الثلاثاء 17 / جمادى الأولى / 1446 - 19 / نوفمبر 2024
من قوله تعالى "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ" - إلى قوله "الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ.."الآيات [21-26]
تاريخ النشر: ١٥ / ربيع الأوّل / ١٤٢٥
التحميل: 910
مرات الإستماع: 1343

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ۝ وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ۝ إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ۝ يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ۝ يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ ۝ الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ۝ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ۝ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ۝ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ ۝ قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ ۝ وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ۝ وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ۝ وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ ۝ وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلاً مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ [النور:21-34].

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

الوقفة الثالثة عشرة: مع قوله -تبارك وتعالى-: يَا أيها الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء وَالْمُنكَر [النور:21].

الله ينهى أهل الإيمان، وخصهم بهذا الذكر والخطاب؛ لأنهم المتأهلون للقبول فهم الذين أعلنوا الإذعان والاستسلام ومن شأن من أعلن الإذعان والاستسلام أن يتقبل عن الله، فالله ينهى عباده من أهل العبودية الخاصة أعني المؤمنين ينهاهم عن اتباع خطوات الشيطان، والمراد بخطوات الشيطان هو اتباع ما يمليه الشيطان وما يأمر به، وما يزينه من المنكر، وما يزينه من الباطل والفاحشة، هذه: خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ، وهذا التعبير له دلالة خاصة إذ أنه يدل على أن الشيطان لا يزال بالعبد شيئًا فشيئًا حتى يوقعه في الفخ، فهذه هي خطواته، هي مسالكه وطرائقه التي يزين بها المعصية لبني آدم.

فالله ينهى عن اتباعها: لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ والأصل أن النهي للتحريم.

وخطوات الشيطان هذه ليس لها حد، وإنما يتفنن بها فهو يأتي لكل عبد بحسب حاله، فإذا كان العبد يميل إلى الشدة دخل عليه من هذا الباب؛ من باب الإغلاظ على أهل الباطل، والإغلاظ على أهل المنكر، والإغلاظ على أعداء الله فيتجاوز الحد الذي ينبغي أن يقف عنده، وإذا وجد في قلبه ميلاً إلى التعبد فإنه يدخل عليه من هذا الباب، فيقع العبد في شيء من الغلو والابتداع في دين الله فيبالغ، كما جاء أقوام إلى بيوت النبي ﷺ رجال يسألون عن عبادته فلما أخبروا بها كأنهم تقالوها رأوها قليلة، فقال أحدهم في الحديث المعروف: "أما أنا فأقوم ولا أنام، وقال الآخر: أصوم ولا أفطر، وقال الثالث: لا أتزوج النساء"[1]، فأنكر عليهم النبي ﷺ ذلك.

وإذا رأى في العبد ميلاً إلى ملاذ الدنيا من جهة العمران والمساكن دخل عليه من هذا الباب، قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ [الأعراف:32]، فيلج على العبد من هذه الناحية حتى يشغله عما هو بصدده، فيكون شغله في ثوب يلبسه، وسيارة يركبها، وبيت يسكنه، وإذا رأى في قلب العبد ميلاً إلى العلم دخل عليه من هذا الباب فأشغله بهذا العلم عما هو بصدده من العمل، فيكون طالبًا للعلم من أجل العلم فقط، ولا يرى لذلك أثر على سمته ودله وأخلاقه وأعماله وعبادته وقيامه بأمر الله بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهكذا لربما أدخله في أمور تتعلق بالعلم لا ينبغي له أن يدخل فيها، الدخول في الدقائق والأمور التي لا يحسن الاشتغال بها، ولم نُكلف البحث عنها كما وقع لطوائف من هذه الأمة، فضلوا بسبب هذا الاشتغال.

بل لربما دخل على العبد من ناحية العلم، بأن يبرر لنفسه اتباع خطوات الشيطان ومسالك الشيطان، فإذا وقع في شيء مما لا يليق أن يواقعه قال: هذا من اللمم: إِلَّا اللَّمَمَ [النجم:32]، وإذا وقع في فاحشة قال: وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [آل عمران:135]، فيزين لنفسه الوقوع في الفواحش، ويقول: أنا لا أصر على ذلك، وأستغفر الله بعدها، فالعلم مطلوب، ولكنه كالمطر، والنبي ﷺ قد قال: وإن مما أنبت الربيع ليقتل حبطًا أو يلم إلا آكلة الخضرة[2]، فهذا الربيع هذا المطر يخرج ألوان الزينة الأرضية من أنواع النباتات التي تأكلها الدواب، ولكن هذا الربيع مع أنه خيرًا إلا أنه يقتل بعض هذه الحيوانات، وذلك إذا أخذ الإنسان هذا العلم بغير طريقه الصحيح ووظفه توظيفًا يبرر لنفسه فيه اتباع الرخص، رخص الفقهاء، والخروج عن طاعة الله فإن ذلك العلم يكون ضارًا له، ولذلك فإن الفقيه إن لم يكن قد زم ذلك بتقوى الله فإنه يفسد إفسادًا لا نظير له مما يفسده الجهال؛ لأن الفقيه يبرهن لهم على صحة هذه المسالك التي يفتي بها الناس وهي مما يسخط الله .

وهكذا في ألوان الانحرافات التي يزينها الشيطان للإنسان، النظر طريق وخطوة من خطوات الشيطان، القضايا الكبار الفواحش الموبقات جعل الله دونها سياجًا؛ فالإشراك بالله جعل الله حوله سياجًا البناء على القبور يؤدي إلى الشرك، فنهى الشارع عنه.

الكتابة على القبور تؤدي إلى تقديسها وتعظيمها فهو خطوة، فنهى الشارع عنه.

الصلاة إلى القبور قد يؤدي إلى عبادتها، فنهى الشارع عنه، ولو كان لله .

وهكذا فيما يتعلق بالتصاوير حيث إن قوم نوح قد عبدوا هؤلاء الأوثان من دون الله بسبب فتنة التصاوير فحرمها الشارع؛ لأنها من ذرائع هذا الإشراك، فهي خطوة من خطوات الشيطان.

فالشيطان يأتي إلى الإنسان ويقول له: نحن لا نعبد صاحب هذا القبر، ولكن ينبغي أن نضع له قبرًا يليق بمنزلته أو نكتب عليه شيئًا يعرفنا به من أجل زيارته، أو أن نصور هذه التصاوير من أجل الذكرى، ثم لا يزال الشيطان بابن آدم شيئًا فشيئًا حتى يوقعه فيما نهاه الله عنه.

