بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال المفسر -رحمه الله تعالى- في تفسير قوله تعالى:
إِذْ أَنتُم بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُم بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدتَّمْ لاَخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِن لِّيَقْضِيَ اللّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ [سورة الأنفال:42].
يقول تعالى مخبراً عن يوم الفرقان إِذْ أَنتُم بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا أي: إذ أنتم نزولٌ بعدوة الوادي الدنيا القريبة إلى المدينة، وَهُم، أي: المشركون نزولٌ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى أي: البعيدة من المدينة إلى ناحية مكة وَالرَّكْبُ أي: العير الذي فيه أبو سفيان بما معه من التجارة أَسْفَلَ مِنكُمْ أي: مما يلي سيف البحر، وَلَوْ تَوَاعَدتَّمْ أي: أنتم والمشركون إلى مكان لاَخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ.
قال محمد بن إسحاق: وحدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير عن أبيه في هذه الآية قال: ولو كان ذلك عن ميعاد منكم ومنهم، ثم بلغكم كثرة عددهم وقلة عددكم ما لقيتموهم، وَلَكِن لِّيَقْضِيَ اللّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً أي: ليقضي الله ما أراد بقدرته من إعزاز الإسلام وأهله، وإذلال الشرك وأهله عن غير ملأ منكم، ففعل ما أراد من ذلك بلطفه.
وفي حديث كعب بن مالك قال: إنما خرج رسول الله ﷺ والمسلمون يريدون عير قريش حتى جمع الله بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد.
قال محمد بن إسحاق: وحدثني يزيد بن رومان عن عروة بن الزبير قال: وبعث رسول الله ﷺ حين دنا من بدر- علي بن أبي طالب وسعد بن أبي وقاص، والزبير بن العوام، في نفر من أصحابه يتجسسون له الخبر، فأصابوا سقاة لقريش غلاماً لبني سعيد بن العاص، وغلاماً لبني الحجاج، فأتوا بهما رسول الله ﷺ فوجدوه يصلي، فجعل أصحاب رسول الله ﷺ يسألونهما لمن أنتما؟ فيقولان: نحن سقاة لقريش بعثونا نسقيهم من الماء، فكره القوم خبرهما، ورجَوْا أن يكونا لأبي سفيان، فضربوهما، فلما أذلقوهما قالا: نحن لأبي سفيان فتركوهما، وركع رسول الله ﷺ وسجد سجدتين ثم سلم وقال: إذا صدقاكم ضربتموهما وإذا كذباكم تركتموهما، صدقا والله إنهما لقريش، أخبراني عن قريش؟ قالا: هم وراء هذا الكثيب الذي ترى بالعدوة القصوى، -والكثيب العقنقل، فقال لهما رسول الله ﷺ: كم القوم؟ قالا: كثير، قال: ما عدتهم؟ قالا: ما ندري قال: كم ينحرون كل يوم؟ قالا: يوماً تسعاً ويوماً عشراً، قال رسول الله ﷺ: القوم ما بين التسعمائة إلى الألف ثم قال لهما: فمن فيهم من أشراف قريش قالا: عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة، وأبو البختري بن هشام، وحكيم بن حزام، ونوفل بن خويلد، والحارث بن عامر بن نوفل وطعيمة بن عدي بن نوفل والنضر بن الحارث وزمعة بن الأسود وأبو جهل بن هشام وأمية بن خلف، ونبيه ومنبه ابنا الحجاج، وسهيل بن عمرو وعمرو بن عبد ودّ، فأقبل رسول الله ﷺ على الناس فقال: هذه مكة قد ألقت إليكم أفلاذ كبدها[1].
