الثلاثاء 17 / جمادى الأولى / 1446 - 19 / نوفمبر 2024
[16] من قول الله تعالى: {فَانْتَقَمْنَا مِنْهُم ْفَأَغْرَقْنَاهُمْ} الآية 136 إلى قوله تعالى: {قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} الآية 143
تاريخ النشر: ٢٦ / ذو القعدة / ١٤٢٧
التحميل: 3124
مرات الإستماع: 2482

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال المفسر -رحمه تعالى- في تفسير قوله تعالى:

فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ ۝ وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَآئِيلَ بِمَا صَبَرُواْ وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ [سورة الأعراف:136، 137].

يخبر تعالى أنهم لما عتوا وتمردوا -مع ابتلائه إياهم بالآيات المتواترة واحدة بعد واحدة- انتقم منهم بإغراقه إياهم في اليم، وهو البحر الذي فرقه لموسى فجاوزه وبنو إسرائيل معه، ثم ورده فرعون وجنوده على أثرهم، فلما استكملوا فيه ارتطم عليهم فغرقوا عن آخرهم، وذلك بسبب تكذيبهم بآيات الله وتغافلهم عنها، وأخبر تعالى أنه أورث القوم الذين كانوا يستضعفون -وهم بنو إسرائيل- مشارق الأرض ومغاربها.

وعن الحسن البصري وقتادة في قوله: مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا [سورة الأعراف:137] يعني الشام.

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فالأرض المذكورة في قوله –تبارك وتعالى: وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا [سورة الأعراف:137]، فيها خلاف على قولين:

الأول: الأرض هي جميع الأرض مشارقها ومغربها، ومعلوم أن الذين كانوا مع موسى ﷺ بعد أن أغرق الله فرعون لم يحصل لهم ملك الأرض جميعاً، ولكن الذي قال بهذا القول قصد به أن ملك الأرض حصل لبني إسرائيل فيما بعد، فقد كان ملك سليمان –عليه الصلاة والسلام- يبلغ ذلك، وعلى هذا لا تكون "أل" في الأرض للعهد.

الثاني: أن "أل" في الأرض عهدية ويبقى النظر في هذه الأرض، هل هي الشام أو فلسطين، أو مصر والشام؟، واختار ابن جرير –رحمه الله- أن الأرض المباركة هي أرض الشام

والتعبير بالإيراث في قوله: وَأَوْرَثْنَا باعتبار أنها حصلت لهم بعد غيرهم، فالذين كانوا في بلاد الشام هم العمالقة، فجاءها بنو إسرائيل.

ودليل من قال: إن الأرض المباركة هي فلسطين قول الله –تبارك وتعالى: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ [سورة الإسراء:1].

وقوله: وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَآئِيلَ بِمَا صَبَرُواْ [سورة الأعراف:137] قال مجاهد وابن جرير: وهي قوله تعالى: وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً [سورة القصص:5].

صرح ربنا –تبارك وتعالى- في قوله: وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَآئِيلَ [سورة الأعراف:137] وفي قوله: كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ [سورة الشعراء:59] أن القوم الذين أورثهم الأرض هم بنو إسرائيل.

ومعنى قوله –تبارك وتعالى: وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَآئِيلَ [سورة الأعراف:137] أي: مضت على التمام، وقد وعدهم فتم وعده على ما وعد، من غير تخلف ولا نقصان فمكنهم في الأرض، كما قال الله : وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ ۝ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ [سورة القصص:5، 6].

وقوله: وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ [سورة الأعراف:137] أي: وخربنا ما كان فرعون وقومه يصنعون من العمارات والمزارع، وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ [سورة الأعراف:137] قال ابن عباس -ا- ومجاهد: يعرشون: يبنون.

قال بعض أهل العلم: إن معنى قوله –تبارك وتعالى: وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ [سورة الأعراف:137]، أي: من الجنات، كما قال الله : جَنَّاتٍ مَّعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ [سورة الأنعام:141]، والمشهور أن معنى قوله: وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ [سورة الأعراف:137] أي: يبنون، وذلك معروف في كلام العرب، وهو اختيار ابن جرير –رحمه الله.

وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَآئِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْاْ عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَّهُمْ قَالُواْ يَا مُوسَى اجْعَل لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ ۝ إِنَّ هَؤُلاء مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [سورة الأعراف:138، 139].

