بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال المفسر -رحمه الله تعالى- في تفسير قوله تعالى:
إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ وَمَا جَعَلَهُ اللّهُ إِلاَّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [سورة الأنفال:9، 10].
قال البخاري في "كتاب المغازي" باب قول الله تعالى: إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ إلى قوله: فَإِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [سورة الأنفال:13][1]، ثم روى عن ابن مسعود قال: "شهدت من المقداد بن الأسود مشهداً لأن أكون صاحبه أحب إلي مما عدل به، أتى النبي ﷺ وهو يدعو على المشركين فقال: لا نقول كما قال موسى فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا [سورة المائدة:24] ولكنا نقاتل عن يمينك وعن شمالك وبين يديك وخلفك، فرأيت النبي ﷺ أشرق وجهه وسرّه -يعني قوله"[2].
ثم روى عن ابن عباس -ا- قال: قال النبي ﷺ يوم بدر: اللهم أنشدك عهدك ووعدك، اللهم إن شئت لم تعبد فأخذ أبو بكر بيده، فقال: حسبك، فخرج وهو يقول: سيهزم الجمع ويولون الدبر[3]، ورواه النسائي.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فقوله -تبارك وتعالى: إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ الاستغاثة هي طلب الغوث، والنبي ﷺ كان يهتف بربه ويسأله النصر، ويقول: اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم آتِ ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض[4]، فقوله: إِذْ تَسْتَغِيثُونَ بالجمع، يحتمل أن يكون قال ذلك على سبيل التعظيم، ويقصد به النبي ﷺ، ويحتمل أيضاً أن يكون الصحابة أمّنوا على دعائه، والمؤمّن داعٍ، كما قال الله لموسى وهارون -عليهما الصلاة والسلام: قَدْ أُجِيبَت دَّعْوَتُكُمَا [سورة يونس :89]، والذي كان يدعو موسى، ويحتمل أن يكون الصحابة دعوا، وهذا جاء في بعض الروايات في السير، أنهم كانوا يتضرعون إلى الله ويسألونه النصر، وهذا أمر يقع عادة من أهل الإيمان، وإن لم يُنقل.
إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ وفي سورة آل عمران قال الله -تبارك وتعالى: بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُسَوِّمِينَ [سورة آل عمران:125]، وقال قبلها: وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَن يَكْفِيكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُم بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُنزَلِينَ [سورة آل عمران:123، 124].
من أهل العلم من فهم أن هذه الآية في غزوة بدر لأن الله قال: وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أي: واذكر إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم، يعني في بدر، ثم بعد ذلك بَلَى إِن تَصْبِرُواْ بشرط الصبر والتقوى يزيد المدد فيصل إلى خمسة آلاف، فقالوا: قال الله في أول الأمر: إنه ممدهم بألف مردفين، في القراءة الأخرى قراءة نافع مُرْدَفِينَ يعني أنهم يردفون بغيرهم من الملائكة، فألف إذا أردفوا بغيرهم صاروا ثلاثة آلاف، ثم بعد ذلك يصيرون خمسة آلاف، وقالوا: هذا وجه الجمع بين الآية في سورة الأنفال هذه أنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ [سورة الأنفال:9] وآية آل عمران.
ومن أهل العلم من قال: إن هذه الآية في غزوة بدر كما هو السياق إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم وسياق هذه الآية وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ [سورة آل عمران:121] في يوم أحد قطعاً، فسورة آل عمران تتكلم عن غزوة أحد وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ إِذْ هَمَّت طَّآئِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ وَاللّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَن يَكْفِيكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُم بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ [سورة آل عمران:121- 124]، قالوا: هذا في أحد، وليس في بدر، وقوله تعالى: وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ هذه جملة للتذكير، ثم رجع السياق في أحد.
وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ قالوا: هذه جاءت للذكرى، ثم رجع الكلام عن غزوة أحد إِذْ تَقُولُ في غزوة أحد إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَن يَكْفِيكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُم بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ [سورة آل عمران:124] هذا في أحد مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُنزَلِينَ بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُسَوِّمِينَ [سورة آل عمران:124-125]، أي مُعلَّمين بعلامات يعرفون بها، ثم قال في آل عمران: وَمَا جَعَلَهُ اللّهُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ [سورة آل عمران:126] إلى آخره، قال به طائفة من أهل العلم، قالوا: تلك في أحد، وهذه الآية في غزوة بدر، وذكْر بدر كان للتذكير فقط في سياق آيات أحد، وإلا فالكلام في سورة آل عمران في غزوة أحد، والملائكة نزلوا في غزوة أحد، وإن اختلف العلماء في قتال الملائكة، هل قاتلوا في كل الغزوات أو لا؟
والراجح الذي عليه المحققون أنهم قاتلوا في غزوة بدر، ويدل على هذا أدلة، ولم ينزلوا فقط للتثبيت، وأنهم في غزوة أحد نزلوا ولكنهم لم يقاتلوا، وكذلك زلزل جبريل بني قريظة[5]، وعن ابن عباس -ا- أن النبي ﷺ قال يوم بدر: هذا جبريل آخذ برأس فرسه عليه أداة الحرب[6] فجاءت الملائكة أيضاً في غزوة الخندق، وقال الله : فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا [سورة الأحزاب:9]، وفي حنين أيضاً ذكر بعض أهل العلم أن الملائكة أيضاً نزلوا ولكنهم لم يقاتلوا، ثُمَّ أَنَزلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَعذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُواْ [سورة التوبة:26]، حينما قال: وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ ثُمَّ أَنَزلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا[سورة التوبة:25، 26] هذا في غزوة حنين.
وقوله تعالى: بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ أي: يردف بعضهم بعضاً، كما قال هارون بن هبيرة عن ابن عباس -ا: مُرْدِفِينَ متتابعين.
روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس -ا- قال: وأمد الله نبيه ﷺ والمؤمنين بألف من الملائكة، فكان جبريل في خمسمائة من الملائكة مجنِّبة، وميكائيل في خمسمائة مجنِّبة.
إي مجنبة، يعني على جانب الجيش، الميمنة يقال لها: مجنِّبة، والميسرة يقال لها: مجنِّبة.
هذه الأدلة صريحة في الدلالة على أن الملائكة باشرت القتال مع المسلمين يوم بدر، وجاء في بعض الروايات أنهم كانوا يعرفون من قتل على يد الملائكة من المشركين بأنه يضرب كضربة السوط فيخضر، وكان الرجل يتبع المشرك، فيسقط قبل أن يصل إليه السيف، بعضهم رأى رجالاً على خيل، وبصفة لم يشاهدها ولم تكن معهم في عسكرهم، فكل هذا يدل على أن الملائكة باشرت القتال معهم، وأما باقي الغزوات فلا يوجد دليل بهذه الصراحة يدل على أن الملائكة باشروا القتال، ولو باشروه يوم أحد لما انهزم المسلمون، و"حيزوم" اسم فرس الملَك.
فقتلوا يومئذ سبعين وأسروا سبعين، وقال البخاري: باب شهود الملائكة بدراً[8]، ثم روى رفاعة بن رافع الزرقي وكان من أهل بدر، قال: جاء جبريل إلى النبي ﷺ فقال: ما تعدون أهل بدر فيكم؟، قال: من أفضل المسلمين أو كلمة نحوها، قال: وكذلك من شهد بدراً من الملائكة[9]. انفرد به البخاري، وقد رواه الطبراني في المعجم الكبير من حديث رافع بن خديج [10] وهو خطأ، والصواب رواية البخاري، والله أعلم.
وفي الصحيحين أن رسول الله ﷺ قال لعمر لما شاوره في قتل حاطب بن أبي بلتعة: إنه قد شهد بدراً، وما يدريك لعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم[11].
وقوله تعالى: وَمَا جَعَلَهُ اللّهُ إِلاَّ بُشْرَى الآية، أي: وما جعل الله بعث الملائكة وإعلامه إياكم بهم إلا بشرى، وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ، وإلا فهو تعالى قادر على نصركم على أعدائكم بدون ذلك، ولهذا قال: وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ، كما قال تعالى: فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاء اللَّهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ [سورة محمد:4-6].
