بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال المفسر -رحمه الله تعالى- في تفسير قوله تعالى:
عِجْلًا جَسَدًا لَّهُ خُوَارٌ [سورة الأعراف:148]: وقد اختلف المفسرون في هذا العجل هل صار لحمًا ودمًا له خوار، أو استمر على كونه من ذهب إلا أنه يدخل فيه الهواء فيصوت كالبقر؟ على قولين والله أعلم، ويقال: إنهم لما صوت العجل رقصوا حوله وافتتنوا به، وقالوا: هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ [سورة طـه:88]، قال الله تعالى: أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا [سورة طـه:89]، وقال في هذه الآية الكريمة: أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّهُ لاَ يُكَلِّمُهُمْ وَلاَ يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا [سورة الأعراف:148]، ينكر تعالى عليهم في ضلالهم في العجل، وذهولهم عن خالق السماوات والأرض، ورب كل شيء ومليكه، أن عبدوا معه عجلًا جسدًا له خوار، لا يكلمهم ولا يرشدهم إلى طريق الخير، ولكن غطى على أعين بصائرهم عمى الجهل والضلالة.
وقوله: وَلَمَّا سُقِطَ فَي أَيْدِيهِمْ [سورة الأعراف:149] أي: ندموا على ما فعلوا، وَلَمَّا سُقِطَ فَي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْاْ أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّواْ قَالُواْ لَئِن لَّمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا [سورة الأعراف:149] وقرأ بعضهم: لَئِن لَّمْ تَرْحَمْنَا بالتاء المثناة من فوق، رَبُّنَا منادى وَتَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [سورة الأعراف:149] أي: من الهالكين، وهذا اعتراف منهم بذنبهم والتجاء إلى الله .
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فقوله -تبارك وتعالى: وَلَمَّا سُقِطَ فَي أَيْدِيهِمْ يعني -والله تعالى أعلم- أنهم ندموا على فعلهم، كما قاله الحافظ ابن كثير -رحمه الله، وهو تفسير قريب، والإنسان إذا ندم يعض على أصابعه، قالوا: فكأن فمه سقط في يده، سُقِطَ فَي أَيْدِيهِمْ، قالوا: هذا أصله، وقال آخرون: إن ذلك يعبر به عن القلب والنفس.
وقوله: سُقِطَ فَي أَيْدِيهِمْ يعبر به عن القلب والنفس، والعرب تضيف ما يقع للإنسان إلى يده؛ لأن غالب الاكتساب بها.
وقوله: ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ [سورة الحـج:10] تقول: يداك أَوْكتا وفوك نفَخ، فتضيفه إلى اليد، وقالوا: إنّ ما يقع في النفس يظهر على يده، كقوله: فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنفَقَ فِيهَا [سورة الكهف:42]، وقوله: وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ [سورة آل عمران:119]، فما يقع في نفس الإنسان يظهر على جوارحه، هكذا قال جماعة كالأزهري الإمام المعروف في اللغة، وأبي جعفر النحّاس، وغيرهم، وابن جرير -رحمه الله- يرى أن أصل ذلك من الأخذة والأسر بحيث إنه يُلقى على الأرض وتكتف يداه إلى ظهره، فهذا أصل هذه الكلمة، كما يقال في اليمين: أصلها أن الرجل كان إذا حلف يأخذ بيمين صاحبه تأكيدًا للحلف بالفعل، يعني: القول والفعل، ثم بعد ذلك صار يطلق على الحلف بإطلاق وإن لم يكن فيه مثل هذا التصرف، وهكذا في كثير من الاستعمالات يذكر بعض أهل العلم الأصل في هذا الإطلاق، وقد يكون كذلك وقد لا يكون، فالله تعالى أعلم، فالمقصود بقوله: وَلَمَّا سُقِطَ فَي أَيْدِيهِمْ: يعني: ندموا، تقول: فلان فعل كذا وكذا ثم أُسقط في يده، بمعنى أنه لم يحصل مطلوبه، بل حصل عكس ذلك مما يستوجب الندم والتحير والتحسر، والله أعلم.
وقوله: وَرَأَوْاْ أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّواْ قَالُواْ لَئِن لَّمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا يقول: قرأ بعضهم لَئِن لَّمْ تَرْحَمْنَا وهي قراءة حمزة والكسائي وهي متواترة، قال: لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ: أي: من الهالكين.