يخبر تعالى عما قاله جهلة بني إسرائيل لموسى حينما جاوزوا البحر وقد رأوا من آيات الله وعظيم سلطانه ما رأوا فَأَتَوْاْ [سورة الأعراف:138] أي فمروا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَّهُمْ [سورة الأعراف:138] قال بعض المفسرين: كانوا من الكنعانيين، وقيل: كانوا من لخم، قال ابن جرير: وكانوا يعبدون أصناماً على صور البقر، فلهذا أثار ذلك شبهة لهم في عبادتهم العجل بعد ذلك فقالوا: يَا مُوسَى اجْعَل لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ [سورة الأعراف:138].

هذه الروايات تستند إلى الأخبار الإسرائيلية، ولا يعتمد عليها.

قوله –تبارك وتعالى: يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَّهُمْ [سورة الأعراف:138]، العكوف هو المكث الطويل، أي: أنهم قد اشتغلوا بعبادتها وانكبابهم عليها، وهذه الآية كقوله –تبارك وتعالى: مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ [سورة الأنبياء:52].

قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ [سورة الأعراف:138] أي: تجهلون عظمة الله وجلاله وما يجب أن ينزه عنه من الشريك والمثيل، إِنَّ هَؤُلاء مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ [سورة الأعراف:139] أي: هالك وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [سورة الأعراف:139].

وروى الإمام أبو جعفر بن جرير في تفسير هذه الآية عن أبي واقد الليثي أنهم خرجوا من مكة مع رسول الله ﷺ إلى حنين، قال: وكان للكفار سدرة يعكفون عندها ويعلقون بها أسلحتهم يقال لها: ذات أنواط، قال: فمررنا بسدرة خضراء عظيمة، قال: فقلنا: يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، فقال: قلتم والذي نفسي بيده كما قال قوم موسى لموسى: اجْعَل لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ ۝ إِنَّ هَؤُلاء مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ[1] [سورة الأعراف:138، 139].

قَالَ أَغَيْرَ اللّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ ۝ وَإِذْ أَنجَيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَونَ يَسُومُونَكُمْ سُوَءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ وَفِي ذَلِكُم بَلاء مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ [سورة الأعراف:140، 141].

يذكرهم موسى نِعَمَ الله عليهم من إنقاذهم من أسْر فرعون وقهره، وما كانوا فيه من الهوان والذلة، وما صاروا إليه من العزة والاشتفاء من عدوهم، والنظر إليه في حال هوانه وهلاكه وغرقه ودماره، وقد تقدم تفسيرها في البقرة.

قوله –تبارك وتعالى: وَإِذْ أَنجَيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَونَ يَسُومُونَكُمْ سُوَءَ الْعَذَابِ [سورة الأعراف:141] يحتمل أن يكون هذا الخطاب خوطب به أولئك الذين عبدوا العجل، فقد ذُكِّروا بنعمة الله عليهم، وأن أقدامهم لم تجف من ماء البحر حتى طلبوا إلهاً غير الله وهذا في غاية الإساءة، ويحتمل أن يكون ذلك متوجهاً إلى الذين كانوا في زمن النبي ﷺ من اليهود، فهو يخاطبهم ويذكرهم بنعمة الله عليهم، والقاعدة أن النعمة على الآباء نعمة على الأبناء، كما أن النقم والرزايا التي تحصل على الآباء تلحق الأبناء إذا كانوا على طريقتهم، ولهذا يرد الخطاب كثيراً في القرآن لبني إسرائيل الذين عاصروا النبي ﷺ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ [سورة البقرة:47].

وهذه الآية كقوله –تبارك وتعالى: وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى [سورة البقرة:55] مع أن الذي قال ذلك هو أجدادهم وأسلافهم، لكن لما كانوا على طريقتهم صح أن يخاطبوا بذلك، فهم أمة واحدة، وهذا اختيار ابن جرير رحمه الله.

والإشارة في قوله –تبارك وتعالى: وَفِي ذَلِكُم بَلاء مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ [سورة الأعراف:141] ترجع إلى الإنجاء، أي: الإنجاء بَلاء مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ، وقيل: إن الإشارة راجعة إلى العذاب، والآية تحتمل القولين، أي: في إنجائنا لكم، أو في تعذيبنا لكم بهذا العذاب بلاء من ربكم عظيم، وعبارة ابن جرير جمعت بين المعنيين، فقد فسر قوله: وَفِي ذَلِكُم بَلاء مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ أي: بلاء من ربكم أي اختبار لكم وإنعام.

وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاَثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ [سورة الأعراف:142].

