إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
ففي هذا المجلس نتذاكر هذه الآيات من سورة الإسراء، وهي من الوصايا التي وصى الله -تبارك وتعالى- بها عباده، وهي آيات ووصايا محكمات، لم تُنسخ، بل هي ثابتة ينبغي على أهل الإيمان أن يُعنوا بها، فهي وصية ربهم وتقدست أسماؤه.
في هذه الآيات يبتدئ الله -تبارك وتعالى- هذه الجمل، وهذه الهدايات، وهذه الوصايا بقوله: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [الإسراء:23]، فبدأ بالنهي عن الإشراك، والأمر بعبادته وحده دون من سواه، أَلَّا تَعْبُدُوا [الإسراء:23]، هذا نهي عن الشرك، إِلَّا إِيَّاهُ [الإسراء:23]، هذا إثبات لعبادته وحده دون من سواه، وهذه حقيقة كلمة التوحيد "لا إله إلا الله"، فشقها الأول نفي لكل ما يُعبد من دون الله -تبارك وتعالى، وشقها الآخر إثبات العبادة له وحده، فهو الإله الواحد الحق لا معبود بحق سواه، فهنا يذكر الله -تبارك وتعالى- الحق الأول، الحق الأعظم وهو حقه، فابتدأ به آمراً بتوحيده وإفراده بالعبادة.
وفي سورة الأنعام ذكر الله -تبارك وتعالى- وصايا محكمات ابتدأها بقوله: قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا [الأنعام:151]، فهنا في سورة الإسراء وَقَضَى رَبُّكَ [الإسراء:23]، وهناك قُلْ تَعَالَوْا [الأنعام:151]، كأنهم في حال من البُعد فيدعوهم إلى الاستجابة والاستماع لما يُتلى، وهنا يذكر أنه أمَرَ وحكم ووصى أن لا يُعبد أحد سواه، أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ [الإسراء:23]، فافتتحت هذه الآيات من سورة الإسراء بفعل القضاء "وقضى"، المقُتضي للإلزام وهو مناسب لخطاب أمة تتمثل أمر ربها ، أما في سورة الأنعام فقال: قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ [الأنعام:151]، إلى آخر ما ذكر الله .
في هذه الآيات من سورة الإسراء جُعل المَقضِي هو توحيده -تبارك وتعالى- بالعبادة، وهو المناسب لحال المسلمين، وهناك تحريم الإشراك، وذلك مناسب لحال المشركين، هنا في سورة الإسراء فصل حكم البر بالوالدين، حكم القتل والإنفاق، دون سورة الأنعام.
هذه الآيات في هذه السورة سورة الإسراء هذه الوصايا كما سيأتي تضمنت أكثر من عشرين وصية، أكثر من عشرين تشريعاً، أكثر من عشرين هداية، يرشد الله -تبارك وتعالى- عباده إليها، ويوصيهم بلزومها والتمسك بها، وهي أصول ثابتة ترجع إلى حفظ نظام المجتمع، وتماسكه وثباته وقوته؛ ليكون مجتمعاً صالحاً من كل وجه.
فابتدأها بقوله: وَقَضَى رَبُّكَ [الإسراء:23]، بمعنى أمَرَ ووصّى، وبهذا الثاني -أعني وصّى- قرأ أُبي وابن مسعود والضحاك: {ووصّى ربك ألا تعبدوا إلا إياه}، ومعلوم أن القراءة غير المتواترة تفسر القراءة المتواترة؛ لأن معنى قضى في كلام العرب يأتي لمعانٍ متعددة، يأتي بمعنى قضى أي: أمر، قضى بمعنى حكم، قضى بمعنى وصى، قضى بمعنى خلق، قضى بمعنى فرغ، قضى بمعنى أراد، ويأتي بمعنى العهد، فهنا هذه القراءة تبين المراد، وَقَضَى رَبُّكَ [الإسراء:23]، أي: وصى، فالقضاء هو فصل الأمر قولاً كان ذلك أو فعلاً، القول كما هنا، والفعل كقوله: وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ [غافر:20]، فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ [فصلت:12].
