الخميس 24 / جمادى الآخرة / 1446 - 26 / ديسمبر 2024
[19] من قول الله تعالى: {وَاخْتَارَمُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِين َرَجُلًا لِمِيقَاتِنَا} الآية 155 إلى قوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ} الآية 156.
تاريخ النشر: ٢٩ / ذو القعدة / ١٤٢٧
التحميل: 2747
مرات الإستماع: 2230

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال المفسر -رحمه الله- تعالى في تفسير قوله تعالى:

وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِّمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاء مِنَّا إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاء وَتَهْدِي مَن تَشَاء أَنتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ ۝ وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ [سورة الأعراف:155، 156].

قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس -ا- في تفسير هذه الآية: كان الله أمره أن يختار من قومه سبعين رجلاً، فاختار سبعين رجلاً فبرز بهم ليدعوا ربهم، وكان فيما دعوا الله أن قالوا: اللهم أعطنا ما لم تعطه أحداً قبلنا ولا تعطه أحداً بعدنا، فكره الله ذلك من دعائهم، فأخذتهم الرجفة، قال موسى: رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ الآية.

وقال السدي: إن الله أمر موسى أن يأتيه في ثلاثين من بني إسرائيل يعتذرون إليه من عبادة العجل، ووعدهم موعدا، وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً على عينيه، ثم ذهب بهم ليعتذروا، فلما أتوا ذلك المكان، قالوا: لن نؤمن لك يا موسى حتى نرى الله جهرة، فإنك قد كلمته فأرناه، فأخذتهم الصاعقة، فماتوا، فقام موسى يبكي ويدعو الله ويقول: رب ماذا أقول لبني إسرائيل إذا لقيتهم وقد أهلكت خيارهم، رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ.

وقال محمد بن إسحاق: اختار موسى من بني إسرائيل سبعين رجلاً الخيّرَ فالخيّرَ، وقال: انطلقوا إلى الله فتوبوا إليه مما صنعتم وسلوه التوبة على من تركتم وراءكم من قومكم، صوموا وتطهروا وطهروا ثيابكم، فخرج بهم إلى طور سينا؛ لميقات وقّته له ربه، وكان لا يأتيه إلا بإذن منه وعلم، فقال السبعون -فيما ذكر لي حين صنعوا ما أمرهم به، وخرجوا معه للقاء ربه- لموسى: اطلب لنا نسمع كلام ربنا، فقال: أفعل، فلما دنا موسى من الجبل، وقع عليه عمود الغمام حتى تغشّى الجبل كله، ودنا موسى فدخل فيه، وقال للقوم: ادنوا، وكان موسى إذا كلمه الله وقع على جبهة موسى نور ساطع، لا يستطيع أحد من بني آدم أن ينظر إليه، فضرب دونه بالحجاب، ودنا القوم حتى إذا دخلوا في الغمام وقعوا سجوداً، فسمعوه وهو يكلم موسى يأمره وينهاه افعل ولا تفعل، فلما فرغ إليه من أمره انكشف عن موسى الغمام، فأقبل إليهم فقالوا: يَا مُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً [سورة البقرة:55]، فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ [سورة الأعراف:78]، وهي الصاعقة، فافتُلتتْ أراحهم فماتوا جميعاً، فقام موسى يناشد ربه ويدعوه ويرغب إليه ويقول: رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ قد سفهوا، أفتهلك مَن ورائي من بني إسرائيل.

وقال ابن عباس -ا- وقتادة ومجاهد وابن جرير: إنهم أخذتهم الرجفة لأنهم لم يزايلوا قومهم في عبادة العجل ولا نهوهم، ويتوجه هذا القول بقول موسى: أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاء مِنَّا، وقوله: إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ.

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فقوله -تبارك وتعالى: وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً أي: اختار من قومه سبعين رجلاً، لِّمِيقَاتِنَا أي: للموعد والوقت الذي وقّته الله  له لتكليمه ومناجاته، فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ، الرجفة هي: الزلزلة الشديدة، وفي سورة البقرة فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ [سورة البقرة:55].

