الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
يقول الله في سورة آل عمران، وذلك من الآيات التي لربما يُستشكل فهمها: وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ [آل عمران:123-128]، إلى آخر ما ذكر الله ، فهذه الآيات حيث وعد الله فيها بالإمداد بثلاثة آلاف من الملائكة مُنزَلين.
ثم قال: بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ [آل عمران:125].
وفي سورة الأنفال في الآية التاسعة: إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [الأنفال:9-10]، فهذه الأعداد المذكورة الألف في سورة الأنفال، والثلاثة الآلاف والخمسة الآلاف في سورة آل عمران، هل ذلك كله في وقعة واحدة في وقعة بدر؟ أو أن الذي نزل الألف كانت في وقعة بدر والسبعة الآلاف كانت في وقعة أُحد؟
وهل نزلت الخمسة الآلاف بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ؟ [آل عمران:125]، بهذه الأعداد الثلاثة المذكورة في هذه الآيات قد يُستشكل فهمها، وقد يلتبس على من قرأ في مثل هذه السور أو الآيات.
والذي يظهر -والله تعالى أعلم- هو أن ذلك جميعاً في غزوة بدر، وذلك أن الله يقول في سورة آل عمران: وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ [آل عمران:123]، ضعفاء، ثلاثمائة وأربعة عشر تقريباً، وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [آل عمران:123]، إِذْ تَقُولُنصركم إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ [آل عمران:124]، واذكر حينما قلت للمؤمنين: أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ [آل عمران:124]، فالله كما في سورة الأنفال أمدهم بألف، هذه نزلت وقاتلت، وكانوا يعرفون قتلى المشركين الذين قتلهم الملائكة بمثل ضرب السوط يتغير لون الجلد معه، يميل إلى الزُرقة أو نحو ذلك، هؤلاء هم قتلى الملائكة، الذين قتلهم الملائكة، كما قال الله : إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا [الأنفال:12]، التثبيت سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ [الأنفال:12-13]، هذا كله في بدر، اضربوا فوق الأعناق أعلى الرقبة وهو تحت العظم الذي تحت الأذن به إذا ضُرب طار الرأس، فهو يُعلمهم أين محال الضرب الموجع، وكيف يقطعون أطرافهم فيتعطلون لا يقدرون على حمل السلاح، كما قال الله في أُحد: وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ يعني: تصرمونهم صرماً تقتلونهم قتلاً ذريعاً، إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ بإذنه الكوني أو بعلمه، أو بإذن الشرعي؛ لأنه هو الذي أذن بحسهم، حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ في أُحد، وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ [آل عمران:152]، صرف وجوهكم عنهم فوليتم منهزمين ووقع البلاء الذي تعرفون، فالمقصود أن هذه الآيات على الأرجح جميعاً هي في وقعة بدر أنزل ألفاً، وعد أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ [الأنفال:9]، يعني: يردفهم غيرهم، من هؤلاء الذين يردفونهم؟ هم ثلاثة آلاف مُنزَلين، يعني: فوق الألف، بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ [آل عمران:125]، أي: المشركون يأتون من هذه الناحية، من هذا الوجه الذي خرج، أو من غضبتهم هذه، الفور الغضب، الفوران حيث إنهم خرجوا انتصاراً لقتلاهم وهزيمتهم في يوم بدر فخرجوا في يوم أُحد، وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ [آل عمران:125]، على القول بأنها نزلت في أُحد، وإذا قيل بأنها نزلت في بدر "من فورهم هذا" من ناحيتهم هذه، أو المدد الذي وُعدوا به، إذا جاء المدد نزل مدد السماء، فما جاء المدد -مدد المشركين- حيث وعدهم بعض زعماء العرب فما جاء المدد الزائد وهم الخمسة الآلاف.
