الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
أيها الإخوان: هذا هو المجلس الثالث من هذه المجالس التي نقف فيها بعض الوقفات مع هذه السورة الكريمة سورة النور، وكنا نتحدث في المرة الماضية عن مقطعها الثاني، أو لازلنا نتحدث عن مقطعها الأول، وكان آخر ما تحدثنا عنه هو الوقفة العاشرة: وهي توبة القاذف: إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا [النــور:5] وبينا مرجع الاستثناء، وأن من تاب تاب الله عليه، وأن ذلك يرفع عنه حكم الفسق، وتقبل شهادته أيضًا، وذكرنا كلام أهل العلم في التوبة المطلوبة من القاذف، هل هي التوبة المعروفة من الذنوب، أو أنها توبة خاصة تحتاج إلى شرط زائد وهو أن يُكْذِب نفسه، بما رمى به غيره.
فالمقصود أيها الإخوان أننا في هذه الليلة نستمر مع هذه الوقفات في هذا المقطع، وذلك، وهي الوقفة الحادية عشرة: مع قوله -تبارك وتعالى-: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُن لَّهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِن كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِن كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ [النور:6-9].
لماذا كان الرجل مطالبًا حينما يقذف امرأة أجنبية، لماذا يطالب أن يأتي بأربعة شهود يشهدون تلك الشهادة الدقيقة الشديدة المفصلة؛ بينما حينما يرمي الرجل امرأته بهذه الفاحشة، ويقذفها بذلك، فإن الحكم يختلف في حقه؟ لماذا؟
يمكن أن يقال -والله تعالى أعلم- بأن الرجل يمكنه أن يكف عن قذف المرأة الأجنبية، ولا يلحقه من ذلك ضرر، ولا معرة، أما الزوجة فإنه لا يستطيع أن يسكت على ذلك؛ لأن فراشه يتدنس، وعرضه يتلطخ؛ ولأن النسب في حق الأولاد يختلط، فلربما نسبت إليه من ليس من صلبة، فهذا أمر لا يطاق، وإقامة الشهادة عليه أمر في غاية العسر، والصعوبة، ولذلك تعرفون في سبب النزول أن هلال بن أمية جاء إلى النبي ﷺ وسأله عن الرجل يجد مع امرأته رجلاً، يسأله عن حكم ذلك، فالنبي ﷺ كان لا يزيد في الجواب على أن يقول: البينة أو حد في ظهرك[1] والبينة هي أن يأتي بأربعة شهداء يشهدون هذه الشهادة المفصلة، وذلك قبل نزول هذه الآية، فكان يردد، ولا يزيد على أن يقول: والله إني لصادق، والله ما كذبت عليها، وسيبرئ الله ظهري من الحد، وكان النبي ﷺ لا يزيد في جوابه عن قوله: البينة أو حد في ظهرك، ثم جاء عويمر العجلاني وهو من الخزرج من الأنصار، وأخبر النبي ﷺ أيضًا بمثل خبر هلال؛ فنزلت هذه الآية عقب الواقعتين[2]، وهذا وجه في الجمع بين أسباب النزول المتعددة، إذا كان الزمان متقاربًا فإننا نقول: إن هذه الوقائع حصلت فنزلت الآية بعدها، فالمقصود أن الله خفف عن هذه الأمة، وذلك لشدة إقامة هذه الشهادة، ولعسر الصبر على هذا الأمر حينما يراه الرجل في أهله.
وأمر آخر في سبب هذا التخفيف على الأمة، وهو أن الرجل عادة لا يقدم على قذف امرأته بهذا العمل الشنيع إلا وهو متحقق غاية التحقق من صدق ما قاله في حقها، وإلا فلا شك أن الرجل حينما يعلن ذلك، ويقوله لغيره فإن ذلك يعود إليه فإن العار الذي يلحق أهل الرجل لا شك أنه يلحقه، وبالتالي فإن الرجل لا يتكلم به إلا إذا انفرط صبره، وبلغ به الأمر حدًا لا يطاق، ومن ثم فإن الله قد خفف عن الأمة، فصار الرجل يشهد هذه الشهادات الأربع، ويخمس باللعن، كما ذكر الله في هذه الآيات التي سمعنا.
الوقفة الثانية عشرة: وذلك مع قوله -تبارك وتعالى- في حق الرجل في شهاداته وَالْخَامِسَةُ [النور:7] أي من الشهادات أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ [النور:7] وقال في حق المرأة: وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ [النور:9] يقف الرجل أمام الحاكم، أو من يقوم مقامه ممن ينيبه كالقاضي يقف الرجل، ويقول: أشهد عليها بالله أنها فعلت كذا وكذا مما رماها به، ثم يقول الخامسة، ويستوقف عندها يقال له: إنها موجبة، تمهل توقف انتظر، إنها موجبة، فإذا رضي أن يشهد هذه الشهادة الخامسة، فإنه يقول: بأن لعنة الله عليه إن كان كاذبًا عليها فيما رماها به، ثم بعد ذلك تقوم المرأة، فإن أبت؛ أقيم عليها الحد، فإن أجابت، وشهدت أربع شهادات بالله على هذا الزوج أنه كاذب فيما نسب إليها من هذه الفاحشة، ثم يقال لها عند الخامسة: إنها موجبة، فإذا شهدت، فإنها تقول: وأن غضب الله عليها إن كان صادقًا فيما رماها به.
لماذا فاوت الله في هذا التعقيب في حق الرجل، وفي حق المرأة، في حق الرجل في الخامسة: أن لعنة الله عليه إن كان كاذبًا عليها، وفي حق المرأة أن غضب الله عليها إن كان صادقًا فيما رماها به؟
فيمكن أن يجاب عن هذا بجوابين اثنين:
الأول: أن يقال بأن النساء يكثرن اللعن؛ كما قال النبي ﷺ: تكثرن اللعن، وتكفرن العشير[3] لما ذكر النبي ﷺ أنه رأى النار، وأن أكثر أهلها النساء، فلما سئل عن هذا؟ قال: تكثرن اللعن، وتكفرن العشير فالحاصل أن كثرة اللعن لما كانت جارية على لسان المرأة؛ كان ذلك سهلاً عليها، فيمكن أن تبادر، وأن تقول ذلك في الشهادة الخامسة دون أن ترعوي، فذكر في حقها الغضب، بخلاف الرجل.
