الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فسأشير في هذا المجلس إلى الفهم الصحيح فيما يتعلق بثلاث آيات من كتاب الله مما قد لا يُفهم على وجهه.
فالآية التاسعة هي من سورة البقرة وهي قوله -تبارك وتعالى- في شرع الصيام: أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:184].
فقوله: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ، قد يُشكل هذا على من يقرأ هذه الآية، الذي يطيق الصيام يجب عليه أن يصوم فكيف قال الله : وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ [البقرة:184]، وبيان ذلك أن الله لما فرض الصوم فرضه على التدريج، فكان أول ما وجب هو صوم يوم عاشوراء، إذ ن النبيﷺ أمر منادياً أن ينادي أن من أصبح صائماً في يوم عاشوراء فليتم صومه، ومن أصبح مفطراً فليصم بقية يومه"
الله لما فرض الصوم فرضه على التدريج، فكان أول ما وجب هو صوم يوم عاشوراء، إذ ن النبي ﷺ أمر منادياً أن ينادي أن من أصبح صائماً في يوم عاشوراء فليتم صومه، ومن أصبح مفطراً فليصم بقية يومه"[1]، فكان ذلك على الوجوب، وجاء في بعض الروايات أنه كان يجب عليهم أن يصوموا ثلاثة أيام من كل شهر مع يوم عاشوراء، ثم بعد ذلك شرع الله صوم رمضان، ولكنه كان في ابتداء الأمر على التخيير؛ لأنه عبادة شاقة، وهو شهر كامل، فمن شاء أن يصوم صام، ومن لم يصم مع استطاعته فله أن يستعيض عن الصوم بالإطعام، أن يُطعم عن كل يوم مسكيناً، وليس عليه قضاء بعد ذلك، هذا في أول الأمر، ثم فرض الله على الجميع الصوم فنسخ هذه الآية بالتي بعدها، وهي قوله: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة:185]، فهنا لا يُرخص لأحد بترك الصوم إلا من كان عاجزاً بالمرض أو غير ذلك، وكان في أول الأمر في صوم رمضان كان يجب على الإنسان أن يصوم إلى المغرب كما هو الآن، ولكنه يحرم عليه في ليلة الصيام أن يطأ أهله، كما أنه يُشرع له أن يأكل ويشرب -أو يُباح- في ليلة الصوم بشرط أن لا ينام، فإن تخلل ذلك النوم فإنه يُمسك إلى اليوم الآخر، فشق ذلك على الناس فأنزل الله : أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ [البقرة:187]، يعني: من الولد بالنكاح، وأمّا مسألة الأكل والشرب فقال: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ [البقرة:187]، وذلك أنه لمّا كان يُمنع من نام أن يأكل بعد نومته فقد حدث أنه "جاء بعض أصحاب النبي ﷺ من حقله -من مزرعته- مُنهكاً في سائر النهار، فلما دخل على امرأته قال: هل عندكم شيء؟، هل عندكم طعام؟، ما عندهم موائد مثلنا الآن النساء يشتغلون فيها من بعد صلاة الظهر، دخل هل عندكم طعام؟ قالت: أطلب لك، فذهبت لتحضر له شيئاً أو تبحث عن شيء يأكله فهو مع الإنهاك غلبته عينه، فدخلت عليه فإذا هو نائم، قالت: خيبةً لك"، يعني هذا: أنه لن يأكل إلا من الليلة الأخرى في الفطر، "فصار يُغمى عليه في وسط النهار، فأُخبر النبي ﷺ فأنزل الله هذه الآية تخفيفاً"[2].
إذن قوله: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ [البقرة:184]، كان هذا في أول الأمر على التخيير ثم نُسخ بقوله: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ [البقرة:185]، فلا يُشكل، وبعض أهل العلم كابن عباس يقول: وَعَلَى الَّذِينَيُطِيقُونَهُ [البقرة:184]، يعني: يطيقونه بكلفة زائدة وهو الشيخ الهرم الكبير والمريض المرض الذي لا يُرجى بُرؤه ويتكلف الصوم جدًّا، فهذا المقصود، واحتجوا بقراءة شاذة أخرى، وهي قوله: وعلى الذين يُطَوَّقونه يعني: يطيقونه بكلفة، فعلى هذا الآية غير منسوخة، إنما هي في من يشق عليه الصوم كالشيخ الكبير والإنسان الذي قد مرض مرضاً لا يُرجى بُرؤه.
