بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال المفسر -رحمه الله- في تفسير قوله تعالى:
إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاء فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّىَ إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ وَاللّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ وَيَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ [سورة يونس:24، 25].
ضرب -تبارك وتعالى- مثلاً لزهرة الحياة الدنيا وزينتها وسرعة انقضائها وزوالها بالنبات الذي أخرجه الله من الأرض بماء أُنزل من السماء مما يأكل الناس من زروع وثمار على اختلاف أنواعها وأصنافها، وما تأكل الأنعام من أبٍّ وقضْب وغير ذلك، حَتَّىَ إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا أي: زينتها الفانية، وَازَّيَّنَتْ: أي حسنت بما خرج من رباها من زهور نضرة مختلفة الأشكال والألوان، وَظَنَّ أَهْلُهَا الذين زرعوها وغرسوها أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أي: على جذاذها وحصادها، فبينما هم كذلك إذ جاءتها صاعقة أو ريح شديدة باردة فأيبست أوراقها وأتلفت ثمارها، ولهذا قال تعالى: أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا أي: يابساً بعد الخضرة والنضارة، كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ أي: كأنها ما كانت حيناً قبل ذلك.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فقوله -تبارك وتعالى: فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ [سورة يونس:24]، أي: اختلط بسببه نبات الأرض، واشتبك بعضه ببعض، يقول الحافظ ابن كثير -رحمه الله: "ضرب -تبارك وتعالى- مثلاً لزهرة الحياة الدنيا وزينتها وسرعة انقضائها وزوالها بالنبات الذي أخرجه الله من الأرض بماء أُنزل من السماء مما يأكل الناس من زروع وثمار على اختلاف أنواعها وأصنافها، وما تأكل الأنعام من أبٍّ وقضْب وغير ذلك".
الأبُّ: هو النبت الذي قد تهيأ للرعي وصار متهيئاً للجز، والقضْب: هو النبات الرطب كالبقول ونحو ذلك.
وقد قال الله عن الحياة الدنيا: وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاء فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِرًا [سورة الكهف:45] فبهجة الدنيا كالمطر النازل الذي تخرج الأرض به بهجتها وزينتها فتستهوي الناظرين، ثم ما يلبث عن قريب أن ييبس ويتغير وتتحول خضرته إلى صفرة حتى يصير بعد ذلك هشيماً تذروه الرياح، والله المستعان.
وقوله: حَتَّىَ إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ [سورة يونس:24] الزخرف يقال للذهب كما قال الله -تبارك وتعالى- في سورة الزخرف: وَلَوْلَا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِّن فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ وَزُخْرُفًا [سورة الزخرف:33، 34] وهو الذهب، وشبّه ما يخرج من الأرض بألوانه حتى يكون حلة زاهية يكسوها بالزخرف، ومعنى الآية: حتى إذا أخذت الأرض رونقها ولونها الحسن.
وقال قتادة: كَأَن لَّمْ تَغْنَ كأن لم تنعم، وهكذا الأمور بعد زوالها كأنها لم تكن.
ولهذا جاء في الحديث: يؤتى بأنعم أهل الدنيا فيغمس في النار غمسة فيقال له: هل رأيت خيراً قط، هل مر بك نعيم قط؟ فيقول: لا، ويؤتى بأشد الناس عذاباً في الدنيا فيغمس في النعيم غمسة ثم يقال له: هل رأيت بؤساً قط؟ فيقول: لا[1]، وقال تعالى إخباراً عن المهلَكين فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا أَلاَ إِنَّ ثَمُودَ كَفرُواْ رَبَّهُمْ أَلاَ بُعْدًا لِّثَمُودَ [سورة هود:67، 68].
قوله: تَغْنَ، أي: كأن لم تنعم، تقول: غنينا بالمكان يعني بقينا أو أقمنا به مدة ثم ارتحلنا عنه، ومن أراد أن يعرف هذا المعنى فليرجع إلى نفسه وينظر إلى أيام الصبا وماذا تمثل له بالنسبة إليه، فهو لا يجد شيئاً من متعها ولذاتها، ولعبها وإنما يجد ما يعانيه في ساعته ويكابده من هموم وآلام ومشقات وكد في طلب العيش، وتلك الأيام تلاشت، وإذا فارق الإنسان الحياة الدنيا ستكون ذكرى قصيرة عابرة كذكرى الطفولة، وإذا كان الإنسان في لحظاتها الأخيرة تكون كأنه ما مر عليه عمر طويل ذاق فيه الحلوة والمرة، وأنس واجتمع بمن يحب، وصار له من ألوان اللذات ما لربما ينسيه ذكر الله فكل ذلك يتلاشى، وتبقى ذكرى عابرة لا طعم لها، فهذه طبيعة الحياة الدنيا، ولذلك تجد الرجل يكون من أكثر الناس ثروة وغنىً وتمتعاً في الحياة الدنيا، ثم بعد ذلك يتلاشى ويموت، ويوضع في حفرة لربما بجوار أفقر الناس، فلا يُختار له حتى في حفرته من يشاكلونه في الغنى والثروة.