والجواب الآخر: وهو ما ذكره بعض أهل العلم أن المرأة حينما تنكر ذلك، وهي تعلم أنه حق، فإن من جحد الحق بعد العلم به فهو من أهل الغضب، ونحن نقول في سورة الفاتحة: غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ [الفاتحة:7] فمن هم الذين غضب الله عليهم؟ هم اليهود، لماذا؟
لأنهم عرفوا الحق، وتركوه عن علم، فهذا الرجل حينما يقوم، ويشهد هذه الشهادات المرأة تعلم حقيقة ما قال، فإن كانت كاذبة في رد قوله، وهي تعلم جيدًا صدق قوله من كذبه، فإن قامت، وحلفت هذه الإيمان، وشهدت هذه الشهادات، وهي كاذبة فهي أهل للغضب؛ لأنها ردت الحق وهي عالمة به، هذا ما يمكن أن يجاب عليه في علة التفاوت في هذا التعقيب.
ويؤخذ من ذلك أيضًا من هذه الآية قاعدة: وهي أن الشريعة تجري بحسب الظواهر، وهذا من لطف الله تجري بحسب الظواهر، فما أمرنا تشق عن قلوب الناس، وأن ننقر عن نفوسهم، وإنما نحكم بحسب ما ظهر، من أظهر خيرًا قبل منه، ومن أظهر شرًا فإنه يؤاخذ به، ومن وقف في مواقف الريب، فلحقته تهمة فإنه لا يلوم إلا نفسه، ولا ينتظر من الآخرين أن يحسنوا به الظن، وهو يدخل مداخل الريبة، والشواهد على ذلك كثيرة، لا نطول بذكرها.
ووجه هذه القاعدة من هذه الآية أن الشريعة تجري بحسب الظواهر، أن أحد الزوجين كاذب قطعًا، هذا يرميها بهذا الفاحشة، وهي تحلف، وتدعو على نفسها بالغضب أنه كاذب فيما رماها به، فلا يمكن أن يجتمع الكذب من الطرفين، ولا يمكن أن يجتمع الصدق من الطرفين، فلا بد أن أحدهما كاذب، والآخر صادق، ولهذا قال النبي ﷺ: لله يعلم أن أحدكما كاذب[4] ومع ذلك إذا قامت المرأة فلاعنت، وخمست بالغضب قبل ذلك منها، وتركت فتذهب في سبيلها، ويفرق بينهما، وإن كانت حاملاً لا ينسب الولد إلى هذا الرجل، إلى الزوج، ولكنه لا يقام عليها الحد، وهو لا يقام عليه حد القذف؛ جريًا على الظاهر، فعلتْ ما طلب منها، فلا تطالب بأكثر من ذلك، ومن ثم فإن هذا من لطف الله ورحمته كما أشار في آخر هذه الآيات بقوله: وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ أي لولا ذلك لما قبل منكم هذه الظواهر مع أن البواطن غير صحيحة، غير موافقة لهذه الظواهر؛ لأن أحد الطرفين كاذب لا محالة.
كما يؤخذ أيضًا منها: صحة الاستثناء المتأخر، أو صحة التخصيص بالشرط المتأخر: أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِن كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِن كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ.
فلو أن رجلاً قال: سأعطيك هذا الكتاب إن أحضرتَ زيدًا، سأعطيك هذه السيارة إن فعلتَ كذا وكذا. فبعض أهل العلم يقولون: هذا من قبيل الندم، والتراجع فلا يعتبر في الاستثناء، والصحيح أنه تخصيص في محله، ولا إشكال فيه، وأنه تابع لما قبله، وأن ذلك لازم له.
هذه الوقفات تتعلق بهذا المقطع الأول من هذه السورة.
المقطع الثاني: وهو من الآية الحادية عشرة إلى الآية السادسة والعشرين، وذلك في قضية الإفك.
الوقفة الأولى: مع هذه الآيات وهي في سبب النزول، الروايات التي في الصحيحين، وفي غيرهما يمكن أن ألخص منها خلاصة في سبب نزول هذه الآيات المتعلقة بالإفك، وذلك أن النبي ﷺ كان إذا أراد غزوة أقرع بين نسائه، فلما أراد أن يغزو بني المصطلق، وهي غزوة المريسيع أقرع بين نسائه ﷺ فخرج السهم لعائشة -رضي الله عنها- فانطلق النبي ﷺ غازيًا، فلما قفل راجعًا إلى المدينة في طريق عودته، وكان ﷺ قد عرَّس في طريقه قريبًا من المدينة، فانطلقت عائشة -رضي الله عنها- ذاهبة إلى الخلاء، ثم التمست عِقدًا لها فلم تجده؛ فحبسها تطلّبه والبحث عنه، فلما رجعت لم تجد أحدًا، قد غادر القوم وارتحلوا، وكانت جارية خفيفة اللحم -رضي الله عنها- صغيرة في السن، لا تُفتقد حينما يحمل الرجال الهودج، كان يحمله مجموعة من الرجال رهط من الرجال، والهودج هو المكان الذي توضع فيه المرأة يحمل، ويوضع على البعير، وعليه غطاء يسترها، فحمل الرجال الهودج، ووضعوه على البعير، ولم يشعروا بها أنها غير موجودة في هودجها، ظنوا أنها في الهودج لوجود هذا الستار من جميع نواحيه، فلما جاءت لم تجد أحدًا فبقيت -رضي الله عنها- في مكانها ومنزلها الذي كانت نازلة فيه، في مقر الجيش، وذلك لذكائها وفطنتها -رضي الله عنها- لأنها عرفت أنهم إذا فقدوها سيرجعون على آثارهم وخطاهم حتى يجدوها، بينما لو ذهبت في كل اتجاه فقد تضل في هذه الصحراء التي لا حدود لأطرافها كما تعلمون.