والآية العاشرة: وهي قوله تعالى: وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ [البقرة:189]، ما معنى هذه الآية؟ قد يقرأ الإنسان ولا يفهم، هل هناك أحد يأتي ويتسور البيت إذا أراد أن يدخل ما يدخل مع الباب؟، يقال: نعم، كان ذلك الأمر يفعلونه ديانة، جاء في بعض الروايات كما في حديث البراء في صحيح البخاري: "أن الأنصار كانوا إذا رجعوا من سفر، أو كانوا إذا أحرموا في الجاهلية أتوا البيت من ظهره، فأنزل الله: وَلَيْسَ الْبِرُّ"[3]، يعني: كانوا يرونه من محظورات الإحرام، كما يقال: لا يغطي رأسه مثلاً، ولا يلبس المخيط، أنه لا يدخل بيته من الباب، إذا بدت له حاجة ماذا يصنع؟ يتسور البيت من أجل أن يدخل، وجاء في بعض الروايات: "أن بعضهم -بعض الأنصار- كانوا إذا خرج الواحد منهم في سفر ثم بدا له في هذا السفر -يعني أن يُلغي هذا السفر ويبقى، أو أنه بدت له حاجة ليرجع إلى بيته- لم يدخل مع الباب، يتسور"، وجاء في بعض الروايات أن الأنصار -يعني قبل الإسلام- كانوا إذا جاءوا من عيد من أعيادهم -إذا رجعوا من عيد من أعيادهم- يرون أنه لا يجوز للواحد منهم أن يدخل بيته من الباب، وإنما يدخلون من السور، فهذا كله كان يقع من بعضهم، فأنزل الله هذه الآية: وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا [البقرة:189]، هذا أمر لا يُتقرب به إلى الله، وليس من الدين في شيء، وليس من الطاعات، وهو عمل لا معنى له، وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى [البقرة:189]، البر في تقوى الله ، فِعل أوامره واجتناب نواهيه، أمّا هذه السخافات فليس لها معنى، فهذا من شرع الجاهلية، هذا معنى الآية.
البر في تقوى الله ، فِعل أوامره واجتناب نواهيه، أمّا هذه السخافات فليس لها معنى، فهذا من شرع الجاهلية، هذا معنى الآية.
والآية الثالثة والأخيرة وهي الآية الحادية عشرة: وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ [البقرة:190]، هذه الآية مجال كبير للملبسين في هذا الزمان لاسيما في هذه الأيام، يقولون: الجهاد إنما شُرع للدفاع فقط، وليتهم اكتفوا بهذا، حتى الدفاع، فصار الذين يدافعون عن بيوتهم تُهدم على رءوسهم وتُجرب عليهم جميع أنواع الأسلحة في فلسطين، وفي العراق صار هؤلاء مجموعات إرهابية يجب محاربتها والقضاء عليها بكل وسيلة ممكنة، هؤلاء الذين يدافعون عن بيوتهم وعن حريمهم صاروا بهذه المثابة، والذي يأتي من وراء البحار في أرض هو غريب الوجه فيها واليد واللسان، يأتي من وراء البحار ويهدم على الناس بيوتهم ويجرب عليهم جميع أنواع الأسلحة هذا ليس بإرهابي، يُلقي عليهم القنبلة سبعين طنًّا تهلك الأخضر واليابس جميع أنواع القنابل الحرارية، وهذا ليس بإرهابي، هذا داعية السلام!، وهذا الذي يحفظ الأمن! وهذا الإنسان المثقف، والإنسان المتنور، والإنسان الحضاري الذي جاء يحمل المُثل الغربية للشعوب الهمجية في منطقتنا، هذا المُبشر بالحضارة والتنوير كما يقول بعض الكتاب عندنا، يقولون: أمريكا ما جاءت إلى بلد إلا طورتها وحررتها، فيقول: هذه بشرى لدول المنطقة جميعاً أن تحرر من الكبت، ومن هذا التسلط، هذا يكتب في الصحف ويحرض حتى على الأنظمة الموجودة دون خوف ولا حياء، هكذا يقول عن هؤلاء، وأمّا من يدافع عن بيته فهذا يُرمى، فيحتجون بمثل هذه الآية، وهذا الكلام ليس بجديد، له أكثر من مائة سنة، لما جاء الاستعمار ووقعت الهزيمة آنذاك جاء كتاب وكُتبت كتب كثيرة، وقالوا: إن الإسلام إنما شُرع فيه الجهاد للدفاع، وهذا تجدونه في كتابات كثيرة قبل مائة سنة، واليوم تعود القضية من جديد، وأكثر من هذا أنه حتى الدفاع، ليس هناك دفاع، مثلما يقول الصوفية، يقولون هذا،قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ [التوبة:123]، قالوا: هي النفس تذبح بسكين الطاعة، ما في عدو في الخارج يُقتَل ويُقاتَل، هي النفس، وعندما جاءهم الاستعمار الفرنسي في مصر وضرب الأزهر بالمدافع كانوا يقرءون صحيح البخاري في الأزهر؛ ليدفعوا المدافع الفرنسية، هذا فهم للإسلام! وقل مثل ذلك فيما يجري اليوم في بلاد المسلمين.
وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ [البقرة:190]، هذا في أول شرع الجهاد، أول ما نزل في الجهاد قوله -تبارك وتعالى: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ [الحج:39]، هذا أول ما نزل، إذْنٌ فقط، ثم بعد ذلك فُرض عليهم أن يقاتلوا من قاتلهم فقط دون اعتداء، ومعنى دون اعتداء يعني: لا تقتلوا شيخاً كبيراً، ولا امرأة، ولا طفلاً، ولا تخربوا دور العبادة، ولا تقتلوا العُباد في صوامعهم، وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ [البقرة:190]، هذه المرحلة الثانية في شرع الجهاد، ثم بعد ذلك نزلت آية براءة وهي آخر ما نزل: فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ [التوبة:5]، هذه آخر آية نزلت في الجهاد نسخت كل الآيات التي قبلها على قول كثير من أهل العلم.
وبعض أهل العلم يرى -وهو ما أظنه الراجح- أن ذلك شُرع على التدريج، بمعنى أن الآيات السابقة لم تُنسخ إنما تكون في وقت الضعف والعجز فيقال للناس: كفوا أيديكم، لستم مهيئين للقتال والجهاد، ولستم كفئاً لذلك، أصلحوا حالكم مع الله أولاً، ورُدّوا إليه ردًّا جميلاً، ثم بعد ذلك تستطيعون أن تقاتلوا عدوكم.
فذلك على التدريج، فالأمة تمر بحالات من القوة وحالات من الضعف، ففي حالة القوة والتمكين فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ [التوبة:5]، هذه الأحكام الشرعية التي نص القرآن عليها بعيداً عن كلام الجاهلين، فصارت هذه القضايا العِظام الكِبار كل الناس يكتب فيها، فتجد الجاهل الذي لا يعرف كوعه من كرسوعه من بوعه يكتب في مثل هذه القضايا في الصحف، ويتكلم ويُنظر في هذه القضايا العِظام دون علم ولا فقه ولا هدى ولا كتاب منير، هذا لا يجوز، دين الله يا إخوان ليس بلعبة، يتكلم فيه من هب ودب ودرج حتى أم حُبين، هذا لا يليق ولا يجوز ولا يُرضي الله ، فهذه الآية وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ [البقرة:190]، هي ثاني آية في مرحلة التدريج في شرع الجهاد.
هذا، وأسأل الله أن يُصلح أحوال المسلمين، وأن يلطف بهم وأن يردهم إلى دينهم ردًّا جميلا، وأن يأخذ عدوهم أخذ عزيز مقتدر، وأن يُرينا فيهم عجائب قدرته، وأن يشفي صدورنا وصدور المسلمين منهم، إنه على ذلك قدير.
وصلى الله على نبينا محمد.
- أخرجه البخاري، كتاب الصوم، باب صيام يوم عاشوراء، برقم (2007).
- أخرجه البخاري، كتاب الصوم، باب قول الله -جل ذكره: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ [البقرة:187]، برقم (1915).
- أخرجه البخاري، كتاب الحج، باب قول الله تعالى: وَأْتُوا البُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا [البقرة:189]، برقم (1803)، ومسلم، في كتاب التفسير، برقم (3026).