الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
في هذه الليلة سأتحدث عن آيتين في سورة المائدة، الأولى قد لا يُفهم المراد منها بالنسبة لكثير من القارئين، وأقصد بذلك أن الإنسان ينبغي أن يراجع نفسه، كما نكرر، وأنه ينبغي أن يتذكر دائماً أنه مخاطب بهذا القرآن وأنه يجب عليه أن يُعنَى به، والآية الثانية قد لا تُفهم على وجهها، قد تُفهم على غير مراد الله منها.
أما الآية الأولى فهي قوله -تبارك وتعالى: مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ [المائدة:103]، فهذه الآية نقرؤها ونسمعها، ولو أننا وجهنا هذا السؤال إلى الإخوان الذين يسمعون هذا الكلام الآن، ما معنى مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ؟ [المائدة:103].
القرآن خاطبنا بلغة العرب، ولا يحسُن أننا نقرأ ولكن لا ندري ما هذا الكلام.
هذا من تُرّهات الجاهلية التي تدعو المؤمن إلى حمد الله والثناء عليه أن امتن الله علينا بهذا النور المبين ببعث محمد ﷺ، فنعرف قدر هذه النعمة ونتمسك بها، ونُقبل عليها، ونقبل على هذا الوحي.
الجاهليون لهم عادات ومناسك، وعبادات مضحكة في كثير من الأحيان، فمن ذلك التحليل والتحريم، كما قال : قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ [الأنعام:140]، وقال: قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ [الأنعام:145]، فكانوا يحرمون من عند أنفسهم أشياء، فمن ذلك مثلاً: البحيرة، من البحر، وذلك أنهم يشقون آذانها علامة على أنها متروكة، لا يقربها أحد، ولا يعترضها أحد، تأتي أي حوض وتشرب منه، وتذهب حيث شاءت، لا تُحلب، ولا تُنحر، ولا تُركب، ولا يُجز وبرها، ولا يُنتفع بها في سقاية، ولا غير ذلك من ألوان الانتفاع.
بعضهم يقول: متى يفعلون بها ذلك؟ إذا نُتجت الناقة، الناقة إذا ولدت خمسة أبطن -خمس مرات، نظروا إلى الخامس فإن كان ذكراً ذُبح، ويأكله الرجال دون النساء، كما قال الله : وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ، حِجر يعني محجورة، لا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا [الأنعام:138]، لا يحملون عليها، وَأَنْعَامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ [الأنعام:138]، وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ [الأنعام:139]، فإن كان ذكراً ذُبح وأكله الرجال، هذا الخامس، والأنثى تُجدع آذانها ثم تُترك للطواغيت، للأصنام تقرباً إليهم تُهمل، هذه البحيرة.
والسائبة ما سيبوه لآلهتهم، لا يأكله أحد، ولا يُحمل عليه شيء، بعضهم يقول: يُفعل ذلك إذا ولدت الناقة ولداً كان بينها وبينه ستة أولاد فالسابع إذا كان ذكراً أو أنثى، أو ذكرين ذبحوه للرجال.
وبعضهم يقول: إذا ولدت عشر إناث ليس بينها ذكر سيّبوها.
وقيل: كان الرجل إذا سافر وقُضيت له حاجة سيّب واحدة من الإبل للطواغيت تقرباً إليها.
وبعضهم يقول: كانوا يفعلون ذلك على سيبل النذر إذا حصل لي كذا فهذه سائبة، تُسيب لمعبوداتهم الباطلة من دون الله -تبارك وتعالى.
وأما الوصيلة فهي الناقة البكر تلد في أول نتاج الإبل، ثم تُثني بأنثى بعدها، فيسيبونها للطواغيت إن وصلت إحداهما بالأخرى ليس بينهما ذكر.
