بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال المفسر -رحمه الله- في تفسير قوله تعالى:
وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ قَالَ قَدْ أُجِيبَت دَّعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلاَ تَتَّبِعَآنِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ [سورة يونس:88، 89].
هذا إخبار من الله تعالى عما دعا به موسى على فرعون وملئه لما أبوا قبول الحق، واستمروا على ضلالهم وكفرهم معاندين جاحدين ظلماً وعلواً وتكبراً وعتواً، قال موسى : رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأهُ زِينَةً أي: من أثاث الدنيا ومتاعها، وَأَمْوَالاً أي: جزيلة كثيرة، فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيَضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ بفتح الياء، أي أعطيتهم ذلك وأنت تعلم أنهم لا يؤمنون بما أرسلتني به إليهم، استدراجاً منك لهم، كقوله تعالى: لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وقرأ آخرون ليُضلوا بضم الياء، أي ليفتتن بما أعطيته من شئت من خلقك، ليظن من أغويته أنك إنما أعطيتهم هذا لحبك إياهم واعتنائك بهم، رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ قال ابن عباس -ا- ومجاهد: أي أهلِكها. وقال الضحاك وأبو العالية والربيع بن أنس: جعلها الله حجارة منقوشة كهيئة ما كانت.
وقوله: وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ قال ابن عباس -ا: أي اطبع عليها فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ وهذه الدعوة كانت من موسى غضباً لله ولدينه على فرعون وملئه، الذين تبيّن له أنهم لا خير فيهم ولا يجيء منهم شيء، كما دعا نوح فقال: رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا [سورة نوح:26، 27] ولهذا استجاب الله تعالى لموسى فيهم هذه الدعوة التي أمّن عليها أخوه هارون فقال تعالى: قَالَ قَدْ أُجِيبَت دَّعْوَتُكُمَا أي: قد أجبناكما فيما سألتما من تدمير آل فرعون، وقال تعالى: قَدْ أُجِيبَت دَّعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا الآية، أي كما أجيبت دعوتكما فاستقيما على أمري، قال ابن جريج عن ابن عباس -ا: فَاسْتَقِيمَا فامضيا لأمري، وهي الاستقامة.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فقوله -تبارك وتعالى: وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [سورة يونس:88] الدعاء في هذه الآية توجه به موسى -عليه الصلاة والسلام- إلى ربه –تبارك وتعالى- ثم قال الله -تبارك وتعالى- بعدها: قَدْ أُجِيبَت دَّعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا [سورة يونس:89]، وهنا قد يرد إشكال وهو أن أول الآية كان الدعاء من موسى على سبيل الإفراد، ثم كانت إجابة الله بالتثنية، وما ذكره الحافظ ابن كثير هو جواب على هذا الإشكال، فقال -رحمه الله: "ولهذا استجاب الله تعالى لموسى فيهم هذه الدعوة التي أمّن عليها أخوه هارون فقال تعالى: قَالَ قَدْ أُجِيبَت دَّعْوَتُكُمَا".
وقوله –تبارك وتعالى: رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً الزينة: كل ما يتزين به مما هو زائد على الأصل من زينة الأثاث والثياب والمراكب والسلاح، والقصور، وغير ذلك.
قوله: رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ [سورة يونس:88] قرأ الكوفيون بالضم لِيُضِلُّواْ، وقرأ الباقون بالفتح لِيَضِلُّواْ، فيستعينون بالزينة والأموال على الإضلال فيكون عندهم من أسباب القوة والتمكين ما لا يكون عند غيرهم ممن هو فاقد لهذه الأشياء، ثم يحصل بسبب ذلك ما يحصل من افتنان الكثيرين الذين لا يرون ولا يعرفون إلاَّ المباهج والمظاهر الدنيوية.
والناس أكثرهم فأهل مظاهر | تبدوا لهم ليسوا بأهل معان |
فهم القصور وبالقشور قوامهم | واللب حظ خلاصة الإنسان |
واللام في قوله: لِيَضِلُّواْ هي لام الصيرورة ولام العاقبة، كقوله –تبارك وتعالى: فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ [سورة القصص:8]، ويكون المعنى: أن هذه الأموال التي أعطاهم الله إياها نتج عنها في آخر الأمر الضلال والإضلال، وهذا الذي قاله سيبويه والخليل بن أحمد.
وقال بعض أهل العلم: إنها لام كي، بمعنى أنها للتعليل، أي: آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً لكي يَضلوا عن سبيلك، فأعطاهم الله ذلك استدراجاً لهم، كما قال الله : أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لَّا يَشْعُرُونَ [سورة المؤمنون:55، 56] يعني أننا نستدرجهم من أجل أن يموتوا على كفرهم وضلالهم.
