الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فمن الآيات التي لربما يستشكلها القارئ في سورة آل عمران الآية الثانية بعد المائة، وهي قوله -تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102]، فهذه الآية أمر الله فيها بأمرين اثنين:
الأول: أن يُتقى حق تقاته، وذلك أمر قد يتراءى للإنسان ويتبادر له لأول وهلة أنه صعب لا يُطيقه، وذلك أن الإنسان مُعرض للغفلة والخطأ ولابد كل بني آدم خطاء[1]، ولهذا وقف عندها كثير من العلماء، وقالوا بأن هذه الآية منسوخة بقوله : فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16]، وتخلصوا من هذا الإشكال بهذه الطريقة، والقاعدة أن النسخ لا يثبت مع الاحتمال، بل لابد من دليل يدل عليه.
وهنا يمكن بيان ذلك من غير لجوء إلى النسخ، فالآية الأخرى وهي قوله: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16]، الأقرب أنها مُبينة لهذه الآية في سورة آل عمران، أي فاتقوا الله حق تقاته ما استطعتم، اتقوا الله حق تقاته على قدر طاقتكم واستطاعتكم؛ لأن الله يقول في آخر البقرة: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286]، والإنسان إذا أمره الله بأمر كما قال النبي ﷺ: إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم، وما نهيتكم عنه فاجتنبوه[2].
فالقاعدة في باب المأمورات أن يؤتى بها على قدر الاستطاعة، لا تستطيع أن تصلي قائماً صلِّ قاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب، لا تستطيع أن تتوضأ بالماء تتيمم وهكذا، فهذه هي القاعدة في المأمورات، والمنهيات الكف؛ لأن المنهي لا يكلفك شيئاً حينما تتركه، ما عليك إلا أن تكف، ولذلك -والله تعالى أعلم- يقال: إن إحدى الآيتين مُبينة للأخرى وليست بناسخة، اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ [آل عمران:102]، كما قال ابن مسعود فيما صح عنه: "أن يُطاع فلا يُعصى، وأن يُذكر فلا يُنسى، وأن يُشكر فلا يُكفر"[3]، هذه تقوى الله حق تقاته على قدر الاستطاعة، يبذل الإنسان وسعه، أما الواجبات فعليه أن يأتي بها لزوماً، والمحرمات أن يكف عنها لزوماً، وما زاد على ذلك من التطوعات فذلك ميدان واسع فيه يتنافس المتنافسون، ويرتقي فيه الناس المراتب العالية عند الله في الدار الآخرة، هذا هو الجزء الأول من الآية.
والجزء الثاني: وهو قوله -تبارك وتعالى: وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102]، ومعلوم أن الإنسان لا يملك خاتمته، والنبي ﷺ يقول: إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يبقى بينه وبينهاإلا ذراع فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها[4]، فكيف يستطيع الإنسان أن يملك تحديد المصير أنه يموت على الإسلام وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ؟ [آل عمران:102]، فهذا قد يتراءى للقارئ لأول وهلة أنه من تكليف ما لا يطاق، والقاعدة في هذا الباب أن الخطاب إذا توجه إلى المكلف بشيء غير داخل في قدرته فإنه يتوجه إلى سببه أو إلى أثره، فهنا يتوجه إلى السبب، كيف يموت الإنسان على الخير والإسلام ويُختم له بالسعادة؟ يقال: من عاش على شيء مات عليه، والله يقول: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ [التوبة:115]، ويقول: هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ [الأحزاب:43]، "يصلي عليكم" ينقلكم من هداية إلى هداية، فيحصل لهم التوفيق، والتسديد كل ذلك يتحقق إذا كان الإنسان مقبلاً على الله مخلصاً له، يعمل بطاعة الله في الأحوال كلها، فمثل هذا الظن بالكريم بأكرم الأكرمين أنه لا يُخيب أمله وظنه، ولا يُضيع سعيه، فيُختم له بما عاش عليه، ولهذا يقول الله : أنا عند ظن عبدي بي[5]، ويقول: لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بربه[6]، وهذا شيء مشاهد.
