الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فكنا نتحدث عن قوله -تبارك وتعالى- في سورة آل عمران: وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا [آل عمران:199]، الآية، وما شابه ذلك من الآيات التي يُفهم من ظاهرها الثناء على أهل الكتاب، أو الوعد لهم بالنجاة في الآخرة، أو الأجر، وما أشبه ذلك، وبيّنا ما خلاصته أن هذه الآيات على نوعين:
- منها ما يتحدث عن طائفة من أهل الكتاب آمنوا بنبي وكانوا على الجادة، حيث إنهم تابعوا نبيهم قبل مبعث رسول الله ﷺ، فالله يجزيهم ويثيبهم ويدخلهم الجنة.
- والطائفة الأخرى من الآيات وهي تلك الآيات التي تتحدث عن طائفة من أهل الكتاب آمنوا بمحمد ﷺ، وآمنوا بما أُنزل إليه، كما قال الله : لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى [المائدة:82]، ثم لا نقف هنا فقط بل نكمل الآية: ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ [المائدة:82-83]، إلى آخر ما ذكر الله عنهم، فهذه الآية بينا أنها نزلت في النجاشي ومن كان معه من القسس والرهبان الذين لما سمعوا القرآن من مهاجرة الحبشة من أصحاب النبي ﷺ كجعفر بكوا وابتلت لحاهم، وأقروا بما جاء به، وآمنوا برسول الله ﷺ، فلا يجوز قطع الآيات عن سياقها وتحريف الكلم عن مواضعه زعماً بأن كل من كان متابعاً أو منتسباً إلى دين من أديان هؤلاء أنه ينجو عند الله ، وأنه مؤمن.
وكنت اليوم أريد أن أورد الآيات التي تبين كفر أهل الكتاب، وأن كل من لم يؤمن ببعث محمد ﷺ وبرسالته وبالقرآن أنه كافر، وأنه مخلد في النار، وأنه ليس بمؤمن، ثم رأيت أن ذلك من العي، كأني أريد أن أثبت أن هذه الليالي من رمضان، كأني أريد أن أثبت أننا في الليل الآن في هذه الساعة، أو أن أثبت في النهار أن الشمس طالعة، فالقضية من الوضوح بمكان، في سياق طويل في سورة البقرة يبدأ من قوله -تبارك وتعالى: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ [البقرة:47]، ثم ذكر أموراً كثيرة من كفر هؤلاء وعتوهم وتعاليهم، وتمردهم حتى قالوا: يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً [البقرة:55]، وكذلك في سورة النساء في آيات كثيرة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ [النساء:47]، وما أشبه ذلك من الآيات التي يتهددهم بها.
وكذلك في سياق طويل في سورة المائدة كما سمعنا: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ [المائدة:73]، وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ [التوبة:30]، ثم ذكر أموراً كثيرة من كفرهم ولعنهم على لسان داود وعيسى ابن مريم، أمور كثيرة جدًّا، آيات طويلة تقرر هذا وتبين قبائحهم، فلا يجوز لمسلم بحال من الأحوال أن يحكم بأن هؤلاء محققون للنجاة بحال من الأحوال؛ لأن النبي ﷺ يقول: والذي نفس محمد بيده، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي، ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به، إلا كان من أصحاب النار[1]، والله يقول: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ [آل عمران:19]، وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ [آل عمران:85]، لكن في عصر الهزيمة يبدأ التراجع فتزل قدم بعد ثبوتها، فيبدأ طوائف من المنهزمين يدافعون عن هؤلاء، ويُحسنون ما هم عليه، ويحكمون لهم بالإيمان وبالنجاة في الدار الآخرة، هذه لا نعرف لها نظيرًا قبل هذا العصر، وُجد التشبه على مر العصور، وقال النبي ﷺ: لتتبعنّ سنن من كان قبلكم[2].
كل ذلك أخبر عنه ﷺ، أما أن نحكم بأن هؤلاء على حق، وأنهم على دين صحيح، وأن هؤلاء ينجون عند الله ، فهذا لا أعلم قائلا به على مر العصور، اللهم إلا الفلاسفة -أو بعض الفلاسفة- الذين قالوا: كل من سلك طريقاً إلى الله فإنه يمكن أن يصل.
فأقول: هذه أمور ينبغي أن يُتفطن لها، ولا حاجة لعرض تلك الآيات الطويلة؛ لأن هذا مما يطول به المقام، وبهذا نكون قد انتهينا من الآيات التي لربما تُفهم على غير وجهها من سورة آل عمران، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.
- أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب وجوب الإيمان برسالة نبينا محمد ﷺ إلى جميع الناس، ونسخ الملل بملته، برقم (153).
- أخرجه البخاري، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب قول النبي ﷺ: لتتبعن سنن من كان قبلكم، برقم (7320)، ومسلم، كتاب العلم، باب اتباع سنن اليهود والنصارى، برقم (2669).