وقال تعالى: وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ [سورة آل عمران:140، 141]، فهذه حِكَم شَرَع الله جهاد الكفار بأيدي المؤمنين لأجلها، وقد كان تعالى إنما يعاقب الأمم السالفة المكذبة للأنبياء بالقوارع التي تعم تلك الأمم المكذبة، كما أهلك قوم نوح بالطوفان، وعاداً الأولى بالدبور، وثمود بالصيحة، وقوم لوط بالخسف والقلب وحجارة السجيل، وقوم شعيب بيوم الظلة، فلما بعث الله تعالى موسى وأهلك عدوه فرعون وقومه بالغرق في اليم، ثم أنزل على موسى التوراة شرع فيها قتال الكفار، واستمر الحكم في بقية الشرائع بعده على ذلك، كما قال تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِن بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ [سورة القصص:43].
وقتْل المؤمنين للكافرين أشد إهانة للكافرين وأشفى لصدور المؤمنين، كما قال تعالى للمؤمنين من هذه الأمة: قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ [سورة التوبة:14]، ولهذا كان قتل صناديد قريش بأيدي أعدائهم الذين ينظرون إليهم بأعين ازدرائهم أنكى لهم وأشفى لصدور حزب الإيمان، فقتل أبي جهل في معركة القتال وحومة الوغى أشد إهانة له من موته على فراشه بقارعة أو صاعقة أو نحو ذلك، كما مات أبو لهب -لعنه الله- بالعَدَسة، بحيث لم يقربه أحد من أقاربه.
العَدَسة، مرض بذرة مثل العدسة، مثل البذور في الجسم، تعدي بإذن الله ، ويموت صاحبه مثل الطاعون، ولذلك يقولون: إنهم رموا عليه الحجارة لأنهم خافوا أن يقتربوا منه عندما رأوا جسده.
قوله -تبارك وتعالى: وَمَا جَعَلَهُ اللّهُ إِلاَّ بُشْرَى أي: نزول الملائكة، والبشرى غالباً تستعمل في الخبر الذي تطمئن إليه النفوس، وتُسرّ به، وقيل له ذلك: لظهور أثره أحياناً على بشرة المبشَّر، يظهر أثر السرور والفرح والبهجة إِلاَّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ [سورة الأنفال:10]، وهذا الذي أخذ منه بعض أهل العلم ممن قال: إنهم لم يقاتلوا، وإن الله حصر العلة في نزولهم بهذا، قال: وَمَا جَعَلَهُ اللّهُ إِلاَّ بُشْرَى، فهي مجرد بشرى لطمأنينة القلوب.
وقال : فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرَّعْبَ فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ [سورة الأنفال:12]، قالوا: هذا الخطاب للمؤمنين وليس للملائكة، حتى تفهم وجه الاحتجاج، قالوا: إن الملائكة لم تقاتل، وإن نزولهم للتبشير والطمأنينة، وقوله: فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ، للتثبيت، وقوله: فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الأَعْنَاقِ، تعليم من الله للمؤمنين مواضع النكاية وكيف يفتكون ويثخنون في العدو، وهذا ليس بحجة في أن الملائكة لم تقاتل، وَمَا جَعَلَهُ اللّهُ إِلاَّ بُشْرَى أي: أن نزولهم بشرى للقتال مع المؤمنين للتثبيت والبشرى والطمأنينة، وليس الملائكة الذين يقلبون كفة المعركة، ويتحقق النصر على أيديهم إطلاقاً، فالنصر من الله : وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ [سورة آل عمران:126]، فالكفار عددهم ألف، وأهل الإيمان ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً، بل حتى في عهد النبي ﷺ الروم جمعوا مائتي ألف لقتال المؤمنين، فعددهم لا يساوي شيئاً مقابل الكفار، ولكن النصر من الله ، فالله يبتلي الناس على قدر ما عندهم من إمكانات، وما أعطاهم من قدر، فتجد ثلاثمائة وستة عشر أو سبعة عشر أو أربعة عشر، يقابلهم ألف، والآلات: رماح وسنان وسيوف ودروع ونحو ذلك.
