بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال المفسر -رحمه الله تعالى- في تفسير قوله تعالى:
إَنَّ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا وَرَضُواْ بِالْحَياةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّواْ بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمُ النُّارُ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ [سورة يونس:7، 8].
يقول تعالى مخبراً عن حال الأشقياء الذين كفروا بلقاء الله يوم القيامة، ولا يرجون في لقائه شيئاً، ورضوا بهذه الحياة الدنيا، واطمأنت إليها نفوسهم، قال الحسن: والله ما زينوها ولا رفعوها، حتى رضوا بها وهم غافلون عن آيات الله الكونية فلا يتفكرون فيها، والشرعية فلا يأتمرون بها، بأن مأواهم يوم معادهم النار جزاء على ما كانوا يكسبون في دنياهم من الآثام والخطايا والإجرام، مع ما هم فيه من الكفر بالله ورسوله واليوم الآخر.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فقوله -تبارك وتعالى: إَنَّ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا من المعاني التي يأتي لها الرجاء الخوف، فحمل على ذلك بعض الآيات كقوله -تبارك وتعالى: إَنَّ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا فقال به طائفة من السلف فمن بعدهم، وهو اختيار كبير المفسرين ابن جرير -رحمه الله- لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا أي: لا يخافون.
وفسره بعضهم فقال: لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا: أي لا يطمعون، أو لا يتوقعون لقاء الله الذي يجازيهم فيه على كفرهم ومحادّتهم لرسله -عليهم الصلاة والسلام، ويمكن أن يكون بعض هذه المعاني متضمناً للخوف، فيقال: لا يتوقعون لقاء الله فهم لا يخافونه ولا يطمعون فيه، وقوله: وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ حمله ابن كثير على الآيات بنوعيها، الآيات الكونية والآيات الشرعية، أو الآيات المتلوة، فكل ذلك لا يتأملونه ولا يتفكرون فيه فهم غافلون عنه.
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [سورة يونس:9، 10].
هذا إخبار عن حال السعداء الذين آمنوا بالله وصدقوا المرسلين، وامتثلوا ما أمروا به فعملوا الصالحات بأنه سيهديهم بإيمانهم، يحتمل أن تكون الباء هاهنا سببية، فتقديره: بسبب إيمانهم في الدنيا يهديهم الله يوم القيامة على الصراط المستقيم، حتى يَجُوزوه ويخلصوا إلى الجنة، ويحتمل أن تكون للاستعانة كما قال مجاهد في قوله: يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ قال: يكون لهم نوراً يمشون به.
وقوله: دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ أي: هذا حال أهل الجنة، وهذه الآية فيها شبه من قوله: تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ [سورة الأحزاب:44] الآية، وقوله: لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا [سورة الواقعة:25، 26]، وقوله: سَلَامٌ قَوْلًا مِن رَّبٍّ رَّحِيمٍ [سورة يــس:58]. وقوله: وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ [سورة الرعد:23] الآية.
وقوله: وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ هذا فيه دلالة على أنه تعالى هو المحمود أبداً، المعبود على طول المدى، ولهذا حمد نفسه عند ابتداء خلقه واستمراره، وفي ابتداء كتابه وعند ابتداء تنزيله، حيث يقول تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ [سورة الكهف:1]، الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ [سورة الأنعام:1] إلى غير ذلك من الأحوال التي يطول بسطها، وأنه المحمود في الأولى والآخرة، وفي الحياة الدنيا وفي الآخرة، وفي جميع الأحوال، ولهذا جاء في الحديث: إن أهل الجنة يُلهمون التسبيح والتحميد كما يلهمون النَّفَس[1]، وإنما يكون ذلك كذلك لما يرون من تزايد نعم الله عليهم، فتكرر وتعاد وتزداد، فليس لها انقضاء ولا أمد، فلا إله إلا هو ولا رب سواه.