فحقيقة القضاء ترجع إلى إحكام الشيء وإمضائه على وجه الفراغ منه، إذن: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ [الإسراء:23]، يعني: ووصى وحكم وأمر، كل ذلك داخل فيه، إلا أن الأوضح هو أن يُفسر بمعنى وصى؛ لأن هذه المذكورات منها ما هو من قبيل المأمورات، ومنها ما هو من قبيل المحظورات المنهيات، ولهذا فإن تفسيره بوصى ينتظم ذلك جميعاً؛ لأن الوصية تشتمل على أمور يؤمر بها وعلى أشياء يُنهى عنها، فإذا قلنا: وصى فيدخل فيه المأمور ويدخل فيه المحظور، بخلاف أمَرَ فإن ذلك سيشكل عليه ما جاء من المنهيات كقوله: وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى [الإسراء:32]، وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ [الأنعام:151]، وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ [الأنعام:152]، وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا [الإسراء:37]، وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ [الإسراء:36]، ونحو ذلك.
وَقَضَى رَبُّكَ [الإسراء:23]، جاء بهذا الاسم الكريم من أسمائه -تبارك وتعالى- وهو من أجمع الأسماء وأوسعها؛ لأنه يدخل تحته من الأوصاف الكثير، فالرب هو المالك، وهو السيد المتصرف التصرف المطلق، وهو المربي خلقه، يربيهم بالنعم الظاهرة والنعم الباطنة، يربي أجسادهم بما يغذوهم به، ويربي أرواحهم، فيُنزل الكتب ويرسل الرسل لهدايتهم وإصلاحهم وإقامتهم على الحال القويمة الصحيحة، يحملهم على ما يحسُن ويجمُل، خلقهم في أحسن تقويم، وذلك في صورتهم الظاهرة وفي حالهم الباطنة، لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ [التين:4]، فهذه تربيته -تبارك وتعالى- لخلقه.
فالرب من شأنه أن يأمر وينهى ويحكم؛ لأنه هو المتصرف، وَقَضَى رَبُّكَ [الإسراء:23]، فجاء الخطاب في ظاهره موجهاً إلى النبي ﷺ، وهو موجه لجميع الأمة؛ لأن هذه المذكورات لا تختص به بل هي عامة، وإنما تُخاطَب الأمة في شخص قدوتها ومُقدمها ﷺ، ويدل على ذلك أنه جاء بصيغة الجمع: أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ [الإسراء:23]، وكذلك أيضاً في الوصية بالوالدين: إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا [الإسراء:23]، والنبي ﷺ كما هو معلوم- حينما نزلت عليه هذه الآيات وأُوحي إليه لم يكن أبواه على قيد الحياة، فهذا خطاب موجه لأمته يُعلمهم -تبارك وتعالى، يربيهم على هذه المعاني والهدايات والأصول التي يستقيم بها سيرهم إلى الله -تبارك وتعالى- في هذه الحياة.
وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ [الإسراء:23]، هنا "أن" يمكن أن تكون تفسيرية؛ لأن قضى فيها معنى القول، ويحتمل غير ذلك، قضى أن لا تعبدوا إلا إياه، ولاحظ أنه ابتدأ بقضية التوحيد، قضى أن لا تعبدوا إلا إياه، يعني: أمر أن يوحَّد، أن يُعبد وحده دون سواه، فهذا حقه فهو مُقدم على غيره، وحق الله -تبارك وتعالى- دائماً يُقدم على جميع الحقوق، حقوق الخلق، وحقوق النفس، وطاعة الله -تبارك وتعالى- مقدمة على طاعة كل أحد، وحكمه نافذ على العبد، ولو دعته نفسه إلى غيره.
