الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد،وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
لعلنا نقتصر -إن شاء الله- في الكلام على الآيات التي قد تُفهم على غير مراد الله منها، دون التعرض للآيات التي قد يُستشكل معناها؛ لأن هذا سيطول.
ومن هذه الآيات في سورة آل عمران قوله -تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً [آل عمران:130]، فهذا نهي عن أكل الربا في صورة من أبشع صوره، وهي تلك التي تصور حال أولئك الجشعين حيث يأكلونه أضعافاً مضاعفة على الأصول التي لربما أقرضوها، فالله -تبارك وتعالى- ينهانا عن ذلك، وليس معناه أن الإنسان يجوز له أن يأكل الربا إذا كان قليلاً، فهذا غير مراد بحال من الأحوال، إذ إن التحريم والنهي في الآية لا يقتصر على هذه الصورة وحدها، وهي أن يؤكل الربا بالأضعاف المضاعفة، بل لو أنه زاد شيئاً يسيراً بالمائة كالواحد في المائة أو النصف أو نحو ذلك فإنه محرم، وقد جاء في الحديث: "أن الدرهم من الربا أشد من ست وثلاثين زنية"[1]، فقليل الربا وكثيره حرام، ولا فرق، وقد لبّس بعض من يتصدر لإفتاء الناس في بعض البلاد قبل سُنيّات، وقال: إن هذه المعاملات التي تتعامل بها البنوك لا حرج فيها، كلها جائزة؛ لأن الذي يحرم هو ما نص القرآن عليه وهو لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً [آل عمران:130]، فهؤلاء لا يأكلونه أضعافاً مضاعفة بل يأخذون نِسباً أو يعطون نِسباً تصل إلى اثنين بالمائة، أو ثلاثة بالمائة أو سبعة بالمائة، أما هذه الأضعاف فليست موجودة، فيقال: إن مفهوم المخالفة في هذه الآية غير مراد، بمعنى "لا تأكلوا الربا أضعافاً مضاعفة" ليس معناه يجوز أكل الربا إن لم يكن أضعافاً مضاعفة، لا أحد يقول بهذا من أهل العلم، ومفهوم المخالفة وإن كان في نفسه حجة إلا أنه في نحو سبع حالات لا يُحتج به، فمن ذلك: أن تكون الآية نزلت توصِّف واقعاً معيناً إبان نزول القرآن، مثل هذه الآية التي تصف الحال التي كانوا عليها حيث يأكلون الربا أضعافاً مضاعفة، الرجل يعطي الآخر قرضاً بمائة ألف مثلاً، بنسبة يسمونها فائدة قُل: سبعة بالمائة، فإذا جاء وقت الأجل بعد أربعة أشهر مثلاً ولم يكن عنده وفاء قال له: إما أن تودي -يعني تدفع المال-، وإما أن تُربي -تزيد، فيزيده في الأجل في مقابل الزيادة بهذه النسبة بالربا، ثم يدور الأمر مرة بعد مرة،مرة بعد مرة،حتى يصير الربا أكثر من رأس المال،وهذا الذي كان عليه أهل الجاهلية، ولا يزال موجوداً إلى يومنا هذا، فالدول والأفراد والشركات والمؤسسات تُرهقها الديون الضخمة التي أصابها هذا التضخم بسبب الربا، وقد قامت دعوات في بلاد الغرب من قوم لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ينادون بضرورة التخلص من الربا؛ لأنه الذي أنهك الاقتصاد العالمي.
فالمقصود أن هذه الآية نزلت توصّف واقعاً معيناً، وليس معنى ذلك أنه يجوز في غير هذا التوصيف أن يأكل الإنسان الربا،كقوله -تبارك وتعالى- وهي مثلها تماماً: وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا [النور:33]، "فتياتكم" يعني الإماء،الجواري المملوكة، "على البغاء" وهو الزنا بأجرة، طيب هل يجوز للإنسان أن يُكرهها إن لم تكن تريد التحصن؟
الجواب: لا، هل يجوز أن يسمح لها ويعطيها الضوء الأخضر لتزني إذا كانت ترغب في هذا؟
الجواب: لا، لكن الله قال: وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ الزنا بأجرة إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا [النور:33]، لأن هذا نزل لأن عبد الله بن أُبي كما صح في الرواية: "كان له جاريتان فأسلمتا وكان يُكرههن على البغاء"[2]، الزنا بأجرة من أجل أن يتكسب، فقال الله : وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا [النور:33]، طيب لو ما أرادت تحصناً تُمنع ويؤخذ على يدها وتؤدب، وهكذا في قوله تعالى: لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ [آل عمران:28]، هل يجوز لأحد أن يقول: نحن نريد أن نتولى الكافرين مع المؤمنين؟.
الجواب: لا، لكن هذه نزلت في طائفة من المؤمنين تولوا بعض الكفار ضد بعض إخوانهم، فنزلت الآية تتحدث عن واقع حصل توصِّفه، وتنهى هؤلاء، فأصل الحكم أنه لا يجوز تولي المشركين بأي حال من الأحوال وبأي صورة من الصور، وهكذا، فهذه الآية ليست تحرم من الربا فقط الأضعاف المضاعفة وإلا فإن الله يقول في سورة البقرة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ [البقرة:279-281]، كانوا في الجاهلية يقولون: إما أن تقضي وإما أن تُربي، وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ [البقرة:280]، قال: ما عندي وفاء الآن فَنَظِرَةٌ أي فإنظار إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا بإلغاء الدين بالتنازل،بالعفو،بإلغاء بعضه وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:280]، ذكّرهم بهذا، وذكرهم بالتقوى في أوله: اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا [البقرة:278]، وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ [البقرة:281].
وبشّع صورة المرابي الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ [البقرة:275]، على الراجح من أن ذلك في القيام في يوم البعث من القبور إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ [البقرة:275]، يعني: المعنى على الأرجح من أقوال المفسرين -والله أعلم: إلا كقيام الممسوس، يعني: لا يقومون من قبورهم إلا كقيام الممسوس، إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ [البقرة:275]، يعني: كقيام الممسوس، يقوم يُصرع، رأيتم الصرع كيف،صورة بشعة،والرجل الذي فيه صرع إذا وقع له أمام الناس وفي مجلس يجلس حزينًا عشرة أيام،أسابيع،يتمنى أن الناس ما رأوه كيف أنه يعض لسانه ويخرج الزبد من فمه وأنفه ويتشنج ويخبط ويضرب ونحو ذلك من غير اهتداء ولا شعور،فيتأسى على ذلك غاية التأسي، هؤلاء يقومون من قبورهم -نسأل الله العافية- المرابون يتخبطون،يقوم ويقع ويسقط وبحال بشعة، فالمقصود أن هذا هو معنى قول الله -تبارك وتعالى: لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً [آل عمران:130]، وليس ذلك يعني أنه يجوز من غير الأضعاف.
هذا، وأسأل الله أن ينفعنا وإياكم بالقرآن العظيم، ويجعلنا وإياكم هداة مهتدين.
- أخرجه أحمد في المسند، برقم (21957)، وقال: "ضعيف مرفوعًا، رجاله ثقات رجال الشيخين غير صحابيه، فقد روى له أبو دواد، وهذا الحديث لا يصح مرفوعًا إلى النبي ﷺ، وإنما هو من قول كعب الأحبار"، والطبراني في الأوسط، برقم (2682)، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (3375).
- أخرجه مسلم، كتاب التفسير، باب في قوله تعالى: وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ [النور:33]، برقم (3029).