والسياق في قوله -تبارك وتعالى: وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَّهُ خُوَارٌ [سورة الأعراف:148] أخبر عن اتخاذهم العجل، وفي الآية الثانية ذكر ندمهم ومقالتهم، وقالوا ما قالوا بعدما رجع موسى ﷺ، ونهاهم عن هذا، ولذلك قال بعدها: وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِن بَعْدِيَ [سورة الأعراف:150]، فالأسف والندم وقع لهم حينما قالوا: لَئِن لَّمْ يَرْحَمْنَا بعد مجيء موسى ﷺ فقدّمه هنا، فهذا من المقدم الذي حقه التأخير، ولكنه قُدم لنكتة، فمن أهل العلم من يقول: إنه قدم من أجل أن يجمع القول والفعل.
قوله: وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا هذا فعلهم وصنيعهم السيئ، وما الذي صدر منهم أيضًا؟ صدر منهم قول وهو: لَئِن لَّمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا ندموا على هذا، فجمع ما يتعلق بهم هنا، ثم ذكر مجيء موسى -عليه الصلاة والسلام- كما قال الله في سورة البقرة في قصة البقرة لما قال: إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً [سورة البقرة:67]، ثم ذكر أوصافها، ثم قال: وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا [سورة البقرة:72]، فهذا القتل للنفس والتدارؤ -يعني التدافع، هؤلاء يقولون: هؤلاء قتلوها، وهؤلاء يقولون: هؤلاء قتلوها- حصل قبل مجيء موسى -عليه الصلاة والسلام، وهو سبب الأمر لهم بذبح البقرة فأُخّر.
وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِن بَعْدِيَ أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الألْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي فَلاَ تُشْمِتْ بِيَ الأعْدَاء وَلاَ تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [سورة الأعراف:150، 151].
يخبر تعالى أن موسى لما رجع إلى قومه من مناجاة ربه تعالى وهو غضبان أسف، قال أبو الدرداء -: الأسف أشد الغضب.
قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِن بَعْدِيَ يقول: بئسما صنعتم في عبادة العجل بعد أن ذهبت وتركتكم.
وقوله: أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ يقول: استعجلتم مجيئي إليكم، وهو مقدر من الله تعالى.
قوله: أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ استعجلتم مجيئي إليكم، وهو مقدر من الله، وقيل: أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ يعني: الميعاد الذي وعده الله موسى ﷺ، وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاَثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ [سورة الأعراف:142]، فهو الأربعون، ومن أهل العلم من يقول: أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ: أي: سخَط الرب -تبارك وتعالى، وهذا فيه بعد، والله أعلم.
يعني أن الله أخبر موسى ﷺ بأنه فتن قومه من بعده وأضلهم السامري، وموسى -عليه الصلاة والسلام- على الطور، فما ألقى الألواح، فلما وصل إليهم ورآهم يعبدون العجل ألقى الألواح.
ثم ظاهر السياق أنه إنما ألقى الألواح غضبًا على قومه، وهذا قول جمهور العلماء سلفًا وخلفًا.
وقوله: وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ خوفًا أن يكون قد قصر في نهيهم، كما قال في الآية الأخرى: قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي [سورة طـه:92-94]، وقال هاهنا: ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي فَلاَ تُشْمِتْ بِيَ الأعْدَاء وَلاَ تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [سورة الأعراف:150] أي: لا تسُقْني مساقهم ولا تخلطني معهم، وإنما قال ابن أم ليكون أرق وأنجع عنده، وإلا فهو شقيقه لأبيه وأمه.
من أهل العلم من قال: إنه شقيقه، ومنهم من قال: إنه لأمه، لكن المشهور أنه شقيقه، وذكر بعض المؤرخين أن هارون -عليه الصلاة والسلام- كان أكبر سنًا من موسى -عليه الصلاة والسلام، وكان لينًا مع بني إسرائيل، ولذلك كانوا يركنون إليه ويميلون إليه، هكذا قال بعض المؤرخين، وقوله -تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا [سورة الأحزاب:69]، مما ذكر فيه أن هارون -عليه الصلاة والسلام- حينما مات زعم من زعم من بني إسرائيل أن موسى ﷺ هو الذي قتله، قالوا: لأنك تحسده لميل قومه إليه لطبعه، فموسى ﷺ كان يعاملهم بالحزم؛ ولذلك لما رجع انتهت المشكلة، بينما هارون -عليه الصلاة والسلام- كما قال: إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي فَلاَ تُشْمِتْ بِيَ الأعْدَاء، وهذا فيه عبرة، فهارون نبي من خيار الخلق، وقومه على قول هؤلاء المؤرخين يميلون إليه ومع ذلك يقول: فَلاَ تُشْمِتْ بِيَ الأعْدَاء؛ لأنه ما يسلم أحد، مهما عامل الناس بلطف ومداراة ومراعاة لهم، وقومه هم بنو إسرائيل، وهم الذين خرجوا ونجوا وكانوا في صحبته، مِنهم مَن يشمتون به ويعادونه ويتهكمون به إذا حصل مثل هذا.