ابتدأ بهذه القضية -قضية التوحيد؛ لأنها الأصل الكبير الذي لا تستقيم الأعمال إلا عليه، فهما كانت الأعمال جميلة في الظاهر، ومهما كانت الأخلاق فيما يبدو لأول وهلة صالحة فإن ذلك لا ينفع صاحبه حتى يكون مبناه على هذا الأصل الكبير التوحيد، إذ إنه أولاً الأساس الذي يُبنى عليه القبول، فالله -تبارك وتعالى- لا يقبل إلا من أهل توحيده، وأما غيرهم فكما قال الله : وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا [الفرقان:23]، تذهب أعمالهم وتذهب جهودهم ويذهب كدحهم ونصَبهم، يذهب ذلك الرونق والبريق لما كان يُظن أنه من قبيل الأخلاق أو التعاملات الجيدة، وتبقى الحرارة والإحراق، إذ إن مثَلهم كما قال الله : مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ [البقرة:17]، ذهب النور وبقيت الحرارة والإحراق.
ثم أيضاً ابتدأ بقضية التوحيد؛ لأنها هي المنطلق والأساس لاستقامة الأعمال المتعلقة بالقلب كالخوف والرجاء والمحبة والإنابة والحياء والغيرة، إلى غير ذلك من أعمال القلوب، وكذلك أيضاً أعمال اللسان والجوارح، فإذا تحقق التوحيد أيها الأحبة سرى ذلك على جوارح الإنسان ولسانه بعد أن يمتلئ قلبه من محبة الله والخوف منه ورجائه والتوكل عليه، فيكون العبد في حال من استقامة القلب واستقامة اللسان والجوارح، يكون على حال صحيحة في عمله وقوله ومزاولاته كلها، فإذا استقر الإيمان الصحيح في قلب الإنسان ظهر ذلك على وجهه وعلى جوارحه فانقادت عابدة لربها منيبة مطيعة مستجيبة، فيتحقق الإسلام الظاهر، تكون جوارحه قد أسلمت لربها وباريها وخالقها ، لكن إن كانت العناية بمزاولات منفصلة عن هذا الأصل الكبير فإن ذلك لا يجدي على أصحابه نفعاً، ولا يُحصِّلون عليه أجراً، ومن هنا كان المُنطلَق مُنطلَق دعوة الرسل -عليهم الصلاة والسلام- الدعوة إلى التوحيد، جميع الرسل -عليهم الصلاة والسلام- من أولهم إلى آخرهم يقولون لأقوامهم: اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [الأعراف:59]، ومن ثَمّ ينبغي أن يكون مُنطلق الدعاة إلى الله هو هذا الأصل الكبير، لا يكون المنطلق والأساس أو المبدأ من غيره، نحن نسمع أصواتاً تعلو هنا وهناك أن الحرية أولاً، نحن نقول: التوحيد أولاً، هو أول دعوة الرسل -عليهم الصلاة والسلام، وإن الرق الحقيقي والعبودية الحقيقية كما يقول شيخ الإسلام -رحمه الله- هي رق القلب[1]؛ لأن هذا القلب حينما ينعتق من عبادة الله وتوحيده لابد أن يكون عبداً لغيره، فقد يكون عبداً لهواه، وقد يكون عبداً لمخلوق من المخلوقين، قد يكون هذا القلب عبداً للشيطان، ولذلك كما نرى ونشاهد في حال أولئك الذين أوغلوا في اتباع الأهواء وفسدوا فساداً كبيراً أنهم يتحولون في نهاية المطاف إلى عبدة الشيطان، ويوجد الآن طوائف ومجموعات تعلن أنها تعبد الشيطان، ولهم طقوس، وممارسات وأزياء وهيئات وصور وأشكال تميزهم عن غيرهم، أرادوا حرية لأنفسهم أن يفعلوا ما شاءوا، فكانت نتيجة ذلك أنهم صاروا أسرى، وعبدة لعدوهم الذي طرده الله -تبارك وتعالى- من الملأ الأعلى؛ لأنه أبى أن يسجد لأبينا آدم ، ولهذا فإن الله -تبارك وتعالى- لما ذكر خبره مع آدم في سورة الأعراف وذكر المجاوبة بين الله وبين عدونا إبليس، قال بعده: يَا بَنِي آدَمَ [الأعراف:27]، يا أولاد آدم الذي أسجدت ملائكتي وطردت إبليس؛ لأنه امتنع من السجود له، لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ [الأعراف:27]، كيف تتحول تلك النفوس من عبادة الله ، إلى عبادة عدوها المتربص الذي لا يفتأ ولا يألو جهداً في الكيد من أجل الإيقاع بنا، ونحن كما قال الحافظ ابن القيم -رحمه الله: "سبْي العدو"، سبانا إلى هذه الأرض، إلى هذه الدنيا من الجنة:
ولكننا سبْيُ العدو فهل تُرى | نُردُّ إلى أوطاننا ونُسَلَّمُ [2] |
فهل نرجع إلى الوطن الأول الذي هو الجنة، ونسلم بعد هذه الرحلة الطويلة مع العناء والشقاء، نسأل الله أن يجعل عاقبتنا الجنة، ووالدينا وإخواننا المسلمين.