ثم قال تعالى: كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ أي: نبيّن الحجج والأدلة لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ فيعتبرون بهذا المثل في زوال الدنيا من أهلها سريعاً مع اغترارهم بها، وتمكنهم وثقتهم بمواعيدها وتفلتها عنهم، فإن من طبعها الهرب ممن طلبها، والطلب لمن هرب منها، وقد ضرب الله تعالى مثل الدنيا بنبات الأرض في غير ما آية من كتابه العزيز فقال في سورة الكهف وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاء فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِرًا [سورة الكهف:45] وكذا في سورة الزمر والحديد يضرب الله بذلك مثل الحياة الدنيا.
وقوله تعالى: وَاللّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ الآية، لما ذكر تعالى الدنيا وسرعة زوالها رغب في الجنة ودعا إليها وسماها دار السلام، أي: من الآفات والنقائص والنكبات، فقال: وَاللّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ وَيَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ [سورة يونس:25].
ذكر ابن كثير –رحمه الله- مناسبة قول الله –تبارك وتعالى: وَاللّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ، فقال: "لما ذكر تعالى الدنيا وسرعة زوالها رغب في الجنة ودعا إليها وسماها دار السلام، أي: من الآفات والنقائص والنكبات"
ومعنى قوله: دَارِ السَّلاَمِ أي: دار السلامة من الآفات والنقائص والنكبات، بخلاف هذه الحياة الدنيا، فأعظم آفة فيها هو الموت يفسد على أهل النعيم نعيمهم، فهي ليست محلاً للإقامة ولا يشعر الإنسان فيها بالاستقرار، ويشعر بأن إقامته مؤقتة مهما سكن من القصور، فمن سكن في شقة صغيرة ومن سكن في قصر واسع يشعرون جميعاً بأن إقامتهم مؤقتة.
وقال الحسن البصري -رحمه الله: السلام هو الله، والجنة هي داره، وقال بعض أهل العلم: إن معنى قوله: وَاللّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ، أي: دار التحية؛ لأن ربهم يحييهم بالسلام: تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ [سورة الأحزاب:44]، سَلَامٌ قَوْلًا مِن رَّبٍّ رَّحِيمٍ [سورة يــس:58]، وتحييهم الملائكة، قال –تبارك وتعالى: يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ [سورة الرعد:23، 24].
والراجح أن الجنة سميت بدار السلام؛ لأنها سالمة من كل آفة وعيب ونقص، فهي دار السعادة الكاملة واللذة التامة، لا يحصل فيها لون من ألوان الكدر الذي يحصل للناس في الدنيا.
عن جابر بن عبد الله -ا- قال: خرج علينا رسول الله ﷺ يوماً فقال: إني رأيت في المنام كأن جبريل عند رأسي وميكائيل عند رجلي يقول أحدهما لصاحبه: اضرب له مثلا فقال: اسمع سمعت أذنك واعقل عقل قلبك، إنما مثلك ومثل أمتك كمثل ملك اتخذ داراً ثم بنى فيها بيتاً ثم جعل فيها مأدبة ثم بعث رسولاً يدعو الناس إلى طعامه، فمنهم من أجاب الرسول ومنهم من تركه، فالله الملك والدار الإسلام والبيت الجنة، وأنت يا محمد رسول فمن أجابك دخل الإسلام ومن دخل الإسلام دخل الجنة ومن دخل الجنة أكل منها[2]. رواه ابن جرير.
وعن أبي الدرداء مرفوعاً قال: قال رسول الله ﷺ: ما من يوم طلعت فيه الشمس إلا وبجنبيها ملكان يناديان، يسمعه خلق الله كلهم إلا الثقلين: يا أيها الناس هلموا إلى ربكم، إن ما قلَّ وكفى خير مما كثر وألهى[3]. قال: وأنزل ذلك في القرآن في قوله: والله يدعو إلى دار السلام الآية. رواه ابن أبي حاتم وابن جرير.
تدل هذه الأحاديث على أنه يجب على المؤمن ألا يغتر بالحياة الدنيا، وأن يكون إقباله على مستقبله الحقيقي في دار المقامة من النعيم الكامل، ويبتعد عن الفتن التي تجذبه وتستهويه إلى هذه الحياة الدنيا، وقد جاء في حديث أبى سعيد الخدري عن النبي ﷺ قال: إن الدنيا حلوة خضرة وإن الله مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون فاتقوا الدنيا واتقوا النساء فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء[4].