وهكذا فيما يتعلق بالزنا، جعل الله حوله سياجًا نهى عن إطلاق الأبصار؛ لأن البصر بريد القلب، فهو مقدمة للزنا؛ لأن الإنسان ينظر أولاً ثم يعلق ذلك في قلبه، ثم يبدأ هذا القلب يشتغل بالأفكار والخواطر والإيرادات حتى يحقق مطلوبه من هذه الشهوات التي كان مبدأها في النظر.

فالنظر خطوة من خطوات الشيطان لا يجوز للإنسان أن يقول أنظر ثم أنظر، أنظر لأنظر، أنظر لمجرد الاطلاع، ولربما جاء للإنسان وقال: انظر ما يقول هؤلاء؟! تحقق مما يقولون، أنت إنسان قد أعطاك الله العقل افتح هذه المواقع في الإنترنت التي يقال فيها ألوان الفواحش، افتح هذه القنوات انظر إليها مرة لتكون على دراية بما يدور في واقع كثير من الناس؛ لتكون على معرفة بما يدبره أعداء الإسلام لأبناء المسلمين.

ثم ينظر فتكون هذه النظرة مصيبة لسويداء قلبه، ولا يستطيع بعد ذلك أن يتخلص من آثار هذه النظرة؛ فيمرض قلبه، ويكون شغل هذا القلب هو التفكير بالشهوات والفواحش وتطلّبها والبحث عنها، ولربما أورثه ذلك إدمانًا حتى يصير ذلك شغله وديدنه، فهو لا يفكر إلا فيه ولا يقرأ إلا في هذه الأمور، ولا يشاهد إلا ذلك ولا يقضي وقته إلا في البحث عنها، حتى لربما أن بعضهم ضيع حقوق عياله وأهله فيما نسمع وصار عبدًا لهذه المشاهد التي ينظر إليها عبر هذه الشاشة، هذه خطوة من خطوات الشيطان.

وكذلك حرّم الله وهو من جملة هذا السياج على الزنا؛ حرّم على النساء الخضوع بالقول: فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ [الأحزاب:32]، وحرّم عليهن إبداء الزينة، والتبرج، والاختلاط، وحرّم عليهن الضرب بالأرجل -كما سيأتي- لتسمع الزينة الخفية[3]، وحرّم على المرأة أن تخرج متطيبة متعطرة[4]؛ لأنه يوجد عند الإنسان في حاسة شمه أمور تتعلق بتحريك غريزته الجنسية كما هو معروف، وهذا أمر يقرره الأطباء في عصرنا الحاضر.

فنهى المرأة أن تخرج متعطرة؛ لئلا تتحرك الغرائز، وحرّم الغناء؛ لأنه ينبت النفاق في القلب[5]، وهو كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "المغني مؤذن الزنا"[6]، فالمرأة إذا سمعت المغني يغني لربما أثر ذلك في نفسها وحركها وجذبها إلى ما لا يليق، وهكذا الرجل، فأقول: الإسلام حرّم هذه الأمور جميعًا.

وقل مثل هذا في سائر الأبواب.

وكم من إنسان قد غفل عن هذا الجانب وأتبع النفس هواها فذهب ونظر أو سافر؛ ليتعرف بزعمه، ولينظر وليقف على الأمور بنفسه؛ فكان ذلك سببًا لوقوعه على أم رأسه.

وقد قيل: "من عرّض نفسه للفتنة أولاً لم ينج منها آخرًا"[7].

فلا يصح بحال من الأحوال أن يجعل الإنسان نفسه عرضة لكل آسر وكاسر.

وهكذا في باب الشبهات، لربما يجلس الإنسان ويقول لنسمع ما يقول هؤلاء من أصحاب الشبهات، لربما في وقت مضى لا يستطيع كثير من العامة أن يصلوا إليهم؛ لأنهم يعيشون في بيئة طيبة، ولكن في هذا الوقت صار الواحد يستطيع أن يصل إلى كل ضلالة في الوجود بكل يسر، وهو في داخل بيته، عن طريق الإنترنت، يدخل إلى أي موقع، لأي فرقة ضالة، ويستطيع أن يسمع بأذنه، وأن يقرأ، كما أنه يستطيع أن يفتح قناة من هذه القنوات وينظر إلى المناظرات مع أهل الضلال، ولربما كان لبعضهم لسان يزين فيه الباطل، ويلبّس الحق، فيقع ذلك في قلبه فتقع الشبهة ولا تخرج منه، ولربما كان الرد أضعف من الشبهة، فكم من إنسان  دخل في هذا الباب من الشبهات فصار ذلك سببًا لضلاله وغوايته، وكم من رجل كما حفظ لنا التاريخ ذهب إلى آخر قال من أجل أن أصده عن هذا الباطل فجلس معه وكلمه فما زال به حتى صار على ملته، واقرأوا ترجمة عمران بن حطان في المرأة التي كان يحبها من الخوارج، ثم بعد ذلك أراد أن يتزوجها؛ من أجل أن يردها عن قول الخوارج فصار من كبار قادتهم[8].

وهناك أمثلة أخرى كلها في ذلك، فهذه هي خطوات الشيطان ومن ثم فلا ينبغي للإنسان أن يطلق نظره، ولا يرخي سمعه، ولا يذهب برجله إلى حيث تكون هلكته: وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً [الإسراء:36]، لا تتبع ما ليس لك به علم فكل شبهة وشهوة داخلة في هذا المعنى، فالسلامة كل السلامة أن ننأ بأنفسنا عن مواطن الشهوات، وعن مواطن الشبهات: لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء وَالْمُنكَر [النور:21]، هذه هي النتيجة؟ الذي يتبع خطواته ويطيعه فإنه لا يأمره بالخير والمعروف وطاعة الله وطاعة الرسول ﷺ، بل يأمره بمعصية الله ومعصية رسوله، ومقارفة الفواحش والمنكرات، فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء وَالْمُنكَر.

والفحشاء: هي كل ذنب عَظُم، وإن كانت أكثر ما تطلق في عرف الاستعمال على ما يتعلق بالزنا وما في معناه، والمنكر: أعم من ذلك؛ إذ أن المنكر يشمل المنكرات بجميع أنواعها الصغار والكبار، وأما الفحشاء: فإنها في عظائم المنكر.

وبعض أهل العلم كشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- يقولون: "ربما يكون التفريق بين الفحشاء والمنكر هنا مع أنهما من باب المنكرات الفحشاء تتعلق بالشهوة"[9]، هي نوع من المنكر له ارتباط بالشهوة ومحركه الشهوة، وأما المنكر: فإنه أعم من ذلك، فإذا ذكر المنكر وحده فالمراد به جميع المنكرات بما فيها الفواحش، وإذا ذكرت الفحشاء: فهي في عظائم المنكر بما فيها الزنا وما في معناه.

