بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال المفسر -رحمه الله تعالى:
وقوله: وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اللّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُواْ أَوْلِيَاءهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ [سورة الأنفال:34] أي: وكيف لا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام أي الذي بمكة؟ يصدون المؤمنين الذين هم أهله عن الصلاة فيه والطواف به، ولهذا قال: وَمَا كَانُواْ أَوْلِيَاءهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ أي: هم ليسوا أهل المسجد الحرام وإنما أهله النبي ﷺ وأصحابه كما قال تعالى: مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللّهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ [سورة التوبة:17، 18]، وقال تعالى: وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللّهِ [سورة البقرة:217] الآية.
وروى الحاكم في مستدركه عن رفاعة قال: جمع رسول الله ﷺ قريشاً فقال: هل فيكم من غيركم؟ فقالوا: فينا ابن اختنا وفينا حليفنا وفينا مولانا فقال: حليفنا منا وابن أختنا منا ومولانا منا، إن أوليائي منكم المتقون[1] ثم قال: هذا صحيح ولم يخرجاه.
وقال عروة والسدي ومحمد بن إسحاق في قوله تعالى: إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ قال: هم محمد ﷺ وأصحابه وقال مجاهد: هم المجاهدون من كانوا وحيث كانوا.
ثم ذكر تعالى ما كانوا يعتمدونه عند المسجد الحرام، وما كانوا يعاملونه به فقال: وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَاء وَتَصْدِيَةً [سورة الأنفال:35] قال عبد الله بن عمر وابن عباس ومجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير وأبو رجاء العطاردي ومحمد بن كعب القرظي وحجر بن عنبس ونبيط بن شريط وقتادة وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم: هو الصفير. وزاد مجاهد: وكانوا يدخلون أصابعهم في أفواههم.
وعن سعيد بن جبير عن ابن عباس -ا - في قوله: وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَاء وَتَصْدِيَةً قال: كانت قريش تطوف بالبيت عراة تصفر وتصفق، والمكاء الصفير، والتصدية التصفيق، وهكذا روى علي بن أبي طلحة والعوفي عن ابن عباس -ا- وكذا روي عن ابن عمر -ا- ومجاهد ومحمد بن كعب وأبي سلمة بن عبد الرحمن والضحاك وقتادة وعطية العوفي وحجر بن عنبس وابن أبزى نحو هذا.
وروى ابن جرير عن ابن عمر -ا- في قوله: وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَاء وَتَصْدِيَةً قال المكاء: الصفير، والتصدية التصفيق.
وعن سعيد بن جبير وعبد الرحمن بن زيد: وَتَصْدِيَةً قال: صدُّهم الناس عن سبيل الله قال: فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ [سورة الأنفال:35] قال الضحاك وابن جريج ومحمد بن إسحاق: هو ما أصابهم يوم بدر من القتل والسبي.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فكانت عمارة المشركين للبيت الحرام كما أخبر ربنا –تبارك وتعالى: وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَاء وَتَصْدِيَةً [سورة الأنفال:35]، ولذلك لما كانوا بهذه الحال من الإشراك والاشتغال بالباطل والصد عن سبيل الله لم يكونوا أولياء البيت الحرام؛ لأن عمارته إنما تكون بالإيمان والعمل الصالح والصلاة والذكر، وقد قال الله : مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ [سورة التوبة:17].
والذي عليه عامة أهل العلم أن المكاء هو التصفير، والتصدية هي التصفيق، قال عنترة:
حَلِيل غَانِيَةٍ تَرَكْتُ مُجَنْدَلاً | تَمْكُو فَرَائِصُهُ كَشِدْقِ الْأَعْلَمِ |
وقال حسان بن ثابت :
إذا قام الملائكة انبعثتم | صلاتكم التصدي والمكاء |
وبعضهم فسر المكاء بوضع الأصابع في الفم، والتصدية بالتصفير، وهذا خلاف المشهور، وقد كان الكفار يفعلون المكاء والتصدية لسببين:
الأول: تقرباً إلى الله وتعبداً.
الثاني: يصفرون ويصفقون ليشغلوا النبي ﷺ وحتى لا يستمع إليه أحد، وقد قال الله –تبارك وتعالى- عنهم: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ [سورة فصلت:26] وهذا الفعل منهم في غاية السفه، ولا يفعله صاحب المروءة وإنما يفعله سفهاء الناس.
وقد أخذ بعض أهل العلم من هذه الآية المنع من التصفيق والتصفير؛ لأن الله قد ذم ذلك وعابه، فلا يليق بالمسلم أن يشابه الكفار.
وفي بعض الروايات الإسرائيلية أن المراد بقوله -تبارك وتعالى- عن قوم لوط ﷺ: وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنكَرَ [سورة العنكبوت:29] التصفير والتصفيق والأفعال التي لا تليق، وقد قال النبي ﷺ: إنما التصفيق للنساء[2].