وبعضهم يقول: إذا نُتجت سبعة أبطن يعني ولدت سبع مرات، فإن كان السابع ذكراً أو أنثى وهو ميت اشترك فيه الرجال والنساء، وإن كان أنثى استحيوها، وإن كان ذكراً وأنثى في بطن واحد استحيوهما، وقالوا: وصلته أخته، فيه تفصيل عندهم، إذا كان ذكراً وأنثى في بطن واحد ولدت توأمًا ذكرًا وأنثى استحيوهما يعني يتركونهما أحياء، ما يذبحونهما، وقالوا: وصلته أخته، يعني: ما يذبح الذكر باعتبار أن أخته وصلته، هذا التفصيل يحتاج إلى متن حتى يُحفظ.
وأما الحامي فهو الفحل إذا لقح -إذا قام بالضراب- عددًا معينًا عندهم قالوا: حمى ظهره، لا يُركب عليه ولا يُحمل عليه يُترك للطواغيت، وقيل: إذا لقح عشراً، الفحل إذا لقح عشرًا، وقيل: إذا وُلد لولده، يعني: صار جدًّا، يكون قد حمى ظهره، هذا الحامي.
فبهذا نعرف نعمة الله علينا ببعث محمد ﷺ، وبهذا الدين.
وأما الآية الثانية: وهي التي قد لا تُفهم على وجهها فهي قوله -تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ [المائدة:105]، هذه الآية يفهمها كثير من الناس أن الإنسان ليس عليه أن يأمر بالمعروف أو ينهى عن المنكر، وإذا أراد أن ينصح الآخرين لربما يُحتج عليه بهذه الآية: عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ [المائدة:105]، وهذا غلط، وقد قام أبو بكر خطيباً في الناس وقال: "إنكم تضعون هذه الآية على غير مراد الله منها"[1]، وبين المراد بالآية عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ [المائدة:105]، هذه في أقوام أسلموا فكان الواحد منهم يرى أباه كافراً وأخاه كافراً وأمه كافرة فينزعج لهذا، فالله قال لهم: عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ [المائدة:105].
قد يكون أبوه يصنع الأصنام، أبو إبراهيم كان يصنع الأصنام، ما ضره، لا يضركم ضلال من ضل إذا كنتم مهتدين.
وكذلك من المعاني الداخلة تحتها لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ [المائدة:105]، إذا أمرتم بالمعروف ونهيتم عن المنكر فإنه وإن لم يُستجب لكم فإن العُهدة قد برئت، وسلمت ولا يلحقكم تبعة بعد ذلك، لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ [المائدة:105]، إذا كنتم على الطريق الصحيح، تأمرون بالمعروف، وتنهون عن المنكر، وهذا هو المعنى الصحيح؛ لأن الإنسان لا يمكن أن يكون مهتدياً إلا إذا كان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ولهذا قال الله : لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ [المائدة:78-79]، هؤلاء لُعنوا، فكيف يكون الإنسان مهتديًا وهو لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر؟!.
إذن عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ [المائدة:105]، إذا كنتم محققين لأمر الله بالاستقامة في ذواتكم، وتأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر، فإنه وإن لم يُستجب لكم فإن كفر من كفر وضلال من ضل لا يضركم، يأتي النبي ومعه الرجل، ويأتي النبي ومعه الرجلان، ويأتي النبي وليس معه أحد[2]، ما يضره، فهذا هو المعنى.
فأسأل الله أن يبصرنا وإياكم بالقرآن العظيم، ويجعلنا وإياكم هداة مهتدين، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.
- أخرجه أبو داود، كتاب الملاحم، باب الأمر والنهي، برقم (4338)، والترمذي، أبواب الفتن عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء في نزول العذاب إذا لم يغير المنكر، برقم (2168)، وابن ماجه، أبواب الفتن، باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، برقم (4005)، وذكره الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة، برقم (1564).
- أخرجه البخاري، كتاب الطب، باب من لم يَرقِ، برقم (5752)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب الدليل على دخول طوائف من المسلمين الجنة بغير حساب ولا عذاب، برقم (220).