الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
من الآيات التي قد تُفهم على غير وجهها، على غير مراد الله -تبارك وتعالى- من سورة النساء قوله : إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ [النساء:17]، فقد يتوهم أو يظن كثير ممن يقرأ هذه الآية أن المراد بذلك أن من عمل معصية جهلاً منه أنها معصية أن الله يتوب عليه، وليس هذا هو المراد قطعاً باتفاق أهل العلم، ومعلوم أن الإنسان إذا وقع في معصية الله وهو لا يعلم أنها معصية وكان معذوراً بمثل هذا الجهل، أي أنه جهِل جهلاً يُعذر به مثله أنه لا يؤاخذ، والله لا يكلف قبل بلوغ الخطاب.
الإنسان إذا وقع في معصية الله وهو لا يعلم أنها معصية وكان معذوراً بمثل هذا الجهل، أي أنه جهِل جهلاً يُعذر به مثله أنه لا يؤاخذ، والله لا يكلف قبل بلوغ الخطاب.
فالعلم شرط في التكليف، فالإنسان الذي قد يفعل ذنباً وهو لا يدري أن الله حرمه فهو لا يؤاخذ عليه اتفاقاً إلا إذا كان هذا الجهل مما لا يُعذر مثلُه بمثله، لا يُعذر به، مثل في بلدنا هذه لو جاء واحد وقال: أنا لا أدري أن الصلاة واجبة، لا أدري أن الخمر حرام، فهذا قد لا يُعذر، لكن قد يوجد إنسان في بلاد نائية مثلاً قبل سقوط الاتحاد السوفيتي يوجد في الجمهوريات أُناس كثيرون ممن ينتسبون إلى الإسلام، وهم يظنون أن الخمر مباح، وأن كثيراً من المحرمات مُباحة، بل لربما لم يعرف الواحد منهم إلا ثلاثة فروض ثلاث صلوات في اليوم والليلة، فهؤلاء قد يُعذرون، أو يُعذر بعضهم، ليس هذا مقام البحث.
فالمراد بهذه الآية "بجهالة" كل من عصى الله فهو جاهل، إذ إنه لو عرف الإنسان ربه معرفة صحيحة كما ينبغي وكما يليق ما اجترأ أحد على معصيته إطلاقاً، فكل من اجترأ عليه فعصاه فهو جاهل، فهذه هي الجهالة، ولذلك كاد السلف أن يُطبقوا على أن معنى هذه الآية أن كل من عصى الله فهو جاهل.
وقوله -تبارك وتعالى- بعد ذلك: ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ [النساء:17]، كل من تاب قبل الموت فقد تاب من قريب، وكذلك قوله -تبارك وتعالى: وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ [النساء:18]، المقصود بمن حضره الموت أي حال النزع والغرغرة؛ لأن التوبة لا تقبل في حال خاصة عندما تبلغ الروح الحلقوم، فإذا بلغت التراقي، بلغت الحلقوم، بلغت الغرغرة يكون للروح صوت معين هنا لا تقبل التوبة، وفي حال عامة وهي إذا طلعت الشمس من مغربها.
أمّا ما قبل ذلك ككون الإنسان في مرض الموت مثلاً فإنها تقبل توبته، ويصح إسلامه، ويدل على هذا أدلة منها: النبي ﷺ لما جاء لليهودي، شاب يهودي في مرض الموت، فعرض النبي ﷺ عليه الإسلام فنظر إلي أبيه، فقال: أطع أبا القاسم، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله"، فالمقصود أن هذا نفعه، وقال النبي ﷺ: الحمد لله الذي أنقذه بي من النار[1].
وكذلك دعا النبي ﷺ عمه أبا طالب في مرض الموت قال: قل: لا إله إلا الله، كلمة أحاج لك بها عند الله[2]، فهذا في مرض الموت، فأبو طالب في تلك الحال لم تصل روحه إلى حد الغرغرة -الحلقوم، هذا هو الفرق، ففرق بين مرض الموت وبين وصول الروح إلى الحلقوم -والله تعالى أعلم، هذا ما يتعلق بهذه الآية.
وآية أخرى أيضاً من سورة النساء وهي قوله -تبارك وتعالى: وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ [النساء:24]، "والمحصنات من النساء" على الأرجح من أقوال المفسرين يعني يحرم عليكم أن تتزوجوا غير ما ذكر الله ، يعني: أن تتزوجوا من ضمن المحرمات قال: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ [النساء:23]، إلى آخره، وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ [النساء:24]، ذوات الأزواج أو الحرائر سواء كن أبكاراً أو ثيبات، إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فمعنى هذه الآية على الأقرب من أقوال المفسرين -والله تعالى أعلم: والمحصنات من النساء من كانت في عِصمة زوج من الحرائر، من كانت يحرم أن يتزوجها الإنسان، إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ [النساء:24]، إذا وقعت بأيدينا عن طريق السبي، سباها المسلمون فعندئذ ولو كانت ذات زوج، فإن كانت متزوجة تُستبرأ بحيضة ثم توطأ، فقد انقطعت حبال النكاح بينها وبين زوجها حتى لو كان وجوده معلوماً، لها زوج معروف لكن طالما أنها وقعت سبياً في يد المسلمين فيجوز لهم أن يستمتعوا بها، يعني: من وقعت بيده، من صارت في سهمه، في نصيبه، فتكون بملك اليمين، إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ [النساء:24]، هذا هو الشاهد الذي من أجله أوردت هذه الآية في هذا المقام، وهو أن أحد الرافضة قبل أيام في أشهر المواقع في الإنترنت -فيما أعرف أشهر المواقع- كتب يقول: إن هذه الآية دليل على جواز نكاح المتعة، وذلك ليس بصحيح.