فالمقصود أنها بقيت في مكانها، فغلبتها عينها -رضي الله عنها- مع كثرة السهر، وطول السفر، غلبتها عينها، فنامت -رضي الله عنها، وأرضاها- وكان من هدي النبي ﷺ أنه يترك رجلاً في آثار القوم، وذلك من أجل أن يحتاط لأصحابه -عليه الصلاة والسلام- يحتاط للجيش؛ لئلا تتبع آثارهم؛ ولأجل أيضًا أن يكون هذا الرجل كالذي يقفو آثار القوم فإذا سقط من متاعهم شيء، أو فقد منهم شيء، ومعلوم أن الرجال لربما يتساقطون من دوابهم، ورواحلهم مع كثرة السهر ومع طول المسير، ومن جرب ذلك عرفه ممن كانوا يسافرون على الدواب كالإبل، ونحوها، فلربما الرجل من شدة الإعياء سقط من دابته على الأرض، ولم يشعر، وذهب الناس، وتركوه، وهذا معروف، فالمقصود أنها بقيت في مكانها، فما أفاقت إلا على استرجاع صفوان بن المعطل رآها، فعرفها، وذلك أنه كان يراها قبل الحجاب، فلما نظرت إليه غطت وجهها بخمارها -رضي الله عنها- كما هو الشأن في أمهات المؤمنين، والصحابيات، والطاهرات من النساء في كل عصر، وزمان، ومكان، حيث يحتجبن الحجاب الكامل، فيغطين وجوههن، وجميع أجزاء البدن، فلا يرى الرجال الأجانب منها شيئًا لا قليلاً، ولا كثيرًا، فغطت وجهها، فأناخ راحلته، ولم يتكلم بكلمة فركبت -رضي الله عنها- ثم نهض البعير، وصار صفوان يمشي أمامها، وذلك لكمال عفته، واحتياطه لعرض رسول الله ﷺ لأنه لا يليق في هذه الحال أن يمشي خلف المرأة، فقد يتكشف منها شيء، ولا يليق أن يمشي بجانبها، وإنما يمشي أمامها؛ لئلا يرى منها قليلاً ولا كثيرًا، فصار يمشي بها فما أدرك القوم إلا في نحر الظهيرة، فلما رآهم عدو الله عبد الله بن أُبي بن سلول، قال: جزاه الله بما يستحق، قال: والله ما نجى منها، ولا نجت منه، ثم صار يفشي ذلك في الناس، وينشره، ويستوشيه، ويذيعه، وعلم رسول الله ﷺ بذلك، وكان ﷺ له حنكة، وسياسة، وخبر بالأمور، وتجربة، ومعرفة بما يصلح نفوس الناس، فسار النبي ﷺ بأصحابه سيرًا متواصلاً حثيثًا، ولم يكن من عادته -عليه الصلاة والسلام- أنه يواصل بهم المسير، كان شفوقًا رحيمًا -عليه الصلاة والسلام- يرأف بهم؛ فينزل كل حين يشعر أن أصحابه قد تعبوا من المسير، ولكنه في هذه المرة واصل بهم المسير، وذلك ليشغل الناس بالسير حتى يلحقهم التعب، ويضنيهم السفر، فإذا لامست جنوبهم الأرض، تساقطوا، فناموا، فلا يكون هناك مجالاً البتة للحديث، والوشاية، وقالة السوء، هكذا فعل رسول الله ﷺ فلما نزل بهم فإذا هم قد أعياهم السهر، وطول السفر، فما لامست جنوبهم الأرض حتى ناموا، ولم يكن لأحد مجال أن يتحدث، ولم يكن لأحد مجال أن يسمع، حتى وصل النبي ﷺ المدينة، وتلقف ذلك طائفة من ضعفاء الإيمان، وصاروا يقبلونه، ويتحدثون به في المجالس، وبقي رسول الله ﷺ شهرًا كاملاً، وهو في حال لا يعلمها إلا الله وعائشة -رضي الله عنها- غافلة عن ذلك كله، لم تعلم من ذلك بقليل ولا كثير، وذلك؛ لأنها كما وصف الله من الغافلات الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ [النور:23].
فالمقصود أنها -رضي الله عنها- لم تعلم بشيء من ذلك، وكانت معتلة مريضة بعد سفرتها هذه، فلما نقهت -رضي الله عنها- خرجت مع أم مِسطح، وهو مسطح بن أُثاثة جدته لأمه خالة أبي بكر الصديق خرجت إلى المناصع إلى الخلاء لم يكن عند الناس كُنف، فخرجت معها، وكان النساء يخرجن بالليل، فعثرت بمرطِها، فقالت: تعس مِسطح، فقالت لها عائشة: ويحك كيف تقولين ذلك لرجل شهد مع رسول الله ﷺ بدرًا، وهاجر معه، وشهد معه المشاهد، ثم عثرت مرة ثانية، فقالت أم مسطح: تعس مسطح، ثم عَثرت ثالثة، فقالت مثل ما قالت، وقالت لها عائشة كما قالت في المرة الأولى، فقالت: يا هنتاه يعني يا هذه أما بلغك ما قال فيك، فقالت: وما قال؟
فبقرت لها الخبر، فحزنت عائشة -رضي الله عنها- وجزعت لذلك جزعًا شديدًا، فرجعت إلى بيت رسول الله ﷺ ثم استأذنته أن تأتي إلى بيت أبيها، وهي تريد بذلك أن تسألهم، هل كان رسول الله ﷺ يسمع بشيء من ذلك؟ هل سمع بالخبر؟ هل بلغه ذلك؟
فاستأذنت النبي ﷺ فأذن لها، فذهبت إلى أبويها، وسألتهم عن ذلك، فقالت لها أمها: نعم، فبكت بكاء شديدًا، فحاولت أمها أن تهدئ من روعها، وأن تُسري عنها، ولكنها واصلت بكاءها، فما رقأت لها دمع حتى أصبحت، وهي لم تنم تلك الليلة، ولم تزل باكية -رضي الله تعالى عنها وأرضاها- وهكذا كانت -رضي الله عنها- حتى دخلت عليها امرأة من الأنصار لمواساتها، فدخل رسول الله ﷺ وهي بحضرة هذه المرأة، وبحضرة أبيها وأمها، فقال لها النبي ﷺ يا عائشة إن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله، وتوبي، فقالت عائشة -رضي الله عنها- وقد جف دمعها حينما أرادت أن تتكلم قالت: لأبيها وأمها: أجيبوا عني رسول الله ﷺ فقالوا: ماذا نقول؟
فقالت: والله إني لبريئة، وإن الله ليعلم أني بريئة، ووالله لو قلت قولاً أكون فيه كاذبة؛ فإنكم تصدقوني في ذلك، ووالله إن قلت لكم الحق والصدق، وأني بريئة، فإنكم لا تصدقوني، فقد سمعتم قولاً فصدقتموه، ولا أقول إلا كما قال أبو يوسف تقول: كنت جارية صغيرة لم أحفظ اسمه، ولم أكن أحفظ الكثير من القرآن إلا كما قال أبو يوسف : فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ [يوسف:18] ثم انقلبت لجنبها، واستمرت في بكائها -رضي الله عنها- فغشي رسول الله ﷺ ما كان يغشاه إذا نزل عليه الوحي، وكان في الليلة الشاتية يتحدر من جبينه الطاهر ﷺ مثل الجُمان -عليه الصلاة والسلام- من العرق، فلما سري عنه ﷺ حمد الله، وأثنى عليه، وقال: يا عائشة أبشري، فقد أنزل الله براءتك، فقالت أمها: قومي إلى رسول الله ﷺ فاحمديه، فقالت: والله لا أقوم له، وإنما أحمد الله الذي أنزل براءتي، ثم بعد ذلك قال أبو بكر الصديق : والله لا أنفق على مسطح بعد اليوم، فأنزل الله : وَلَا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [النور:22].
