الثلاثاء 17 / جمادى الأولى / 1446 - 19 / نوفمبر 2024
[21] من قول الله تعالى: {وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ} الآية 164 إلى قوله تعالى: {إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ} الآية 170
تاريخ النشر: ٠٣ / ذو الحجة / ١٤٢٧
التحميل: 2934
مرات الإستماع: 2299

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال المفسر -رحمه الله تعالى- عند تفسير قوله تعالى:

وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ۝ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ۝ فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ [سورة الأعراف:164- 166]. 

يخبر تعالى عن أهل هذه القرية أنهم صاروا إلى ثلاث فرق، فرقة ارتكبت المحذور واحتالوا على اصطياد السمك يوم السبت، وفرقة نهت عن ذلك واعتزلتهم، وفرقة سكتت فلم تفعلْ ولم تنهَ ولكنها قالت للمنكِرة: لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا، أي: لم تنهون هؤلاء وقد علمتم أنهم قد هلكوا واستحقوا العقوبة من الله؟ فلا فائدة في نهيكم إياهم، قالت لهم المنكِرة: مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ، أي: فيما أخذ علينا من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ يقولون: ولعلهم لهذا الإنكار يتقون ما هم فيه ويتركونه، ويرجعون إلى الله تائبين، فإذا تابوا تاب الله عليهم ورحمهم، قال تعالى: فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ: أي فلما أبى الفاعلون قبول النصيحة، أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا: أي ارتكبوا المعصية بعذاب بئيس، فنصّ على نجاة الناهين وهلاك الظالمين وسكت عن الساكتين؛ لأن الجزاء من جنس العمل، فهم لا يستحقون مدحًا فيمدحوا ولا ارتكبوا عظيمًا فيذموا.

وعن عكرمة عن ابن عباس -ا- في الآية، قال: ما أدري أنجا الذين قالوا: لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أم لا؟، قال: فلم أزل به حتى عرّفته أنهم قد نجوا، فكساني حلة.

وقوله تعالى: وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ، فيه دلالة بالمفهوم على أن الذين بقوا نجوا، وبئيس معناه في قول مجاهد: الشديد، وفي رواية أليم، وقال قتادة: موجع، والكل متقارب، والله أعلم.

وقوله: خَاسِئِينَ: أي ذليلين حقيرين مهانين.

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فقوله -تبارك وتعالى: وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا، المشهور الذي عليه عامة المفسرين هو ما ذكره الحافظ ابن كثير -رحمه الله: أنهم انقسموا إلى ثلاث طوائف، ومن أهل العلم من يقول بأن هؤلاء هم أهل المنكر، قالوا للذين نصحوهم وأنكروا عليهم: إذا كنتم تقولون: إن الله سيعذبنا فلما تتعبون أنفسكم، لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا، فأجابوهم: مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ فهذا القول وإن قال به بعض أهل العلم إلا أنه قول مرجوح، وظاهر القرآن يدل على خلافه؛ لأن الله قال: وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا فلو كان هذا قول الطائفة الثانية وأنهم انقسموا إلى فرقتين، لكان التعبير بغير هذا، والله تعالى أعلم.

ثم إنه قال: وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [سورة الأعراف:174]، فلو كان هؤلاء يتحدثون عن أنفسهم حينما قالوا: لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ لقال: ولعلكم ترجعون، وفي وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ، لقال: ولعلكم تتقون، ولكنه قال: وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ.

وقوله: قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ يقول الحافظ: أي فيما أخذ علينا من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ هذا القول تضمن فائدة من فوائد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهي أن الإنسان حينما يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر فإن ذلك لانتفاع الناس الذين يأمرهم وينهاهم، وقد لا ينتفعون، ولكنه يلقي بالتبعة هو أيضًا ويقوم بما أوجب لله عليه، قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ فإنها لا تبرأ الذمة ولا يسلم الإنسان من التبعة إذا قصر، وتضمن حكمًا وهو: أن الإنسان يأمر وينهى حتى لو كان لا يرجو انتفاع المأمور والمنهي، إعذارًا إلى الله ، وإقامة للحجة على الخلق، وإحياء لهذه الشعيرة، ودفعًا لاندراس العلم، وظهور الجهل، وإلف المنكر، وإبقاء لحيوية القلب تجاه المنكر، والقيام بالعبودية لله -تبارك وتعالى- في هذا المقام، والإنسان سيحاسب على تركه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إذ هو مأمور به لقول رسول الله ﷺ: من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده[1]

وأما قوله -تبارك وتعالى: فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى [سورة الأعلى:9]، فقد لا يكون حجة للقول بأنه إن لم يرجُ الانتفاع لا يجب عليه التذكير والأمر والنهي فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى من أهل العلم من يقول: إنه ذكر أشرف الأمرين؛ ليدل به على الآخر، أي: فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى وإن لم تنفع، اكتفى بأحد الأمرين ليدل على ما يقابله، فالراجح أن الإنسان يجب عليه أن يأمر وينهى وإن لم يرجُ انتفاع المأمور والمنهي.