فالحاصل أن الملائكة نزلت في يوم بدر، نزل الألف قطعاً، والعلماء مختلفون في نزول الثلاثة الآلاف والخمسة الآلاف؛ لأنها معلقة على شرط، وأيضاً هؤلاء الذين نزلوا من الملائكة قاتلوا بلا شك، ونزل الملائكة في يوم الخندق لكنهم لم يقاتلوا كما قال الله : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا [الأحزاب:9]، فالجنود هؤلاء هم الملائكة لكن ما حصل قتال في يوم الخندق، فألقوا الرعب في قلوبهم وزلزلوا بهم، وكذلك في قُريظة لما قال جبريل : فإني مزلزل بهم[1]، وقال: وضعتم السلاح، والله إن الملائكة لم تضع أسلحتها[2]، هذا جبريل يقول للنبي ﷺ بعد الأحزاب، لما دخل يغتسل ﷺ وضع سلاحه، فقال: فإني مزلزل بهم، فزلزلوا بهم في يوم قُريظة، وكذلك في يوم حنين لما حصل ما حصل من الهزيمة قال: ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ [التوبة:26]، فهؤلاء ثبّتوا أهل الإيمان، أما في أُحد فثبت أنهم قاتلوا بين يدي النبي ﷺ دفاعاً وذبًّا عنه، ولكن الذي يظهر أنه لم ينزل ملائكة كما نزلوا في بدر وقاتلوا مع المسلمين وإلا لما وقعت الهزيمة أصلاً، لكان كانوا يقاتلون بين يدي النبي ﷺ كما ثبت ذلك في الروايات الصحيحة.
وهنا لفتة بعدما تبين المعنى وهي: أن الله في سورة آل عمران وفي سورة الأنفال قال: وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى [الأنفال:10]، هذا نزول الملائكة هو بُشرى فقط لا غير، وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [الأنفال:10]، فالنصر لا يكون من الملائكة، ثم انظروا في بدر كان عدد المسلمين ثلاثمائة وأربعة عشر ونزل ألف ووُعدوا بثلاثة آلاف وبخمسة آلاف، وعدد المشركين ألف، فالمسألة مهما كان ملك واحد يستطيع أن يدمر هؤلاء جميعاً، ولكن الله يثبت أهل الإيمان بما شاء، فلا تتعلق القلوب بأحد من المخلوقين سواء كانوا ملائكة، أو غير ملائكة، ولكن الله يرسل جنوده فيحصل مراده بالطريقة التي شاءها ، تارة بإنزال الملائكة، وتارة بالريح فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا [الأحزاب:9]، ويقول النبي ﷺ: نُصرت بالصبا، وأُهلكت عاد بالدبور[3]، والصبا هي الريح التي تهب من المشرق، والدبور هي الريح التي من المغرب، فالرياح شرقية وغربية كلها من جند الله -تبارك وتعالى، وتارة بالأمراض الغريبة التي لا يعرفونها من قبل، وتارة بألوان الهوام والدواب والحشرات التي لا يُعرف مثلها ونظيرها، وتارة بالماء الرقيق السيال الذي جعل الله منه حياة كل شيء يكون هائجاً مدمراً عنيفاً لا يُبقي ولا يذر بأسماء مختلفة تارة كارتينا، وتارة أسماء كثيرة جدًّا، ويدمر الله بها جنود الظلام، جنود إبليس، وحزبه فيحصل بهم نكاية ويُري الله عباده المؤمنين تلك الآيات العجيبة في ضعف الخلق، فلا تستطيع تلك المفاعلات والقُدر الهائلة والإمكانات وترسانة الأسلحة أن ترد الماء، لا تستطيع، فهذه جنود الله ، فالتوكل يكون عليه وحده، والثقة تكون به وحده، لا تكون الثقة بالمخلوق، ولا التوكل على المخلوق، ولا الاعتماد على المخلوق، وإنما الله هو الذي يستحق ذلك وحده دون سواه.
أسأل الله أن ينفعنا بالقرآن الكريم.
- انظر: سيرة ابن هشام (2/ 234)، ودلائل النبوة للبيهقي (4/ 11)، والروض الأنف (6/ 224).
- أخرجه أحمد في المسند، برقم (24994)، وقال محققوه: "إسناده صحيح على شرط مسلم، حماد بن سلمة من رجاله، وبقيتهم ثقات من رجال الشيخين".
- أخرجه البخاري، أبواب الاستسقاء، باب قول النبي ﷺ نصرت بالصبا، برقم (1035)، ومسلم، كتاب صلاة الاستسقاء، باب في ريح الصبا والدبور، برقم (900).