وقوله: لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ [سورة الأنفال:42] قال محمد بن إسحاق: أي ليكفر من كفر بعد الحجة لما رأى من الآية والعبرة، ويؤمن من آمن على مثل ذلك، وهذا تفسير جيد، وبسْطُ ذلك: أنه تعالى يقول: إنما جمعكم مع عدوكم في مكان واحد على غير ميعاد لينصركم عليهم ويرفع كلمة الحق على الباطل ليصير الأمر ظاهراً والحجة قاطعة والبراهين ساطعة، ولا يبقى لأحد حجة ولا شبهة، فحينئذ يهلك من هلك، أي يستمر في الكفر من استمر فيه على بصيرة من أمره أنه مبطل، لقيام الحجة عليه، وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ أي: يؤمن من آمن عَن بَيِّنَةٍ أي حجة وبصيرة، والإيمان هو حياة القلوب، قال الله تعالى: أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ [سورة الأنعام:122] وقالت عائشة -ا- في قصة الإفك: فهلك فيّ من هلك. أي قال فيها ما قال من البهتان والإفك.
وقوله: وَإِنَّ اللّهَ لَسَمِيعٌ أي: لدعائكم وتضرعكم واستغاثتكم به، عَلِيمٌ أي: بكم، وأنكم تستحقون النصر على أعدائكم الكفرة المعاندين.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فقوله -تبارك وتعالى: إِذْ أَنتُم بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُم بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى [سورة الأنفال:42]، المقصود بالعدوة الدنيا: شاطئ الوادي، فكل ناحية من نواحي الوادي يقال لها: عدوة.
قال: وَهُم بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدتَّمْ لاَخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ [سورة الأنفال:42] هذا توصيف لمواقع الطوائف الثلاث في أرض المعركة، ومن كان خارجاً عنها وهم عير أبي سفيان، فقد كانوا في ناحية الساحل، ولم يكن المسلمون يعرفون موقع العير حينما كانوا ببدر، فصادفهم الجيش، والركب جمع راكب ولا يقال ذلك إلا لراكبي الإبل.
وقول ابن كثير –رحمه الله: "والكثيب العقنقل" أي: الكثيب العظيم من الرمل المتداخل.
قوله: لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ [سورة الأنفال:42] أي: ليكفر من كفر بعد الحجة لما رأى من الآية والعبرة، ويؤمن من آمن على مثل ذلك، فقد كان أهل الإيمان ضعفاء ولم يكن لهم ظهور وكانت العرب تسمع من قريش، ولا تعرف عن المسلمين إلا أنهم من الصابئين الذي صبئوا وتركوا دينهم ويسمعون عنهم سيئ القول الذي تذيعه قريش، فلما انتصر المسلمون ظهر أمرهم واتضح وبان، ولم يعد فيه لبس ولا غبش ولا غموض، فمن أراد الحق فدلائله ظاهرة وواضحة.
إِذْ يُرِيكَهُمُ اللّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَّفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَلَكِنَّ اللّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ [سورة الأنفال:43- 44].
قال مجاهد: أراه الله إياهم في منامه قليلاً، وأخبر النبي ﷺ أصحابه بذلك فكان تثبيتاً لهم، وكذا قال إسحاق وغير واحد.
وقوله: وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَّفَشِلْتُمْ أي: لجبنتم عنهم واختلفتم فيما بينكم، وَلَكِنَّ اللّهَ سَلَّمَ أي: من ذلك بأن أراكهم قليلاً، إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ أي: بما تجنه الضمائر وتنطوي عليه الأحشاء، يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ [سورة غافر:19].
وقوله: وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً [سورة الأنفال:44] وهذا أيضاً من لطفه تعالى بهم، إذ أراهم إياهم قليلاً في رأي العين، فيجرِّئهم عليهم ويطمعهم فيهم.
قال أبو إسحاق السبيعي عن أبي عبيدة عن عبد الله بن مسعود قال: لقد قُللوا في أعيننا يوم بدر حتى قلت لرجل إلى جانبي: تراهم سبعين قال: لا بل هم مائة، حتى أخذنا رجلاً منهم فسألناه، فقال: كنا ألفاً، رواه ابن أبي حاتم وابن جرير.