وقوله: مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ هذه قراءة حفص عن عاصم بالنصب، وقرأه الباقون بالرفع مَعْذِرَةٌ إِلَى رَبِّكُمْ، فعلى قراءة النصب يكون "معذرةً" مصدرًا، أي: فعلنا ذلك معذرةً، وعلى القراءة الأخرى قراءة الجمهور يكون على تقدير مبتدأ، يعني: موعظتنا معذرةٌ إلى الله.

وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَن يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ [سورة الأعراف:167].

تأذن: تفعَّل من الأذان، أي: أعلم، قاله مجاهد وقال غيره: أمر.

وَإِذْ تَأَذَّنَ قال: أعلم، يعني آذن فَقُلْ آذَنتُكُمْ عَلَى سَوَاء [سورة الأنبياء:109]، أي: أعلمتكم، الإيذان هو الإعلام، والأذان هو الإعلام بالصلاة، وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ [سورة الأعراف:167] قال: وفي قوة الكلام ما يفيد معنى القسم، وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ، كما تقول: علم الله، شهد الله، تقول: شهد الله أني ما قلت كذا، علم الله أني ما ذهبت إليه، فهو في قوة القسم، وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ.

وفي قوة الكلام ما يفيد معنى القسم من هذه اللفظة، ولهذا تُلُقِّيَت باللام في قوله: لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ، أي: على اليهود، إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَن يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ [سورة الأعراف:167]، أي: بسبب عصيانهم ومخالفتهم أوامر الله وشرعه، واحتيالهم على المحارم.

قوله: إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَن يَسُومُهُمْ: يعني يذيقهم سُوءَ الْعَذَابِ.

ويقال: إن موسى ضرب عليهم الخراج سبع سنين، وقيل: ثلاث عشرة سنة، وكان أول من ضرب الخراج، ثم كانوا في قهر الملوك من اليونانيين والكشدانيين والكلدانيين، ثم صاروا إلى قهر النصارى وإذلالهم إياهم، وأخذهم منهم الجزية والخراج، ثم جاء الإسلام ومحمد ﷺ فكانوا تحت قهره وذمته، يؤدون الخراج والجزية.

تاريخ اليهود مليء بهذا، ولذلكم لا تكاد تجد بقعة في العالم إلا وفيها حفنة من اليهود، قطّعهم في الأرض أممًا كما أخبر، وحصل لهم من العذاب والقتل الشيء الكثير، حتى إنه كان ينادى في ممالك الروم في أوقات مختلفة بقتل اليهود، ولربما قام عليهم بعض الأمراء من الرومان، في بعض النواحي بالشام، ونادوا على كل من في البلد من اليهود لمَا كانوا يلقون منهم من الدسائس والفساد والشر، وكانوا أقذر الناس في ممالكهم وأسوأ الناس طوية وخلقًا، وإفسادًا في الأرض، كان أولئك لا يطيقون ما يرونه منهم، فكانوا يأمرون بقتل كل اليهود، والله المستعان.

سبب قِلة اليهود:

السبب في قِلتهم ليس القتل لهم؛ ولكن هم ديانة ليسوا كالنصارى، النصارى ينشرون دينهم، فنشروه في جميع البلدان، وقد روي أن عيسى -عليه الصلاة والسلام- قال: إنما بعثت لهداية خراف بني إسرائيل الضالة، وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ [سورة آل عمران:49]، أما اليهود فهم منطوون على أنفسهم، وحتى من يدعي اليهودية منهم، لا يعترفون به، لأنهم يشترطون أن تكون أم هذا الإنسان يهودية؛ ولذلك هم لا يدْعون إلى دينهم، هم يرون أن هذا شرف حُبي به الإسرائيليون، ولذلك لا يخاطبون بدينهم سائر الناس؛ فالذين يأتون إلى فلسطين شُذّاذ الآفاق وعندهم مشكلات، فمنهم من لا يُعترف به بأنه يهودي إلى الآن، لأنه لم يثبت أن أمه يهودية، أبوه يهودي لكن أمه ليست يهودية، جاءوا من بيئات شتى ليكونوا دولة، هذا جاء من أمريكا وهذا جاء من روسيا، وهذا جاء من أثيوبيا وهذا جاء من اليمن، وهذا جاء من الهند، ومن كل مكان، ولذلك تجد يهود العرب يعملون في النظافة، والأعمال المهنية الوضيعة، ويعاملونهم بشيء من الازدراء والاحتقار، والأوروبي تجد أن منزلته والوظائف التي يتقلدها تختلف عن الآخرين، هذا هو المجتمع عندهم هناك، يُرون من بعيد أنهم دولة متقدمة وحضارية، وهم بينهم ما بينهم من الشر وأسباب التفكك والتشرذم، إضافة إلى التشرذم الذي داخل اليهود أصلًا، فالسبب في قلتهم أنهم أصحاب ديانة مغلقة.

قال العوفي عن ابن عباس -ا- في تفسير هذه الآية، قال: هي المسكنة وأخذ الجزية منهم.

وروى عبد الرزاق وسعيد بن المسيب قال: يستحب أن يبعث الأنباط في الجزية، قلت: ثم آخر أمرهم أنهم يخرجون أنصارًا للدجال، فيقتلهم المسلمون مع عيسى ابن مريم -، وذلك آخر الزمان.

وقوله: إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ أي: لمن عصاه وخالف شرعه، وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ أي: لمن تاب إليه وأناب، وهذا من باب قرن الرحمة مع العقوبة، لئلا يحصل اليأس، فيقرن تعالى بين الترغيب والترهيب كثيرًا، لتبقى النفوس بين الرجاء والخوف.

وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ۝ فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ۝ وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ[ سورة الأعراف:168-170].

يذكر تعالى أنه فرّقهم في الأرض أممًا، أي: طوائف وفرقا، كما قال: وَقُلْنَا مِن بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُواْ الأَرْضَ فَإِذَا جَاء وَعْدُ الآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا [سورة الإسراء:104].

مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ أي: فيهم الصالح وغير ذلك، كقول الجن: وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا [سورة الجن:11].

وَبَلَوْنَاهُمْ: أي: اختبرناهم، بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ: أي: بالرخاء والشدة، والرغبة والرهبة والعافية والبلاء لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ.

ثم قال تعالى: فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُواْ الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأدْنَى الآية، يقول تعالى: فخلف من بعد ذلك الجيل الذين فيهم الصالح والطالح خلف آخر لا خير فيهم، وقد ورثوا دراسة الكتاب وهو التوراة، وقال مجاهد في قوله تعالى: يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأدْنَى قال: لا يشرف لهم شيء في الدنيا إلا أخذوه حلالًا كان أو حرامًا، ويتمنون المغفرة، ويقولون: سيغفر لنا، وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه.

وقال قتادة في قوله: يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأدْنَى: أي والله لخلف سوء، ورثوا الكتاب بعد أنبيائهم ورسلهم، أورثهم الله وعهد إليهم.

قوله: يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأدْنَى ما يتاح لهم من الدنيا، ويتيسر ويتحصل لهم فإنهم يأخذونه غير مبالين بحله أو بحرمته، يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأدْنَى فالحلال عندهم ما حل باليد، ينظرون إلى المتاع القريب غير عابئين بحساب الله -، ومن أهل العلم من فسر الأدنى هنا بما يدل على معنى الدناءة، أي: يأخذون العرض الدنيء مستعيضين به عما عند الله ، فالذي يلوح لهم من الطمع في هذه الحياة الدنيا العاجلة المتقضية الفانية يأخذوه ويقولون: سيغفر لنا، ولا يكتفون بهذا بل إذا حصل لهم مرة أخرى لا يترددون في أخذه وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ، ليست مرة واحدة ثم يتوبون، ومن أهل العلم من يقول: وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أي: أنه إذا جاء بعدهم قوم ورثوهم فيعملون كعملهم، بل هم أنفسهم كلما لاح لهم طمع سارعوا إلى أخذه، وتهافتوا عليه، والخَلْف والخَلَف من أهل العلم من فرق بينهما، فقال: الخَلَف للوارث الطيب، والخَلْف للوارث السيئ، لحديث النبي ﷺ: ثم إنها تَخْلف من بعدهم خُلُوفٌ يقولون مالا يفعلون ويفعلون مالا يؤمرون..[2]، ومن أهل العلم من لم يفرق بينهما.