فلما تحقق موسى براءة ساحة هارون ، كما قال تعالى: وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِن قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنتُم بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي [سورة طـه:90]، فعند ذلك قال موسى : رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [سورة الأعراف:151].
وروى ابن أبي حاتم عن ابن عباس -ا- قال: قال رسول الله ﷺ: يرحم الله موسى ليس المعاين كالمخبَر، أخبره ربه أن قومه فُتنوا بعده فلم يلق الألواح فلما رآهم وعاينهم ألقى الألواح[2].
إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ وَالَّذِينَ عَمِلُواْ السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِهَا وَآمَنُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ [سورة الأعراف:152، 153].
أما الغضب الذي نال بني إسرائيل في عبادة العجل فهو أن الله تعالى لم يقبل لهم توبة حتى قتل بعضهم بعضًا، كما تقدم في سورة البقرة: فَتُوبُواْ إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [سورة البقرة:54]، وأما الذلة فأعقبهم ذلك ذلًا وصغارًا في الحياة الدنيا.
وقوله: وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ نائلة لكل من افترى بدعة، فإن ذل البدعة ومخالفة الرسالة متصلة من قلبه على كتفيه، كما قال الحسن البصري: إن ذل البدعة على أكتافهم وإن هملجت بهم البغلات وطقطقت بهم البراذين. وهكذا روى أيوب السختياني عن أبي قلابة الجرمي أنه قرأ هذه الآية: وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ فقال: هي والله لكل مفترٍ إلى يوم القيامة. وقال سفيان بن عيينة: كل صاحب بدعة ذليل.
فكل من خالف أمر الله كأصحاب البدع والمعاصي فإن ذلك يكون نقصًا في عزتهم، فعلى قدر اتباع الإنسان واستقامته يكون له من العزة والهيبة بحسب حاله، فالناس يتفاوتون في هذا تفاوتًا كبيرًا.
وقوله: وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ الله يذكر الحكم خاصًا في قضية من القضايا، فإذا كان الجزاء لا يختص بهؤلاء فأراد أن يعممه جاء بالحكم العام بعده؛ لئلا يفهم أن ذلك يختص بهم، فلم يقل: وكذلك نجزيهم، بل قال: وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ، أي: لكل من افترى -وليس هؤلاء- الذل والصغار والعذاب، وهكذا في مواضع كثيرة في القرآن يذكر قضية خاصة ثم يعقبها بحكم عام وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ [سورة الأعراف:41] ونحو ذلك، ليشمل هؤلاء الذين فعلوا هذا الفعل، وغيرهم ممن شابههم، كما قال الله : وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ [سورة هود:83].
ثم نبه تعالى عباده وأرشدهم إلى أنه يقبل توبة عباده من أي ذنب كان، حتى ولو كان من كفر أو شرك أو نفاق أو شقاق، ولهذا عقب هذه القصة بقوله: وَالَّذِينَ عَمِلُواْ السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِهَا وَآمَنُواْ إِنَّ رَبَّكَ [سورة الأعراف:153] أي: يا محمد يا رسول التوبة ونبي الرحمة، مِن بَعْدِهَا: أي من بعد تلك الفعلة، لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ.
وروى ابن أبي حاتم عن عبد الله بن مسعود أنه سئل عن ذلك، يعني: عن الرجل يزني بالمرأة ثم يتزوجها، فتلا هذه الآية: وَالَّذِينَ عَمِلُواْ السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِهَا وَآمَنُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ [سورة الأعراف:153]، فتلاها عبد الله عشر مرات، فلم يأمرهم بها ولم ينههم عنها[3].
وَلَمَّا سَكَتَ عَن مُّوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ [سورة الأعراف:154].
يقول تعالى: وَلَمَّا سَكَتَ: أي سكن، عَن مُّوسَى الْغَضَبُ: أي غضبه على قومه، أَخَذَ الأَلْوَاحَ: أي التي كان ألقاها من شدة الغضب على عبادتهم العجل غيرة لله وغضبًا له، وفي نسختها هدى ورحمة.