قوله: يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ ذكر المعنيين بسبب إيمانهم، وهذا يحتمله ظاهر اللفظ وهو اختيار ابن جرير -رحمه الله، كما أن المعنى الثاني يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ بحيث يكون ذلك نوراً لهم بقدر هذا الإيمان، وهذا أيضاً تحتمله الآية، ومن هذه الهدايات التي تحصل لأهل الإيمان هو ما يحصل لهم من الهداية إلى الصراط، وقبله يحصل لهم هداية عند سؤال الملكين، ويحصل لهم هداية عند الحساب، ويحصل لهم هداية على الصراط، ومن الهدايات التي تحصل لهم على الصراط أن الله يجعل لهم نوراً يمشون به، ومنها أن الله يهديهم إلى الجنة، ويهديهم إلى منازلهم في الجنة، كما قال الله : وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ [سورة محمد:4]، فهذه من الهدايات التي تكون في الآخرة، فيهديهم ربهم بإيمانهم، أي بسبب إيمانهم، وتفسير من فسره بأن الله يجعل لهم نوراً على الصراط، يكون مضمناً في هذا المعنى.
قوله -تبارك وتعالى: تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ أي: بين أيديهم، وليس المعنى أنها تجري من تحت أرجلهم وهم فوقها، كما قال الله لمريم قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا [سورة مريم:24]، والسَرِيّ هو الجدول الصغير من الماء على أحد المعاني المشهورة التي فسر بها، كما قال الله عن فرعون: وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي [سورة الزخرف:51] يعني: من تحت قصوره وهذا هو المراد -والله أعلم.
فعلى كل حال تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ قال الحافظ ابن كثير -رحمه الله: دَعْوَاهُمْ "أي: هذا حال أهل الجنة"، فالدعوى: من أهل العلم من فسرها بالدعاء، دَعْوَاهُمْ أي: دعاؤهم فيها سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ، وبهذا فسره ابن جرير -رحمه الله.
ومن أهل العلم من فسر الدعاء هنا بالعبادة دَعْوَاهُمْ أي: عبادتهم فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ، لا يكلفون بصلاة ولا بصيام ولا بجهاد ولا غير ذلك، وإنما يلهمون التسبيح، ومن أهل العلم من فسر الدعوى دَعْوَاهُمْ بالتمني، كما قال الله في الآية الأخرى: وَلَهُم مَّا يَدَّعُونَ [سورة يــس:57] يعني يطلبون ويتمنون، ولكن هذا التفسير أبعد من غيره في هذه الآية، وبعضهم أيضاً فسر دَعْوَاهُمْ أي: سيرتهم ودَيْدَنهم سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ، والأقرب في معناها -والله أعلم- أن دعواهم أي دعاؤهم.
وقوله: وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ التحية: مصدر، والمصدر يمكن أن يكون بمعنى الفاعل، ويمكن أن يكون بمعنى المفعول، بمعنى أن التحية يمكن أن يكون ما يصدر منهم من التحية يُحيُّون غيرهم، ويحتمل أن يكون: ما يُحيَّون به، تَحِيَّتُهُمْ أي: ما يحييهم به الله، ما تحييهم به الملائكة، أو ما يحيي بعضهم بعضاً به، والآية تحتمل هذه المعاني كلها، وقد دل عليها القرآن كما في الآيات التي ذكرها الحافظ -رحمه الله، وقال: سَلَامٌ قَوْلًا مِن رَّبٍّ رَّحِيمٍ [سورة يــس:58] هذا ما يحيون به، تَحِيَّتُهُمْ أي: ما يحيون، يحييهم به الله، والملائكة أيضاً وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ [سورة الرعد:23، 24]، فهذه تحية صادرة من الملائكة، فقوله: تَحِيَّتُهُمْ أي: ما يحيي بعضهم بعضاً به.
وَلَوْ يُعَجِّلُ اللّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُم بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ [سورة يونس:11].