ونزول ألف من الملائكة، والكفار عددهم ألف، والملَك الواحد يمكن أن يقلب الأرض عليهم قلباً، فعن جابر بن عبد الله -ا، عن النبي ﷺ قال: أذن لي أن أحدث عن ملك من ملائكة الله من حملة العرش إن ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام[12] سبعمائة سنة، هذه المسافة لملك واحد، وجبريل من أعظم الملائكة له ستمائة جناح، وهو وميكائيل معهم، فلا يساوي أبو سفيان ولا أبو جهل ولا جيشهما شيئاً أمام واحد منهم، لكن الله يعلم خبايا النفوس، وما ركبت عليه وجبلت عليه، فإذا جاء هؤلاء الخبرَ الصادق أنه قد تنزل الآن ألف من الملائكة تقوى النفوس ويصبح الإنسان مقداماً لا يبالي بشيء، يضرب في الكفار بسيفه، وترتفع المعنويات، وإلا فالله يمكن أن يرسل إليهم ملكاً، ويمكن أن ينزل المطر عليهم فينشغلون بأنفسهم، فلا يستطيعون القتال ولا المشي ولا الحركة، فكيف بنزول الملائكة؟ فهذه أمور يجب على الإنسان أن يتأملها ويتعقلها، وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ إذا كان هؤلاء الملائكة لا يملكون النصر، فكيف بالبشر؟ فلا يلتفت إليهم ولا يركن إليهم، ولا يحسن الظن بأعداء الله أن ينصروه، ففي هذا عبرة بالغة، والله المستعان.
فائدة:
قال الله تبارك وتعالى- في سورة آل عمران: وَمَا جَعَلَهُ اللّهُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ، وفي آية الأنفال وَمَا جَعَلَهُ اللّهُ إِلاَّ بُشْرَى، بدون لكم، وقال: وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ، وفي سورة آل عمران قال: وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُم بِهِ، وقوله: وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ [سورة آل عمران:126]، وقال: وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [سورة الأنفال:10]، هذا الفن يسمى المتشابه اللفظي، وتكلم عليه بعض العلماء في كتب خاصة مثل كتاب ملاك التأويل للغرناطي، وكتاب درة التنزيل وغرة التأويل للإسكافي، والبرهان للكرماني وغيرها، وبعض ما يذكرون لا يخلو من تكلف -والله تعالى أعلم.
- صحيح البخاري (4/1455).
- رواه البخاري برقم (3736)، كتاب المغازي، باب قول الله تعالى: إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ} إلى قوله: {فَإِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ.
- رواه البخاري برقم (3737)، كتاب المغازي، باب قول الله تعالى: إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ إلى قوله: فَإِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ، والنسائي في السنن الكبرى برقم (11557)، باب قوله تعالى: سيهزم الجمع ويولون الدبر}.
- رواه مسلم برقم (1763)، من حديث عمر بن الخطاب كتاب الجهاد والسير، باب الإمداد بالملائكة في غزوة بدر وإباحة الغنائم.
- انظر: الطبقات الكبرى لابن سعد (2/74).
- رواه البخاري برقم (3773)، كتاب المغازي، باب شهود الملائكة بدرا.
- رواه مسلم برقم (1763)، كتاب الجهاد والسير، باب الإمداد بالملائكة في غزوة بدر وإباحة الغنائم.
- صحيح البخاري (4/1466).
- رواه البخاري برقم (3771)، كتاب المغازي، باب شهود الملائكة بدرا.
- رواه الطبراني في المعجم الكبير (4/277)، برقم (4412).
- رواه البخاري برقم (2845)، كتاب الجهاد والسير، باب الجاسوس، ومسلم برقم (2494)، كتاب فضائل الصحابة -، باب من فضائل أهل بدر وقصة حاطب بن أبي بلتعة.
- رواه أبو داود برقم (4727)، كتاب السنة، باب في الجهمية والمعتزلة، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (1/150)، برقم (151).