يقول تعالى ممتناً على بني إسرائيل بما حصل لهم من الهداية، بتكليمه موسى وإعطائه التوراة وفيها أحكامهم وتفاصيل شرعهم، فذكر تعالى أنه واعد موسى ثلاثين ليلة، قال المفسرون: فصامها موسى وطواها، فلما تم الميقات استاك بلحاء شجرة، فأمره الله تعالى أن يكمل بعشر أربعين، فلما تم الميقات وعزم موسى الذهاب إلى الطور كما قال تعالى: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنجَيْنَاكُم مِّنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ [سورة طـه:80] فحينئذ استخلف موسى على بني إسرائيل أخاه هارون، ووصاه بالإصلاح وعدم الإفساد، وهذا تنبيه وتذكير وإلا فهارون نبي شريف كريم على الله له وجاهة وجلالة -صلوات الله وسلامه عليه وعلى سائر الأنبياء.

من أهل العلم من يقول: إن موسى -عليه الصلاة والسلام- أُعطي التوراة والألواح، وأن الألواح غير التوراة، والعلم عند الله وورد في هذا آثار لا تخلو من ضعف، وبعض هذه الأحاديث قد تصل إلى درجة الحسن.

وَلَمَّا جَاء مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ موسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ [سورة الأعراف:143].

يخبر تعالى عن موسى أنه لما جاء لميقات الله تعالى، وحصل له التكليم من الله تعالى، سأل الله تعالى أن ينظر إليه فقال: رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي [سورة الأعراف:143] حرف "لن" هاهنا على نفي الرؤية في الدنيا؛ لأنه قد تواترت الأحاديث عن رسول الله ﷺ بأن المؤمنين يرون الله في الدار الآخرة، كما سنوردها عند قوله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ ۝ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [سورة القيامة:22، 23].

معنى لَن تَرَانِي [سورة الأعراف:143] أي: لن تراني في هذا المقام، أو لن تراني في الدنيا، ولا تفيد "لن" النفي المؤبد.

وقد رد أهل العلم على المعتزلة الذين ينفون رؤية الله –تبارك وتعالى- في الآخرة، واستدلوا عليهم بأدلة كثيرة، فمن ذلك قوله -تبارك وتعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ ۝ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [سورة القيامة:22، 23]، ومعنى ناضرة: من النضارة والحسن إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [سورة القيامة:23]، أي: تنظر إلى ربها، والنظر إذا عُدي بإلى فهو النظر بالبصر العين، وإذا عدي بفي فهو النظر بالقلب والفكر، تقول: نظرت في أمرك أي: تفكرت فيه، وفي هذه الآية عداه بإلى.

ومما يدل على أن أهل الإيمان يرون ربهم في الآخرة قول الله –تبارك وتعالى: كَلَّا إِنَّهُم ْعَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ [سورة القيامة:23]، فلما حجب عنه أهل السخط والغضب، فأهل الرضا يرونه.

وقد قال النبي ﷺ: إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر لا تضامون في رؤية[2]، فلا يلحقكم ضيم، ولا تتزاحمون.

ولم ينكر ربنا –تبارك وتعالى- على موسى –عليه الصلاة والسلام- لما قال له: رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ [سورة الأعراف:143]، كما أنكر على نوح لما قال: رَبِّ إِنَّ ابُنِي مِنْ أَهْلِي [سورة هود:45] فقال الله له: يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ [سورة هود:46]، فدل على أن موسى –عليه الصلاة والسلام- لم يطلب محالاً، وليست توبة موسى المذكورة في قوله تُبْتُ إِلَيْكَ [سورة الأعراف:143]، كانت من ذنب وإساءة.

وفي الكتب المتقدمة أن الله تعالى قال لموسى -: يا موسى إنه لا يراني حي إلا مات، ولا يابس إلا تدهده، ولهذا قال تعالى: فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ موسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ [سورة الأعراف:143].

روى الإمام أحمد في مسنده عن أنس بن مالك عن النبي ﷺ في قوله: فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ [سورة الأعراف:143] قال: "قال هكذا -يعني أنه أخرج طرف الخنصر"[3]. وهكذا رواه الترمذي في تفسير هذه الآية ثم قال: هذا حديث حسن صحيح غريب[4]. وهكذا رواه الحاكم في مستدركه من طرق عن حماد بن سلمة به، وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه[5].

وقال السدي عن عكرمة عن ابن عباس -ا- في قول الله تعالى: فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ [سورة الأعراف:143] قال: ما تجلى منه إلا قدر الخنصر، جَعَلَهُ دَكًّا [سورة الأعراف:143] قال: تراباً وَخَرَّ موسَى صَعِقًا [سورة الأعراف:143].

قوله: جَعَلَهُ دَكًّا [سورة الأعراف:143] على قراءة أهل المدينة والبصرة، أي: تراباً مدكوكاً متفتتاً تفتت الجبل، وقرئ دكاء بالهمزة، تقول: هذه ناقة دكاء، أي: لا سنام لها.