يخبر تعالى عن حلمه ولطفه بعباده أنه لا يستجيب لهم إذا دعوا على أنفسهم أو أموالهم أو أولادهم بالشر في حال ضجرهم وغضبهم، وأنه يعلم منهم عدم القصد بالشر إلى إرادة ذلك، فلهذا لا يستجيب لهم -والحالة هذه- لطفاً ورحمة، كما يستجيب لهم إذا دعوا لأنفسهم أو لأموالهم أو لأولادهم بالخير والبركة والنماء، ولهذا قال: وَلَوْ يُعَجِّلُ اللّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُم بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ الآية، أو لو استجاب لهم كل ما دعوه به في ذلك لأهلكهم، ولكن لا ينبغي الإكثار من ذلك كما جاء في الحديث الذي رواه الحافظ أبو بكر البزار في مسنده عن جابر قال: قال رسول الله ﷺ: لا تدعوا على أنفسكم، لا تدعوا على أولادكم، لا تدعوا على أموالكم، لا توافقوا من الله ساعة فيها إجابة فيستجيب لكم[2]، رواه أبو داود، وهذا كقوله تعالى: وَيَدْعُ الإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءهُ بِالْخَيْرِ [سورة الإسراء:11] وقال مجاهد في تفسير هذه الآية: وَلَوْ يُعَجِّلُ اللّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُم بِالْخَيْرِ الآية: هو قول الإنسان لولده أو ماله إذا غضب عليه: اللهم لا تبارك فيه والعنه، فلو يعجل لهم الاستجابة في ذلك، كما يستجاب لهم في الخير لأهلكهم.
قال الحافظ -رحمه الله: "فلو يعجل لهم الاستجابة في ذلك كما يستجاب لهم في الخير لأهلكهم"، فهذا معنى استعجالهم في الآية: وَلَوْ يُعَجِّلُ اللّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُم بِالْخَيْرِ فهم يستعجلون الخير ويستعجلون الشر، ومن استعجالهم الشر وَإِذْ قَالُواْ اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاء أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [سورة الأنفال:32]، ويدخل فيه دعاء الإنسان على نفسه، أو على ولده، أو نحو هذه الأمور.
فقوله: وَلَوْ يُعَجِّلُ اللّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُم بِالْخَيْرِ يعني كما يعجل لهم الخير، وليس استعجالهم بمعنى كما يستعجلون الخير ويطلبون حصوله عن وقت قريب، فهناك فرق بين ما قد يُتوهم من ظاهر الآية وبين المعنى المراد، وإلا فلو كان المقصود استعجالهم أي: كما يستعجلون هم ويطلبون الخير عاجلاً، لكان المعنى غير واضح، فوضْع الاستعجال موضع التعجيل يشعر بسرعة إجابته لما يطلبون، حتى كأن استعجالهم بالخير صار تعجيلاً، والذي عليه عامة أهل اللغة: أن المعنى كتعجيلهم بالخير، لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ أي: لهلكوا، وقوله: فَنَذَرُ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ لا يرجون لقاءنا، يمكن أن يفسر بمعنى الخوف، ويمكن أن يفسر بمعنى التوقع أو الطمع، وفِي طُغْيَانِهِمْ أي: في تطاولهم ومحادتهم وعتوهم على الله -تبارك وتعالى، يَعْمَهُونَ أي: يتحيرون في كفرهم وضلالهم وتكبرهم.
وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَآئِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَّسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [سورة يونس:12].
يخبر تعالى عن الإنسان وضجره وقلقه إذا مسه الضر، كقوله: وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاء عَرِيضٍ [سورة فصلت:51] أي: كثير، وهما في معنى واحد، وذلك لأنه إذا أصابته شدة قلق لها وجزع منها، وأكثَرَ الدعاء عند ذلك، فدعا الله في كشفها ورفعها عنه في حال اضطجاعه وقعوده وقيامه وفي جميع أحواله، فإذا فرج الله شدته وكشف كربته أعرض ونأى بجانبه وذهب كأنه ما كان به من ذلك شيء، مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَّسَّهُ ثم ذم تعالى مَن هذه صفتُه وطريقته فقال: كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ، فأما من رزقه الله الهداية والسداد والتوفيق والرشاد فإنه مستثنىً من ذلك، كقوله تعالى: إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ [سورة هود:11]، وكقول رسول الله ﷺ: عجباً لأمر المؤمن لا يقضي الله له قضاء إلا كان خيراً له، إن أصابته ضراء فصبر كان خيراً له، وإن إصابته سراء فشكر كان خيراً له، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن[3].