هذا هو وجه الجمع بين الفحشاء والمنكر والفرق بينهما، والله قد يقرن بين المنكر وبين غيره، وبين الفاحشة وبين غيرها، كما يقرن أحيانًا بين المعروف وبين غيره، كما قال الله : لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ [النساء:114].

فالصدقة والإصلاح بين الناس كلها من المعروف؛ فهي من أبعاضه وأجزائه، ولكنه خصها لمعنى يتصل بها، وهكذا في مثل قوله -تبارك وتعالى- في هذه الآية: فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء وَالْمُنكَر، وهكذا في قوله -تبارك وتعالى- عند ذكر الفواحش بأنه: وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ [النحل:90]، فذكر مع الفحشاء المنكر والبغي، والمقصود بـالبغي: هو المظالم والشرور والآثام المتعدية إلى المخلوقين، الأذى المتعدي إلى الناس هذا كله من البغي.

الوقفة الرابعة عشرة: قوله تعالى: وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَن يَشَاء وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [النور:21].

يؤخذ من هذه الآية ما يلي:

أولاً: أن الإنسان لا يزكي نفسه، والله يقول: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ بَلِ اللّهُ يُزَكِّي مَن يَشَاء [النساء:49]، فأنكر عليهم هذه التزكية، ونهانا عن تزكية الأنفس، وقال: هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى [النجم: 32].

ثانيًا: وهي أن هذه الآية تدل على أن موانع التزكية من القوة بحيث تتعذر التزكية معها لولا فضل الله على الإنسان، موانع التزكية وهي كثيرة جدًا مما يجذب الإنسان إلى الأرض، وإلى الشهوات؛ لأنه مجبول على الميل مع الهوى ومحبة هذه الشهوات: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ [آل عمران:14].

فإذا كانت هذه الموانع والجواذب قوية جدًا والله يقول: وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا فينبغي على الإنسان أن يجاهد الهوى، وأن يجاهد النفس؛ في سبيل الرقي بها، والترفع عن الشهوات ومعافسة الأهواء والمنكرات، المسألة تحتاج إلى مجاهدة فلا يزكو الإنسان ويرتفع بسهولة وإلا صار الناس جميعًا أزكياء ألا ترون الناس كما أخبر الله في الأعم الأغلب ممن يتبعون الشهوات وممن أطاعوا الشيطان، وقد صدق عليهم ظنه في ذلك فاتبعوه إلا فريقًا من المؤمنين، فهؤلاء القلة هم الذين جاهدوا نفوسهم، والله يقول: وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا ۝ وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا ۝ وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا ۝ وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا ۝ وَالسَّمَاء وَمَا بَنَاهَا ۝ وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا ۝ وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا ۝ فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا [الشمس:1-8]، ثمانية أقسام على قضية واحدة: قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا ۝ وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا [الشمس:9-10]، فعلق الفلاح بتزكية هذه النفوس: وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى ۝ فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى [النازعات:40-41] فنهى النفس عن الهوى هو حقيقة التزكية فحمل النفس على طاعة الله يحتاج إلى صبر على الطاعة ويحتاج إلى صبر على فطام النفوس عن أهواءها وشهواتها وملذاتها، وقد قال النبي ﷺ كما في حديث زيد بن أرقم : اللهم آت نفسي تقواها، وزكها أنت خير من زكاها[10].

فإذا كان النبي ﷺ وهو من هو يدعو ربه أن يؤتي نفسه تقواها، وأن يزكيها، فنحن من باب أولى، والحديث مخرج في صحيح مسلم.

ثالثًا: وهو أن من تزكية النفوس العفو والصفح عن المسيئين، وذلك أن أبا بكر الصديق في قصة الإفك حلف ألا يصل مسطح[11] وذلك أنه وقع مع من وقع في قضية الإفك، وتكلم مع من تكلم، وكانت جدته خالة لأبي بكر الصديق ، فمن تزكية النفوس العفو عن الإساءة، وصلة من قطع الرحم، والتجاوز عن الزلات والأخطاء، وأما من أراد أن يقف مع كل زلة ومع كل خطأ فإنه لا يكون قد حقق التزكية المطلوبة في نفسه؛ لأنه يريد أن ينتصر لنفسه في كل مقام فهو بهذا يدور مع نفسه حيث دارت، وينتصر لها.

 رابعًا: أن من تزكية النفوس عدم اتباع خطوات الشيطان.

خامسًا: أن من التزكية للنفس أن يتباعد المؤمن عن كل سبيل تتحقق فيه إشاعة الفاحشة في الذين آمنوا؛ بالحديث في المجالس وترديد القصص والحكايات، أو بنشر الصور، أو بنشر المقالات، أو بكتابتها التي تسوغ الاختلاط والسفور، أو تروج البرامج الهابطة، أو أن يجري لقاءً مع أحد الساقطين الذين هم في أحط الدركات، حيث عرضوا أنفسهم لأمورٍ غير لائقة يشاهدها ملايين البشر، ثم يأتي إنسان ويجري لقاءً مع هذا يرفعه به ويذيع ذكره؛ وكأنه قام بإنجاز حقق فيه انتصارًا لأمة محمد ﷺ.

وهكذا كل سبيل يتحقق فيه إشاعة الفاحشة فإن سلوكه يتنافى مع التزكية المطلوبة، سواء كان ذلك بطريق مباشر أو بطريق غير مباشر.

سادسًا: وهو أن من التزكية إمساك اللسان، أن يكف الإنسان لسانه عن الوقوع في أعراض الناس، سواء كان ذلك بقذفهم، أو رميهم بالفواحش، أو تضليلهم من غير برهان، أو سوء الظن بإخوانه المسلمين اتباعًا للظنون الكاذبة، التي لا يجوز له أن يتبعها.

الوقفة الخامسة عشرة: مع قوله -تبارك وتعالى-: وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [النور:22]، فقوله: وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ هذه نزلت في أبي بكر الصديق ، فهو من أهل الفضل أي: المنزلة الشريفة؛ لأنه من أصحاب المراتب العالية في الإيمان، والسعة فهو من أغنياء المسلمين وكان ينفق على مسطح؛ لأنه من فقراء المهاجرين ولأنه من قرابته، فجمع الله سبحانه لأبي بكر الصديق الفضل وجمع له السعة، وقد فرقنا في المعنى بينهما؛ لأن القاعدة: "التأسيس مقدم على التوكيد"، فالفضل يطلق على كل كمال ديني أو دنيوي، ولكنه لما ذكر بعده السعة اقتضى ذلك أن يحمل الأول وهو الفضل على الكمالات الدينية، والسعة على الكمالات الدنيوية؛ وذلك بكثرة العرض والغنى، والإلية: أصلها الحلف (لا يأتل) أي: لا يحلف.