فالمقصود أيها الإخوان أن النبي ﷺ بقي هذه المدة الطويلة بقي شهرًا كاملاً يكابد همًّا عظيمًا أمثال الجبال، حتى إنه ﷺ استشار عليًا، واستشار الجارية، واستشار زيد بن ثابت، واستشار زينب بنت جحش، وسألهم عن عائشة -رضي الله عنها- بل وقف رسول الله ﷺ على منبره، وقال: من يعذرني من رجل بلغني أذاه في أهلي فقام أسيد بن حضير وفي بعض الروايات أن الذي قام سعد بن معاذ، وهذا فيه إشكال معروف عند أهل العلم، فقام، وقال: "يا رسول الله إن كان منا معشر الأوس ضربنا عنقه، وإن كان من إخواننا الخزرج أمرتنا بأمرك" فأخذت الحمية سيد الخزرج وكانت بينهما منافسة شديدة في الجاهلية فقال: "كذبت، والله فإنك لا تقتله، ولا تقدر على قتله" فقام أسعد بن زرارة قال: "بل كذبت أنت يا عدو الله إنك منافق تدافع عن المنافقين" فثار الحيان، وكادوا أن يقتتلوا، ورسول الله ﷺ على المنبر يسكنهم حتى سكنوا، فسكت -عليه الصلاة والسلام-[5].
إلى هذا الحد أيها الإخوة بلغت هذه القضية، فكان ذلك في هذه الغزوة في غزوة المريسيع، وذلك في السنة السادسة من الهجرة، وقيل في السنة الرابعة. وصفوان بن المعطل هذا قد شهد له رسول الله ﷺ بأنه لم يعلم عنه إلا خيرًا، وصفوان شهد مع رسول الله ﷺ كثيرًا من المشاهد، وقال عن نفسه: "والله ما كشفت كَنف امرأة قط".
وقد قتل شهيدًا في أرمينيا في السنة التاسعة عشرة للهجرة في زمن عمر بن الخطاب وقيل ببلاد الروم في السنة الثامنة والخمسين للهجرة، وهذا هو سبب نزول هذه الآيات التي سمعناها، وهي التي تتحدث عن قضية الإفك.
وأما ما يتعلق بوجه الارتباط بين هذه الآيات التي تتحدث عن قضية الإفك، وبين ما قبلها مما يتحدث عن هذه الفاحشة، وعن القذف، والرمي بها، فيمكن أن يقال: إن الله بعد أن فرغ من بيان حكم القذف أورد نموذجًا شنيعًا من هذا القذف يكشف عن قبح هذا الجرم، وهو يتناول بيت النبوة الطاهر الكريم، وعرض رسول الله ﷺ وهو أكرم إنسان على الله وعرض صاحبه الذي كان معه في الغار، وهو الصديق الأكبر وهو أكرم الناس من الرجال على رسول الله ﷺ، ويتناول عرض رجل من خيار أصحاب النبي ﷺ وهو صفوان بن المعطل، ويتناول عرض أحب النساء إلى رسول الله ﷺ في ذلك الزمان، وهي عائشة -رضي الله عنها-، وهذه القضية بقيت في هذه الأمة ذلك الوقت، وهو شهر كامل، الأمر الذي يدل على أن الناس إذا تركوا يتطاولون بألسنتهم أنهم يصلون إلى ذلك المرتقى السامق الرفيع، وأنهم لا يقفون عند حد، ولا يردعهم إلا حدود الله -تبارك وتعالى-.
الوقفة الثانية: مع قوله -تبارك وتعالى-: إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ [النور:11].
الإفك: هو الكذب، بل هو الكذب الشنيع المختلق المفترى الذي لا شبهة فيه، فالله يقول: وَالْمُؤْتَفِكَاتُ [الحاقة:9] وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى [النجم:53] فالمؤتفكة: هي المنقلبة، وهي قرى قوم لوط حيث أن الله قد رفعها، فأفكها: أي قلبها عليهم، ثم أتبعهم حجارة من سجيل منضود، فالمقصود أن هذا الإفك: هو الاختلاق للكذب، هو قلب الحقيقة، هو افتراء وبهت واضح لا شبهة فيه.
ومعنى جاءوا بالإفك: أي قصدوا، واهتموا، وأصل ذلك يقال في الذي يأتي بالأخبار الغريبة يقال: جاء بخبر كذا، وكذا؛ لأن شأن الأخبار الغريبة أنها تأتي مع الوافدين، إن الذين جاءوا بالأفك عصبة منكم هم ثلاثة، أو من الثلاثة إلى العشرة، أو من العشرة إلى الخمسة عشر، أو من العشرة إلى الأربعين، أو قيل: أربعون رجلاً، على كل حال.
الوقفة الثالثة: مع قوله -تبارك وتعالى-: لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ [النور:11] هو خير لأنه يكشف عن هؤلاء الكائدين للإسلام في شخص رسول الله ﷺ وأهل بيته، وهو يكشف أيضًا للأمة عن ضرورة تحريم القذف، وأخذ القاذفين بهذا الحد الذي فرضه الله ، وهو يبين مدى الخطر الذي يحيق بالأمة وبالمجتمع لو أطلقت هذه الألسن تقذف المحصنات الغافلات المؤمنات، فهي عندئذ لن تتوقف عند حد، ليس هناك رئيس، ولا مرؤوس، ولا عالم، ولا جاهل، ولا عابد، ولا فاجر، ستتطاول هذه الألسن أيها الإخوان، وتمضي صُعدا إلى أشرف المقامات، وتتطاول إلى أعلى الهامات، فلا بد أن يكون لذلك حد يوقفه كما أسلفت.
لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم وذلك فيما يقال من فوائد الشدائد، بحيث إن ذلك كشف المنافقين، وكان فيه رفع لدرجات المؤمنين الذين وقع عليهم هذا الافتراء، عائشة، وصفوان، والنبي ﷺ، وأبو بكر الصديق .
وأمر ثالث: وهو تساقط ضعفاء الإيمان، ومن لم يتربوا التربية المطلوبة، وتساقطهم في مثل هذه الأوحال.
وأمر رابع: فيه تربية للأمة بالحدث الكبير الذي تبقى معه الأمة شهرًا كاملاً تعيش أحداثه، أولا بأول لحظة بلحظة، وتعانيه معاناة كاملة، وتستشرف إلى تجلي الحقيقة، وإلى بيان الله لحكم هذه المقالة، ولكشف حال هؤلاء الذين تكلموا فيها، والذين اختلقوها، وجاءوا بها أول مرة؛ فتبقى النفوس متعطشة للوحي، مستشرفة له، فيحصل بذلك التمحيص، ويكون نزول هذا الوحي كنزول المطر على الأرض العطشى التي تتلقّفه، وتنتفع به.
