الثلاثاء 17 / جمادى الأولى / 1446 - 19 / نوفمبر 2024
[22] من قول الله تعالى: {وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَل َفَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ} الآية 171 إلى قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} الآية 174
تاريخ النشر: ٠٤ / ذو الحجة / ١٤٢٧
التحميل: 3146
مرات الإستماع: 2510

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال المفسر -رحمه الله تعالى- في تفسير قوله تعالى:

وَإِذ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّواْ أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُواْ مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ۝ وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ [سورة الأعراف:171، 172].

قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس -ا: قوله: وَإِذ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ يقول: رفعناه، وهو قوله: وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ [سورة النساء:154].

وقال سفيان الثوري عن الأعمش عن سعيد بن جبير عن ابن عباس -ا: رفعته الملائكة فوق رءوسهم وهو قوله: وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ.

وقال القاسم بن أبي أيوب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس -ا- قال: ثم سار بهم موسى إلى الأرض المقدسة، وأخذ الألواح بعدما سكت عنه الغضب وأمرهم بالذي أمر الله أن يبلغهم من الوظائف، فثقلت عليهم وأبوا أن يقروا بها حتى نتق الله الجبل فوقهم كأنه ظلة، قال: رفعته الملائكة فوق رءوسهم، رواه النسائي بطوله.

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فقوله -تبارك وتعالى: وَإِذ نَتَقْنَا الْجَبَلَ من أهل العلم من قال: إن النتق أصله أن ترفع الشيء، أو أن تستخرج الشيء من مكانه بقوة ثم ترمي به، فيكون المعنى: قلعه من مكانه، والظلة: كل شيء أظلك من سحاب ونحوه، كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ صار كأنه سحاب فوق رءوسهم، خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ أي: بجد وعزيمة، وَاذْكُرُواْ مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ أي: من العهود والمواثيق التي أخذنا عليكم العمل بها، اذكروا ما فيه من الأحكام.

وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ ۝ أَوْ تَقُولُواْ إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ [سورة الأعراف:172، 173].

يخبر تعالى أنه استخرج ذرية بني آدم من أصلابهم شاهدين على أنفسهم أن الله ربهم ومليكهم، وأنه لا إله إلا هو، كما أنه تعالى فطرهم على ذلك وجبلهم عليه، قال تعالى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ [سورة الروم:30]، وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه، كما تولد البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء[1].

وفي صحيح مسلم عن عياض بن حمار قال: قال رسول الله ﷺ: يقول الله: إني خلقت عبادي حنفاء فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم[2]، وقد وردت أحاديث في أخذ الذرية من صلب آدم -، وتمييزهم إلى أصحاب اليمين وأصحاب الشمال.

روى الإمام أحمد عن أنس بن مالك عن النبي ﷺ قال: يقال للرجل من أهل النار يوم القيامة: أرأيت لو كان لك ما على الأرض من شيء أكنت مفتدياً به؟ قال: فيقول: نعم، فيقول: قد أردت منك أهون من ذلك، قد أخذت عليك في ظهر آدم ألا تشرك بي شيئاً، فأبيت إلا أن تشرك بي[3]، أخرجاه في الصحيحين.

وروى الترمذي عند تفسيره هذه الآية عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: لما خلق الله آدم مسح ظهره فسقط من ظهره كل نسمة هو خالقها من ذريته إلى يوم القيامة، وجعل بين عيني كل إنسان منهم وبيصاً من نور، ثم عرضهم على آدم فقال: أي رب من هؤلاء؟ قال: هؤلاء ذريتك، فرأى رجلاً منهم فأعجبه وبيص ما بين عينيه قال: أي رب من هذا؟، قال: هذا رجل من آخر الأمم من ذريتك يقال له داود، قال: رب وكم جعلت عمره؟، قال: ستين سنة، قال: أي رب وقد وهبتُ له من عمري أربعين سنة، فلما انقضى عمر آدم جاءه ملك الموت، قال: أولم يبقَ من عمري أربعون سنة؟ قال: أولم تعطها ابنك داود؟، قال: فجحد آدم فجحدت ذريته، ونسي آدم فنسيت ذريته، وخطئ آدم فخطئت ذريته[4]، ثم قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، وقد روي من غير وجه عن أبي هريرة عن النبي ﷺ، ورواه الحاكم في مستدركه وقال: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه[5].

