيئًا، قال: أنا، فقال: قد علمت ذلك من حماليق عينيك، إذا ولدتك أمك، يعني كان يرى فيه أنه إنسان غير عادي، فالشاهد: أنه قال عبد الملك بن مروان حين دعاه فجاء مع خادمه، وقد كان نُصح ألا يأتي، فقال: وماذا عسى أن يصنع؟ وجاء عليه درع تحت الثياب، فدخل ووقف عند الباب، فلما نظر وجد بني أمية قد اجتمعوا في مجلس عبد الملك، وكأنه استشعر شيئًا من الغدر، فقال لخادمه: ادع فلان، يعني أخاه، فقال: ماذا؟ قال: قطع الله لسانك، ثم تقدم قليلاً، وهو متقلد السيف، وقال لخادمه: ادع فلانًا، يعني أخاه، فقال: ماذا؟ قال: قطع الله لسانك.
فقال له عبد الملك: تقدم، فتقدم إليه أحد الحرس، وأخذ السيف منه، ونزعه، ودعاه عبد الملك، وقال: ما هذا السيف؟ ثم أجلسه بجانبه على السرير، ثم قال: إني قد نذرت إن أظفرني الله بك أن أضعك في كيسك، وآخذ بمجامعه بيدي، فقال: اتق الله، فقد أمنتني، فقال بنو أمية الذين حضروا: وما يضرك أن توفي بنذر أمير المؤمنين؟ فأخرج عبد الملك الكيس من تحت السرير، وبسطه، فقالوا: أوف بنذر أمير المؤمنين، فدخل في هذا الكيس، وهو رجل من أعظم الناس، ومن أقواهم، فلما تمكن من الكيس، وأخذ بمجامعه جذبه جذبة شديدة، فأصاب السرير سن الأشدق فكسرها، فقال: يا أمير المؤمنين، الله الله، أن تهدر دمي بما أصبت من جسدي، يعني لا يحملك هذا على الإتيان على نفسي؛ فخاف منه أن ينقم منه بعد ما تسبب في كسر سنه، فأمر به وأوثق، فأذن المؤذن، فخرج عبد الملك للصلاة، وأمر عبد العزيز أخاه، غير الشقيق، والد عمر بن عبد العزيز أن يتولى قتله، فلما أراد أن يقتله ذكّره بما بينه وبينه من رحم، فقال: يتولى ذلك غيرك، اتق الله، فرّق له، ولم يقتله.
فرجع عبد الملك من الصلاة فوجده لم يقتل، فغضب، وسب عبد العزيز، وعيره بأمه، وأخذ الرمح، فضربه به، فلم ينفذ، فقال: ودارع أيضًا، يعني ولابس درع، ومتهيئ، ثم بعد ذلك أضجعه وذبحه بالسيف ذبحًا، وصار يرتعد عبد الملك، فأخذوه، ووضعوه على السرير، وقال: ما رأيتُ طالب دنيا، ولا طالب آخرة مثل هذا، وقد علمت أنه لا يجتمع فيها رأسان، يعني إما أنا أو هو، فهذا رجل يصلح للخلافة، وكان عهد إليه أن يكون هو الخليفة من بعده، وكان يسير الجيوش إلى حرب ابن الزبير، فهو رجل له بأس شديد.
فالشاهد: أن ابن الزبير لما بلغه مقتل الأشدق هذا قرأ هذه الآية في خطبته، وقال: وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [الأنعام:129] وذكر عبد الملك بصفة يذمه فيها، وأنه قتل الأشدق، فعلى هذا يكون المعنى على ما قاله ابن كثير -رحمه الله-، وسبقه إلى ذلك ابن زيد، أي: نسلط بعضهم على بعض، فأصل هذه المادة -كما ذكرت- يدل على القرب، إما من ناحية المكان، أو النسب، أو الدين، أو النصرة، أو الصداقة، أو نحو ذلك.
فالمعنى الأول: نجعل بعضهم وليًا لبعض، وكأن هذا هو الأقرب من جهة السياق، ثم يليه في القوة أن يسلط بعض هؤلاء على بعض، وأضعف هذه الأقوال: أنه يتبع بعضهم بعضًا، فسياق هذه الآيات جاءت في استمتاع هؤلاء الإنس بالجن، والجن بالإنس، ونحو ذلك، وكأن الذي قالوا: إن المعنى: نسلط بعضهم على بعض استدلوا بأن الباء، في قوله: بِمَا كَانُوا تفيد السببية أو التعليل، فبسبب كسبهم السيئ يسلط بعضهم على بعض، لكن هذا غير ممتنع في المعنى الأول أنه يجعل بعضهم وليًا لبعض، فهم تشابهوا في أعمال الشر والمكر والكفر والفساد، فصار بعضهم يغري بعضًا، كما قال الله : وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ [الزخرف:36-37].