وَخَرَّ موسَى صَعِقًا [سورة الأعراف:143] قال: مغشياً عليه، رواه ابن جرير؛ لأن هنا قرينة تدل على الغشي وهي قوله: فَلَمَّا أَفَاقَ [سورة الأعراف:143] والإفاقة لا تكون إلا عن غشي.

قَالَ سُبْحَانَكَ [سورة الأعراف:143] تنزيهاً وتعظيماً وإجلالاً أن يراه أحد في الدنيا إلا مات، وقوله: تُبْتُ إِلَيْكَ [سورة الأعراف:143] قال مجاهد: أن أسألك الرؤية، وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ [سورة الأعراف:143]، قال ابن عباس -ا- ومجاهد: من بني إسرائيل، واختاره ابن جرير.

وفي رواية أخرى عن ابن عباس -ا: وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ [سورة الأعراف:143] أنه لا يراك أحد.

وقوله: وَخَرَّ موسَى صَعِقًا [سورة الأعراف:143] فيه أبو سعيد وأبو هريرة -ا- عن النبي ﷺ فأما حديث أبي سعيد فأسنده البخاري في صحيحه هاهنا عنه قال: جاء رجل من اليهود إلى النبي ﷺ قد لُطم وجهه، وقال: يا محمد إن رجلاً من أصحابك من الأنصار لطم وجهي، قال: ادعوه فدعوه، قال: لم لطمت وجهه؟ قال: يا رسول الله، إني مررت باليهودي فسمعته يقول: والذي اصطفى موسى على البشر، قال: قلت: وعلى محمد؟ وأخذتني غضبة فلطمته، فقال: لا تخيروني من بين الأنبياء، فإن الناس يصعقون يوم القيامة فأكون أول من يفيق فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش، فلا أدري أفاق قبلي أم جوزي بصعقة الطور[6]، وقد رواه البخاري في أماكن كثيرة من صحيحه، ومسلم في أحاديث الأنبياء وأبو داود في كتاب السنة من سننه، وأما حديث أبي هريرة فرواه الإمام أحمد والشيخان بنحوه.

معنى قوله ﷺ لا تخيروني من بين الأنبياء، أي: لا تخيروني تخييراً يؤدي إلى تنقيص غيري من الأنبياء، تعصباً وحمية.

وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية-رحمه الله: أن مِن جهلة المسلمين مَن إذا وقف ورأى النصارى يسبون النبي ﷺ في الحرب، قام بسب عيسى ﷺ وكذلك بعض جهلة أهل السنة إذا سمعوا الرافضة يسبون الشيخين، قاموا بسب علي لإغاظتهم، كما قال قائلهم:

سُبوا علياً كما سَبوا عتيقكم سُبوا علياً كما سَبوا عتيقكم[7]

أما إذا ذكرت فضائل النبي ﷺ لبيان فضله ومنزلته فلا شك أنه أفضل الأنبياء، وقد قال ﷺ: أنا سيد ولد آدم[8].

  1. رواه الإمام أحمد في مسنده (5/218)، برقم (21947)، والطبراني في المعجم الكبير (3/244)، برقم (3291)، والهيثمي في مجمع الزوائد ومنبع الفوائد (6 / 387)، برقم (11016)، وقال: فيه كثير بن عبدالله وقد ضعفه الجمهور وحسن الترمذي حديثه.
  2. رواه البخاري، كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ ۝ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (1/203)، برقم (529)، ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب فضل صلاتي الصبح والعصر والمحافظة عليهما (1/439)، برقم: (633).
  3. رواه الإمام أحمد في مسنده (19 / 281)، برقم: (12260)، وقال محققو المسند: إسناده صحيح على شرط مسلم، رجاله ثقات رجال الشيخين غير حماد بن سلمة، فمن رجال مسلم.
  4. الترمذي، كتاب التفسير، باب سورة الأعراف (5 / 265)، برقم (3074).
  5. المستدرك على الصحيحين، كتاب التفسير، تفسير سورة الأعراف (2/351)، برقم (3249).
  6. رواه البخاري، كتاب التفسير، باب وَلَمَّا جَاء مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا [سورة الأعراف:143] (4/1700)، برقم (4362)، ومسلم، كتاب الفضائل، باب في فضائل موسى ﷺ (4/1844)، برقم (2373).
  7. انظر: مجموع الفتاوى (6 / 26).
  8. رواه مسلم، كتاب الفضائل، باب تفضيل نبينا ﷺ على جميع الخلائق، (4/1782)، برقم (2278).

مواد ذات صلة