ويفهم من هذا الحديث أن تصفيق المرأة في غير الصلاة جائز من باب أولى، فالتصفيق في حق النساء أسهل منه في حق الرجال، ومعلوم أن المرأة قد يترخص في حقها أكثر مما يترخص في حق الرجل، مثل الضرب بالدف فإنه لا يجوز للرجال لا في النكاح ولا في العيد ولا في غيره، ولكن النساء يحل لهن ذلك، نظراً لما جُبلن عليه، ومغايرتهن للرجال في الطبيعة والخلقة.
فلا يحسن بالرجل أن يصفق ولا يصفر، والنبي ﷺ كان إذا أعجبه شيء كبر، وإذا تعجب من شيء سبح.
قوله: فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ [سورة الأنفال:35] هذه الآية كقوله –تبارك وتعالى: ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ [سورة الدخان:49]، مع أن العذاب إنما يقع على أبدانهم ونفوسهم، والذوق معلوم أنه يختص باللسان، ولكن صار يعبر عنه بكل من وجد غبّ شيء وألمه.
هذه الرواية لا تصح، ومعلوم أن المشركين حينما خرجوا في بدر وأُحد أنفقوا أموالهم في الصد عن سبيل الله وكانوا في مسيرهم إلى أحد يذبحون كل يوم نحو عشر من الإبل.
وقوله -تبارك وتعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لا يختص بكفار قريش، بل هو عام في كل الكفار، ومعلوم أن الناس أسرى لعقائدهم وأفكارهم ومبادئهم، فهم ينفقون نفيس الأموال في سبيل نصرتها وإعزازها ونشرها بين الناس، بل ويبذلون المُهَج في سبيل مبادئهم.
قوله: يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ [سورة الأنفال:36] سواء كان في ميدان المعركة أو في غير ذلك من الميادين.
قال: فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ العبرة بالنهايات لا بكمال البدايات، وهذا معلوم ومشاهد إلى يومنا هذا، فعبدة الصليب ينفقون المليارات في حرب المسلمين، وفي القنوات التنصيرية والإباحية التضليلية وعند النظر إلى هذه الأرقام قد يصاب الإنسان بالإحباط الشديد، ولكن إذا تذكر قول الله –تبارك وتعالى: فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ [سورة الأنفال:36] يشعر بالأمل من جديد.
هذا الأسلوب ليس صريحاً في سبب النزول، فأبو سفيان ممن تشمله الآية، ونزلت في المطعمين من قريش، والآية تعم كل أهل الكفر؛ لأن الله قال: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ ولم يقل: إن قريشاً ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله، ومن المعلوم أن الاسم الموصول من صيغ العموم.
وقال الضحاك: نزلت في أهل بدر. وعلى كل تقدير فهي عامة، وإن كان سبب نزولها خاصاً، فقد أخبر تعالى أن الكفار ينفقون أموالهم ليصدوا عن اتباع طريق الحق فسيفعلون ذلك ثم تذهب أموالهم ثم تكون عليهم حسرة أي ندامة، حيث لم تجزِ شيئاً لأنهم أرادوا إطفاء نور الله وظهور كلمتهم على كلمة الحق، وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ [سورة الصف:8] وناصر دينه ومعلٍ كلمته ومظهر دينه على كل دين، فهذا الخزي لهم في الدنيا، ولهم في الآخرة عذاب النار، فمن عاش منهم رأى بعينه وسمع بأذنه ما يسوءه ومن قتل منهم أو مات فإلى الخزي الأبدي والعذاب السرمدي، ولهذا قال: فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ [سورة الأنفال:36].
وقوله تعالى: لِيَمِيزَ اللّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ [سورة الأنفال:37] قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس -ا- في قوله: لِيَمِيزَ اللّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ فيميز أهل السعادة من أهل الشقاء وليميز من يطيعه بقتال أعدائه الكافرين، أو يعصيه بالنكول عن ذلك، كقوله: مَّا كَانَ اللّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىَ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ [سورة آل عمران:179] الآية.
وقال تعالى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ [سورة آل عمران:142] فمعنى الآية على هذا: إنما ابتليناكم بالكفار يقاتلونكم وأقدرناهم على إنفاق الأموال وبذلها في ذلك لِيَمِيزَ اللّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَىَ بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ [سورة الأنفال:37]، أي يجمعه كله وهو جمع الشيء بعضه على بعض فيجعله في جهنم أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ [سورة الأنفال:37] أي: هؤلاء هم الخاسرون في الدنيا والآخرة.
قدّر الله ذلك لحكمة وهي أن يتميز الناس؛ لأن بذل النفوس والأموال في سبيل الله أمر شاق غاية المشقة، قال : كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ [سورة البقرة:216] وأقدَرَ هؤلاء الكفار وأنهض عزائمهم من أجل قتالكم وبذل الأموال في الصد عن سبيل الله، فالله يبلو المؤمنين بالكفار ويبلو الكفار بالمؤمنين لِيَمِيزَ اللّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ فيظهر أهل النفاق في هذه الأعمال والعبادات الشاقة كما قال الله في قصة أحد: إِذْ هَمَّت طَّآئِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ وَاللّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ [سورة آل عمران:122].
