الثلاثاء 17 / جمادى الأولى / 1446 - 19 / نوفمبر 2024
الآية 1 من سورة النساء
تاريخ النشر: ٠٨ / رمضان / ١٤٢٦
التحميل: 2230
مرات الإستماع: 2360

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.

فمن الآيات التي لربما لا تُفهم على وجهها أو تُفهم على غير مراد الله -تبارك وتعالى- منها قوله -تبارك وتعالى- في أول آية من سورة النساء: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1]، فهذه الآية -أعني قوله: وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1]، وفي القراءة الأخرى المتواترة والأرحامِ، المعنى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ، تقول: أسألك بالله والأرحامَ، أي: واتقوا الأرحامَ أن تقطعوها، بل صلوها كما أمركم الله ، والمعنى الآخر: وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ والأرحامِ، أي: تساءلون به وبالأرحامِ على ما كانوا عليه في الجاهلية، يقول: أسألك بالله وبالرحمِ، وكان ذلك من عادتهم، فذكّرهم الله بذلك، وهذا هو سبب إيراد هذه الآية، وليس المعنى أنه يجوز للإنسان أن يسأل بغير الله ؛ لأن ذلك من قبيل الحلف، والحلف لا يكون إلا بالله أو بأسمائه وصفاته، وإنما جرى ذلك على هذا المعنى، على ما كانوا يتعاطونه في جاهليتهم، هذا ما يتعلق بهذه الآية، ولا أطيل بالكلام في الكلام عليها.   

ومن الآيات أيضاً من سورة النساء قوله -تبارك وتعالى: وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ [النساء:2]، إلى أن قال: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ [النساء:3]، الشائع الذائع عند الكثيرين من طلاب العلم ومن غيرهم أن هذه الآية تدل على أن الأصل في الزواج التعدد، وأن البقاء على واحدة -الاقتصار على واحدة- أنه استثناء، فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً [النساء:3]، يقولون: فالأصل هو التعدد، وليس البقاء على زوجة واحدة، فهذا المعنى وإن كانت الآية تحتمله إلا أن غيره قد يكون أولى منه -والله تعالى أعلم، وذلك أن الله ذكرها في سياق معين، وهو قوله: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى [النساء:3]، يعني: أن اليتيمة إن خشيتَ أن لا تعطيها حقها من المهر كمهر مثيلاتها أو من النفقة فتُظلم؛ لأنه لا أب لها يطالب بحقها فيتزوجها الإنسان لجمالها، ولا يعطيها مهراً يصلح لمثلها، أو أنه لربما أبقاها عنده من غير زواج؛ لأنها في حِجره مثلاً ثم من أجل مالها ولكنه لا رغبة له في التزوج منها، وأيضاً لا يريد أن تتزوج؛ لئلا يذهب ذلك المال الذي في يدها وهو طامع فيه.

فالمقصود أن الله يقول لهم: "إن خفتم" إن خشيتم "ألا تقسطوا" ألا تعدلوا في هؤلاء الفتيات اليتيمات إن تزوجتموهن فعندكم مجال رحب واسع، ما ضيق الله  عليكم، إن خشيتَ أن لا تقسط مع هذه اليتيمة فقد وسع الله عليك، فتزوج اثنتين أو ثلاثًا أو أربع،أمامك مجال رحب، ولست محصوراً بهذه اليتيمة التي تخاف أن لا تعدل معها، إلا إن كنت تخشى ألا تعدل مع الجمع مع التعدد فتقتصر على واحدة؛ لأن هذه الآية ذكرت في هذا السياق فهذا هو المعنى الأقرب -والله تعالى أعلم، أن ذلك على سبيل التوسعة في بيان المندوحة عن التزوج بهذه اليتيمة التي قد لا يعدل معها، فهو يقول: أمامك مجال رحب تزوج اثنتين أو ثلاثًا أو أربع، وعلى هذا لا تكون الآية دالة على أن الأصل في الزواج التعدد على هذا المعنى.