يخبر تعالى أن من أحسن العمل في الدنيا بالإيمان والعمل الصالح لهم الحسنى في الدار الآخرة، والحسنى هي الجنة.
وقال بعض أهل العلم: الحسنى هي المثوبة الحسنة، وهي وصف لمقدر محذوف، لكن الأصل عدم التقدير، مهما أمكن الاستغناء عن التقدير فهو أولى منه، والقاعدة أن الكلام إذا دار بين الاستقلال والإضمار فالأصل فيه الاستقلال، وأكثر السلف على أن الحسنى هي الجنة.
وقوله: وَزِيَادَةٌ هي تضعيف ثواب الأعمال بالحسنة عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف وزيادة على ذلك أيضاً، ويشمل ما يعطيهم الله في الجنان من القصور والحور والرضا عنهم، وما أخفاه لهم من قرة أعين، وأفضل من ذلك وأعلاه النظر إلى وجهه الكريم، فإنه زيادة أعظم من جميع ما أعطوه، لا يستحقونها بعملهم بل بفضله ورحمته.
وقد رُوي تفسير الزيادة بالنظر إلى وجه الكريم عن أبي بكر الصديق وحذيفة بن اليمان وعبد الله بن عباس -، وسعيد بن المسيب وعبد الرحمن بن أبي ليلى وعبد الرحمن بن سابط ومجاهد وعكرمة وعامر بن سعد وعطاء والضحاك والحسن وقتادة والسدي ومحمد بن إسحاق وغيرهم من السلف والخلف، وقد وردت فيه أحاديث كثيرة عن النبي ﷺ فمن ذلك ما رواه الإمام أحمد عن صهيب -: أن رسول الله ﷺ تلا هذه الآية: لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وقال: إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار نادى منادٍ: يا أهل الجنة إن لكم عند الله موعداً يريد أن ينجزكموه، فيقولون: وما هو، ألم يثقل موازيننا؟ ألم يبيض وجوهنا ويدخلنا الجنة ويخرجنا من النار؟ قال: فيكشف لهم الحجاب فينظرون إليه فو الله ما أعطاهم الله شيئاً أحب إليهم من النظر إليه ولا أقر لأعينهم[5]، وهكذا رواه مسلم وجماعة من الأئمة.
قول ابن كثير –رحمه الله- في الزيادة: "هي تضعيف ثواب الأعمال بالحسنة عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف وزيادة على ذلك أيضاً... " هذا قول لبعض السلف.
وقال بعض أهل العلم: الحسنى هي لؤلؤة لها أربعة أبواب مجوفة، فقال هنا: ما يعطيهم من هذا النعيم.
قال: "والرضا عنهم" يعني الزيادة هي الرضا عن أهل الإيمان لحديث أبي سعيد الخدري : أن النبي ﷺ قال: إن الله يقول لأهل الجنة: يا أهل الجنة، فيقولون: لبيك ربنا وسعديك والخير في يديك، فيقول: هل رضيتم؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى يا رب وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك؟، فيقول ألا أعطيكم أفضل من ذلك؟ فيقولون: يا رب وأي شيء أفضل من ذلك؟ فيقول: أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدا[6]، وقال : وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [سورة التوبة:72].
قال: "وما أخفاه لهم من قرة أعين وأفضل من ذلك وأعلاه النظر إلى وجهه الكريم، فإنه زيادة أعظم من جميع ما أعطوه، لا يستحقونها بعملهم بل بفضله ورحمته" وهذا القول جمع المعاني التي ذكرها السلف، وهو وجه حسن من التفسير، لكن الذي عليه كثير من علماء أهل السنة أن الزيادة المراد بها النظر إلى وجه الله –تبارك وتعالى- لأن الله عطف الزيادة على الجنة، والنعيم والقصر المجوف من لؤلؤ كله من الجنة، فدل على أن الزيادة أمر زائد على نعيم الجنة، ويدل على هذا المعنى ما ورد من تفسير النبي ﷺ للزيادة بأنها النظر إلى وجه الله تعالى.
وقوله تعالى: وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ [سورة يونس:26] أي: قتام وسواد في عرصات المحشر، كما يعتري وجوه الكفرة الفجرة من القترة والغبرة.
وَلاَ ذِلَّةٌ [سورة يونس:26]، أي: هوان وصغار، أي لا يحصل لهم إهانة في الباطن ولا في الظاهر، بل هم كما قال تعالى في حقهم: فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا [سورة الإنسان:11]، أي: نضرة في وجوههم وسروراً في قلوبهم، جعلنا الله منهم بفضله ورحمته آمين.
قوله: وَلاَ يَرْهَقُ أي: لا يلحق، وقال بعضهم: وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ أي: لا يغشى وجوههم.