أي: من جملتكم كما يقول الحافظ ابن كثير -رحمه الله-[57]، وبعضهم يقول: يعني ممن هو مجانس لكم في الخلق والتكليف، يعني أنه مخلوق مكلف، أو أنه يعني مجانس لكم من جنسكم في خلقه من الإنس مثلاً، أو أنه من باب التغليب رُسُلٌ مِنْكُمْ قصد الإنس فغلبهم لكونهم أشرف مثلاً من الجن.
وبعضهم يقول: إن الرسل إلى الجن المراد بهم النذر، لكن المعنى: رسل من مجموعكم، ودلت الأدلة على أنهم من الإنس، ولا يوجد رسول من الجن، ولا يوجد أيضًا رسول ولا نبي من النساء.
هو هذا يعني هذا التكرار ليس بتكرار محض، وإنما كل موضع له معنى ومحمل.
فقوله: وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ يقول: "لا ينافي قوله: مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ" وذلك أنهم في موطن ينكرون ويقولون: مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ثم بعد ذلك حينما يختم على أفواههم، وتتكلم جوارحهم، فعند ذلك يعترفون وينطقون، ولا يستطيعون أن يكتموا الله شيئًا، وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا [النساء:42] فهذا محمله -والله تعالى أعلم-.
وتكرار الشهادة هو على ما ذَكَر، فهم قالوا: شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا [الأنعام:130] بعد ما نطقت جوارحهم، وهذه شهادتهم هم، وأما قوله -تبارك وتعالى-: وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ فهذا خبره عنهم على سبيل الذم.
ويقول بعضهم: هذا يرجع إلى شهادتهم على أنفسهم.
أَنْ لَمْ يَكُنْ [الأنعام:131] تعليل لبعث الرسل، وهو في موضع مفعول من أجله، أو بدل من ذلك، بِظُلْمٍ فيه وجهان:
أحدهما: أن الله لم يكن ليهلك القرى دون بعث الرسل إليهم، فيكون إهلاكهم ظلمًا؛ إذ لم ينذرهم، فهو كقوله: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً [الإسراء:15].
هذا الوجه الأول: أن الله لم يكن ليهلك القرى دون بعث الرسل إليهم، فيكون إهلاكهم ظلمًا، حيث لم ينذرهم، وهذا الذي اختاره الحافظ ابن القيم[58]، والشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله-[59].
القول الآخر: أن الله لا يهلك القرى بظلم إذا ظلموا، فالظلم يكون واقع من أهل القرى، فلا يهلكهم بظلمهم، حتى يبعث الرسل، وينذر هؤلاء، ففاعل الظلم على هذا أهل القرى، والغفلة هي عدم إنذار هؤلاء، وهذا اختاره ابن كثير[60]، وابن جرير[61]، أي: أن الله لا يهلكهم بشرك من أشرك، وكفر من كفر، فهذا الظلم حتى يبعث فيهم الرسل، وعلى القول الأول: أن الله لم يكن يهلك القرى بظلم منه هو لهم، يعني من غير أن يبعث لهم الرسل، فيكون ظالمًا لهم، فيكون الإعذار هذا معنى تحتمله الآية بظلم، وكذلك المعنى الثاني، وكأن بين المعنيين ملازمة، بمعنى أنه إذا أهلكهم من غير بعث الرسل، فإنه يكون ظالمًا لهم، يهلكهم بماذا؟ يهلكهم بظلمهم، وبكفرهم ومعاصيهم وجناياتهم، فالمعنيان متحققان ومتلازمان، فكأن ذلك -والله أعلم- لا يحتاج معه إلى ترجيح.
هذا ليس بمذهب أهل السنة.