وقوله: وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ [سورة الأنفال:44] روى ابن أبي حاتم عن عكرمة: وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ الآية قال: حضض بعضهم على بعض، إسناده صحيح.
وقال محمد بن إسحاق: حدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير عن أبيه في قوله تعالى: لِيَقْضِيَ اللّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولاً [سورة الأنفال:44] أي: ليلقي بينهم الحرب، للنقمة ممن أراد الانتقام منه والإنعام على من أراد تمام النعمة عليه من أهل ولايته، ومعنى هذا: أنه تعالى أغرى كلا من الفريقين بالآخر، وقلله في عينه ليطمع فيه، وذلك عند المواجهة، فلما التحم القتال وأيد الله المؤمنين بألف من الملائكة مردفين، بقي حزب الكفار يرى حزب الإيمان ضعفيه، كما قال تعالى: قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُم مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَاء إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لَّأُوْلِي الأَبْصَارِ [سورة آل عمران:13] وهذا هو الجمع بين هاتين الآيتين، فإن كلا منهما حق وصدق، ولله الحمد والمنة.
أرى الله رسوله ﷺ المشركين بعدد قليل، فأخبر أصحابه بهذا فقويت قلوبهم على مواجهتهم، وحينما تراءى الجمعان كان المسلمون يرون المشركين قلة، وكان المشركون يرون المسلمين قلة، فأغرى الله بعضهم ببعض، وكان ذلك دافعاً ومقوياً لعزائمهم حتى وقع الالتحام، ثم بعد ذلك صار المشركون يرون المسلمين ضعفيهم، فحصل للمشركين الخوف والانكسار والضعف وكان ذلك سبباً لهزيمتهم، وهذا هو الجمع بين قول الله –تبارك وتعالى: وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ [سورة الأنفال:44] وقوله -تبارك وتعالى: يَرَوْنَهُم مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ [سورة آل عمران:13].
قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [سورة الأنفال:45-46].
هذا تعليم من الله تعالى لعباده المؤمنين آداب اللقاء وطريق الشجاعة عند مواجهة الأعداء فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ ثبت في الصحيحين عن عبد الله بن أبي أوفى عن رسول الله ﷺ: أنه انتظر في بعض أيامه التي لقي فيها العدو حتى إذا مالت الشمس قام فيهم فقال: يا أيها الناس لا تتمنوا لقاء العدو واسألوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف، ثم قام النبي ﷺ وقال: اللهم منزل الكتاب ومجري السحاب وهازم الأحزاب اهزمهم وانصرنا عليهم[2].
وعن كعب الأحبار قال: ما من شيء أحب إلى الله تعالى من قراءة القرآن والذكر ولولا ذلك ما أمر الناس بالصلاة والقتال، ألا ترون أنه أمر الناس بالذكر عند القتال فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ [سورة الأنفال:45].
قوله –تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ [سورة الأنفال:45] أي: لا تنهزموا وتفروا، ثم ذكر سبحانه أهم الأمور التي يحصل بها الثبات، فقال: وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ، والفلاح هو تحصيل المطلوب والنجاة من المرهوب، والظفر والنصر من الفلاح، والذكر هو السبب في هذا الفلاح، وسبب لتفريج الشدائد، وقد مدح الله –تبارك وتعالى- الذاكرين بقوله: وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا [سورة الأحزاب:35]، وأمر عباده بالذكر فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا [سورة الأحزاب:41، 42]، وقال ﷺ في أهل الذكر: سبق المفردون قالوا: وما المفردون يا رسول الله؟ قال: الذاكرون الله كثيراً والذاكرات[3].
وذكْر الله شيء يسير كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان[4]، ويستطيع العبد أن يذكر ربه على أي حال، ولهذا قال الله : فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاَةَ فَاذْكُرُواْ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ [سورة النساء:103].