ثم إنه ابتدأ بالتوحيد لأن إصلاح التفكير مقدم على إصلاح العمل، والناس أسرى لأفكارهم ومعتقداتهم، إصلاح التفكير، إذا استقام تفكير الإنسان -استقامت تصوراته- فإن ذلك يتبعه استقامة الأعمال؛ لأن الناس أسرى لهذه التصورات يموتون دونها، تجد الواحد منهم يبذل نفسه رخيصة للموت، ويقدمها بلا تردد فداء لما يعتقد، ولو كان ذلك المعتقد من قبيل الباطل، لربما فارق الأهل والوطن والعشيرة في سبيل ما يعتقد، إذن لابد من إصلاح الاعتقاد، لابد من إصلاح التصورات أولاً.
فمن مجموع ذلك أقول: إن دعوتنا ينبغي أن يكون منطلقها من هذا الأصل الكبير، لا أن نبدأ من الأطراف والذيول، نحن نسمع اليوم الدعوة إلى القيم، والتركيز على القيم، تذكير الناس بالقيم هذا أمر حسن جيد، لكن أن يكون ذلك هو المعول والمدار على ذلك فنُبرز لهم قيمة الصدق تارة، ثم الأمانة، هذه قضايا يقبلها المُوالِف، والمخالف، المسلم والكافر على اختلاف مللهم، سألت أحد الدعاة في اليابان عن قبول الناس لدين الإسلام، فذكر أن انتشاره محدود، فسألته عن سبب ذلك؟
فأجاب: بأن العادة أن الكفار تُذكر لهم محاسن دين الإسلام، فيقال: الإسلام يأمر بالصدق والأمانة والعفاف والصلة، ونحو هذا، يقول: فهؤلاء يقولون: نحن نمتثل هذه الأمور، يعني: عندهم الأمانة والصدق وما إلى ذلك ولكن يُفتنون بجالية من المسلمين تقيم بين ظهرانيهم فيرون فيهم الكذب، والالتواء والتلون والغش ما استطاعوا إلا من رحم الله ، هذا يقول: نسيت حقيبتي وفيها كل شيء في القطار، يقول: فلما أصبحت ذهبت فوجدتها في مكانها لم يتغير منها شيء، آخر في أحد المطارات يقول: وقفت لحظة عند بائع القهوة فالتفت فإذا الحقيبة غير موجودة، في مطار من مطارات بعض الدول الغربية، يقول: فذهبت إلى أمن المطار وأخبرتهم، يقول: مباشرة قالوا: هؤلاء من أصحابكم من المسلمين، يقول: فأنكرت هذا، وكيف تستعجلون بهذا الحكم؟! فقالوا: هذا معروف، للأسف انظر إلى نظرة هؤلاء وكيف يفتنون رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا [الممتحنة:5]، لا تجعلنا فتنة على المعنييْن: فتنة مصدر يأتي بمعنى فاعل ومفعول، لا تجعلنا فاتنين بأن تسلطهم علينا فيُفتنون يقولون: لو كان هؤلاء على حق لما ملكناهم وقهرناهم، لا تجعلنا فاتنين بسوء تصرفاتنا وفِعالنا وأخلاقنا فنفتن هؤلاء عن دين الإسلام، فينفرون من الحق.