الحافظ ابن كثير -رحمه الله: حمل هذه الآية والتي قبلها على المؤمن والكافر، وَلَوْ يُعَجِّلُ اللّهُ لِلنَّاسِ لعموم الناس، الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُم بِالْخَيْرِ فهذا يقع من المؤمنين ويقع من الكافرين في الدعاء على النفس والولد وما أشبه ذلك، وكذلك وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ هذه طبيعة الإنسان، وهذا يقع من المؤمنين، وذلك لا يختص بالكفار، ومن الآيات ما يكون مختصاً بالكفار، ومنها ما يشمل هؤلاء وهؤلاء، مثل قوله تعالى: وَيَدْعُ الإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُولاً [سورة الإسراء:11]، شاملة للمسلمين والكفار، وقوله: كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى [سورة العلق:6-7]، هذا يشمل هذا وهذا إلا من رحمه الله ولطف به.
ومن الآيات ما يكون مراداً بها الكفار، واللام في قوله: وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ يحتمل أن تكون للتوقيت، -والأقرب والله أعلم- أنها بمعنى (على)، دَعَانَا لِجَنبِهِ أي: على جنبه، ويحتمل أن تكون (أو) في قوله: دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَآئِمًا بحسب حاله إذا أصابه الضر، وهو قائم أو قاعد دعا بحسب الحال.
ويحتمل معنى آخر وهو -الأقرب والله أعلم- أن المراد دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَآئِمًا أي: في الأحوال كلها يدعو وهو قائم وقاعد، فلا يفتر لسانه من الدعاء والتضرع إلى الله أن يكشف ما به من ضر، وهذا هو الموافق لحال الإنسان كما لا يخفى، دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَآئِمًا ولم يذكر أحوالاً أخرى كالسجود والركوع، باعتبار أن هذا هو الغالب، فالإنسان يكون إما قائماً أو قاعداً أو مضطجعاً.
وقال: فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَّسَّهُ مر: يحتمل أن يكون بمعنى مضى، كأن لم يدع كقوله: نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِن قَبْلُ [سورة الزمر:8]، يغفل بل لربما لو ذُكّر بالعلة والمرض الذي أقلقه وأزعجه لربما نسيه، ولم يتذكر، فالإنسان تمر عليه أحوال من الضر والبأس، ويحصل له من الانزعاج والقلق والاضطراب الشيء الكثير، ولربما يُذَّكر به بعد سنوات ولا يذكره، ويحتمل أن يكون مَرَّ بمعنى استمر على كفره، أو إعراضه أو ضلاله أو معصيته، وهو اختيار ابن جرير -رحمه الله.
كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ يحتمل أن يكون الشيطان هو المزين، فالشيطان يزين لهم أعمالهم كما أخبر الله في مواضع متعددة في القرآن، ويحتمل أن يكون المزين النفس الأمارة بالسوء، فهي تزين لصاحبها المنكر وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ [سورة يوسف:53]، ويحتمل أن يكون الذي زين لهم هو الله زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ [سورة النمل:4] أي: أبهمه.
وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِن قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ وَجَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلاَئِفَ فِي الأَرْضِ مِن بَعْدِهِم لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ [سورة يونس:13، 14].
أخبر تعالى عما أحلّ بالقرون الماضية في تكذيبهم الرسل، فيما جاءوهم به من البينات والحجج الواضحات، ثم استخلف الله هؤلاء القوم من بعدهم وأرسل إليهم رسولاً لينظر طاعتهم له واتباعهم رسوله، وفي صحيح مسلم من حديث أبي نضرة عن أبي سعيد قال: قال رسول الله ﷺ: إن الدنيا حلوة خضرة وإن الله مستخلفكم فيها فناظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا واتقوا النساء، فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء.[4].