وقال الله تعالى في آية أخرى: فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ [سورة مريم:59] الآية، قال: يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا، تمنوا على الله أمانيَ وغرّة يغترون بها، وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ، لا يشغلهم شيء ولا ينهاهم شيء عن ذلك، كلما هف لهم شيء من الدنيا أكلوه، لا يبالون حلالًا كان أو حرامًا.

كلما هف لهم، يعني: خف لهم وأسرع إليهم، أي: كلما أتيح لهم، هف: خف.

وقال السدي: قوله: فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ إلى قوله: وَدَرَسُواْ مَا فِيهِ [سورة الأعراف:169]، قال: كانت بنو إسرائيل لا يستقضون قاضيًا إلا ارتشى في الحكم، وإنّ خيارهم اجتمعوا، فأخذ بعضهم على بعض العهود أن لا يفعلوا ولا يرتشوا فجعل الرجل منهم إذا استقضى ارتشى، فيقال له: ما شأنك ترتشي في الحكم؟ فيقول: سيغفر لي، فتطعن عليه البقية الآخرون من بني إسرائيل فيما صنع، فإذا مات أو نُزع، وجُعل مكانه رجل ممن كان يطعن عليه فيرتشي، يقول: وإن يأتِ الآخرين عرضُ الدنيا يأخذوه.

قوله: وَإِنْ يَأْتِهِمْ يعني: الذي يأتي بعده يرتشي، ثم الذي يأتي بعدهم يفعل كفعلهم؛ لترحل التقوى من قلوبهم.

قال الله تعالى: أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِم مِّيثَاقُ الْكِتَابِ أَن لاَّ يِقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقَّ [سورة الأعراف:169] الآية، يقول تعالى منكرًا عليهم في صنيعهم هذا مع ما أخذ عليهم من الميثاق، ليبيننّ الحق للناس ولا يكتمونه، كقوله: وَإِذَ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاء ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْاْ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ [سورة آل عمران:187]، وقال ابن جريج: قال ابن عباس -ا: أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِم مِّيثَاقُ الْكِتَابِ أَن لاَّ يِقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقَّ قال: فيما يتمنون على الله في غفران ذنوبهم التي لا يزالون يعودون فيها ولا يتوبون منها.

قوله: وَدَرَسُواْ مَا فِيهِ يعني: والحال أنهم قد درسوا ما في الكتاب وعلموه، فهم حينما يفعلون ذلك ويقدمون عليه فإنهم لا يفعلونه جهلًا، وإنما عن علم وفهم ومعرفة بأحكام الله ، وهذا هو المتبادر من معناها، ودرسوا ما فيه: أي لم يكن ذلك عن جهل وغفلة، ومن أهل العلم من قال: وَدَرَسُواْ مَا فِيهِ، من الاندراس يعني: أن ما في الكتاب قد ذهب وانمحى لترك العمل به، والقول الأول أرجح وهو المتبادر، والله أعلم.

وقوله تعالى: وَالدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ [سورة الأعراف:169]، يرغبهم في جزيل ثوابه، ويحذرهم من وبيل عقابه، أي: وثوابي وما عندي خير لمن اتقى المحارم وترك هوى نفسه، وأقبل على طاعة ربه، أَفَلاَ تَعْقِلُونَ يقول: أفليس لهؤلاء الذين اعتاضوا بعرض الدنيا عما عندي عقل يردعهم عما هم فيه من السفه والتبذير؟، ثم أثنى تعالى على من تمسك بكتابه الذي يقوده إلى اتباع رسوله محمد ﷺ كما هو مكتوب فيه، فقال تعالى: وَالَّذِينَ يُمَسَّكُونَ بِالْكِتَابِ [سورة الأعراف:170] أي: اعتصموا به واقتدوا بأوامره وتركوا زواجره، وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ.
  1. رواه مسلم برقم(49)، كتاب الإيمان، باب بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان وأن الإيمان يزيد وينقص وأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبان.
  2. رواه مسلم برقم (50)، من حديث عبدالله بن مسعود ، كتاب الإيمان، باب بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان، وأن الإيمان يزيد وينقص وأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبان.

مواد ذات صلة