قال: رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ [سورة يونس:88] الطمس هو إهلاك الأموال، وبعضهم فسر الطمس بإذهاب الصورة، كقوله : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ آمِنُواْ بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَكُم مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا [سورة النساء:47]، وهذا قول الضحاك وأبو العالية والربيع بن أنس: "جعلها الله حجارة منقوشة كهيئة ما كانت" يعني الدينار المنقوش من ذهب تحول وصار حجراً، وهذا القول يحتاج إلى دليل.
قال : وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ [سورة يونس:88]، أي: اربط على قلوبهم فلا يصل إليها الهدى ولا الموعظة والتذكير، وهنا يرد إشكال، وهو أن الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- بعثوا لهداية الناس فكيف دعا موسى على قومه بأن يربط على قلوبهم فلا يدخل إليها الهدى؟
والجواب عند بعض أهل العلم أن الله أعلم موسى أن هؤلاء لن يؤمنوا، فدعا عليهم بأن يطمس على أموالهم ويشدد على قلوبهم، كما أعلم نوحاً -عليه الصلاة والسلام- بعدم إمكانية إيمان قومه، فقال: وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ [سورة هود:36]، فدعا عليهم نوح فقال: رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا [سورة نوح:27-26].
وهذا الجواب قد لا يخلو من مراجعة وإشكال، وهو أنه إذا كان الله أخبر موسى بأن قومه لن يؤمنوا، فلماذا دعا عليهم بأن يربط على قلوبهم؟
وقوله: فَلاَ يُؤْمِنُواْ بعض أهل العلم كالمبرِّد والزجَّاج يرى أن هذه الآية تعود إلى قوله: لِيُضِلُّواْ، أي: آتيتهم أموالهم ليضلوا، فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم.
وقال الكسائي والفراء: قوله: فَلاَ يُؤْمِنُواْ دعاء عليهم بعدم الإيمان.
وقال بعضهم: إن قوله: فَلاَ يُؤْمِنُواْ جواب الأمر في قوله: اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ [سورة يونس:88]، يعني: يكون كأنه نتيجة لهذا الطمس، وهذا قول له وجه ظاهر، اطمس على الأموال واشدد على القلوب فلا يؤمنوا، يعني من الربط على القلوب الختم عليها والطبع عليها بحيث لا يحصل لهم الإيمان حتى يروا العذاب، اشدد عليها واطبع عليها طبعاً لا يحصل لهم معه الإيمان إلا برؤية العذاب، وهذه الآية تحتمل هذه الأوجه جميعاً، والله تعالى أعلم.
وهذه الآية يستفاد منها جواز الدعاء على الكافرين وأعداء الله وقد دعا بعض الأنبياء على أقوامهم.
قوله -تبارك وتعالى: فَاسْتَقِيمَا وَلاَ تَتَّبِعَآنِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ قال ابن كثير –رحمه الله: "أي كما أجيبت دعوتكما فاستقيما"، ونقل عن ابن عباس: فَاسْتَقِيمَا، أي: "فامضيا لأمري وهي الاستقامة".
وقال بعض السلف: فَاسْتَقِيمَا أي: اثبتا على دعوة فرعون إلى دين الحق.
قوله –تبارك وتعالى: وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ [سورة يونس:90-92].
يذكر تعالى كيفية إغراقه فرعون وجنوده، فإن بني إسرائيل لما خرجوا من مصر بصحبة موسى وهم فيما قيل: ستمائة ألف مقاتل سوى الذرية، وقد كانوا استعاروا من القبط حلياً كثيراً فخرجوا به معهم، فاشتد حنق فرعون عليهم فأرسل في المدائن حاشرين يجمعون له جنوده من أقاليمه، فركب وراءهم في أبهة عظيمة وجيوش هائلة لما يريده الله تعالى بهم، ولم يتخلف عنه أحد ممن له دولة وسلطان في سائر مملكته، فلحقوهم وقت شروق الشمس.
فَلَمَّا تَرَاءى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ [سورة الشعراء:61]، وذلك أنهم لما انتهوا إلى ساحل البحر وفرعون وراءهم ولم يبق إلا أن يتقاتل الجمعان، وألح أصحاب موسى عليه في السؤال: كيف المخلص مما نحن فيه؟ فيقول: إني أمرت أن أسلك هاهنا كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ [سورة الشعراء:62] ، فلما ضاق الأمر اتسع، فأمره الله تعالى أن يضرب البحر بعصاه فضربه فانفلق البحر فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ [سورة الشعراء:63] أي: الجبل العظيم، وصار اثني عشر طريقاً لكل سبط واحد، وأمر الله الريح فنشّفت أرضه.
فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَّا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى [سورة طـه:77] وتخرق الماء بين الطرق كهيئة الشبابيك، ليرى كل قوم الآخرين؛ لئلا يظنوا أنهم هلكوا، وجاوزت بنو إسرائيل البحر، فلما خرج آخرهم منه انتهى فرعون وجنوده إلى حافته من الناحية الأخرى -وهو في مائة ألف أدهم سوى بقية الألوان- فلما رأى ذلك هاله وأحجم وهاب، وهم بالرجوع وهيهات وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ [سورة ص:3].
نفذ القدر واستجيبت الدعوة، وجاء جبريل على فرس وديق حائل، فمر إلى جانب حصان فرعون فحمحم إليها، واقتحم جبريل البحر، فاقتحم الحصان وراءه، ولم يبق فرعون يملك من نفسه شيئاً فتجلد لأمرائه وقال لهم: ليس بنو إسرائيل بأحق بالبحر منا، فاقتحموا كلهم عن آخرهم، وميكائيل في ساقتهم لا يترك منهم أحداً إلا ألحقه بهم، فلما استوسقوا فيه وتكاملوا وهمّ أولهم بالخروج منه أمر الله القدير البحر أن يرتطم عليهم، فارتطم عليهم فلم ينج منهم أحد، وجعلت الأمواج ترفعهم وتخفضهم، وتراكمت الأمواج فوق فرعون، وغشيته سكرات الموت فقال وهو كذلك: آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فآمن حيث لا ينفعه الإيمان فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ [سورة غافر:84، 85]
ولهذا قال الله تعالى في جواب فرعون حين قال ما قال: آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ أي: أهذا الوقت تقول، وقد عصيت الله قبل هذا فيما بينك وبينه؟ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ أي: في الأرض الذين أضلوا الناس، وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنصَرُونَ [سورة القصص:41] وهذا الذي حكى الله تعالى عن فرعون من قوله هذا في حاله ذلك من أسرار الغيب التي أعلم الله بها رسوله ﷺ ولهذا روى أبو داود الطيالسي عن ابن عباس -ا- قال: قال رسول الله ﷺ: قال لي جبريل: لو رأيتني وأنا آخذ من حال البحر فأدسّه في فم فرعون مخافة أن تدركه الرحمة[1] وقد رواه أبو عيسى الترمذي وابن جرير وقال الترمذي: حسن غريب صحيح.
وقوله: فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً [سورة يونس:92] قال ابن عباس -ا- وغيره من السلف: إن بعض بني إسرائيل شكوا في موت فرعون فأمر الله تعالى البحر أن يلقيه بجسده سوياً بلا روح، وعليه درعه المعروفة على نجوة من الأرض وهو المكان المرتفع ليتحققوا موته وهلاكه، ولهذا قال تعالى: فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ أي: نرفعك على نشز من الأرض، بِبَدَنِكَ قال مجاهد: بجسدك.
وقوله: لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً أي: لتكون لبني إسرائيل دليلاً على موتك وهلاكك، وأن الله هو القادر الذي ناصية كل دابة بيده، وأنه لا يقوم لغضبه شيء، ولهذا قرأ بعضهم: لِتَكُونَ لِمَنْ خَلَفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ، أي: لا يتعظون بها ولا يعتبرون بها، وقد كان إهلاكهم يوم عاشوراء كما روى البخاري عن ابن عباس -ا- قال: قدم النبي ﷺ المدينة واليهود تصوم يوم عاشوراء فقال: ما هذا اليوم الذي تصومونه؟ فقالوا: هذا يوم ظهر فيه موسى على فرعون، فقال النبي ﷺ لأصحابه: أنتم أحق بموسى منهم، فصوموه[2].
قال الحافظ ابن كثير –رحمه الله: "ولهذا قال الله تعالى في جواب فرعون حين قال ما قال: آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ ..."
وقال بعض أهل العلم: إن القائل: آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ هو جبريل، ومنهم من يقول: ميكائيل، وبعضهم يقول: الذي قال هذا هو فرعون، وهذا بعيد جداً.
قوله: فالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ [سورة يونس:92] قرأ ابن مسعود نُنَحِّيك ببدنك من التنحية، وهذه القراءة توضح المقصود بقوله ننجيك، فلا يفهم أن الله نجاه ولم يغرق، وإنما النجاة كانت للبدن فقط دون الروح.
قال الحافظ ابن كثير -رحمه الله- "فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ أي: نرفعك على نشز من الأرض"، وهذا القول قال به جماعة من السلف، باعتبار أنه مأخوذ من النجوة.