وتأتي بمعنى النقص كما قال الله : لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً [آل عمران:118]، أي هم يعملون جهدهم من أجل إلحاق النقص بكم بكل مستطاع لهم، فالمقصود أن هذه الآية نزلت في أبي بكر الصديق -رضي الله تعالى عنه وأرضاه-.

وقد قال عبد الله بن المبارك من أئمة التابعين: "إنها أرجى آية في كتاب الله "[12]، ومعنى أرجى آية: أي أنها أعظم آية في ترجية المسيء بسعة عفو الله وصفحه، إذ قيل: هذه أرجى آية في القرآن بمعنى أنها تعطي المسيء فسحةً؛ ليستعتب؛ وليتوب، ولا يقنط من رحمة الله والمشهور أن أرجى آية في كتاب الله هي قوله تعالى في سورة الزمر: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر:53].

فابن المبارك - رحمه الله - يرى أن هذه الآية هي أرجى آية في كتاب الله، وبغض النظر عن الترجيح في هذا الموضوع؛ لكن ما المعنى الذي حمله على القول بأن هذه الآية هي الأرجى في القرآن؛ لأن الله نهى أبا بكر الصديق عن قطع النفقة على مسطح، وأمره بالعفو والصفح عنه مع أن مسطح قد وقع في عرض رسول الله ﷺ وهو أطهر عرض، وهذه كبيرة من أعظم كبائر الذنوب، ووقع في عرض أفضل الأمة من الرجال بعد رسول الله ﷺ وهو أبو بكر الصديق، ووقع في عرض أحب النساء إلى رسول الله ﷺ في زمانها وهي عائشة -رضي  الله عنها-، ووقع في عرض رجل من أهل بدر من خيار المؤمنين وهو صفوان بن المعطل كل ذلك يقول الله : وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا يأمر أبا بكر الصديق بالاستمرار بالصلة والنفقة، وأن يكفر عن يمينه التي حلف بها ألا ينفق على مسطح، وأن يحسن إليه مع عظيم جرمه، فهذا يدل على سعة رحمة الله ومغفرته.

وهذه الرحمة والمغفرة لا تحمل العاقل على التمادي في الحرام، وارتكاب حدود الله ومعاصيه، وإنما تحمله على ألا يقنط، وأن يبادر إلى التوبة إذا وقع في شيء من المعصية.

وفي الآية أيضًا دليل على أن القذف وهو من الكبائر لا يحبط الأعمال، ويمكن أن نستخرج منه قاعدة: وهي أن الكبائر عدا الشرك بالله لا تحبط العمل، كيف ذلك؟ من أين أخذناه من هذه الآية؟ من قول الله فيها: وَلَا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [النــور:22]، فاعتبر الله هجرة مسطح، ولو كانت الكبائر بما فيها القذف مما يحيط عمل الإنسان بالكلية لكانت هجرته قد بطلت وذهبت وتلاشت، ولكن الله اعتد بها واعتبرها.

وهذا يؤخذ منه قاعدة: وهي معروفة عند أهل السنة أن الكبائر لا تحبط الأعمال خلافًا للخوارج الذين يكفرون بها، ويقولون: أن أعماله تكون حابطة باطلة زاهقة ذاهبة لا ينتفع بشيء منها.

ويؤخذ منها أيضًا أن الإنسان إذا حلف على يمين ثم رأى غيرها خيرًا منها فإنه يأتي الذي هو خير ولا يقف عند يمينه، والله يقول: وَلاَ تَجْعَلُواْ اللّهَ عُرْضَةً لِّأَيْمَانِكُمْ أَن تَبَرُّواْ وَتَتَّقُواْ وَتُصْلِحُواْ بَيْنَ النَّاسِ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [البقرة:224].

فالله يقول: لا تجعلوا الإيمان سببًا يحول بينكم وبين فعل البر والمعروف، فيقول الإنسان: أنا لا أفعل هذا الخير والمعروف؛ لأنني قد حلفت ألا أفعل ذلك، ألا أصل فلانًا، ألا أعطي فلانًا، ألا أتصدق على فلان، أو نحو ذلك، لا، لا ينبغي أن تكون هذه الإيمان قاطعة لك عن فعل المعروف، والنبي ﷺ يقول كما في الحديث المخرج في الصحيحين: لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرًا منها إلا كفرت عن يميني، وأتيت الذي هو خير[13].

وهذه الآية تدل على أن الإنسان لا ينبغي أن تكون الإساءة باعثة له على قطيعة الرحم، فإن صلة الأرحام واجبة، وإساءة المسيء إنما ترجع إليه، فلا ينبغي أن تحملنا على إساءة أخرى من ترك ما أوجب الله علينا، وهكذا فإن مساعدة الفقراء والمساكين أمر مطلوب شرعًا، فإذا أساء أحد من هؤلاء فلا ينبغي أن يكون ذلك سببًا لقطع ما أمر الله به من الإحسان إليه، وهذا السارق تقطع يده وإن كان فقيرًا أعطي ما يكفيه ويسد حاجته من بيت مال المسلمين، فهذا دين الرحمة، ودين الإحسان إلى المخلوقين، يقيم الحدود بصرامة ولكنه في نفس الوقت يسد رمق هذا المحتاج، وحاجته، ويحسن إليه، ويأمر بالإحسان إليه، ولا يمنع من الميراث أو من حقه من الصلة والنفقات الواجبة بسبب أنه قد أساء.

الوقفة السادسة عشرة: مع قوله -تبارك وتعالى-: وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا [النــور:22].