فهذه الأحاديث وأمثالها دالة على أن الله استخرج ذرية آدم من صلبه وميز بين أهل الجنة وأهل النار، ثم قال: وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى: أي أوجدهم شاهدين بذلك قائلين له حالاً وقالاً، والشهادة تارة تكون بالقول كقوله: قَالُواْ شَهِدْنَا عَلَى أَنفُسِنَا [سورة الأنعام:130] الآية، وتارة تكون حالاً كقوله تعالى: مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ [سورة التوبة:17] أي: حالهم شاهد عليهم بذلك، لا أنهم قائلون ذلك، وكذا قوله تعالى: وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ [سورة العاديات:7]، كما أن السؤال تارة يكون بالقال، وتارة يكون بالحال، كقوله: وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ [سورة إبراهيم:34].

قالوا: ومما يدل على أن المراد بهذا هذا، أن جعل هذا الإشهاد حجة عليهم في الإشراك، فلو كان قد وقع هذا كما قال من قاله، لكان كل أحد يذكره ليكون حجة عليه، فإن قيل: إخبار الرسول ﷺ كافٍ في وجوده، فالجواب: أن المكذبين من المشركين يكذبون بجميع ما جاءتهم به الرسل من هذا وغيره، وهذا جُعل حجة مستقلة عليهم، فدل على أنه الفطرة التي فطروا عليها من الإقرار بالتوحيد، ولهذا قال: أَن تَقُولُواْ أي: لئلا تقولوا يوم القيامة: إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا: أي التوحيد غَافِلِينَ ۝ أَوْ تَقُولُواْ إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا الآية.

يرى الحافظ ابن كثير رحمه الله- أن الميثاق والعهد في قوله تعالى: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ: هو ميثاق الفطرة، ويرى أن الإشهاد ليس بلسان المقال، وإنما بلسان الحال، فحالهم شاهدة بهذا، كما قال -رحمه الله: كما أنه تعالى فطرهم على ذلك، ويقول: يخبر تعالى أنه استخرج ذرية بني آدم، ولم يقل: استخرج ذرية آدم، فهو يرى أن استخراج الذرية من الأصلاب، يتناسلون فيخرجون على الفطرة، هذا معنى الإشهاد عنده، فهو يقول: إنه استخرج ذرية بني آدم من أصلابهم، فهذه العبارة دقيقة، شاهدين على أنفسهم أن الله ربهم، شاهدين بلسان الحال، فالله تعالى فطرهم على ذلك وجبلهم عليه، فهم يخرجون شاهدين على أنفسهم بلسان الحال، وأن الله أودع في فطرهم ما يقتضي ذلك، فُطروا على الدين، وعلى التوحيد، وذكَرَ أحاديث الفطرة، وأحاديث استخراج الذرية من صلب آدم، ثم صرح بعد ذلك بأن المراد بذلك: أنهم خرجوا إلى الدنيا شاهدين بلسان الحال. 

وهذا الكلام مطابق لما ذكره الحافظ ابن القيم -رحمه الله في كتاب الروح وقد أطال الكلام في ذلك، وفي كتاب أحكام أهل الذمة، ومن أهل العلم مثل ابن قتيبة -رحمه الله- من فسر ذلك بالمعرفة: أن الله أخرجهم من بطون أمهاتهم عارفين بتوحيده، ورد عليه الإمام محمد بن نصر المروزي -رحمه الله- في كتاب خاص، وساق الأدلة الكثيرة على استخراج الذرية من صلب آدم، مثل هذا الحديث وغيره، فحاول ابن القيم -رحمه الله- أن يوجه كلام ابن قتيبة؛ لأن الرد كان قاسياً من الإمام محمد بن نصر المروزي -رحم الله الجميع، فتلطف وحاول أن يحمل كلام ابن قتيبة على معنى غير الذي فهمه الإمام المروزي، وقرر ابن القيم -رحمه الله- أن الإشهاد بلسان الحال، وأن المقصود بذلك الفطرة، وهذا مخالف لهذه الأحاديث الصريحة التي تدل على استخراج الذرية من صلب آدم من ظهر آدم، وأن الله أشهدهم على أنفسهم، ومثل هؤلاء العلماء كابن كثير وابن القيم -رحمهم الله- ومن وافقهم على هذا يحتجون بما أشار إليه الحافظ ابن كثير -رحمه الله- بأن هذا جعله الله حجة عليهم وهم لا يذكرونه، فكيف يحتج عليهم بشيء لا يذكرونه؟ ويقول -تبارك وتعالى: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ ولم يقل: من آدم، مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وفي قراءة ابن كثير: من ظهورهم ذرياتهم.