وأمر تعالى بالثبات عند قتال الأعداء والصبر على مبارزتهم، فلا يفروا ولا ينكلوا ولا يجبنوا، وأن يذكروا الله في تلك الحال ولا ينسوه، بل يستعينوا به ويتوكلوا عليه، ويسألوه النصر على أعدائهم، وأن يطيعوا الله ورسوله في حالهم ذلك، فما أمرهم الله تعالى به ائتمروا وما نهاهم عنه انزجروا، ولا يتنازعوا فيما بينهم أيضاً فيختلفوا فيكون سبباً لتخاذلهم وفشلهم.
وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ [سورة الأنفال:46] أي: قوتكم وحدّتكم، وما كنتم فيه من الإقبال، وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [سورة الأنفال:46] وقد كان للصحابة في باب الشجاعة والائتمار بما أمرهم الله ورسوله به، وامتثال ما أرشدهم إليه ما لم يكن لأحد من الأمم والقرون قبلهم، ولا يكون لأحد ممن بعدهم، فإنهم ببركة الرسول ﷺ وطاعته فيما أمرهم، فتحوا القلوب والأقاليم شرقاً وغرباً في المدة اليسيرة مع قلة عددهم بالنسبة إلى جيوش سائر الأقاليم من الروم والفرس والترك والصقالبة والبربر والحبوش، وأصناف السودان والقبط وطوائف بني آدم، قهروا الجميع حتى علت كلمة الله وظهر دينه على سائر الأديان، وامتدت الممالك الإسلامية في مشارق الأرض ومغاربها، في أقل من ثلاثين سنة، ف وأرضاهم أجمعين، وحشرنا في زمرتهم إنه كريم وهاب.
قوله –تبارك وتعالى: وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [سورة الأنفال:46] الفاء في قوله: فَتَفْشَلُواْ تدل على التعليل والتعقيب، وهذا دليل على أن التنازع سبب محقق للفشل، ولا شك أن التنازع والاختلاف من أعظم أسباب فشل الأمة وهزيمتها في هذا العصر، وبهذا تكون الأمة غير مؤهلة للنصر بل هي إلى العقوبة أقرب، وقد أخبر الله عن المنافقين بقوله: تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْقِلُونَ [سورة الحشر:14]، فالذين يعقلون هم الذين يجتمعون وتكون كلمتهم واحدة، ولما قال موسى –عليه الصلاة والسلام- لقومه: وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى [سورة طـه:61]، أخبر عنهم ربنا بقوله: فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى [سورة طـه:62]، فقد أسروا النجوى حتى لا يطلع خصمهم على النزاع الذي بينهم فيقوى طمعه فيهم، فقالوا: إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَن يُخْرِجَاكُم مِّنْ أَرْضِكُم بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى [سورة طـه:63، 64]
وقوله –تبارك وتعالى: وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ [سورة الأنفال:46]، أي: قوتكم.
قوله -تبارك وتعالى: وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِم بَطَرًا وَرِئَاء النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَاللّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ [سورة الأنفال:47] البطر: هو التعالي في الأرض بغير الحق، ويدخل فيه ما ذكره الحافظ ابن كثير: أي: "دفعاً للحق" فهو مقتبس من تفسير النبي ﷺ للكبر: بطر الحق وغمط الناس[5]، وقال بعضهم: البطر هو استعمال نعم الله في معاصيه.
قوله: وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ [سورة الأنفال:47]، أي: يصدون أنفسهم عن سبيل الله بفعلهم هذا وبكفرهم، فهم صادون معرضون، ويصدون غيرهم؛ لأن "صدَّ" تأتي لازمة وتأتي متعدية، فهي لازمة باعتبار إعراضهم بأنفسهم عن الحق، ومتعدية باعتبار أنهم يصدون غيرهم عن الحق.