هذا كقوله -تبارك وتعالى-: وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ۝ الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [آل عمران:133-134] فالعفو عن الناس سبب لدخول هذه الجنة، وهو لون من ألوان المسارعة فيها فقد وصف الله هؤلاء بهذه الأوصاف، ثم أن الله يقول: وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ [الشورى:43]، ويقول: وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [فصلت:34] وترك لك التميز وتميز هذه التي هي أحسن: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [فصلت:34]، وهي الحسنة: فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ [فصلت:34]، في المعاملة تعامله معاملة الولي الحميم المصافي الذي هو أقرب شيء إليك، وأصفى شيء في الود تجاهك، وهو عدو لك، مسيء إليك، يبحث عن زلتك، ويجتهد في تطلب عثرتك، ومع ذلك فإن الله يقول: كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ، ولكن هذه أخلاق الكبار لا يصل إليها كثير من الناس؛ لأن أخلاقهم ونفوسهم الضعيفة تقعد بهم عن بلوغ هذه القمم: وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ [فصلت:35]؛ لأن الإنسان تتحرك نفسه إلى الانتقام، ويتبرع كثير من الناس حوله يحرضونه ويحركونه إلى الانتقام، وينهونه عن العفو: وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ۝ وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ [فصلت:35-36]؛ لأن الشيطان لربما يحرك النفس، ويقول: إن عفوت عنه تطاول عليك، وظن أن هذا من ضعفك، ومن عجزك عن الانتقام وردعه ورده إلى حده، هكذا يريد الشيطان منك أن تهبط، وأن تنزل مع الناس فتقع في أمور من الدناءة والخسة وانحطاط الأخلاق وسفولها فتنغمس مع هؤلاء في أوحال دناءتهم فتتلاسن معهم، وتقع معهم في أمور غير لائقة؛ فتكون قد هبطت من علوك إلى سفول بحجة أنك تريد أن ترد هؤلاء عند حدهم، والله يقول: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ [المؤمنون:96]، ويقول: إِن تُبْدُواْ خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُواْ عَن سُوَءٍ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا [النساء:149].

فالمقصود أن الله في هذه الآية أمر بالصفح وبالعفو: وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا.  

وما الفرق بين: وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا وما الفرق بين الصفح وبين العفو؟

العفو: هو التجاوز عن الجاني، والصفح: أن تعرض عنه، العفو أن تسامحه، والصفح: أن تعرض عنه؛ فلا تقف مع هذه الإساءة وتعاتب، أو تنتظر الاعتذار، أو رد الاعتبار، أو ما أشبه ذلك من الأمور، هو من صفحة العنق كأنك أعطيته صفحة عنقك، أعرضت عن إساءته، قد يعفو الإنسان يقول: أنا سامحته لكنه ينتظر أن يلقاه من أجل أن يعاتبه، وأن يقرره بخطئه، لا الصفح أبلغ من ذلك.

فالصفح أن تعرض عن الإساءة بالكلية فلا تعاتب ولا تنتظر منه أن يقف موقف المعتذر، وإنما تتركه في شأنه فأنت أعلى وأكبر من النزول مع هذه الحُسيكات التي تتلجلج في النفوس.

وبعضهم يقولون: بأن العفو يكون بالفعل، والصفح يكون بالقلب، العفو بالفعل بمعنى ألا تتكلم، أو تنتقم بالفعل باليد، والصفح يكون بالقلب بحيث لا يبقى أثر لهذه الإساءة في قلب الإنسان.

الوقفة السابعة عشرة: مع قوله -تبارك وتعالى-: إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [النــور:23]، ذكر اللعن، وتوعدهم بالعذاب العظيم.

ما الفرق بين هذه الآية والآية الرابعة في صدر هذه السورة وهي قوله -تبارك وتعالى-: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [النــور:4]؟

هذه ذكر فيها اللعن، وتوعدهم بالعذاب العظيم، واللعن هو الطرد والإبعاد عن رحمة الله ، وهؤلاء قال: لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وهل يكون لمن لُعن في الدنيا والآخرة حظ عند الله ونصيب؟

ولهذا فإن كثير من العلماء استشكلوا هذه الآية، فمن قائل: إنها في الذين قذفوا عائشة خاصة.

ومن قائل: إنها فيمن قذف أمهات المؤمنين فقط، والأولى فيمن قذف عامة المؤمنات، يجلد ثمانين جلدة ولا تقبل له شهادة، ويكون فاسقًا إلا إذا تاب، أما اللعن في الدنيا والآخرة والوعيد بالعذاب فهذا يكون لأولئك الذين قذفوا أمهات المؤمنين أو عائشة، هكذا قال بعض أهل العلم.

وبعضهم قال: هذه في عبد الله بن أبي وهذا خروج من إشكال؛ لأن حتى الذين قذفوا عائشة -رضي الله عنها- بعضهم من أهل الإيمان مثل: مسطح، وحمنة، وحسان، فهل هؤلاء لعنوا في الدنيا والآخرة؟ ولهذا قال بعض أهل العلم: هذه خاصة في عبد الله بن أبي فهو منافق كافر في الباطن.

وبعضهم قال: هذه في كفار المشركين كانت المرأة إذا هاجرت من مكة إلى المدينة قالوا: تذهب من أجل البغاء فهؤلاء كفار لعنوا في الدنيا والآخرة، والأحسن -والله تعالى أعلم- أن يقال: إن الآية الأولى هي في عقوبته في الدنيا؛ وهي الجلد، وإسقاط العدالة، ورد الشهادة، والحكم بالفسق إلا إذا تاب، هذا حكمه في الدنيا بين أهل الإيمان.

وأما الحكم الأخروي وما يتعلق بحظه عند الله فإن ذلك يكون بما ذكر في هذه الآية: لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وهؤلاء الذين يرمون المحصنات المؤمنات الغافلات.

وأما الإشكال الذي ذكرته أنفًا كيف يقع هذا اللعن لأهل الإيمان؟

فيقال: إن هذا من نصوص الوعيد، فاللعن من الوعيد، وهذا الوعيد العام لا يلزم منه أن يتحقق في المعين، فإن المعين قد تحصل له توبة قبل الموت، وقد يكون قد وقع عليه مصائب مكفرة فتكفر عنه مثل هذه الذنوب بسبب مصائب تقع له؛ لأن المصائب كفارات، وقد يرتفع عنه ذلك بسبب حسنات عظيمة ماحية، كما قال النبي ﷺ في قصة حاطب لما كتب إلى المشركين يخبرهم بمسير النبي ﷺ إلى مكة ماذا قال النبي ﷺ لعمر لما قال له: دعني أضرب عنق هذا المنافق؟!، قال: وما أدراك أن الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم قد غفرت لكم[14].

وقال النبي ﷺ في حق عثمان بن عفان لما جهز جيش العسرة قال: ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم[15]، ولما طأطأ له طلحة ظهره في غزوة أحد من أجل أن يرتقي الصخرة لما نأت به الجراح -عليه الصلاة والسلام- فحنى له طلحة بن عبيد الله ظهره ليكون مِرقاة لرسول الله ﷺ من أجل أن يضع رجله الطاهرة على ظهره فيرتقي، قال النبي ﷺ: أوجب طلحة[16]، يعني: وجبت له الجنة.