وقوله: قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاء مِنَّا الأقوال التي ذكرها الحافظ ابن كثير عن جماعة من السلف فمن بعدهم ليس فيها شيء تقوم به حجة؛ لأنها من الإسرائيليات، والأمور الغيبية لا تتلقى من مثل هذه الروايات، بل تحتاج إلى خبر عن المعصوم -عليه الصلاة والسلام، وهذه القضايا لا يدخلها الاجتهاد، فاختيار الموعد والميقات وسبب صعقهم قد يكون بسبب قولهم: اللهم أعطنا ما لم تعطه أحداً قبلنا، ولا تعطه أحداً بعدنا، أو بسبب أنهم طلبوا رؤية الله لما سمعوه يكلم موسى طمعوا في الرؤية، ويكون هذا المقام هو المذكور في سورة البقرة وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ [سورة البقرة:55]. 

أو أن هؤلاء لما سمعوه يأمر موسى وينهاه قالوا: سمعناه يقول كذا وكذا وكذا ثم قال: إن شئتم فافعلوا، وإن شئتم فلا تفعلوا، فبدلوا وغيروا وهم على الطور، أو أن هؤلاء جاءوا للاعتذار من عبادة العجل، والتوبة إلى الله -تبارك وتعالى- كما قاله بعض السلف وهو اختيار ابن جرير، فهذا كله يحتمل. 

أو أخذتهم الرجفة؛ لأنهم لم يزايلوا عبادة العجل، لم يفارقوهم ويفاصلوهم، وإنما بقوا معهم ينتظرون حتى رجع موسى -عليه الصلاة والسلام، فهؤلاء خيارهم، قال: ولم يزايلوهم فعاقبهم الله بهذا، وهكذا قوله: أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاء مِنَّا

وهنا قد يكون إشكال وهو أن هؤلاء وهم خيار بني إسرائيل، أمة عظيمة جداً يختار منها في زمن موسى -عليه الصلاة والسلام، والذي يصطفيهم هو نبي الله ﷺ مؤيداً بالوحي، ثم بعد ذلك يكونون سفهاء، أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاء مِنَّا، هذا باعتبار أن الصاعقة أو الرجفة التي وقعت بسبب سؤال هؤلاء عما لا يليق، إما بسبب سؤال الرؤية، أو بسبب سؤالهم أن يعطيهم ما لم يعطِ أحدًا قبلهم أو بعدهم، أو أن قولهم: أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاء مِنَّا أي: الذين عبدوا العجل، ولعل هذا أقرب -والله أعلم، وتكون الرجفة بسبب ما وقع من عبادة العجل، يبينه أن موسى -عليه الصلاة والسلام- قال: أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاء مِنَّا إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ، والله يقول لموسى ﷺ قبل ذلك: فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِن بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ [سورة طـه:85]، فهنا يقول: إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ، فالله يضل من يشاء ويهدي من يشاء، فلو قال قائل: إن هذا القول هو أقرب هذه الأقوال، وإن هذه الرجفة وقعت بسبب هذا، لم يكن ذلك بعيداً، لكنه يحتمل غير هذا أيضاً. 

والقطع والجزم في مثل هذا يصعب؛ لأنه قد يكون بسبب سؤالهم كما قال الله : وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ [سورة البقرة:55] وكل هذا من تفسير القرآن بالقرآن، فيحتمل أن يكون المراد بهذا الموطن هو المشار إليه في سورة البقرة، ويحتمل غيره، فمن أهل العلم من يقول: هو نفسه، الرجفة بسبب سؤالهم الرؤية، فالعلم عند الله ، ومثل هذا لا شك أنه وقع بسبب إساءة وذنب، فكان عقوبة لهم، أما تحديد السبب ما هو، فمثل هذا بالنسبة إلينا لا يترتب عليه عمل، وليس من الصواب الدخول في مزيد من التفصيلات، وليس عندنا فيها مستند، -والله أعلم.

وقوله: إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ: أي: ابتلاؤك واختبارك وامتحانك، قاله ابن عباس -ا، وسعيد بن جبير وأبو العالية والربيع بن أنس، وغير واحد من علماء السلف والخلف، ولا معنى له غير ذلك، يقول: إن الأمر إلا أمرك، وإن الحكم إلا لك، فما شئت كان، تضل من تشاء وتهدي من تشاء، ولا هادي لمن أضللت، ولا مضل لمن هديت، ولا معطي لما منعت، ولا مانع لما أعطيت، فالملك كله لك، والحكم كله لك، لك الخلق والأمر.

وقوله: أَنتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ الغفر: هو الستر وترك المؤاخذة بالذنب، والرحمة إذا قرنت مع الغفر يراد بها ألا يوقعه في مثله في المستقبل، وَأَنتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ: أي لا يغفر الذنب إلا أنت.

وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ الفصل الأول من الدعاء لدفع المحذور، وهذا لتحصيل المقصود، وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ: أي: أوجب لنا وأثبت لنا فيهما حسنة، وقد تقدم تفسير الحسنة في سورة البقرة.

إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ: أي تبنا ورجعنا وأنبنا إليك، قاله ابن عباس -ا- وسعيد بن جبير ومجاهد وأبو العالية والضحاك وإبراهيم التيمي والسدي وقتادة وغير واحد، وهو كذلك لغة.

قوله: أَنتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا [سورة الأعراف :155]، قال: الغفر هو الستر وترك المؤاخذة، هو كذلك يتضمن أمرين، إذا قلت: رب اغفر لي، يعني أنك تطلب الستر وعدم الفضيحة، والتجاوز عن الذنب، وعدم المؤاخذة، والوقاية من شؤم المعصية، كما يقال: المِغْفَر للذي يستر الرأس ويقي لابسه من الضرب، قال: وَأَنتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ.

فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا يقول: والرحمة إذا قرنت مع الغفر، يراد بها ألا يوقعه في مثله في المستقبل، هذا جزء من الرحمة، من رحمة الله بالعبد، الغفر: ستر الذنب وعدم المؤاخذة به، والرحمة أعم من هذا، فستره وعدم المؤاخذة به من الرحمة، وَارْحَمْنَا معناه أن يفيض عليهم ألوان الإفضال في الدنيا والآخرة فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا، فيهدي قلوبهم، ويصلح أحوالهم، ويدخلهم الجنة ويباعدهم من النار، يرفع لهم الدرجات، كل هذا داخل في الرحمة، فالعبد لا يستغني عن رحمة الله ، فطلبوا السلامة من آفة هذا الذنب وتبعته، وطلبوا أمراً أكبر من هذا وهو الرحمة العامة الشاملة التي تحصل لهم في الدنيا والآخرة. 

يقول: وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً، يقول: تقدم تفسير الحسنة في البقرة، الحسنة كل ما يُسرّ به الإنسان في الدنيا والآخرة من إفضال الله وإنعامه من النصر والتمكين، وكل ألوان الفلاح فذلك من الحسنات، مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ [سورة النساء:79]، وكذلك في الآخرة دخول الجنة، والسيئة: كل ما يسوء الإنسان في الدنيا والآخرة.

إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ من هاد يهود إذا رجع، يا أيها المذنب هدْ هدْ، يعني: ارجع ارجع، قالوا: إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ: يعني رجعنا إليك، قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا [سورة الجمعة:6] سُموا بذلك لتوبتهم العظيمة المعروفة في التاريخ التي قصها القرآن -كما قاله بعض العلماء- والله تعالى أعلم، وذلك حينما عبدوا العجل فكانت توبتهم كما ذكر الله في سورة البقرة فَتُوبُواْ إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ [سورة البقرة:54]، فصار يقتل بعضهم بعضاً، اقتلوا أنفسكم، أي: ليقتل بعضكم بعضاً، فقُتل منهم خلق كثير، جاء في بعض المرويات عن بعض السلف -وهي من المأخوذ عن بني إسرائيل- أنه قُتل منهم في يوم واحد سبعون ألفاً، حيث ألقي عليهم الغمام، فكان الرجل يضرب وجه أبيه بالسيف، وأقرب الناس إليه، فحصلت فيهم مقتلة عظيمة، حتى رفع الله ذلك عنهم وتاب عليهم، وقبل توبتهم.

قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاء وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ [سورة الأعراف:156].

يقول تعالى مجيباً لنفسه في قوله: إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ الآية، قال: عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاء وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ: أي أفعل ما أشاء، وأحكم ما أريد، ولي الحكمة والعدل في كل ذلك، سبحانه لا إله إلا هو.