وكذلك أيضاً لا تجعلنا مفتونين فتُسلط هؤلاء علينا فنُفتن في ديننا، كل هذه المعاني صحيحة.
الشاهد أن هذا الرجل لما رجع وصلته حقيبته بالبريد، وإذا فيها رسالة وإذا السارق عصابة للأسف من أبناء المسلمين، ولكن أحدهم وجد فيها كُتبياً فقرأه فتاب، فأعاد الحقيبة بما فيها من أوراق وبطاقات وما إلى ذلك دون المال، إلا جزءًا قليلاً منه، واعتذر إليه قال: هذه حصتي والباقي في يد العصابة، يعني: المال، فأنا أتوب إلى الله وأعتذر إليك وهذه حقيبتك، وقد هداني الله بسبب هذا الكتاب.
الشاهد أنه تبين أن الذين سرقوها كانوا من أبناء المسلمين، فهذه مصيبة أن لا نتمثل هذه القيم والأخلاق التي يدعو إليها ديننا، فأقول: المنطلق يكون من إصلاح الاعتقاد والتصور، الإيمان، التوحيد، فتكون تلك الأفعال عبادة يُتقرب إلى الله بها، إذا استقام هذا القلب وصار عابداً لله مخبتاً منيباً طائعاً منقاداً انقاد اللسان فلم يصدر منه إلا كل قول جميل، وانقادت الجوارح فلا يصدر منها إلا ما يحسُن ويجمُل.
بعدما ذكر هذا الأساس والأصل الكبير ذكر الحق الثاني: وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [الإسراء:23]، ثنّى بذكر الوالدين؛ لأن حقهما بعد حق الله ، فالله هو الخالق الرازق المنعم المتفضل، حقه فوق سائر الحقوق، ثم يأتي حق الوالدين؛ لأنهما سبب وجود الإنسان، وهذا وحده يكفي، يعني: لو أنهما ربياه فأحسنا تربيته فالحق هنا أعظم وآكد، لكن أصل الحق ثابت ولو لم تحصل التربية، لو مات أبواه وهو صغير، لو مات أبوه قبل أن يولد وهو حملٌ في بطن أمه، حق الوالدين، لو أن هذا الجنين ماتت أمه وهي حامل به فاسُتخرج من بطنها حقها ثابت، هما سبب الوجود، ولو أساءا إليه؟.
ولو أساءا إليه، ولو أهملاه وتركاه وضيعاه؟
ولو أهملاه وتركاه وضيعاه، هذا الحق ثابت.
وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [الإسراء:23]، يعني: أمركم أن تحسنوا إلى الوالدين، أن تحسنوا، فلما حُذفت "أن" تعلق القضاء بالإحسان، وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [الإسراء:23]، أن تُحسنوا إحسانًا، حكم ووصى وأمر وألزم وأوجب أن تحسنوا إلى الوالدين إحسانًا، ولم يقل: وصى بالإحسان إلى الوالدين، قال: وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [الإسراء:23]، فقدم الوالدين، الجار والمجرور، للاهتمام بهما، وصاكم أن تحسنوا إليهما، والتعريف في "الوالدين" للاستغراق، فيدخل فيه كل من يصدق عليه ذلك محسناً كان أو مسيئاً، ويدخل فيه كل من يصدق عليه ذلك وإن علا، الجد والجدة، من جهة الأب ومن جهة الأم، فكل ذلك يقال له: والد، وأنت مأمور ببرهما، وهذا أمر ثابت لا إشكال فيه، لكن دل الحديث على أن حق الأم آكد وأثبت وأقوى، أمر بالإحسان، وهذا الإحسان على مراتب ودرجات، يتفاوت، فللأم منه أوفر الحظ والنصيب، لماذا؟
لأنها حملت، ووضعت، وأرضعت، وربت، تحملت ذلك جميعاً فلها ثلاثة أضعاف ما للأب، ولهذا جاء رجل إلى النبي ﷺ وسأله: من أحق الناس بحسن صحابتي؟ -حسن الصحبة- قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك[3]، ثلاث مرات.