فالمؤمن قد تكون له حسنات عظيمة يمحو الله بها هذا الوعيد، وقد يكون هناك شفاعة يشفع له النبي ﷺ، يشفع له الملائكة، ويشفع له أحد من أهل الإيمان، وقد تغمره رحمة الله التي وسعت كل شيء فلا يتحقق فيه هذا الوعيد، هذا أحسن ما يمكن أن تفسر به هذه الآية، -والله تعالى أعلم-.

وهو أفضل مما قاله بعض السلف: من أن الآية الأولى فيمن عسى أن تكون قد قارفت كما يقول ميمون بن مهران -رحمه الله-[17]، يعني التي يمكن أن يكون قد وقع منها هي مظنة، والثانية في التي لا يخطر على بالها هذا أصلاً تكون من قذفها لعن في الدنيا والآخرة، -والله تعالى أعلم-.

الوقفة الثامنة عشرة: مع قوله -تبارك وتعالى-: يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [النــور:24] هنا يرد سؤال وهو كيف تشهد عليهم ألسنتهم مع أن الله أخبرنا أنه يختم على أفواههم؟، كما قال الله : الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [يــس:65]، وقال: حَتَّى إِذَا مَا جَاؤُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ۝ وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ۝ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِّمَّا تَعْمَلُونَ الآية [فصلت:20-23].

فالمقصود أن الإنسان حينما يحاسب ويسأل فإن الكافر أو المجرم قد ينكر ولا يقر، ويقول كما ثبت عن النبي ﷺ فيما أخبرنا عما يقع في ذلك اليوم فيقول: فإني لا أجيز على نفسي إلا شاهدا مني، قال: فيقول: كفى بنفسك اليوم عليك شهيدا؛ لأنهم في ذلك الحين يقولون: وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ۝ انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ [الأنعام:23-24]، فالمقصود يختم على فيه، فتنطق يده، ورجله، وجوارحه بأعماله، فيقول: بعدًا لكن وسحقًا، فعنكن كنت أناضل[18]، وعند ذلك يقر بلسانه، وذلك قول الله : يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [النور:24]، وهكذا قوله -تبارك وتعالى-: قَالُواْ شَهِدْنَا عَلَى أَنفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ [الأنعام:130].

فالمقصود أن هؤلاء ينطقون يشهدون على أنفسهم بعد أن تقر جوارحهم بما أنكرته ألسنتهم أولاً، ومن ثم ينبغي لمن أراد أن يطلق لسانه، أو أن يعمل جوارحه في معصية الله أن ينظر مكانًا لا تراه هذه الجوارح بحيث لا تشهد عليه، يشهد عليه جلده، وفخذه، وأذنه، وقلبه، وبصره، ويده، وكل شيء، وذلك أحد المعنيين في قوله -تبارك وتعالى-: إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً [الإسراء:36]، أي أنها تسأل عنك، وأنت أيضًا تسأل عنها ماذا عملت بها؟ فإذا كان الأمر بهذه المثابة أن المسألة لا تحتاج إلى أناس لربما يكذبون عليك، وتتنصل من شهادتهم بأنه ليس عندهم إثباتات لها، لا، فالذين سيشهدون عليك هي هذه الجوارح بما كنت تعمل فإذا أردت أن تكتب كلامًا لا يرضى الله ، الذي يطلع على السر والنجوى فتذكر أن الله يراك، وأن هذه اليد ستشهد، إذا أردت أن تأخذ مالاً لا يحل بهذه اليد تذكر أنها ستشهد، فخذه أو أو دعه.

وهذه العين إذا راودتك النفس لإطلاق البصر فاعصمها؛ لأنها ستنطق ينطقها الله الذي انطق كل شيء في يوم شديد، والله -تبارك وتعالى- قد أخبرنا عن هذه الأمور التي تقع كأننا نشاهدها، فلماذا يفرط الإنسان حتى يواجه ذلك المصير الذي لا يستطيع الخلاص منه بحال من الأحوال؟

فمن الساعة لا تتصرف أي تصرف حتى تنظر هل هو من محبوبات الله أو لا؟ ولن ينفعك شيء ولن يصل إليك إلا ما قد كتبه الله -تبارك وتعالى- لك؟ لا تتكلم بالباطل، ولا تكتب الباطل، ولا تنظر إلى الباطل، ولا تأخذ كسبًا حرامًا؟ لا تقارف ما لا يليق، واعلم أن هذه الشهوات تستعرض أمامك، تارة من الأمور المالية، وتارة من غيرها من ألوان الشهوات فينظر ربك كيف تعمل؟ والملائكة شهود أيضًا على عملك، فينبغي أن نستحي من الله ، وأن نستحي من نظر الملائكة، وأن نحسب لشهادة الجوارح حسابًا.

الوقفة التاسعة عشرة: مع قوله -تبارك وتعالى-: الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُوْلَئِكَ مُبَرَّؤُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ [النــور:26] ذكر الذكور والإناث من الخبيثات ومن الخبيثين، وذلك أن هذه الآية تشمل ما قاله السلف -رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم- في معناها، الخبيثات من الأقوال والأفعال مظنتها أهل الخبث من الناس فهم معدنها، (الخبث) في القول، ورمي الأعراض، والكلام بالظن، وقول القبيح من الكلام من السب، والشتم، واللعن، والقذف، والفحش بجميع أنواعه معدِنه أهل الخبث من الناس إذ إن كل إناء بما فيه ينضح، فهم معدن هذه الأخلاق الخبيثة من الأقوال والأفعال، والنساء الخبيثات للخبيثين من الرجال من الناس، فالمرأة الطيبة لا تكون مع أحد من هؤلاء الموصفين ولشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-[19] كلامًا رائعًا في قوله: الزَّانِي لَا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ [النــور:3]، يقول: الرجل العفيف الطيب إذا تزوج امرأة ويعرف أنها زانية وبقي معها فهو زانٍ؛ لأنه أقرها، ورضى بفعلها، والراضي كالفاعل، وكذلك المرأة إذا كان زوجها من أصحاب الفجور والفواحش وهي تعلم ورضيت به فهي زانية؛ لأنها رضيت فعله، والراضي كالفاعل، والمعاشر لقوم يحشر معهم، وذكرت لكم مستند هذا الكلام.