وأمر خامس: وهو زيادة أوزار المنافقين لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ [النور:11].
الوقفة الرابعة: مع قوله -تبارك وتعالى-: وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ [النور:11] في قراءة الجمهور وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ بكسر الكاف، والمقصود الإثم، أو البداءة به، وفي القراءة الأخرى: (والذي تولى كُبره) بضم الكاف، والمراد به أكبر الإفك، وأعظمه، وهو أشد الشيء، وغالبه، والمقصود بذلك هو عبد الله بن أُبي على الأرجح من أقوال أهل العلم، حيث إنه هو الذي اختلقه، وابتدأ به، وهو الذي كان يجمعه، ويستوشيه، ويذيعه بين الناس.
والوقفة خامسة: مع تأديب الله لهذه الأمة بعد هذه الحادثة حيث أنزل الله هذه الآيات التي ضمنها تسعة زواجر يزجر بها الأمة عن الوقوع في مثل هذا العمل الشنيع، وعن التكلم في قالة السوء، وعن الخوض الباطل الذي خاض به بعض هؤلاء المنافقين، وبعض ضعفاء الإيمان.
هذه الزواجر التسعة أولها: في قوله -تبارك وتعالى-: لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ [النور:12].
والزاجر الآخر في قوله -تبارك وتعالى-: لَوْلَا جَاؤُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء [النور:13] هلا جاءوا عليه بأربعة شهداء.
والثالث في قوله: وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ [النور:14].
والرابع في قوله: إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ [النور:15]
والخامس في قوله: وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُم مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ [النــور: 16]
والسادس في قوله: يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَن تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ [النور:17]
والسابع في قوله: إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ [النور:19]
والثامن في قوله: وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّه رَؤُوفٌ رَحِيمٌ [النور:20].
والتاسع في قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ [النور:21].
والوقفة السادسة: مع قوله تبارك وتعالى: لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ [النور:12] هذا تأديب من الله لنا، كيف نتصرف حينما نسمع قالة السوء، سواء كان ذلك من قبيل قذف الأعراض بالفاحشة، أو كان ذلك من قبيل رمي أهل الإيمان، وأهل العفاف والطهر والصيانة، وأهل الفضل والصلاح بما يتنزهون عنه؟ بأي شيء تُرمى به أعراضهم، وبأي فرية تُقال عنهم في دينهم، أو في أخلاقهم، أو في أعراضهم، أو في غير ذلك مما يقوله المبغضون، والشانئون، وضعفاء الإيمان، وقليل التربية في المجتمع الإسلامي، وأهل النفاق مما يلمزون به أهل الفضل والصلاح والخير والإيمان، والدعوة إلى الله وإلى منهاجه وكتابه وسنة رسوله ﷺ، وهو أمر يكثر وقوعه على تطاول الأعصار، وعلى مر الليالي والدهور والأيام، يرمى أهل الخير والفضل والصلاح بأمور شتى، فما هو الواجب علينا أن نقول حينما نسمع قائلاً يتكلم عن أحد من هؤلاء بأمر سيئ.
يكتب بعض الناس في الشبكة العنكبوتية أشياء يرمي بها بعض الدعاة إلى الله أو بعض أهل العلم، وهو كذب مفترى، يكتبها بأسماء مجهولة، ونحن نعرف فضل هؤلاء، ونعرف صلاحهم، ونعرف دينهم، ولا نعرف هؤلاء المجاهيل، لا نعرف إلا أنهم يكتبون كتابات يفوح منها النفاق، ويفوح منها الكذب، ويفوح منها البُهت والافتراء، فهل نصدق ذلك أيها الإخوان؟
قبل أيام جاء أحد طلبة العلم بأوراق قد أخذها من هذه الشبكة، قد كتب أحد المجاهيل كلامًا طويلاً، يرمي فيه بعض الطيبين الصالحين من الدعاة إلى الله يرميهم بما يتنزهون عنه، وبما نقطع أنهم برآء منه، وينسبهم إلى أمور هم ينكرونها، فينبغي في مثل هذا أيها الإخوان أن يعلم هذا الناقل، ويقال له: بأنه لا يحل لك أن تنقل هذا، ولا أن تنشره في الناس، وإلا كنت مشارك لهذا الإنسان الذي يذيعه، والذي يفتريه، ويختلقه، فتكون معه في الإثم.
أقول: أيها الإخوان الله علمنا هذا الأدب: لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا هذه الآية تحتمل معنيين اثنين يمكن جمعهما تحت هذه الآية، يمكن اجتماعهما، وكلاهما صحيح وحق وصواب:
الأول: ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا أي رجع إلى نفسه، وقال: لو كنت مقامه هل أفعل هذا الفعل؟ فإذا قال عن نفسه حاشا وكلا أنا لا أفعل ذلك، فينبغي أن يحسن الظن، وينزل إخوانه منزلة نفسه: لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه[6].
هذا أبو أيوب الأنصاري جلس مع امرأته فقال لها، وفي بعض الروايات أنها هي التي قالت له: "أما سمعت ما قيل في عائشة -رضي الله عنها- "فقال: بلى سمعت يا أم أيوب، لو كنت مكانها هل كنت فاعلة لما رُميت به؟ قالت: حاشا وكلا، لا والله، فقال: ولو كنت في مكان صفوان لم أفعل ذلك، ووالله إن صفوان خير مني، وأن عائشة خير منك"[7] هذه التربية، هؤلاء رباهم النبي ﷺ فكان هذا مردودهم، وجوابهم، يرجع إلى نفسه فينظر هل يفعل؟ فإذا قال: لا أنا أتنزه عن هذا فلماذا ترمي به إخوانك إذًا؟ فهم أيضًا ينبغي أن تنزههم عن ذلك: ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ أفك ظاهر بين لكل ذي عينين، بين مبين واضح، يظهر منه الكذب ظهورًا جليًّا.
والمعنى الثاني: ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا النفوس المجتمعة على دين، على ملة واحدة هي بمنزلة النفس الواحدة، أحوالهم مستوية، دماؤهم مستوية، أموالهم مستوية: إن دماءكم، وأموالكم، وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا[8] فالنبي ﷺ بيّن ذلك، وهو أمر معروف.
ألم تر إلى قوله الله لبني إسرائيل في توبتهم المعروفة لما عبدوا العجل، قال الله لهم: فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ [البقرة:54] ما معنى: اقتلوا أنفسكم، هل يوجه أحدهم السلاح إلى نفسه، فيقتل نفسه؟
لا، ليس هذا هو المراد، وإنما المراد ليقتل بعضكم بعضًا، حتى قيل: وهي روايات إسرائيلية إن الله : ألقى عليهم الغمام، فصار الرجل يضرب بالسيف وجه أبيه، ويضرب وجه أقرب الناس إليه، وهو لا يعرفه، ولم يره حتى قُتل منهم في يوم واحد سبعون ألف رجل، فرفع الله ذلك عنهم، وقبل توبتهم: اقتلوا أنفسكم؛ أي: ليقتل بعضكم بعضًا[9].
وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ [البقرة:188] وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم: أي لا يأكل بعضكم مال بعض: وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُم مِّن دِيَارِكُمْ [البقرة:84] ثُمَّ أَنتُمْ هَؤُلاء تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِّنكُم مِّن دِيَارِهِمْ [البقرة:85] تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ هذا الله يعاتب فيه اليهود حيث إن بعضهم يغير على بعض، ويقتل بعضًا، والله حرم عليهم ذلك ثُمَّ أَنتُمْ هَؤُلاء تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ.
فالمقصود أيها الإخوان أن الوجه الثاني في هذه الآية هو: ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ [النور:12] أي: بإخوانهم؛ لأن نفوس أهل الإيمان بمنزلة النفس الواحدة.
الوقفة السابعة: مع قوله -تبارك وتعالى-: وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ [النور:14].
وذلك أن هذا الجرم الذي وقعوا فيه جرم كبير تلحق التبعة فيه في الدنيا والآخرة، فهذا مما قد تعجل عقوبته، ولذلك فإن الذي يفتري على الناس، ويقع في أعراضهم فإن عقوبته قد تعجل له في الدنيا، ومن أقرب ذلك أن يسلط الله عليه من يتتبع عثرته، ويبحث عن عورته، فيُلمز بمثل ما لمز به غيره، ويقع على أم رأسه فيفتضح، والعبد أيها الإخوان في هذه الحياة يسأل ربه دائمًا أن يلطف به، وأن يستره، والإمام أحمد -رحمه الله تعالى- لما مُدح قال للمادح: "إنما نعيش بكنف الله وستره، ولو رفعه عنا لافتضحنا" هذا الإمام أحمد يقول: "نحن نعيش بستر الله ولو رفعه عنا لافتضحنا" فكيف بغيره من المقصرين جدًا أيها الإخوان؟!
فينبغي للإنسان أن يكون شغله بنفسه، والله لم يكلفنا أن نتتبع عورات الناس، وأن نقع في أعراضهم هذا كذا، وهذا كذا، وهذا كذا، فإن ذلك يدل على أن العبد الذي يفعل هذا قد مُكر به -كما قال بعض السلف- فصار شغله بغيره، وكان ذلك سببًا لإعراضه عما هو بصدده من إصلاح نفسه، وتقويمها، فالوقوع في الأعراض أيها الإخوان ليست قضية سهلة، وإنما ينبغي الحذر من ذلك، فإن عقوبته تلحق في الدنيا، وتلحق في الآخرة.
مع قوله -تبارك وتعالى-: إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ [النور:15] هذا التعبير أيها الإخوان لاحظوه فيه استحضار صورة حديثهم في الإفك، وتفظيعها، وانظر إلى هذا التعبير: إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ أصل التلقي هو التكلف للقاء الغير، ولكن قد يتساءل الإنسان لماذا قال الله : إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ ومعلوم أن الإنسان إنما يتلقى الأخبار بسمعه، ولا يتلقاها بلسانه، فكيف قال الله : إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وفي القراءة الأخرى كما كانت تقرأ عائشة -رضي الله عنها- وفي البخاري: تَلِقُونه[10] من ولق اللسان، يعني: الكذب الذي يستمر صاحبه عليه، فالمقصود كيف عبر بهذا: تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ؟
يمكن أن يقال: بأنهم لما كان الواحد منهم يتلقى للنشر عُبِّر بالغاية؛ يتلقى لينشر، والنشر يكون بماذا؟
يكون باللسان، عبر بالغاية كأنهم يتلقون بالألسن، ويجاب بجواب آخر: وهو أن في هذا إشارة إلى سرعة نشرهم لقالة السوء، كأن الكلام لا يقع على الأذن، وإنما يقع مباشرة على اللسان الذي يبادر بنقله، فلهذا قال: إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ ما قال: تلقونه بأسماعكم، وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم.
الوقفة التاسعة: مع قوله -تبارك وتعالى-: وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ [النور:15] لاحظ هذا التعبير القرآني، وهو أن الله قيد القول بالأفواه، ومعلوم أن الإنسان إنما يقول بفمه، فهذا يمكن أن يؤخذ منه -والله تعالى أعلم- في هذا المقام، فيقال: إنه يدل على أن هذا كذب مفترى مختلق، لا حقيقة له؛ لأنه قول لا يتجاوز الأفواه، فليس له من أرض الواقع نصيب، ليس له حقيقة إطلاقًا، وإنما هو شيء يقال بالأفواه، ولا يتجاوزها إلى أرض الحقيقة: وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم. هو قول لا يجاوز الأفواه، كذب، لا حقيقة له.
والوقفة العاشرة: مع قوله: وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ [النور:15] يحتاج الإنسان أيها الإخوان أن يقف مع نفسه، ويتذكر أن النبي ﷺ أخبرنا: وإن الرجل يتكلم بالكلمة من سخط الله ما يظن أن تبلغ ما بلغت فيكتب الله عليه بها سخطه إلى يوم يلقاه[11]، وفي بعض الروايات: لا يلقي لها بالا يهوي بها في النار جهنم[12] وفي الرواية الأخرى: يكتب الله عليه بها سخطه إلى أن يلقاه[13].
كلمة ما كان يظن أن تبلغ ما بلغت، لم يبالِ بها، قالها وهو لم يقف عندها، فبلغت هذا المبلغ عند الله ينزل في النار يهوي سبعين خريفًا، سبعين سنة فترة نزوله في النار على كلمة واحدة، أو يكتب الله عليه بها سخطه، ولا تعارض؛ لأن هذا الذي هوى في النار سبعين خريفًا قد سخط الله عليه، يكتب الله عليه بها سخطه إلى أن يلقاه يقوم، ويقعد، وينام، ويمشي، ويتحرك يتقلب في سخط الله، وما الخير في العيش أيها الإخوان إذا كان الإنسان يضحك بملئ فيه، والله ساخط عليه، ويأكل، وينام، ويذهب، ويجيء، وهو يتقلب في سخط الجبار فينبغي للإنسان ألا يستسهل ذلك، وأن لا يطلق لسانه في الكلام؛ لأن ذلك قد يورده المهالك، قد يهلك بسبب كلمة يقولها.
وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا [النور:15] سهلاً بسيطًا، لا تبعة فيه: وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ [النور:15] لما قالت إحدى أمهات المؤمنين لرسول الله ﷺ عن صفية: حسبك منها أنها كذا وكذا: يعني يكفيك أنها قصيرة، ماذا تريد بها، المنافسة كانت محتدمة بين عائشة -رضي الله عنها- وصفية، فتغار المرأة على ضرتها، ففي فترة، أو في وقت، أو في لحظة غيرة غضبت عائشة -رضي الله عنها- على أعظم أزواج النبي ﷺ منافسة لها، كما في قصة الإفك نفسها حيث قالت: ولم يكن يساميني أحد من أزواج النبي ﷺ سوى زينب، لا يوجد واحدة تقاربها في الحسن، والجمال، والشرف، والنسب، والقرب من رسول الله ﷺ سوى زينب، فقالت: حسبك منها أنها كذا وكذا، يعني: أنها قصيرة فقال: لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته[14].
إشارة فقط يا إخوان، فكيف بالذي يفري أعراض الناس صباح مساء، وليس له شغل إلا في الحديث عن فلان، وعلان، وتلك المرأة قصيرة، وتلك طويلة، وذلك يفعل، وذلك يترك ما شأنك في الناس؟!
يمكن أن تستعيض عن هذا بما هو خير لك، قل: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، وإذا ابتليت بمن يفري أعراض الناس في مجلسك، وحضرتك، فقل له: سبح، أشغلنا بالتسبيح، أشغلنا بذكر الله لا تشغلنا بفري أعراض المسلمين، فإن الحسنات قليلة، والأوزار عظيمة، فلسنا على استعداد أن نهب هذه الحسنات القليلة لغيرنا من أجل سواد عينيك.
ماذا تستفيد إذا وقعت في أعراض الناس ماذا تستفيد؟
هو أمر يزينه الشيطان قد يتلذذ به بعض الناس، ويستمتع حينما يتفكّه في أعراض المسلمين، لكن لو فكر ماذا يستفيد؟
إذا أردت أن تقول الكلمة؛ توقف، هذا اللسان دونه أسنان، ودونه الشفاة جعل الله دونه سجنين اثنين: هذه الأسنان، وهذه الشفاة أمسك لسانك: وهل يكب الناس على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم[15] هل يكبهم في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم؟
فبدلاً من أن تتكلم في عرض أحد اشتغل بالتسبيح: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، وإذا رأيت من يفري؛ قل له: سبح سبح، فإن أبى؛ فقم، ودع له هذا المجلس يفري مع نفسه.
الوقفة الثانية عشر: مع قوله: إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ [النور:19] هذه آية عظيمة جدًا نحتاج أن نتبصر بها: إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا يدخل فيه طوائف كثيرة من الناس، يدخل فيه أصناف من الخلق، الذي يتكلم بالفاحشة، وينشرها بين الناس، وينشر قالة السوء داخل في هذا، الذي يتكلم بهذه القضايا يحب أن ينتشر ذلك بين المؤمنين إما حسدًا، وكراهية لهم، وإرادة للانتقام -كما قال بعض السلف-: المرأة الزانية تحب أن جميع النساء زواني[16] لماذا يتميزون عنها بالعفاف؟ ولذلك تحاول إغواء أكبر قدر من النساء العفيفات الطاهرات، وهذا أمر ينبغي أن يُدرك، وأن تحذر الأخوات من مثل هؤلاء النسوة، وقد يُفشي ذلك، وينشره محبة للفاحشة، فإن من أحب شيئًا أكثر ذكره، وترداده، حديثه وديدنه ما بين السرة والركبة -أعزكم الله-، لأنه مريض القلب، يستمتع بمثل هذا الحديث، ويتلذذ به، فهو يجد أُنسه ولذته وراحته حينما يتحدث عن مثل هذه القضايا، والفعل أيها الإخوان أي فعل من الأفعال يُطلب تارة بالأمر به، افعلوا كذا، وتارة يُطلب بطريقة غير مباشرة، عن طريق القصص، والإخبار، وحكايات تحرك الغرائز في النفوس، وتزين الفواحش للسامعين، ولذلك تجدون أن الفجرة كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: يأنسون، ويلتذون بأخبار الفجار من أصحاب هذه الفواحش حينما يذكرون أخبارهم، وقصصهم، ويتهافتون على قراءتها، كما أن أهل الإيمان ينتفعون غاية الانتفاع بأخبار الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- وأخبار أتباع الأنبياء من الصالحين، والعلماء، والمجاهدين، وغيرهم من صالح الأمة.
أيها الإخوان هذا أمر مشاهد لا ينكره أحد، أهل الإيمان يعتبرون بأخبار أهل الصلاح، والفضل، وأهل الشر يلتذون بأخبار الفجار، وحكاياتهم، ومغامراتهم، وعلى كل حال كل ما رغّب النفوس في الفواحش، وسهّل ذلك عليها، ومهّد الطريق لها، فهو داخل في هذا المعنى، وهو أمر يبغضه الله ويسخطه، كما أن كل أمر يرغب بطاعة الله ويسهل ذلك، ويكثر المعروف في المجتمع هو أمر يحبه الله -تبارك وتعالى-.
فالدعاء إذًا إلى الفواحش: تارة يكون باللسان، وتارة يكون بالمقال، وتارة يكون بالكتابة، وتارة يكون بالفعل، وتارة يكون بغير ذلك من ألوان التصرفات التي يستدعي فيها هذه القبائح، ويذيعها، وينشرها في المجتمع، ومن رضي عمل قوم؛ حشر معهم، وكان في حكمهم، وكان منهم، فمن يدخل في هذا أيها الإخوان: إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ.
المحبة تكون شيئًا قلبيًا، فمن أحب ذلك بقلبه فحسب؛ فهو داخل في هذا الوعيد، داخل في هذه الآية، فكيف لو زاد بقوله، أو فعله بجوارحه؟ فالذي يكتب الكتابات التي تحرك الغرائز داخل في هذا، الذي يطعن في الحجاب، ويطالب بالاختلاط وبالسفور، ويستهزئ بالعفاف، وبالمرأة العفيفة، ويصمها بأنها رجعية داخل في هذا، هو ممن في قلبه مرض، الذي يُنشئ قناة تبث الفساد والعُري والاختلاط داخل في هذا المعنى، الذي يقيم برنامجًا يجمع فيه الشباب والفتيات في أوضاع مزرية تنقل عشرات الكاميرات جميع تصرفاتهم، وتبذّلهم، وما يعافسونه من قلة الحياء، وخوارم المروءة، وذهاب الدين، والفضيلة، والخُلق داخل في هذا.
