الخميس 24 / جمادى الآخرة / 1446 - 26 / ديسمبر 2024
الآية 159 من سورة النساء
تاريخ النشر: ٠٧ / رمضان / ١٤٢٧
التحميل: 1655
مرات الإستماع: 2389

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد،وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فحدثينا اليوم فيما يتعلق بالآيات قد يُستشكل معناها، أو تُفهم على غير وجهها، أو يُلبس بها بعض أهل الزيغ مما يتعلق بسورة النساء.

سأتحدث عن آيتين هما آخر ما سنتحدث عنه من هذه السورة بإذن الله -تبارك وتعالى، أما الأولى فهي قوله -تبارك وتعالى- عن اليهود: وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا ۝ وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا ۝ بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ۝ وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا [النساء:156-159]، وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ [النساء:159]، من هو؟، عيسى ، قَبْلَ مَوْتِهِ، قبل موت من؟ قبل موت الكتابي أو قبل موت عيسى ؟.  

جاء عن ابن عباس -ا- رواية مشهورة أن المقصود بذلك الكتابي، وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، يعني: ما من أهل الكتاب أحد إلا ويؤمن بعيسى قبل موته، يعني: هذا الكتابي قبل أن يموت يؤمن بعيسى ، لكن هذا الإيمان لا ينفعه في حال الاحتضار، حتى قيل لابن عباس -ا: "الرجل يقتل يُضرب رأسه فجأة، فقال: يؤمن به قبل أن يموت"[1]، فهذا احتمال تحتمله الآية، والأقرب -وهو الذي عليه عامة أهل العلم- أن الضمير يرجع إلى عيسى ، وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ [النساء:159]، أي: بعيسى ، قَبْلَ مَوْتِهِ [النساء:159]، قبل موت عيسى، وذلك أن عيسى رُفع ثم بعد ذلك ينزل في آخر الزمان، ويكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ولا يقبل إلا الإسلام أو السيف[2]، ولا يأخذ الجزية، وعندئذ لا يبقى أحد من أهل الكتاب على وجه الأرض إلا آمن به، هذا الذي عليه عامة أهل العلم في معنى هذه الآية، ويدل على ذلك قاعدة معروفة وهي أن الأصل توحيد مرجع الضمائر، يعني: أن تكون جميع الضمائر المتعددة ترجع إلى شيء واحد، انظروا معي يقول الله : وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا ۝ وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ [النساء:156-157]، وَمَا قَتَلُوهُ [النساء:157]، عيسى، وَمَا صَلَبُوهُ، عيسى ، وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ، عيسى ، وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ، في عيسى ، لَفِي شَكٍّ مِنْهُ [النساء:157]، بعيسى ، مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ [النساء:157]، بعيسى وحقيقة ما حصل له، إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا [النساء:157]، عيسى ، بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ، عيسى، بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ۝ وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ [النساء:158-159]، عيسى، قَبْلَ مَوْتِهِ [النساء:159]، عيسى، هذه قاعدة، أنه مهما أمكن توحيد مرجع الضمائر بحيث لا نفرقها، بعضها يرجع إلى عيسى، وبعضها يرجع إلى الكتابي مثلاً، فالأصل توحيد مرجع الضمائر، هذا من قواعد التفسير، فهذا هو معنى هذه الآية الذي لربما يُستشكل. 

والآية الثانية وهي الأخيرة التي نتحدث عنها في هذه السورة -سورة النساء- هي قول الله -تبارك وتعالى: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ [النساء:171]، كلمته، ما معنى كلمته؟ ليس معنى ذلك أن عيسى كلمة مخلوقة، لا، وإنما وُجد بالكلمة، خُلق بالكلمة،قال له: كُن، فكان، قال الله : كُن، فكان، أي كان بالكلمة من غير أب، ليس له أب، وإنما كان بالكلمة، وَرُوحٌ مِنْهُ [النساء:171]، النصارى يتشبثون بهذه الآية، ويقولون: وَرُوحٌ مِنْهُ، أي أن عيسى جزء من الله كما يعتقدون أنه ثالث ثلاثة، وَرُوحٌ مِنْهُ [النساء:171]، نقول لهم: أنتم أصلاً ما تؤمنون بالقرآن فكيف تحتجون به؟!.

إن كنتم تؤمنون بالقرآن فعندنا نصوص صريحة في القرآن تقول بأنه عبد الله، فلماذا تأخذون هذا المتشابه وتتركون المُحكم؟! هذه واحدة.

الأمر الثاني: أن قوله: وَرُوحٌ مِنْهُ، أي: روح مخلوقة، الله قال عن آدم حينما خاطب الملائكة: فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي [الحجر:29]، فهل كان آدم جزءًا من الله؟ حاشا وكلا، والنصارى لا يعتقدون هذا، فقولوا في عيسى كما تقولون في آدم، وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي [الحجر:29]، أي: من روحي المخلوقة، الروح التي خلقها، وأضافها إليه للتشريف، كما يقول الله مثلاً: نَاقَةَ اللَّهِ [الشمس:13]، أضافها إليه للتشريف وإلا هي مخلوقة، وكما تقول: بيت الله، أضافه إليه للتشريف، فالإضافة أحياناً تكون للتشريف، وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ [الجن:19]، أي: محمد ﷺ، أضافه إليه تشريفاً، ثم أيضاً قوله هنا: وَرُوحٌ مِنْهُ [النساء:171]، أي: مبتدَأة منه، أي: هو الذي خلقها، كما قال الله : وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ [الجاثية:13]، جميعاً منه يعني ماذا؟ هل ما في السموات وما في الأرض هو جزء من الله؟ أبداً، النصارى لا يقولون بهذا.

جَمِيعًا مِنْهُ إذن أي: مبتدأ منه، الله خلقه وامتن به وتفضل به على الناس، هذا معناها، فنقول: قولوا: وَرُوحٌ مِنْهُ [النساء:171]، مثل ما تقولون في: جَمِيعًا مِنْهُ في خلق السموات والأرض، هذا معنى وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ، وهي كُن، وَرُوحٌ مِنْهُ، أي: مخلوقة مبتدَأة من الله خلقاً وإيجاداً، والله تعالى أعلم.

نسأل الله القبول للجميع.

وصلى الله على نبينا محمد.

  1. تفسير الطبري (7/ 668).
  2. أخرجه البخاري، كتاب المظالم والغصب، باب كسر الصليب وقتل الخنزير، برقم (2476)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب نزول عيسى ابن مريم حاكمًا بشريعة نبينا محمد ﷺ، برقم (155).

مواد ذات صلة