وروى ابن جرير عن عبد الرحمن بن أبي ليلى أن عوف بن مالك قال لأبي بكر -ا: رأيت فيما يرى النائم كأن سبباً دُلِّي من السماء، فانتشط رسول الله ﷺ، ثم أعيد فانتشط أبو بكر، ثم ذرع الناس حول المنبر، ففضل عمر بثلاثة أذرع حول المنبر، فقال عمر: دعنا من رؤياك لا أرب لنا فيها، فلما استخلف عمر قال: يا عوف رؤياك، قال: وهل لك في رؤياي من حاجة؟ أولم تنتهرني؟ قال: ويحك، إني كرهت أن تنعي لخليفة رسول الله ﷺ نفسه، فقص عليه الرؤيا حتى إذا بلغ "ذرع الناس إلى المنبر بهذه الثلاث الأذرع" قال: أما إحداهن فإنه كائن خليفة، وأما الثانية: فإنه لا يخاف في الله لومة لائم، وأما الثالثة فإنه شهيد، قال: فقال: يقول الله تعالى: ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلاَئِفَ فِي الأَرْضِ مِن بَعْدِهِم لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ، فقد استخلفت يا ابن أم عمر فانظر كيف تعمل، وأما قوله: فإني لا أخاف في الله لومة لائم، فما شاء الله، وأما قوله شهيد: فأنَّى لعمر الشهادة والمسلمون مطيفون به.
قوله: أما إحداهن فإنه كائن خليفة، هذا الإيضاح والبيان، جاء في نفس الرؤيا.
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاء نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ قُل لَّوْ شَاء اللّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَدْرَاكُم بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ [سورة يونس:15، 16].
يخبر تعالى عن تعنت الكفار من مشركي قريش الجاحدين المعرضين عنه أنهم إذا قرأ عليهم الرسول ﷺ كتاب الله وحججه الواضحة قالوا له: ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أي: رد هذا وجئنا بغيره من نمط آخر، أَوْ بَدِّلْهُ إلى وضع آخر، قال الله تعالى لنبيه ﷺ: قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاء نَفْسِي أي: ليس هذا إليّ، إنما أنا عبد مأمور ورسول مبلغ عن الله إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ، ثم قال محتجاً عليهم في صحة ما جاءهم به: قُل لَّوْ شَاء اللّهُ مَا تَلَوْتُهُ.
يقول الحافظ -رحمه الله: ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أي: رد هذا وجئنا بغيره من نمط آخر، أَوْ بَدِّلْهُ أي: إلى وضع آخر، ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا بمعنى بقرآن بديل، يعني يبدل بالكلية، لا نريد هذا القرآن الذي بزعمهم يذم آلهتهم ويعيب دينهم ويذْكر الآخرة، أَوْ بَدِّلْهُ بمعنى غيّر فيه الأشياء التي لا تروق لهم، هذا المعنى الذي ذكره الحافظ ابن كثير، ويحتمل معنى آخر ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أي: نريد قرآناً آخر غير هذا، هات معه كتاباً آخر مع بقائه، أَوْ بَدِّلْهُ مع ذهاب هذا، يعني يذهب هذا ويأتي آخر بدلاً منه، وهذا تحتمله الآية، والمعنى الذي ذكره ابن كثير -رحمه الله- أقرب في الاحتمال.
وقوله: قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاء نَفْسِي ذكر أحد القسمين ولم يقل: قل ما يكون لي أن آتي بقرآن غير هذا أو أن أبدله من تلقاء نفسي، وهذا باعتبار أن المجيء بقرآن آخر ليس داخلاً تحت قدرته وتصرفه، وإنما يأتي به الله، والتبديل، بمعنى التغيير، وعلى أحد الاحتمالين، تبديل بعض الأشياء فيه هذا يمكن للإنسان أن يفعله، لو كان ذلك جائزاً، فنَفَى الأمر الذي يدخل تحت طوق البشر قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ، لأن هذا لا يحل لي ولا يجوز، بل إنما يكون ذلك مختصاً بالله وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُواْ إِنَّمَا أَنتَ مُفْتَرٍ [سورة النحل:101]، مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا [سورة البقرة:106]، قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاء نَفْسِي.