والذي يذيع هذا البرنامج، ويذكر مزاياه إذا كانت لها مزايا لكنها في نظره المعكوس، وذوقه المقلوب، وينشر دعاية بكتابة صحفيّة، أو غير ذلك داخل في هذا المعنى، كل من صور صورة ونشرها بين الناس فيها العري والتبذل فهو داخل في هذا المعنى، كل من دعا إلى الفاحشة بكل وسيلة من الوسائل، وخروج المرأة فهو داخل في هذا المعنى، وغن تكلم بكلام يغلّفه بالحرص على مصلحة المجتمع، كما يقول أولئك المفترون الأفاكون الذين جعلوا من أنفسهم مدافعين عن قضية المرأة، وكأن المرأة قد وكلتهم أن يتحدثوا بالنيابة عنها، يكتبون بأسمائهم الصريحة، وبأسماء مستعارة، وفي كثير من الأحيان يكتبون أعمدة كتابة يومية بأسماء نساء، وهو كذب مختلق، وإنما يكتبه رجل، ذئب أطلس.
هؤلاء الذين يكتبون بأسماء نساء يطالبن بأمور هم يجرأن المرأة على المطالبة بأمور لا تليق، هؤلاء الذي يتكلمون عن تعطيل نصف المجتمع، وهضم حقوق المرأة؛ لأنها محجبة، ويصورون المحجبة كأنها قابعة في قبر داخلون في هذا المعنى، وقبل أيام في الأسبوع الماضي أذيع برنامج عن المرأة عن مسلمات بلا حجاب، مسلمات بلا حجاب، وكان مما قيل في ذلك البرنامج: إن أحكام اللعان، وحد الزنا لعنة تطارد المرأة المسلمة، ماذا يريد هؤلاء؟
هؤلاء ممن يحب أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا، ويُخشى على أولئك أيضًا الذين يفصلون الأزياء العارية، والذين يروجونها، ويسوقونها، ويبيعونها يخشى عليهم أن يدخلوا في عموم هذه الآية؛ لأن هذا التعري لا شك أنه مجلبة لهذه الموبقات.
وكذلك أيضًا كما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: بأن المغني مؤذن الزنا[17]، فالذي يغني هو يدعو إلى تحريك هذه الغرائز في نفوس الناس، ولهذا جاء عن بعض خلفاء بني أمية، وجنبوه النساء[18]، لما له من تأثير على عواطف المرأة، وقلبها، فيحرك ذلك نفسها، وغريزتها، والعجب لا ينقضي من رجل يسمح لبنته، أو زوجته أن تسمع مغني يغني، أو أن تشاهد مشاهدًا غير لائقة عبر الشاشة الفضائية: إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ [النور:19]؛ فينبغي الحذر أيها الإخوان، والتوبة إلى الله فلا يكون الإنسان رسولاً للشيطان، وداعية إلى الفساد، وإنما يكون داعية إلى الخير: ومن كان يؤمن بالله، واليوم الآخر فيقل خيرًا أو ليصمت[19] ومن ابتلي بشي من القاذورات، فاستتر بستر الله عليه فأمره إلى الله ولكن ذلك لا يستدعي أن يتحول إلى داعية يتحمل أوزار الآخرين على ظهره يوم القيامة: من دعا إلى هدى، كان له من الأجر مثل أجور من تبعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا، ومن دعا إلى ضلالة، كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه، لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا[20] أو كما قال النبي ﷺ.
نسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، ويجعلنا وإياكم هداة مهتدين، غير ضالين ولا مضلين، وأن يرحم موتانا، ويشفي مرضانا، وأن يجعل آخرتنا خير من دنيانا، وأسأله -سبحانه- أن يفرج عن إخواننا في كل مكان، في العراق، وفي أفغانستان، وفي الشيشان، وفي كل أرض يذكر فيه اسمه -تبارك وتعالى-، أسأل الله أن يلهمنا رشدنا، وأن يقينا شر أنفسنا، وأن يرينا الحق حقًا وأن يرزقنا اتباعه، وأن يرينا الباطل باطلاً وأن يرزقنا اجتنابه.
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.
- أخرجه البخاري، كتاب الشهادات، باب إذا ادعى أو قذف، فله أن يلتمس البينة، وينطلق لطلب البينة، برقم (2671).
- أخرجه البخاري، كتاب الطلاق، باب من أجاز طلاق الثلاث، برقم (5259).
- أخرجه البخاري، كتاب الحيض، باب ترك الحائض الصوم، برقم (304)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب بيان نقصان الإيمان بنقص الطاعات، وبيان إطلاق لفظ الكفر على غير الكفر بالله، ككفر النعمة والحقوق، برقم (79).
- أخرجه البخاري، كتاب الطلاق، باب يبدأ الرجل بالتلاعن، برقم (5307)، ومسلم، كتاب الطلاق، باب انقضاء عدة المتوفى عنها زوجها، وغيرها بوضع الحمل، برقم (1493).
- أخرجه البخاري، كتاب الشهادات، باب تعديل النساء بعضهن بعضا، برقم (2661)، ومسلم، كتاب التوبة، باب في حديث الإفك وقبول توبة القاذف، برقم (2770).
- أخرجه البخاري، كتاب الإيمان، باب من الإيمان أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه، برقم (13)، ومسلم، كتاب المساقاة، باب أخذ الحلال وترك الشبهات، برقم (1599).
- انظر: تفسير الكشاف، للزمخشري (3/218).
- أخرجه البخاري، كتاب المغازي، باب حجة الوداع، برقم (4402).
- انظر: مراح لبيد لكشف معنى القرآن المجيد، للجاوي (1/239).
- أخرجه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ} [النور: 15]، برقم (4752).
- أخرجه الترمذي في سننه، أبواب الزهد، باب في قلة الكلام، برقم (2319)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة، برقم (888).
- أخرجه البخاري، كتاب الرقاق، باب حفظ اللسان، برقم (6478).
- أخرجه ابن ماجه في سننه، كتاب الفتن، باب كف اللسان في الفتنة، برقم (3969)، وصححه الألباني في التعليقات الحسان، برقم (281).
- أخرجه أبو داود في سننه، كتاب الأدب، باب في الغيبة، برقم (4875)، وصححه الألباني في الجامع الصغير، برقم (9271).
- أخرجه ابن ماجه في سننه، كتاب الفتن، باب كف اللسان في الفتنة، برقم (3973)، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (5135).
- انظر: الاستقامة، لابن تيمية، (2/257).
- انظر: مجموع الفتاوى، لشيخ الإسلام (15/349).
- انظر: سير أعلام النبلاء، للذهبي (5/376).
- أخرجه البخاري، كتاب الأدب، باب من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره، برقم (6018)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب، برقم (47).
- أخرجه مسلم، كتاب العلم، باب من سن سنة حسنة أو سيئة ومن دعا إلى هدى أو ضلالة، برقم (2674).