ولاحظ هنا السؤال: "من أحق الناس بحسن صحابتي؟"، -حُسن الصحبة، فهنا يأتي الكلام على ما إذا حصل تعارض بين ما تأمر به الأم ويأمر به الأب، إن كان ذلك في غير معصية؛ لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، يُقدم من؟
لاحظ الحديث: "من أحق الناس بحُسن صاحبتي؟"، الصحبة المعاشرة، المخالطة، جاء رجل إلى الإمام مالك -رحمه الله- وسأله قال: "إن أبي في بلد السودان، وقد كتب إليّ أن أقدم عليه، وأمي تمنعني من ذلك؟، فقال: أطع أباك، ولا تعصِ أمك"[4]، العلماء -رحمهم الله- اختلفوا في تفسير عبارة الإمام مالك ما المراد بها؟ فبعضهم يقول: إن مراده أطع أبك فيما لا يكون معصية لأمك، وبعضهم قال غير ذلك، بعضهم فهم أن برهما متساوٍ عنده.
وسئل الليث بن سعد الإمام الكبير عن هذه المسألة فأمر السائل أن يطيع الأم[5].
والمسألة فيها ثلاثة أقوال لأهل العلم: منهم من يرجح الأم، ويقول تُقدم طاعتها كما يقول الليث، وبه قال أبو حنيفة، وفهم بعضهم أن هذا هو مراد الإمام مالك كالقرافي من المالكية قال: "إن الإمام مالك قصد أن لا يخرج بغير إذن الأم"، وبعضهم كالشافعي يسوون، ولكن عند التأمل فإن الذي سأل النبي ﷺ: "من أحق الناس بحسن صاحبتي؟"، هذا في المعاشرة، لكن من الذي يتولى التدبير لهذا الولد؟ اتخاذ القرارات؟ الأب، الأب أحق بتسميته، وهو الأقدر على توجيهه فيما يتعلق باتخاذ القرار، أما الأم فتُقدَّم فيما يتصل بالمعاشرة، والإحسان بجميع صوره وأشكاله وأنواعه.
وإذا عرفنا أن "أل" تدل على الاستغراق "وبالوالدين" فيدخل في ذلك الوالدان من غير المسلمين، فهو مأمور بالإحسان إليهما، والله يقول: لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ [الممتحنة:8]، فعُدي فعل الإقساط بـ"إلى"؛ لأنه مضمن معنى الإفضاء كون هناك مخالطة ومداخلة فيما يتعلق بالتعامل وما إلى ذلك، ويدل على هذا قوله -تبارك وتعالى: وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا [لقمان:15]، ويقول الله قبلها: وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا [لقمان:14-15]، ويقول: وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا [العنكبوت:8]، لاحظ هؤلاء كفار وليس ذلك فحسب بل يجاهدونه على الكفر، على أن يخرج من دينه ويترك الحق والإيمان، ومع ذلك أمره بأن يصاحبهما في الدنيا معروفًا، فكيف إذا كان الوالد مسلماً، ولو كان عنده شيء من التقصير، ولو كانت عنده أخطاء، ولو كانت عنده انحرافات، ولو كانت عنده معاصٍ، فأنت مأمور بالإحسان إليه ومصاحبته بالمعروف والبر به، وفي الصحيح حديث أسماء -ا- أنها سألت النبي ﷺ: إن أمي قدمت وهي مشركة أفأصلها؟ -هي راغبة في الصلة، فقال: نعم، صِلِي أمك[6].