وقوله تعالى: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ آية عظيمة الشمول والعموم، كقوله تعالى إخباراً عن حملة العرش ومن حوله أنهم يقولون: رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا [سورة غافر:7]، وروى الإمام أحمد عن جندب وهو ابن عبد الله البجلي قال: جاء أعرابي فأناخ راحلته ثم عقلها، ثم صلى خلف رسول الله ﷺ فلما صلى رسول الله ﷺ أتى راحلته فأطلق عقالها ثم ركبها ثم نادى: اللهم ارحمني ومحمداً ولا تشرك في رحمتنا أحداً، فقال رسول الله ﷺ: أتقولون هذا أضل أم بعيره؟ ألم تسمعوا ما قال؟ قالوا: بلى، قال: لقد حظرْتَ رحمة الله واسعة، إن الله خلق مائة رحمة فأنزل رحمة يتعاطف بها الخلق جنها وإنسها، وبهائمها، وعنده تسعٌ وتسعون، أتقولون هو أضل أم بعيره؟[1]، رواه أحمد وأبو داود.

هذا الحديث في إسناده ضعف، لكن بعض ما ورد فيه يوجد من الصحيح ما يشهد له، مثل، أصل الخبر، خبر الأعرابي الذي بال في المسجد، فزجروه ونهروه، والنبي ﷺ قال: لا تُزْرِموه بوله[2] ثم علّمه: أن هذه المساجد لا تصلح لشيء من أذى الناس، الشاهد أن الرجل قال: اللهم ارحمني ومحمداً ولا ترحم أحداً معنا، وقال له النبي ﷺ: لقد حجرت واسعاً[3] أو كما قال -عليه الصلاة والسلام، وكذلك في الرحمة خلق مائة رحمة.

وروى الإمام أحمد أيضاً عن سلمان عن النبي ﷺ قال: إن لله  مائة رحمة، فمنها رحمة يتراحم بها الخلق، وبها تعطف الوحوش على أولادها، وأخّر تسعة وتسعين إلى يوم القيامة[4]. تفرد بإخراجه مسلم.

وقوله: فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ الآية، يعني: فسأوجب حصول رحمتي منّة مني وإحساناً إليهم كما قال تعالى: كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ [سورة الأنعام:54]، وقوله: لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ: أي سأجعلها للمتصفين بهذه الصفات، وهي أمة محمد ﷺ، لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ: أي الشرك والعظائم من الذنوب.

قوله: وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ قيل: زكاة النفوس، وقيل الأموال، ويحتمل أن تكون عامة لهما، فإن الآية مكية، وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ: أي: يصدقون.

وقوله: وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ قال قوم: المقصود زكاة النفوس، فيكون كقوله تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى [سورة الأعلى:14]، باعتبار أن الزكاة لم تفرض إلا في المدينة، ولا إشكال أن يفسر ذلك في الزكاة؛ لأن الزكاة فرضت في المدينة هذا على القول بأن الزكاة لم تفرض بمكة، والراجح -والله أعلم- أن أصل الزكاة فرض بمكة، وأن تفاصيل الزكاة كان في المدينة، ففي سورة الأنعام وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ [سورة الأنعام:141]، فالذين قالوا: المقصود زكاة النفوس، قالوا: لأن الزكاة لم تفرض أصلاً بمكة والسورة مكية، ومن أهل العلم من ينحو منحىً آخر في مثل هذا، فيقول: هذه الآية مدنية، ويخرج من هذا الإشكال، وهو ليس بإشكال في الواقع، ويمكن أن يقال: هذا مما نزل قبل فرض الحكم، على فرض أن الزكاة فرضت بالمدينة، والخطاب في قوله: فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ لموسى -عليه الصلاة والسلام، وهو يشمل هؤلاء من بني إسرائيل، ويشمل كل من كان متصفاً بهذه الأوصاف.

  1. رواه أحمد في المسند برقم (18322)، واللفظ له، وقال محققوه: إسناده ضعيف لاضطرابه، وأبو داود برقم (4885)، كتاب الأدب، باب من ليست له غيبة، وضعفه الألباني في ضعيف أبي داود برقم (1041).
  2. رواه البخاري برقم (5679)، كتاب الأدب، باب الرفق في الأمر كله، ومسلم برقم (285)، كتاب الطهارة، باب وجوب غسل البول وغيره من النجاسات إذا حصلت في المسجد وأن الأرض تطهر بالماء من غير حاجة إلى حفرها.
  3. رواه البخاري برقم (5664)، كتاب الأدب، باب رحمة الناس والبهائم.
  4. رواه مسلم برقم (2752)، كتاب التوبة، باب في سعة رحمة الله تعالى وأنها سبقت غضبه، وأحمد في المسند برقم (9607)، وقال محققوه: إسناده صحيح على شرط مسلم رجاله ثقات رجال الشيخين غير عبد الملك فمن رجال مسلم.

مواد ذات صلة