فالمقصود أن الخبيثات للخبيثين يدخل في هذا الأقوال والأفعال والأشخاص، وكل شيء يقع على ما يشاكله ويلائمه ويناسبه من الأحوال والأوصاف، وهذا أمر مشاهد في حياة الناس، بل حتى في حياة المخلوقات، فالطيور بجميع أنواعها كل صنفٍ مع صنفه، وترون الحيوانات بجميع أنواعها كل صنفٍ يأنس بنظرائه ومن يشاكله في هذا النوع أو الصنف، وهكذا الناس الطيور على أشكالها تقع، فتجد أهل الفضل والصلاح والدين والخير والغيرة يكونون مع بعضهم، وتكون صحبة الرجل لنظرائه ممن يشاكله في الأخلاق، وتجد أهل البذاءة والفحش والفواحش والأفعال الدنيئة تجدهم مع بعضهم، وإلا فما يمكن أن يحتمل الصنف الآخر إذا دخل مع غيره بفحشه أهل الفضل والدين والخير والصلاح والمعروف إذا دخل إنسان سباب شتام بذيء يتكلم بالفواحش وحديثه كله ما بين السرة إلى الركبة، هل يحتمل هذا في مجالسهم التي يعطرونها بذكر الله ؟

الجواب: لا، وهكذا هؤلاء في كثير من الأحيان لا يحبون من يحضر مجالسهم ليشغلهم بذكر الله ، يتململون، ويتبرمون، ويتأففون، وينزعجون غاية الانزعاج، ولربما أسمعوه ما يكره، عبد الله بن أبي قال للنبي ﷺ لما جاء النبي ﷺ ورديفه عبد الله بن رواحة على حمار فمر على جمع من الرجال فيهم من أهل الشرك والإسلام، فقال عبد الله بن أبي سلول حين وقف النبي ﷺ ليدعوهم إلى الله قال: "لا تغبروا علينا ووضع طرف عمامته على أنفه" ثم قال: "أيها الرجل لا تغشنا في مجالسنا"[20]، يرد على النبي ﷺ يقول: لا تأتي إلينا وتعظنا، الذي يريدك يصل إليك أما أن تأتي إلى مجالسنا فلا، فرد عليه عبد الله بن رواحة ، ثم صار اشتباك بين الناس بسبب مقالته هذه.

فالمقصود أن هؤلاء لا يحبون الأحاديث الطيبة في الغالب، فينبغي للإنسان أن يحرص على مجالس الخير والذكر، وليعلم جيدًا أن أخلاقه الشرسة إذا ابتلي الإنسان بها، أن هذه الأخلاق ما جاءت من فراغ، نابعة من قلب يحتاج إلى معالجة!، الإنسان الذي لسانه لم يتطهر، لسانه فيه سباب وشتام وما أشبه ذلك، ليعلم أن هذه ما جاءت من فراغ، هذه مغراف تغترف من القلب، فيصدر ذلك على اللسان، قلب مليء بهذه الأشياء، فهذا الإنسان البعيد أعزكم الله كالكنيف، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- كلما حركته كلما انبعث منه الأذى، فالحل معه المباعدة، لا تدخل معه في إشكال، أو في مهارشة، أو في ملاسنة، فهو كما قال بعضهم للأحنف بن قيس: "إن قلت واحدة لتسمعنَّ عشرًا"، قال له: "لكنك إن قلت بعشرة لم تسمع واحدة"[21]، يعني: أنا أرفع نفسي عنك وعن النزول معك، هذه قضية مهمة أن يعتني الإنسان بأخلاقه وإصلاح قلبه؛ لأن القلب كالوعاء وكالقدر يصدر ما يكتن بهذا القلب على سلوك الإنسان وتصرفاته وكلامه، فالإنسان من أهل الفضل، والخير بمجرد ما تراه تحبه، وتسمع كلامه تأنس به وتسر، ومن الناس من إذا رأيته تحاول أن لا تنظر إلى وجهه؛ لأن النظر إلى وجهه يؤثر تأثيرًا بليغًا في قلبك؛ لأنك ترى ألوان الشرور ترتسم في هذا الوجه، والوجه كما قيل: مرآة ينطبع عليها ما يكتن بالقلب، هكذا سنة الله وهو المعنى المشهور والأقرب في ظني -والله تعالى أعلم-؛ لقوله: سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ [الفتح:29] ليس معناه هذا السواد الذي يكون في الجبهة عند بعض الناس، فهذا يقع حتى عند بعض المنافقين، والمسألة لا تحتاج لا تكلف هذا الإنسان أكثر من أن يضغط على جبهته على الأرض ضغطًا زائدًا حتى يخرج للناس بهذه العلامة، نعم من أولياء الله من يتميزون بهذا هذا أمر معروف، لكن ليس كل من كان كذلك هو من أولياء الله بعضهم ذئب أطلس، والسواد يكاد يغطي جبهته، ولا يخفى على أهل الإيمان إذ يرون في تقاطيع وجهه ألوان الشرور والآثام والمنكرات يرونها في وجهه لا يخفى هذا، فحال الإنسان تظهر على وجهه، فما أسر أحد سريرة إلا أظهرها الله على صفحة وجهه وفلتات لسانه فيفتضح في الدنيا قبل الآخرة، وبالتالي فلا يحتاج الإنسان أن يتصنع للناس.

الإخلاص كما قال ابن الجوزي: "مسك مصون في مسك القلب ينبئ ريحه على حامله"[22]، فإذا لم تخلص فلا تتعب، فلو قطعت سائر المنازل لم تكن حاجًا إلا ببلوغ الموقف، مسألة لا تحتاج تكلف، فمن الناس من يتكلف إظهار الخير والعمل الصالح، وأشياء كثيرة جدًا، وقلوب الخلق تلعنه.

ومن الناس من يخفي عمله جاهدًا فيأسر القلوب أسرًا لا فكاك لها منه، ولو سألتهم لماذا؟ لقيل: لا ندري! لكنه يأسر قلوبنا بمحبته، ولو لم نسمع كلامه، ولم نعرف أفعاله، هناك أشياء يجدها الإنسان ويحس بها في غير هذه الحواس الخمس التي نحس بها الأشياء.

والْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ [النور:26] هذا التكرار ليس لمجرد التكرار؛ وإنما ليدلل على أن ذلك من الطرفين، ليس فقط المرأة الخبيثة، أو المقالات الخبيثة لأهل الخبث، بل حتى في الطرف الثاني في القسمة وهو الْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ، ثم ذكر أهل الفضل والخير: وَالطَّيِّبُونَ من الرجال، ومن المقالات، ومن الأفعال لِلطَّيِّبَاتِ، وَالطَّيِّبُونَ من الرجال والناس والنساء لِلطَّيِّبَاتِ من الأقوال والأفعال، الطيبون من الرجال للطيبات من النساء، والعكس صحيح، وفي هذا يمكن أن يقال بأن قوله -تبارك وتعالى-: وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ [النور:26] أن الأفعال السيئة والأقوال السيئة والمقالات السيئة إذا صدرت من أهل الفضل على سبيل الزلة والفلتة، لم تضرهم، وإذا قيلت فيهم ما ضرتهم، وإنما تضر من قالها فيهم:

كناطح صخرة يوما ليوهنها فلم يضرّها وأوهى قرنه الوعل[23]

وكذلك أيضًا أهل السوء إذا صدرت منهم الأفعال القبيحة ضرتهم، وهم أهلها، وإذا قيلت فيهم فهم مظنتها ومعدِنها، هكذا قال كبير المفسرين ابن جرير الطبري -رحمه الله تعالى-[24].

أُوْلَئِكَ مُبَرَّؤُونَ مِمَّا يَقُولُونَ [النــور:26]، مبرؤون من المقالات السيئة التي تصدر على سبيل الزلة، ومبرؤون مما يقال فيهم من القبيح في القول والتهم الفاسدة، ومبرؤون من كل قبح بجميع أنواعه، مبرؤون مما يقال عنهم؛ عائشة مبرأة مما قيل في عرضها -رضي الله عنها-؛ لأنها طيبة والنبي ﷺ طيب: وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ [النور:26] فلا يلحقهم هذا القول الشنيع فهم مبرؤون بإبراء الله لهم وتبرئته لأعراضهم لَهُمْ مَغْفِرَةٌ [النور:26] عظيمة، وَرِزْقٌ كَرِيمٌ [النور:26]، وسنكمل هذه الوقفات إن شاء الله في مجلسين آخرين في الأسبوعين القادمين.

وأسأل الله أن يوفقني وإياكم للخير، ويعينني وإياكم على طاعته.

  1. أخرجه مسلم، كتاب النكاح، باب استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه، ووجد مؤنه، واشتغال من عجز عن المؤن بالصوم، برقم (1401).
  2. أخرجه البخاري، كتاب الرقائق، باب ما يحذر من زهرة الدنيا والتنافس فيها، برقم (6427)، ومسلم، كتاب الزكاة، باب تخوف ما يخرج من زهرة الدنيا، برقم (1052).
  3. وذلك في قوله تعالى: {وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} [النــور:31].
  4. أخرجه النسائي عن أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((أيما امرأة استعطرت فمرت على قوم ليجدوا من ريحها فهي زانية))، كتاب الزينة، باب ما يكره للنساء من الطيب، برقم (5126)، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (323).
  5. أخرجه أبو داود مرفوعًا، كتاب الأدب، باب كراهية الغناء والزمر، برقم (4927)، والبيهقي موقوفًا على ابن مسعود -رضي الله عنه- في شعب الإيمان، برقم (4744)، وفي السنن الكبرى، برقم (21007)، وضعفه الألباني مرفوعًا في السلسلة الضعيفة، برقم (2430)، وصححه موقوفا في تحريم آلات الطرب (ص:145).
  6. قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في مجموع الفتاوى (15/313-314): "فإن المغني إذا غنى بذلك حرك القلوب المريضة إلى محبة الفواحش فعندها يهيج مرضه ويقوى بلاؤه وإن كان القلب في عافية من ذلك جعل فيه مرضًا كما قال بعض السلف: الغناء رقية الزنا، ورقية الحية هي ما تستخرج بها الحية من جحرها، ورقية العين والحمة هي ما تستخرج به العافية، ورقية الزنا هو ما يدعو إلى الزنا ويخرج من الرجل هذا الأمر القبيح والفعل الخبيث كما أن الخمر أم الخبائث".
  7. ذكرها الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد ت بشار (8/85)، وابن مفلح في الفروع وتصحيح الفروع (8/191)، بلفظ: "من أعطى أسباب الفتنة من نفسه أولا لم ينج منها آخرًا، وإن كان جاهدًا".
  8. انظر: سير أعلام النبلاء ط الرسالة (4/214).
  9. انظر: الحسبة لابن تيمية ت الشحود (ص: 82).
  10. أخرجه مسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب التعوذ من شر ما عمل ومن شر ما لم يعمل، برقم (2722).
  11. أخرجه البخاري، كتاب الشهادات، باب تعديل النساء بعضهن بعضًا، برقم (2661)، ومسلم، كتاب التوبة، باب في حديث الإفك وقبول توبة القاذف، برقم (2770).
  12. تفسير القرطبي (12/207).
  13. أخرجه البخاري، كتاب كفارات الأيمان، باب الاستثناء في الأيمان، برقم (6718)، ومسلم، كتاب الأيمان، باب ندب من حلف يمينًا فرأى غيرها خيرًا منها، أن يأتي الذي هو خير، ويكفر عن يمينه، برقم (1649).
  14. أخرجه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب إذا اضطر الرجل إلى النظر في شعور أهل الذمة، والمؤمنات إذا عصين الله، وتجريدهن، برقم (3081)، ومسلم، كتاب فضائل الصحابة -رضي الله عنهم-، باب من فضائل أهل بدر -رضي الله عنهم- وقصة حاطب بن أبي بلتعة، برقم (2494).
  15. أخرجه الترمذي، أبواب المناقب عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، باب في مناقب عثمان بن عفان -رضي الله عنه-، وله كنيتان، يقال: أبو عمرو، وأبو عبد الله، برقم (3701)، وحسنه الألباني في تحقيق مشكاة المصابيح، برقم (6073).
  16. أخرجه الترمذي، أبواب الجهاد عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، باب ما جاء في الدرع، برقم (1692)، وحسنه الألباني في صحيح الجامع، برقم (2540).
  17. تفسير ابن أبي حاتم - محققا (8/2531).
  18. أخرجه مسلم، في أوائل كتاب الزهد والرقائق، برقم (2969).
  19. انظر: مجموع الفتاوى (15/318-319).
  20. أخرجه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب {وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا} [آل عمران:186]، برقم (4566)، ومسلم، كتاب الجهاد والسير، باب في دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى الله، وصبره على أذى المنافقين، برقم (1798).
  21. سير أعلام النبلاء ط الرسالة (4/93).
  22. انظر: مفتاح الأفكار للتأهب لدار القرار (2/27)، وموارد الظمآن لدروس الزمان (4/66)، والمدهش (ص:418).
  23. انظر: العمدة في محاسن الشعر وآدابه (2/57)، وحياة الحيوان الكبرى (2/552).
  24. انظر: تفسير الطبري (جامع البيان) ت شاكر (19/108).

مواد ذات صلة