فالشاهد أن هذا أكثر ما احتج به هؤلاء واحتجوا بأشياء أخرى، ومن أهل العلم من يقول غير هذا فقالوا: المأخوذ هم الذرية جيلاً بعد جيل ونسلاً بعد نسل، ودلهم بخلقه عليهم، فقامت عليهم هذه الدلالة مقام الإشهاد، والذين فسروه بالأحاديث التي تدل على استخراج الذرية من صلب آدم قالوا: إن قوله: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ من بني آدم أي: من آدم، فاستخرج منه الذرية، كما تدل عليه الأحاديث، وقالوا: هذا معروف واقع في كلام العرب، أنْ يعبر بمثل هذا التعبير، وابن جرير -رحمه الله- يقول: استخرج ولد آدم من أصلاب آبائهم. 

والراجح في تفسير الآية -والله تعالى أعلم: أن تحمل على هذه الأحاديث الصريحة الواضحة في أن الله استخرج الذرية من صلب آدم وأشهدهم على أنفسهم، وإذا ورد نهر الله بطل نهر معقل، لا كلام مع حديث رسول الله ﷺ، ولا يقال: إن الناس لا يذكرون هذا العهد والميثاق، فلا يُعارَض ما ثبت عن النبي ﷺ بمثل هذا، فالله أخذ الذرية من صلب آدم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم، أخرجهم كهيئة الذر، كما تدل عليه هذه الأحاديث، ولكن ذلك لا يتوقف عليه الجزاء والحساب، ودخول الجنة أو النار، ثم أودع في فطرهم مقتضى التوحيد كل مولود يولد على الفطرة، فهو يفطر على توحيد الله ، لا يفطر على الشرك، ومع ذلك الله لا يحاسبهم بمقتضى هذه الفطرة، ثم أقام الله لهم الدلائل، والبراهين مما يشاهدونه من الآيات في الآفاق وفي الأنفس الدالة على الوحدانية، ومع ذلك الله لا يحاسبهم بمقتضى هذا، فأعطاهم عقولاً تدرك وتعرف أن الله واحد لا شريك له، وأدرك جملاً من هذه المعاني، وتفاصيل ذلك يؤخذ من الوحي كأسماء الله وصفاته. 

كما أن العقل قد يدرك بعض هذه الأمور، مثل أن الله حي، عليم، قدير، وما أشبه هذا، وتفاصيل هذه الأمور توقيفية، وهذه الفطرة لا تكون بمجردها سبباً لدخول الجنة أو النار، بل أرسل إليهم الرسل، وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً [سورة الإسراء:15]، فهذا العهد أخذه عليهم وهم في ظهر آدم، لكن لا يتوقف عليه المحاسبة ودخول الجنة أو النار، فكونهم لا يذكرونه لا يغير من الحكم، والله تعالى أعلم.

قوله: قَالُواْ شَهِدْنَا هذا من كلامهم، ومن أهل العلم من يقول: قَالُواْ شَهِدْنَا إن هذا من كلام الملائكة، والأرجح والأصل أن الكلام للذرية، وهذا اختيار ابن جرير وعامة أهل العلم.

وقوله: أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ [سورة الأعراف:172]، في قراءة أبي عمرو في الموضعين بالياء، أن يقولوا، إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا يعني: كراهة أن يقولوا، وبالتاء: كراهة أن تقولوا.

  1. رواه البخاري برقم (1319)، كتاب الجنائز، باب ما قيل في أولاد المشركين، ومسلم برقم (2658)، كتاب القدر، باب ما قيل في أولاد المشركين.
  2. رواه مسلم برقم (2865)، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب الصفات التي يعرف بها في الدنيا أهل الجنة وأهل النار.
  3. رواه البخاري برقم (6189)، كتاب الرقائق، باب صفة الجنة والنار، ومسلم برقم (2805)، كتاب صفة القيامة والجنة والنار، باب طلب الكافر الفداء بملء الأرض ذهبا، وأحمد في المسند (19/302)، برقم (12289)، وقال محققوه: إسناده صحيح على شرط الشيخين، واللفظ له.
  4. رواه الترمذي برقم (3076)، كتاب تفسير القرآن عن رسول الله ﷺ، باب ومن تفسير سورة الأعراف، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (5208).
  5. رواه الحاكم في المستدرك (2/354) برقم (3257)، كتاب التفسير، في تفسير سورة الأعراف، وهو صحيح كما تقدم.

مواد ذات صلة