لاحظوا هنا أنه أطلق الإحسان وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [الإسراء:23]، وما قيده بقيد، فينتظم ذلك جميع صور الإحسان، فيدخل فيه الإحسان بالمال، الإحسان بالمعاشرة والمخالطة، ويدخل فيه الإحسان بالقول، إلى غير ذلك مما يمكن أن يتصوره الذهن، وتجود به القرائح من صور الإحسان، وأنواعه وأشكاله، كل هذا داخل فيه، وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [الإسراء:23].
فنحن مأمورون بأن نحسن إلى الوالدين ما استطعنا بجميع أنماط الإحسان، لا يختص ذلك بنوع دون نوع، فمن الإحسان الإحسان بالقول تتكلم بالكلام الجيد الجميل كما سيأتي، من الإحسان الإحسان في المخالطة، لين الجانب كما سيأتي أيضاً في قوله: وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ [الإسراء:24]، ويدخل في الإحسان الإحسان بالمال، قد يقول الإنسان بأن أبويه لا يحتاجان إلى ماله، فنقول: إن بذل المال لهما يدل على أصالة الولد، وعلى تجذر البر في نفسه، لاسيما الأم قد تكون مكفية في بيتها ولكنها تحتاج أن تتصدق، تحتاج أن تُفرح الصغير، تحتاج أن تقوم مقامات في بعض المناسبات تكون مشرفة لها ولأهل بيتها، هذه الأم تحفظ هذا المال وتُتبعه بالدعوات، وتصرفه في حقه ومستحقه، فإذا نقص شيء بادرت، وإذا احتاج أحد قضت حاجته، ولا تنتظر حتى تطلب من ولدها أو من غيره شيئاً من المال، وإنما يكون ذلك في يدها، ولهذا يحسُن أن نتفطن لهذا، أول ما يبدأ الإنسان يعمل ويكتسب يجعل لأمه نصيباً من هذا، البداية ربت وتعبت وبذلت هي التي ترقبه منذ أن خرج من بطنها، بل وهو في بطنها ترقبه، ترقب حركته، وترقب نماءه وهو في بطنها، فإذا خرج من بطنها ترقبه لحظة بلحظة، تفرح إذا تحرك، تفرح إذا ابتسم، تفرح إذا رفع رأسه، تفرح إذا حبا، تفرح إذا مشى، ثم بعد ذلك لم تزل به تعلمه وتربيه وتدرّسه وتتعب، وإذا مرض مرضت معه، حتى يتخرج من الجامعة ثم يعمل، فهذه ينبغي أن ترى شيئاً من ثمرة جهدها، وعملها وتربيتها، وتعبها وكدها ونصبها في هذه السنين الطويلة، وهذا أمر يغفل عنه الكثيرون.
يقول: هي ليست محتاجة، نعم ليست محتاجة، أنت المحتاج، وهذا بركة في مالك، وفي عملك، ويدل على أن هذا الولد أصيل في البر، ما نسي الإحسان فهو يستحضر ذلك جيداً ويتذكر، ولا تسأل عن شعور الأم تجاه ولد كهذا ولو كانت غير محتاجة، وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا.
- انظر: العبودية (ص:81)، والفتاوى الكبرى لابن تيمية (5/ 179)، ومجموع الفتاوى (10/ 181).
- انظر: إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان (1/ 71)، وحادي الأرواح إلى بلاد الأفراح (ص:11)، وطريق الهجرتين وباب السعادتين (ص:51)، ومدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين (1/ 142).
- أخرجه البخاري، كتاب الأدب، باب من أحق الناس بحسن الصحبة، برقم (5971)، ومسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب بر الوالدين وأنهما أحق به، برقم (2548).
- تفسير القرطبي (10/ 239).
- المصدر السابق.
- أخرجه البخاري، كتاب الأدب، باب صلة المرأة أمها ولها زوج، برقم (5979)، ومسلم، كتاب الزكاة، باب فضل النفقة والصدقة على الأقربين والزوج والأولاد، والوالدين ولو كانوا مشركين، برقم (1003).