وقوله تعالى: وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ [سورة الأنفال:48] الآية، حسّن لهم -لعنه الله- ما جاءوا له وما همّوا به، وأطمعهم أنهم لا غالب لهم اليوم من الناس، ونفى عنهم الخشية من أن يؤتوا في ديارهم من عدوهم بني بكر، فقال: أنا جار لكم، وذلك أنه تبدى لهم في صورة سراقة بن مالك بن جعشم سيد بني مدلج كبير تلك الناحية، وكل ذلك منه كما قال تعالى عنه: يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُورًا [سورة النساء:120].
قال ابن جريج: قال ابن عباس -ا- في هذه الآية: لما كان يوم بدر سار إبليس برايته وجنوده مع المشركين وألقى في قلوب المشركين أن أحداً لن يغلبكم وإني جار لكم.
فلما التقوا ونظر الشيطان إلى إمداد الملائكة نكص على عقبيه، قال: رجع مدبراً، وقال: إِنِّي أَرَى مَا لاَ تَرَوْنَ [سورة الأنفال:48] الآية.
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس -ا- قال: جاء إبليس يوم بدر في جند من الشياطين معه رايته في صورة رجل من بني مدلج، في صورة سراقة بن مالك بن جعشم، فقال الشيطان للمشركين: لاَ غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ فلما اصطف الناس أخذ رسول الله ﷺ قبضة من التراب فرمى بها في وجوه المشركين فولوا مدبرين، وأقبل جبريل إلى إبليس فلما رآه وكانت يده في يد رجل من المشركين انتزع يده ثم ولى مدبراً هو وشيعته.
فقال الرجل: يا سراقة أتزعم أنك لنا جار؟ فقال: إِنِّي أَرَى مَا لاَ تَرَوْنَ إِنِّيَ أَخَافُ اللّهَ وَاللّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ [سورة الأنفال:48] وذلك حين رأى الملائكة.
يذكر بعض أهل السير: أن المشركين لما أرادوا الخروج لاستنقاذ العير، ذكّرهم بعضهم بما بينهم وبين بني بكر من العداوة، فخشوا أن يعرجوا على مكة حينما يخرج هؤلاء منها، فتمثل لهم إبليس في صورة سراقة بن مالك، فقال: إِنِّي جَارٌ لَّكُمْ وكانت يده في يد الحارث بن هشام، فلما رأى الملائكة دفعه في صدره ثم انطلق إلى ناحية البحر، وهذه الروايات ليست بتلك من ناحية الثبوت، وقال بعضهم: إن إبليس سار يوم بدر مع المشركين وألقى في قلوبهم إِنِّي جَارٌ لَّكُمْ.
قوله: إِنِّيَ أَخَافُ اللّهَ وَاللّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ [سورة الأنفال:48]، جاء عن كثير من السلف أن إبليس كان كاذباً بقوله هذا، والمقصود أن إبليس لما رأى الملائكة خاف أن يقع به بأس الله ونكاله وبطشه في الدنيا، كما يخاف الكافر أو الفاجر من مغبة فعله، فهذا الخوف لا يستلزم الإيمان.
وقال بعض أهل العلم: إن إبليس خشي أن يكون هذا هو يوم الوقت المعلوم الذي حدده الله له.
قوله –تبارك وتعالى: وَاللّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ [سورة الأنفال:48] هذه الجملة يحتمل أن تكون من بقية كلام الشيطان، ويحتمل أن تكون من كلام الله .
- انظر السيرة النبوية، لابن هشام (3/164).
- رواه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب لا تمنوا لقاء العدو (3/1101)، برقم (2861)، ومسلم، كتاب الجهاد والسير، باب كراهة تمني لقاء العدو والأمر بالصبر عن اللقاء (3/1362)، برقم (1742).
- رواه مسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب الحث على ذكر الله تعالى (4/2062)، برقم (2676).
- رواه البخاري، كتاب الدعوات، باب فضل التسبيح (5/2352)، برقم (6043).
- رواه مسلم، كتاب الإيمان، باب تحريم الكبر وبيانه (1/93)، برقم (91).