أخبرني أحد الإخوان قبل أيام لعله هاهنا يترجم للصم البكم لا يتكلمون ولا ينطقون ولا يسمعون: وقع لأحدهم حادث فدخل في المستشفى في حالة تشبه الغيبوبة وجلس يؤذن بصوت يُسمع، يؤذن؛ لأن هذا الرجل عاش على الطاعة، ورأيت رجلاً بناته يبكين خارج باب الغرفة في المستشفى من الحال التي آل إليها من وجع في كبده، وهو لا يعي شيئاً إطلاقاً، فاقد الوعي تماماً، رأيته بأُم عيني يذكر الله لا يفتر لسانه من ذكر الله وهو في غيبوبة، فقلت لأبنائه: مثل هذا لا يُبكى عليه؛ لأن مثل هذا يلهج لسانه بما كان يلهج به في حال الصحة والقوة والعافية، فالإنسان يُختم له بما عاش عليه، فالذي يعيش على المعاصي، ويعيش على الظلم والفساد والفجور أو الانشغال بالدنيا فيلتهي بها فإن هذا يُختم له؛ ولذلك بعض أهل الحساب من الفرس ذُكر في كتاب "العاقبة" للإشبيلي يقول: "يقولون له عند الموت: قل: لا إله إلا الله، فيقول كلمات فارسية، كلمات معناها الحساب أرقام هو مُحاسِب[7]، وآخر كان مولعًا بفتى مغرمًا به، فلما قيل له: قل: لا إله إلا الله، قال:
مَرحى يا راحةَ العليل لقاكَ أشهى | إلى فؤادي مِن رؤيةِ الخالقِ الجليل[8] |
ومات على هذا.
وآخر أولع بفتاة في بغداد جاءت كانت تبحث عن حمام من الحمامات العامة التي كانت تؤجر يُغتسل فيها، قالت: هذا حمام منجاب؟، قال: نعم، تعني بابه هو يُشبه حمام منجاب، فخدعها ودخلت، فعرفت أنه خدعها، قالت: يَحسُن أن يكون معنا ما يطيب فيه اللقاء -تعني الخمر، فقال: الساعة، فخرج مرتبكاً؛ ليحضر خمراً، فخرجت بعده، فجاء فلم يجدها فأُصيب في عقله، وصار يهيم في شوارع بغداد، ويقول:
يَا رُبَّ قَائِلَةٍ يَوْمًا وَقَدْ تَعِبَتْ | أَيْنَ الطَّرِيقُ إِلَى حَمَّامِ مِنْجَابِ[9] |
الحاصل أن الرجل صار مختلا، ويمشي ويردد هذا في الشوارع، فعند الموت قيل له: يا فلان، قل: لا إله إلا الله، قال:
يَا رُبَّ قَائِلَةٍ يَوْمًا وَقَدْ تَعِبَتْ | أَيْنَ الطَّرِيقُ إِلَى حَمَّامِ مِنْجَابِ |
نسأل الله العافية.
ونحن نسمع ونرى أحوال الناس، من الناس من يُختم له وهو جالس يسمع الأغاني، حادث بالسيارة.
أحد الإخوان الموجودين معنا يحدثني عن رجل غسله يقول: بكرات أشرطة الأغاني نخرجها من بطنه في الحادث ونحن نغسله، بكرات أشرطة الأغاني من بطنه!، خُتم له بهذا.
والآخر الذي كان يُغني وهو في الاحتضار حينما صُدم، يقولون له: قل: لا إله إلا الله، وهو يغني، فالإنسان يُختم له، فالله يقول: وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102]، أي: الزموا دين الله ، واحفظوا حدوده فذلك مؤذن بأن تموتوا على ما عشتم عليه.
فأسأل الله أن يختم لنا ولكم بالسعادة، وأن يجعل عاقبتنا دائماً إلى خير.
- أخرجه الترمذي، أبواب صفة القيامة والرقائق والورع عن رسول الله ﷺ، برقم (2499)، وابن ماجه، أبواب الزهد، باب ذكر التوبة، برقم (4251)، والحاكم في المستدرك، برقم (7617)، وقال: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه"، وحسنه الألباني في صحيح الجامع، برقم (4515).
- أخرجه مسلم، كتاب الفضائل، باب توقيره ﷺ، وترك إكثار سؤاله عما لا ضرورة إليه، أو لا يتعلق به تكليف وما لا يقع، ونحو ذلك، برقم (1337).
- أخرجه البيهقي في السنن الكبرى، برقم (11847)، وأبو نُعيم في حلية الأولياء (7/ 238)، وابن أبي شيبة في المصنف، برقم (34553)، وقال الشيخ الألباني بنكارته مرفوعاً، وضعّف إسناد أبي نُعيم، انظر: السلسلة الضعيفة، برقم (6909).
- أخرجه البخاري، كتاب القدر، باب في القدر، برقم (6594)، ومسلم، كتاب القدر، باب كيفية خلق الآدمي في بطن أمه وكتابة رزقه وأجله وعمله وشقاوته وسعادته، برقم (2643).
- أخرجه البخاري، كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى: وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ [آل عمران:28]، برقم (7405)، ومسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب الحث على ذكر الله تعالى، برقم (2675).
- أخرجه أحمد في المسند، برقم (14481)، وقال محققوه: "إسناده صحيح على شرط مسلم".
- العاقبة في ذكر الموت (ص:179).
- الجواب الكافي (ص:168).
- انظر: الجواب الكافي (ص:91)، والثبات عند الممات لابن الجوزي (79).