وجاء في بعض المرويات الإسرائيلية أن الإسرائيليين لم يصدقوا أن فرعون قد غرق، فأُلقي على نجوة من أجل أن يراه الإسرائيليون.
قوله: بِبَدَنِكَ "قال مجاهد: بجسدك"، جاء تفسير البدن بالجسد؛ لأن من السلف من قال: بِبَدَنِكَ، أي: بدرعك.
قوله: لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً لمن خلفك أي: لهؤلاء الذين تركوا وبقوا في مصر، ولا يلزم أن فرعون بقي بعد ما رأته بنو إسرائيل لكي تراه الأجيال، ولا يوجد دليل على أن فرعون موجود إلى اليوم، ويرى كثير من أهل العلم أن الأهرام كانت قبل طوفان نوح -عليه الصلاة والسلام- بدليل أنه لا يعرف لها خبر، ولو كانت بعد الطوفان لعرف من الذي بناها، ثم من الذي جاء وأخذ فرعون ووضعه في الهرم؛ فالفراعنة هلكوا جميعا مع فرعون.
قوله: وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُواْ حَتَّى جَاءهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ [سورة يونس:93]، يخبر تعالى عما أنعم به على بني إسرائيل من النعم الدينية والدنيوية.
وقوله: مُبَوَّأَ صِدْقٍ قيل: هو بلاد مصر والشام مما يلي بيت المقدس ونواحيه، فإن الله تعالى لما أهلك فرعون وجنوده استقرت يد الدولة الموسوية على بلاد مصر بكمالها، كما قال الله تعالى: وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَآئِيلَ بِمَا صَبَرُواْ وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ [سورة الأعراف:137].
وقال في الآية الأخرى: فَأَخْرَجْنَاهُم مِّن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ [سورة الشعراء:57-59] وقال: كَمْ تَرَكُوا مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ [سورة الدخان:25] الآيات.
ولكن استمروا مع موسى طالبين إلى بلاد بيت المقدس، وهي بلاد الخليل فاستمر موسى بمن معه طالباً بيت المقدس، وكان فيه قوم من العمالقة، فنكَل بنو إسرائيل عن قتالهم فشردهم الله تعالى في التيه أربعين سنة، ومات فيه هارون ثم موسى عليهما السلام، وخرجوا بعدهما مع يوشع بن نون ففتح الله عليه بيت المقدس، واستقرت أيديهم عليه حيناً من الزمان.
وقوله: وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ أي: الحلال من الرزق الطيب النافع المستطاب طبعاً وشرعاً.
قوله –تبارك وتعالى: وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ [سورة يونس:93]، أي: أسكناهم منزلاً طيباً حسناً، وقد قال بعض أهل العلم: إن هذا المسكن هو أرض مصر والشام، باعتبار أن الله أورثهم أرض مصر كما قال الله : كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ [سورة الشعراء:59] وهذا صريح في أن الله أورثهم إياها.
وقال بعض العلماء: المبوأ الصدق هي بلاد الأردن وفلسطين، وقال بعضهم: هي الشام.
قوله: فَمَا اخْتَلَفُواْ حَتَّى جَاءهُمُ الْعِلْمُ فسر بعض أهل العلم العلم المذكور في الآية بالتوراة، ومن أهل العلم من يقول: المقصود بقوله تعالى: مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمْ يعني القرآن، أي: أن اختلافهم لم يكن عن جهل بالحق، وخفاء معالمه، وإنما كان بسبب الهوى والبغي.
وهذا المعنى يشهد له قوله -تبارك وتعالى: وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [سورة آل عمران:105] فالتفرق والاختلاف حصل بعدما اتضح لهم الحق وظهر، فكان اختلافهم بسبب أهوائهم وبغيهم، ولهذا قال الله في موضع آخر: فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمْ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ [سورة الجاثية:17].
وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله- في اقتضاء الصراط المستقيم الأمور التي شابهت بها هذه الأمة أهل الكتاب، وذكر منها التفرق والاختلاف.
- رواه الترمذي، كتاب التفسير، باب ومن سورة يونس (5 / 287)، برقم: (3107)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (5 / 26)، برقم (2015).
- رواه البخاري، كتاب التفسير، سورة يونس، (4 / 1722)، برقم (4403).
- رواه أبو داود، كتاب السنة، باب شرح السنة (2 / 608)، برقم (4597)، وابن ماجه، كتاب الفتن، باب افتراق الأمم (2 / 1322) برقم (3992)، والترمذي، كتاب الإيمان، باب افتراق الأمة (5 / 26)، برقم (2641)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (3 / 480)، برقم (1492).