يقول: "حكى الوجهين ابن عطية، والزمخشري، والوجه الأول صحيح على مذهب المعتزلة" وهو ليس بصحيح، بل على مذهب أهل السنة، يقول: "ولا يصح على مذهب أهل السنة؛ لأن الله لو أهلك عباده بغير ذنب لم يكن ظالـمًا لهم" هذا التعليل الآن هو الذي رد فيه القول الأول، وكل قول من القولين السابقين يصح على مذهب أهل السنة، فإن الله -تبارك وتعالى- لا يهلك الناس ظلمًا منه لهم، حيث لم يبعث الرسل، ولم ينذرهم، ويبين لهم محابه ومساخطه، هذا المعنى صحيح، لكن ما هي المشكلة عند هؤلاء؟ فبالنسبة للمعتزلة أن الله -تبارك وتعالى- عندهم يجب عليه فعل يسمونه العدل، من أصول المعتزلة الخمسة، فيجب عليه كذا، ويمتنع عليه كذا، يقيسون الله على الخلق، فيقولون: يمتنع عليه الظلم، وهذا صحيح، لكن ما هو الظلم عندهم؟ يقيسون الله على خلقه، فيقولون: يجب عليه كذا، ويمتنع عليه كذا، والأشاعرة ينفون الحكمة والتعليل في أفعال الله ، والتحسين والتقبيح من ناحية العقل، فيقولون: هما شرعيان، بمعنى لو أن الله جعل الكذب قربة وطاعة لكان حسنًا، ولو جعل الزنا والكفر قربة لكان حسنًا، ولو جعل الظلم طاعة لكان حسنًا، ولو جعل الصدق والوفاء والعفاف والأمانة معصية لكان قبيحًا، وهذا الكلام غير صحيح، فكثير من الأعمال والأشياء كثير منها له حسن أو قبح ذاتي، تدركه العقول، فأهل السنة يقولون: التحسين والتقبيح للعقل تعلق بهما وكذلك النقل، والأشاعرة يقولون: هذا يرجع إلى الشرع فما حسنه فهو حسن، وما قبحه فهو قبيح، ولا مدخل للعقل في هذا، وهذا غير صحيح، وتفسيرهم أيضًا للظلم يقولون: هو التصرف في ملك الغير بغير حق، أو بغير إذنه، وهذا غير صحيح، وأهل السنة والجماعة الظلم عندهم هو وضع الشيء في غير موضعه، وهذا يرجع إلى أصل المعنى اللغوي، فهو وضع الشيء في غير موضعه، فلو عذب المطيع والمؤمن والمحسن، ونعَّم الكافر العاصي، فهذا أمر لا يكون، فهو ظلم، وهو ممتنع على الله ، فالله لا يظلم الناس شيئًا، يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرمًا[64]، فلا يمكن أن يعذب المؤمنين الطائعين الأتقياء الأبرار، وينعم الكفار الفجار، فهذا حرمه على نفسه، هذا الظلم عند أهل السنة والجماعة، بينما هؤلاء لما كان الظلم عندهم يفسرونه بتفسير غير صحيح، قالوا مثل هذه المقالة، فهذا الذي ذكره عن أهل السنة هو قول المتكلمين.
درجات يحتمل أن يعود على الكفار من الإنس والجن، فلكل درجات في النار بحسبه، لكن المعنى الذي ذكره ابن جزي أعم يعني للمؤمنين وللكفار درجات يتفاوتون فيها، وهذا الذي اختاره ابن جرير[65]، وابن كثير[66]، كما قال الله : كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً [الإسراء:21] وهكذا قوله: وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ [الأحقاف:19].
من كان قبلهم من ذريتهم، ذرية قوم آخرين، كما قال ابن جرير: كما أحدثكم وابتدعكم من بعد خلق آخرين، كانوا قبلكم قد هلكوا[67]، وهذا هو الأقرب، فلا يختص بقوم نوح.
مكانتكم أي: مكانكم، أو مواضعكم، أو ناحيتكم، أو ما أنتم عليه مما ارتضيتم لأنفسكم، كما قال الله : وَقُلْ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ [هود:121- 122].
فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ [الأنعام:135] تهديد مَنْ تَكُونُ لَهُ يحتمل: أن تكون (من) موصولة في موضع نصب على المفعولية، أو استفهامية في موضع رفع بالابتداء.
عاقِبَةُ الدَّارِ أي: الآخرة أو الدنيا، والأول أرجح؛ لقوله: عُقْبَى الدَّارِ جَنَّاتُ عَدْنٍ [الرعد:22- 23].
القول بأنها الدنيا هذا ظاهر كلام ابن كثير[68]، والقول بأنها الآخرة هو ما رجحه ابن جزي.
ويمكن الحمل على المعنيين، كما قال الله : إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَاد [غافر:51] فذكر هذا وهذا، وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُون [الأنبياء:105] والأرض فسرت بالأرض في الدنيا، وأرض الجنة، وكذلك قوله: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا [النور:55] فهذا كله يدل على الاستخلاف في الأرض، التي هي الأرض هذه، وكذلك بعض ذلك يدل على الآخرة، فلهم هذا وهذا، فيكون عاقبة الدار: في الدنيا والآخرة، وهذا كأنه الأقرب، والله أعلم.