ويحتمل أن يكون ذكر أحد الأمرين باعتبار أنه الأسهل، فيقول: ما يكون لي هذا، فإذا كان ذلك ما يكون له فالأصعب من باب أولى، ذكر أحد القسمين؛ ليدل على نفي الآخر من باب أولى، وكلمة (ما يكون) تأتي أحياناً للامتناع الشرعي، وأحياناً للامتناع العادي، أي: في مجاري العادات، وأحياناً للامتناع العقلي.
ثم قال محتجاً عليهم في صحة ما جاءهم به قُل لَّوْ شَاء اللّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَدْرَاكُم بِهِ أي: هذا إنما جئتكم به عن إذن الله لي في ذلك ومشيئته وإرادته، والدليل على أني لست أتقوله من عندي ولا افتريته أنكم عاجزون عن معارضته، وأنكم تعلمون صدقي وأمانتي منذ نشأت بينكم إلى حين بعثني الله ، لا تنتقدون عليّ شيئاً تغمصوني به ولهذا قال: فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ [سورة يونس:16] أي: أفليس لكم عقول تعرفون بها الحق من الباطل؟
ولهذا لما سأل هرقل ملك الروم أبا سفيان ومن معه فيما سأله من صفة النبي ﷺ، قال هرقل لأبي سفيان: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قال أبو سفيان: فقلت: لا، وكان أبو سفيان إذ ذاك رأس الكفرة وزعيم المشركين، ومع هذا اعترف بالحق، والفضل ما شهدت به الأعداء، فقال له هرقل: فقد أعرف أنه لم يكن ليَدَعَ الكذب على الناس ثم يذهب فيكذب على الله.
وقال جعفر بن أبي طالب للنجاشي ملك الحبشة: بعث الله فينا رسولاً نعرف صدقه ونسبه وأمانته، وقد كانت مدة مقامه بين أظهرنا قبل النبوة أربعين سنة.
قوله: قُل لَّوْ شَاء اللّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَدْرَاكُم بِهِ في قراءة ابن كثير وَلاَ أَدْرَاكُم بِهِ بمعنى ما يكون هذا القرآن موحى به إليّ وإنما يُعلمكم الله به مباشرة، قُل لَّوْ شَاء اللّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَدْرَاكُم بِهِ يصلكم بغير طريقي.
- رواه مسلم من حديث جابر قال: سمعت النبي ﷺ يقول: إن أهل الجنة يأكلون فيها ويشربون ولا يتفلون ولا يبولون ولا يتغوطون ولا يتمخطون، قالوا فما بال الطعام؟ قال: جشاء ورشح كرشح المسك، يلهمون التسبيح والتحميد كما يلهمون النفس، برقم (2835)، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب في صفات الجنة وأهلها وتسبيحهم فيها بكرة وعشيا.
- هو جزء من حديث طويل عند مسلم برقم (3014)، كتاب الزهد والرقائق، باب حديث جابر الطويل وقصة أبي اليسر، ورواه أبو داود واللفظ له برقم (1532)، كتاب الوتر، باب النهي عن أن يدعو الإنسان على أهله وماله، وصححه ابن حبان في صحيحه (13/51)، برقم (5742)، وقال محققه الأرنؤوط: إسناده صحيح على شرط مسلم، وصححه الألباني في صحيح أبي داود برقم (1371).
- رواه الإمام مسلم من حديث صهيب بلفظ: قال رسول الله ﷺ: عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله خير وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له، برقم (2999)، كتاب الزهد والرقائق، باب المؤمن أمره كله خير.
- رواه مسلم برقم (2742)، كتاب الرقائق، باب أكثر أهل الجنة الفقراء وأكثر أهل النار النساء وبيان الفتنة بالنساء.