فهذه الآية على ما قاله المحققون وهو اختيار الحافظ ابن كثير، وابن القيم، والشنقيطي، وطائفة كثيرة من المحققين فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ [النساء:24]، يعني: ما استمتعت بها تلذذت بها بالنكاح والوطء فأعطها المهر؛ لأن المهر في مقابل ما استحل من بضعها، هذا معنى الآية -والله تعالى أعلم، ولهذا قال الله في سورة المائدة والقرآن يفسر بعضه بعضًا: وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ [المائدة:5]، ما المقصود به لمّا بين حِل طعام أهل الكتاب والمحصنات من نسائهم، قال: إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ [المائدة:5]، ما المقصود به؟.
المقصود به المهور، تتزوجها وتعطيها المهر، فالقرآن يفسر بعضه بعضًا، وحتى على القول بأنها في نكاح المتعة كما قال به طائفة من أهل العلم -وهذا تحتمله الآية- فهذا منسوخ، وقد صح عن علي في الصحيحين: "أن النبي ﷺ حرم المتعة نكاح المتعة عام خيبر"[3]، والذي يظهر من مجموع الأدلة -والله تعالى أعلم- أنها أُبيحت إباحة مؤقتة بعد ذلك، وهذا مثال على ما نُسخ مرتين عند بعض أهل العلم، أُبيحت إباحة مؤقتة بعد ذلك إبان الفتح، ثم بعد ذلك حرمها النبي ﷺ عام الفتح[4]، وهو في صحيح مسلم.
فنكاح المتعة حرام، والعجيب أن الذي روى الحديث هو علي بن أبي طالب ، وما نُقل عن ابن عباس من أنه أجاز نكاح المتعة[5] فإنه قد رجع عنه، فيكون هذا يشبه الإجماع، أن نكاح المتعة، والمقصود بنكاح المتعة أن يتزوج امرأة على ثوب، أو دراهم أو نحو ذلك نكاحاً مؤقتاً بمدة ينتهي بانتهائها، فيتزوج امرأة ساعة أو ساعتين أو أربع ساعات أو ليلة أو ليلتين أو أسبوعًا يستمتع بها لا يحصل به ميراث، ولا ما يترتب على النكاح من أمور، فإذا انتهت المدة انتهى، مثل حجز الخطوط، إذا جاء الوقت المعين ما اشتُريت التذكرة، أُلغي هذا الحجز، فهذا نفس الشيء، جاءت الساعة الخامسة عصراً من اليوم الفلاني انتهى هذا النكاح تلقائياً، فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ [النساء:24]، فهذا على هذا القول يكون منسوخاً، ولا يجوز لأحد أن يبقى مع هذا ويقول: يجوز أن يتزوج الإنسان نكاح متعة بحال من الأحوال، وإلا يكون زانياً.
هذا، وأسأل الله أن ينفعنا وإياكم بالقرآن العظيم، وأن يجعلنا وإياكم هداة مهتدين، وصلى الله على نبينا محمد،وعلى آله وصحبه.
- أخرجه البخاري، كتاب الجنائز، باب إذا أسلم الصبي فمات، هل يصلى عليه، وهل يعرض على الصبي الإسلام، برقم (1356).
- أخرجه البخاري، كتاب مناقب الأنصار، باب قصة أبي طالب، برقم (3884).
- أخرجه البخاري، كتاب الذبائح والصيد، باب لحوم الحمر الإنسية، برقم (5523)، ومسلم، كتاب النكاح، باب نكاح المتعة، وبيان أنه أبيح، ثم نسخ، ثم أبيح، ثم نسخ، واستقر تحريمه إلى يوم القيامة، برقم (1407).
- أخرجه مسلم، كتاب النكاح، باب نكاح المتعة، وبيان أنه أبيح، ثم نسخ، ثم أبيح، ثم نسخ، واستقر تحريمه إلى يوم القيامة، برقم (1406).
- أخرجه مسلم، كتاب الحج، باب في المتعة بالحج والعمرة، برقم (1217)، وفي كتاب النكاح، باب نكاح المتعة، وبيان أنه أبيح، ثم نسخ، ثم أبيح، ثم نسخ، واستقر تحريمه إلى يوم القيامة، برقم (1407).