- تفسير ابن كثير ت سلامة (3/ 323).
- تفسير ابن كثير ت سلامة (3/ 323).
- تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (12/ 75).
- أخرجه أبو داود في كتاب الضحايا، باب في ذبائح أهل الكتاب برقم: (2818) وصححه الألباني.
- أخرجه ابن ماجه في كتاب الذبائح، باب التسمية، عند الذبح برقم: (3173) وصححه الألباني.
- تفسير ابن كثير ت سلامة (3/ 329).
- فتح الباري لابن حجر (9/ 624).
- في صحيح ابن ماجه برقم: (3173) وفي غيره.
- تفسير السمعاني (2/ 141)
- تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (12/ 89).
- تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (12/ 89) والدر المنثور في التفسير بالمأثور (3/ 352).
- تفسير السمعاني (2/ 141)
- تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (12/ 90).
- زاد المسير في علم التفسير (2/ 73).
- أخرجه بنحوه الترمذي ت شاكر في أبواب المناقب، باب في مناقب أبي حفص عمر بن الخطاب برقم: (3681) وصححه الألباني.
- تفسير ابن أبي حاتم، الأصيل - مخرجا (4/ 1381).
- تفسير ابن أبي حاتم - محققا (4/ 1382).
- الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح لابن تيمية (3/ 444).
- العذب النمير من مجالس الشنقيطي في التفسير (2/ 139).
- تفسير ابن كثير ت سلامة (3/ 331).
- تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (12/ 93).
- تفسير ابن عطية = المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (2/ 341).
- تفسير ابن كثير ت سلامة (3/ 331).
- البيت له في: شرح درة الغواص للشهاب الخفاجي (ص:446) والرسائل للجاحظ (2/ 108).
- السبعة في القراءات (ص:268) ومعاني القراءات للأزهري (1/ 384) وحجة القراءات (ص:271).
- تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (12/ 104).
- سيرة ابن هشام ت السقا (1/ 634).
- السبعة في القراءات (ص:268) ومعاني القراءات للأزهري (1/ 384) وحجة القراءات (ص:271).
- هي قراءة ابن كثير. انظر: السبعة في القراءات (ص:268) ومعاني القراءات للأزهري (1/ 385).
- التفسير الوسيط للواحدي (2/ 321).
- تفسير ابن أبي حاتم - محققا (4/ 1386).
- تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (12/ 109).
- التفسير الوسيط للواحدي (2/ 321).
- تفسير القرطبي (7/ 82).
- تفسير السعدي = تيسير الكريم الرحمن (ص:272).
- السبعة في القراءات (ص:268) ومعاني القراءات للأزهري (1/ 385).
- تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (12/ 114).
- أحكام أهل الذمة (1/ 417-418).
- تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (12/ 117).
- تفسير القرطبي (7/ 84).
- تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (12/ 117).
- العذب النمير من مجالس الشنقيطي في التفسير (2/ 244).
- الوجيز للواحدي (ص:375).
- التحرير والتنوير (8-أ /70).
- تفسير السعدي = تيسير الكريم الرحمن (ص:273).
- أخرجه مسلم في كتاب الطهارة، باب استحباب إطالة الغرة والتحجيل في الوضوء برقم: (249).
- تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (12/ 118).
- العذب النمير من مجالس الشنقيطي في التفسير (2/ 246).
- تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (12/ 118).
- التفسير الوسيط للواحدي (2/ 323).
- تفسير ابن كثير ت سلامة (3/ 339).
- تفسير السعدي = تيسير الكريم الرحمن (ص:273).
- تفسير ابن كثير ت سلامة (3/ 339).
- تفسير ابن كثير ت سلامة (3/ 339).
- تفسير ابن كثير ت سلامة (3/ 340).
- تفسير ابن عطية = المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (2/ 346).
- تفسير ابن كثير ت سلامة (3/ 340).
- مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين (1/ 248).
- العذب النمير من مجالس الشنقيطي في التفسير (2/ 279).
- تفسير ابن كثير ت سلامة (3/ 341).
- تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (12/ 124).
- تفسير ابن عطية = المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (2/ 346).
- تفسير الزمخشري = الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل (2/ 67).
- أخرجه مسلم في كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظلم برقم: (2577).
- تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (12/ 125).
- تفسير ابن كثير ت سلامة (3/ 342).
- تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (12/ 126).
- تفسير ابن كثير ت سلامة (3/ 343).