وهناك أيضاً معنى آخر -ولكن القائل به قليل وهو انحراف عظيم في فهم الآية- وهو أن بعضهم فهم "مثنى وثلاث ورباع" أن هذه الواو للجمع، فمعنى ذلك أنه يتزوج اثنتين وثلاثًا وأربع، قال بعض من انحرف انحرافاً كثيراً في فهم الآية: يجوز للإنسان أنه يتزوج بتسع احتجاجاً بهذه الآية، وهو قول مُطرح،بعيد، شاذ لا يُلتفت إليه بحال من الأحوال، ولا يعد في خلاف العلماء المعتبر، ذكرته فقط من باب أننا تعرضنا للآية.

ومن الآيات أيضاً في سورة النساء قوله -تبارك وتعالى: وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا [النساء:15]، فهذه الآية ليست باقية على هذا الحكم، الحكم ليس على ما دل عليه ظاهر هذه الآية، بل هذه الآية منسوخة، وذلك قبل أن ينزل الحكم الناسخ الذي يُبين أحكام الزناة، والنبي ﷺ قال: خذوا عني، خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلا: البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيب الرجم[1]، والله قد أنزل آية ثم نُسخ لفظها وبقي حكمها والشيخ والشيخة، يعني: الثيب، إذا زنيا فارجموهما ألبتة نكالاً من الله، والله عزيز حكيم[2]، فحكمها باقٍ ولفظها منسوخ، أما هذه الآية: وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ [النساء:15]، فهي منسوخة الحكم باقية اللفظ، ولذلك لا يفهم أحد أن المرأة إذا زنت حكمها أن تبقى في البيت حتى تموت، لا، هذا قد نُسخ.

وهنا أيضاً من باب أن الشيء بالشيء يُذكر قد يُشكل قوله تعالى معه: وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا [النساء:16]، فقد فهم منها بعض السلف أن المراد عمل قوم لوط، وليس هذا هو المراد -والله أعلم، وإنما معنى الآية كما قال بعض أهل العلم: وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ [النساء:15]، هذا حكم النساء الزواني قبل نزول الناسخ، هذا في الحبس للنساء، ثم قال: وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ [النساء:16]، يعني: الرجل والمرأة يشتركان في الإيذاء وهو الضرب والزجر بالقول وما أشبه ذلك، فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا [النساء:16]، فالأولى في الحبس خاصة في النساء "واللاتي"، "واللذان" وهذه صيغة مذكر عُبر بالمذكر تغليباً على المؤنث وهذا لا إشكال فيه، هذا معنى.

وبعض أهل العلم قال: إن الآية الأولى في الأبكار من الرجال والنساء، وهذا فيه بُعد؛ لأن الله قال: "واللاتي"، ولا يُغلب النساء على الرجال، قالوا: والآية الثانية في المتزوجين، في الثيب.

وبعضهم قال: الآية الأولى: وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ [النساء:15]، يعني هذه في المرأة إذا زنت، سواء كانت ثيباً أو بكراً، وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ [النساء:16]، من الرجال والنساء من الثيبين كما قال بعض أهل العلم فَآذُوهُمَا [النساء:16]، والذي أظنه أقرب -والله تعالى أعلم- أن الآية الأولى في النساء في الحبس، والآية الثانية في الرجال والنساء من حيث الأذى، فالأولى تتعلق بالحبس وهو مختص بالنساء، والثانية تتعلق بالأذى بالضرب والزجر، فقال: وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ [النساء:16]، وليس المراد من عمل عمل قوم لوط، -أعزكم الله ومن يسمع.

هذا، وأسأل الله أن ينفعنا وإياكم بالقرآن العظيم، وأن يجعلنا وإياكم هداة مهتدين، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.

  1. أخرجه مسلم، كتاب الحدود، باب حد الزنى، برقم (1690).
  2. أخرجه ابن ماجه، أبواب الحدود، باب الرجم، برقم (2553)، والنسائي في الكبرى، برقم (7112)، وأحمد في المسند، برقم (21207)، وقال محققوه: "إسناده ضعيف"، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة، برقم (2913).

مواد ذات صلة