وقال ابن كثير –رحمه الله- في القَتر: "أي: القتام والسواد" وبعضهم فسر القتم بالكآبة، وفسره البعض: بدخان النار، والأقرب –والله أعلم- في معنى قوله: وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ أي: سواد يعلوها.
وقول ابن كثير: "في عرصات المحشر" يعني أن الكفار والمجرمين يحشرون ويعرضون على النار تغشاهم الكآبة، ويكونون في حال من الخشوع، كما قال –تبارك وتعالى: خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِيٍّ [سورة الشورى:45]، وقال سبحانه: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [سورة آل عمران:106، 107].
قوله: وَالَّذِينَ كَسَبُواْ السَّيِّئَاتِ جَزَاء سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَّا لَهُم مِّنَ اللّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِّنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [سورة يونس:27].
لما أخبر تعالى عن حال السعداء الذين يضاعف لهم الحسنات، ويزدادون على ذلك، عطف بذكر حال الأشقياء، فذكر تعالى عدله فيهم، وأنه يجازيهم على السيئة بمثلها لا يزيدهم على ذلك، وَتَرْهَقُهُمْ أي: تعتريهم وتعلوهم، ذِلَّةٌ من معاصيهم وخوفهم منها، كما قال: وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ [سورة الشورى:45] الآية، وقال تعالى: وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ [سورة إبراهيم:42-43] الآيات.
وقوله: مَّا لَهُم مِّنَ اللّهِ مِنْ عَاصِمٍ [سورة يونس:27]، أي: مانع ولا واقٍ يقيهم العذاب، كقوله تعالى: يَقُولُ الْإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ كَلَّا لَا وَزَرَ إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ [سورة القيامة:10- 12].
قوله: مَّا لَهُم مِّنَ اللّهِ مِنْ عَاصِمٍ [سورة يونس:27] يعني: يعصمهم من الله، ويحول بينهم وبين عذابه وأخذه، ومن أهل العلم من قال: مِن عاصم يجعله الله لهم، وهذا غير صحيح.
قوله: كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِّنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا [سورة يونس:27] القِطع جمع قطعة، والمقصود: شدة الظلمة والسواد.
(سؤال): قوله –تبارك وتعالى- في سورة النساء: وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدتَّمُوهُمْ [سورة النساء:89]، وقال في الآية التي بعدها: وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثِقِفْتُمُوهُمْ [سورة النساء:91] فهل هناك فرق في المعنى؟ وهل هناك كتب توضح مثل هذه الأمور؟
(الجواب): الأصل أن المعنى واحد ولكن الثَّقف أخص من مطلق الظفر بالشيء؛ لأن الثقف هو الإدراك بحذق، تقول: غلام ثقف أي: حاذق.
وهناك كتب تعتني بالمتشابه اللفظي، مثل كتاب "ملاك التأويل" لابن الزبير الغرناطي، وكتاب "درة التنزيل وغرة التأويل" للإسكافي، وكتاب "البرهان" للكرماني، وكتاب "فتح الرحمن كشف ما يلتبس في القرآن" لزكريا الأنصاري.
(سؤال): هل كل نبي ورد ذكره في القرآن رسول؟
(الجواب): هذا كلام فيه نظر، ولا أعلم قاعدة تدل على هذا المعنى، وبعضهم فرق بين النبي والرسول فقال: من أوحي إليه بوحي وأمر بتبليغه فهو رسول، ومن لم يؤمر بتبليغه فهو نبي، ولكن هذا التفريق غير صحيح؛ لأن الله أخذ على أهل العلم وأهل الكتاب البلاغ والبيان.
وقال بعضهم: من أنزل عليه شريعة مستقلة فهو رسول ومن لم ينزل عليه فليس برسول، وهذا لا يخلو من إشكال، فعيسى ﷺ ما نزلت عليه شريعة مستقلة، ومع ذلك فهو رسول، قال الله عنه وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ [سورة آل عمران:49].
- رواه مسلم، كتاب صفات المنافقين وأحكامهم، باب صبغ أهل الدنيا في النار وصبغ أشدهم بؤساً في الجنة (4 / 2162)، برقم (2807).
- رواه الترمذي، كتاب الأمثال، باب ما جاء في مثل الله لعباده (5 / 145)، برقم (2860)، والحاكم في المستدرك، كتاب التفسير، تفسير سورة يونس (2 / 369)، برقم (3299).
- رواه أحمد (36 / 52)، برقم (21721)، وقال محققو المسند: إسناده حسن.
- رواه مسلم، كتاب الرقائق، باب أكثر أهل الجنة الفقراء وأكثر أهل النار النساء (8 / 89)، برقم (7124).
- رواه أحمد (31 / 270)، برقم (18941).
- رواه مسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها، باب إحلال الرضوان على أهل الجنة فلا يسخط عليهم أبدا (4 /2176)، برقم (2829).