وقال في الأحزاب: وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِن قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا [سورة الأحزاب:15] قيل: هؤلاء من بني سلمة انهزموا في أحد فندموا فعاهدوا الله ألا يعودوا، وأخبر الله عن المنافقين بقوله: وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا وَإِذْ قَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا [سورة الأحزاب:12، 13].
قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغْفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُواْ فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينِ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه فَإِنِ انتَهَوْاْ فَإِنَّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ وَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَوْلاَكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ [سورة الأنفال:38-40].
يقول تعالى لنبيه محمد ﷺ: قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ أي: عما هم فيه من الكفر والمشاقة والعناد ويدخلوا في الإسلام والطاعة والإنابة يُغْفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ أي: من كفرهم وذنوبهم وخطاياهم.
قوله: إِن يَنتَهُواْ، يعني انتهوا عن الكفر، فسبب المغفرة هو دخول الإسلام، ولا يكفي الانتهاء عن القتال، وهذا دليل على أن ما عمله الكفار يكفّره الله إذا دخلوا في دين الله أفواجاً، وإن لم يستحضروا توبة من أعمالهم.
قد يفهم من هذا الحديث أن العبد إذا أساء وعصى، فإنه يؤاخذ بأعماله التي كانت في الجاهلية، وهذا ليس مراداً -والله تعالى أعلم- لأن النصوص تدل على أن الله –تبارك وتعالى- يغفر لهم جميع الذنوب.
وقال بعض أهل العلم: إنه إذا دخل الإسلام وهو مصر على بعض الذنوب، كالزنى مثلاً، فإنه لا يغفر له ما قارف في الجاهلية من هذا النوع من المعاصي، وهذا القول رواه ابن هانئ عن الإمام أحمد -رحمه الله، لكن الذي عليه عامة أهل العلم: أن الكافر إذا دخل في الإسلام فإن الله يغفر له جميع الذنوب.
أما معنى قوله ﷺ: من أحسن في الإسلام لم يؤاخذ بما عمل في الجاهلية ومن أساء في الإسلام أخذ بالأول والآخر، فهو أن من أحسن في الإسلام فلم يبدل ولم يغير ولم تحصل منه ردة أو نفاق، فلا يؤاخذ بما عمل في الجاهلية، أما من دخل في الإسلام ثم ارتد، أو دخل في الإسلام رياءً أو نفاقاً فإنه لا يغفر له، وهذا الذي عليه عامة المحققين.
هذا الحديث جاء من طريق يزيد بن أبي حبيب عن ابن شماسة المهري قال: حضرنا عمرو بن العاص وهو في سياقة الموت فبكى طويلا وحول وجهه إلى الجدار، فجعل ابنه يقول يا أبتاه، أما بشّرك رسول الله ﷺ بكذا؟ أما بشرك رسول الله ﷺ بكذا؟ قال: فأقبل بوجهه فقال: إن أفضل ما نعدّ شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، إني قد كنت على أطباق ثلاثة لقد رأيتني وما أحد أشد بغضاً لرسول الله ﷺ مني ولا أحب إلي أن أكون قد استمكنت منه فقتلته فلو مت على تلك الحال لكنت من أهل النار، فلما جعل الله الإسلام في قلبي أتيت النبي ﷺ فقلت: ابسط يمينك فلأبايعك، فبسط يمينه، قال: فقبضت يدي، قال: مالك يا عمرو؟ قال: قلت أردت أن أشترط، قال: تشترط بماذا؟ قلت: أن يُغفر لي، قال: أما علمتَ أن الإسلام يهدم ما كان قبله؟ وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها؟ وأن الحج يهدم ما كان قبله؟[4] إلى آخر الحديث.
والسنة هي الشيء الثابت، والسنن لا تقاس باليوم والسنة والعشر السنوات، ومن نظر إلى صفحة التاريخ كاملة يتضح له ذلك، فأين التتر؟ وأين تلك الجيوش العارمة والهمج الذين هجموا على بلاد المسلمين؟ وأين الحملات الصليبية والاستعمار الذي طبق جميع بلاد المسلمين؟
- المستدرك على الصحيحين، كتاب التفسير، تفسير سورة الأنفال (2/358)، برقم (3266).
- رواه البخاري، كتاب الجماعة والإمامة، باب من دخل ليؤم الناس فجاء الإمام الأول فتأخر الأول أو لم يتأخر جازت صلاته فيه عائشة عن النبي ﷺ، (2 / 95)، برقم (684)، ومسلم، كتاب الصلاة، باب تسبيح الرجل وتصفيق المرأة إذا نابهما شيء (2 / 27)، برقم (982).
- رواه البخاري، كتاب استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم، باب إثم من أشرك بالله وعقوبته في الدنيا والآخرة (6/2536)، برقم (6523)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب هل يؤاخذ بأعمال الجاهلية؟ (1/111)، برقم (120).
- رواه مسلم، كتاب الإيمان، باب كون الإسلام يهدم ما قبله وكذا الهجرة والحج (1 / 112)، برقم (192).