قوله: وَلَمَّا سَكَتَ عَن مُّوسَى الْغَضَبُ أي: سكن، ويقال: جرى الوادي ثم سكت، أي: سكن، يعني عن جريانه، فكأن الغضب كان يدفعه ويحركه إلى أن يقول لهم ما قال، وأن يفعل ما فعل، ثم بعد ذلك سكت، ومن أهل العلم من يقول: هذا من القلب في اللغة، يقولون: سَكَتَ عَن مُّوسَى الْغَضَبُ يعني: سكت موسى عن الغضب، والله أعلم.
ولا حاجة لهذا، وإن كان يتأتى في بعض الصور وبعض الأمثلة، كأن تقول: أدخلت الخاتم بأصبعي، وأدخلت أصبعي بالخاتم، هذا لا إشكال فيه، يقولون: هذا قلب، لكن سَكَتَ عَن مُّوسَى الْغَضَبُ: أي سكن وهدأ.
قوله: وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ من أهل العلم من يقول: وَفِي نُسْخَتِهَا يعني: فيما نسخ له من اللوح المحفوظ، فِي نُسْخَتِهَا لماذا سميت نسخة؟ أصل النسخ يأتي لمعنيين، أحد هذين المعنيين: هو النقل، بنوعيه: النقل مع ذهاب الأصل، كتناسخ الأرواح، وهي عقيدة فاسدة باطلة، يعتقدون أن الروح تنتقل من هذا إلى هذا، والنقل مع بقاء الأصل، تقول: نسخت الكتاب، فهذه نسخة والأصل يبقى، فقوله: وَفِي نُسْخَتِهَا يقولون: مما نسخ من اللوح المحفوظ، أي أنها نسخت من اللوح المحفوظ فقيل لها ذلك.
قوله: وَفِي نُسْخَتِهَا: أي: وفيما كتب له فيها هدىً ورحمة، والنسخ هو الكتابة، وهذا اختيار ابن جرير، ومن أهل العلم من يقول: وَفِي نُسْخَتِهَا ما نسخ من الألواح المتكسرة، وهذا فيه بعد، ليس المقصود وَفِي نُسْخَتِهَا: أي ما نسخ من الألواح المتكسرة، والله تعالى أعلم.
قوله: إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ [سورة البقرة:248] يعني: مما ترك موسى وهارون، فالآل يطلق أحيانًا على ذات الشخص إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ [سورة آل عمران:33] يعني: إبراهيم وعمران على قول بعض المفسرين، فمن أهل العلم من يقول: إن الذي كان في التابوت هو ما ترضض من هذه الألواح، والعلم عند الله .
وكان بنو إسرائيل ينقلونه معهم في حروبهم ومعاركهم، وكانوا يضعونه ويصلون إليه، ثم صاروا يضعونه على الصخرة إذا كانوا في البلد ثم يصلون إليه، ثم بعد ذلك صاروا يصلون إلى الصخرة، والله أعلم.
الرهبة تتعدى بنفسها تقول: فلان يرهب فلانًا، لكن حينما تقول: يرهب لفلان، فيقال بتضمين الحرف معنى الحرف، كما عليه كثير من أهل اللغة، ومعلوم أن تضمين الفعل وما في معناه أبلغ؛ لأن ذلك يكون أوسع في المعنى، والقرآن يعبر به بالألفاظ القليلة الدالة على المعاني الكثيرة.
وقوله: لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ الرهبة: شدة الخوف، الخوف الشديد يقال له: رهبة، فضُمن معنى الخضوع، يرهبون مع خضوع، فالخضوع يعدى باللام، يقال: خضع فلان لفلان، وتقول: هو يرهبه، فعُدى بنفسه، والله أعلم.
- رواه أحمد في المسند من حديث ابن عباس ا (3/341)، برقم (1842)، وقال محققوه: حديث صحيح، رجاله ثقات رجال الشيخين، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (5373).
- رواه الحاكم في المستدرك برقم (3435)، وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، كتاب التفسير، تفسير سورة طه، وابن حبان في صحيحه برقم (6214) وقال شعيب الأرنؤوط: إسناده صحيح على شرط مسلم.
- رواه البيهقي في السنن الكبرى (13664)، كتاب النكاح، باب ما يستدل به على قصْر الآية على ما نزلت فيه أو نسخها، وابن سعد في الطبقات (6/200)، وقال الشيخ أحمد شاكر: إسناده صحيح، عمدة التفسير (2/61).