بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال المفسر -رحمه الله تعالى- في تفسير قوله تعالى:
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ [سورة يونس:17].
يقول تعالى: لا أحد أظلم ولا أعتى ولا أشد إجراماً ممن افترى على الله كذباً وتقوّل على الله وزعم أن الله أرسله ولم يكن كذلك، فليس أحد أكبر جرماً ولا أعظم ظلماً من هذا، ومثل هذا لا يخفى أمره على الأغبياء فكيف يشتبه حال هذا بالأنبياء؟ فإن من قال هذه المقالة صادقاً أو كاذباً فلا بد أن الله ينصب عليه من الأدلة على بره أو فجوره ما هو أظهر من الشمس، فإن الفرق بين محمد ﷺ وبين مسيلمة الكذاب، لمن شاهدهما أظهر من الفرق بين وقت الضحى وبين نصف الليل في حِندس الظلماء.
فمِن شيم كل منهما وأفعاله وكلامه يستدل من له بصيرة على صدق محمد ﷺ وكذب مسيلمة الكذاب وسجاح والأسود العنسي.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فقوله -تبارك وتعالى: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أي: لا أحد أظلم، والاستفهام إذا كان مضمناً معنى النفي فإنه يدل على أنه قد بلغ في الظلم غايته، لا أحد أظلم، كقوله -تبارك وتعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا [سورة البقرة:114]، يعني: لا أحد أظلم ممن منع مساجد الله، وقوله: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا [سورة السجدة:22] وغير ذلك.
فيمكن الجمع بين هذه الآيات وَمَنْ أَظْلَمُ بأن أفعل التفضيل تمنع الزيادة ولا تمنع التساوي، فيمكن أن يشترك هؤلاء المذكورون بكونهم قد بلغوا أعلى درجات الظلم، فهي لا تمنع التساوي، كقولك: أشجع الناس زيد، وفي مناسبة أخرى يمكن أن تقول: أشجع الناس عمرو وهكذا، ولا منافاة بين قولك الأول وقولك الثاني باعتبار أن هؤلاء قد بلغوا، لكن لا يزيد أحدهم على الآخر في هذه الصفة.
ويمكن الجمع أيضاً بين الآيات بأن يقال: إن هذا يختص في كل مقام بالصفة المذكورة، ففي المفترين لا أحد أظلم ممن افترى على الله كذباً، وفي المانعين لا أحد أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه، وفي المعرضين، لا أحد أظلم ممن ذُكر بآيات ربه ثم أعرض عنها وهكذا.
وقوله: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا الافتراء: هو الاختلاق والكذب، ووجه مجيء لفظة الكذب بعد الافتراء في قوله : فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا يمكن أن يكون ذلك للتأكيد كما يقال: الصراط المستقيم، ومعلوم بأن الصراط أصلاً لا يطلق إلا على الطريق المستقيم، فأتى بلفظ المستقيم بعده من باب أنها صفة كاشفة وليست صفة مقيِّدة بخلاف ما إذا قلت: الطريق، فالطريق قد يكون مستقيماً وقد لا يكون مستقيماً، فإذا قلت: الطريق المستقيم، فهذه الصفة أفادت قيداً في هذا الموصوف.
فالشاهد أن قوله: افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا يمكن أن يجاب عنه بمثل هذا الجواب، وهذا لا إشكال فيه، وهو كثير في القرآن وفي كلام العرب، ويمكن أن يقال: إن الافتراء قد يكون من جهة نسبة الشيء إلى غير من صدر عنه، فمثلاً تنسب إلى هذا جرم هذا، أما افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا فهذا مختلق من أصله، هكذا يذكر بعض أهل العلم في الجواب عن مثل هذا، وهو لا يحتاج إلى الجواب -والله أعلم.
فقوله: افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا من باب تحقيق هذا الأمر وتقرير هذا الوصف وتأكيده، كما يقول الله : وَيَقْتُلُونَ الأَنبِيَاء بِغَيْرِ حَقٍّ [سورة آل عمران:112] ولا يمكن يقتل الأنبياء بحق، ولكن هذا من باب التسجيل عليهم هذا الأمر وبيان شناعة جرمهم، وكقوله -تبارك وتعالى: وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ [سورة المؤمنون:117]، فلا يمكن لأحد أن يفهم بمفهوم المخالفة بأن يقول: إن الذي يدعو مع الله إلهاً آخر له به برهان فإنه لا يلحقه حرج.
عرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب، فهو ما رأى معجزة، وإنما بمجرد ما رآه عرف أن وجهه ليس بوجه كذاب، كذلك حينما سمع كلامه يأمرهم بإطعام الطعام وصلة الأرحام... إلى آخره، فبهذه الدلائل النبوية عَرف نبوته ﷺ، وآمن به أقوام بناء على هذه الدلائل، وهذا الذي جاء في الكتاب والسنة وكلام السلف الصالح تسميته بآيات الأنبياء، يقال له: آيات الأنبياء.
ومن الآيات ما هو معجز مثل انشقاق القمر، ونبع الماء بين أصابعه -عليه الصلاة والسلام، وما شابه ذلك، ومنها ما ليس بمعجز، وكل ذلك داخل في آيات الأنبياء، وقد يسميه بعض المتقدمين بدلائل النبوة، ثم ما كان خارقاً للعادات فيما يقع للأنبياء في عرف المتأخرين يقال له المعجزات، وما يقع لأتباعهم يقال له: كرامات الأولياء، وكل ذلك عائد إلى آيات الأنبياء، وقال هود -عليه الصلاة والسلام- لقومه متحدياً: إِنِّي أُشْهِدُ اللّهِ وَاشْهَدُواْ أَنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ مِن دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى الله [سورة هود:54-56] رجل يتحدى أمة، هذا ليس من خوارق العادات، ولا من المعجزات، ولكنه من دلائل النبوة، شدة الوثوق بما عنده من الحق وتيقنه وما أشبه هذا، كل هذه الأمور هي من دلائل النبوة.
فكان أول ما سمعته يقول: يا أيها الناس أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصِلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام[1]، ولما وفد ضمام بن ثعلبة على رسول الله ﷺ في قومه بني سعد بن بكر قال لرسول الله ﷺ فيما قال له: من رفع هذه السماء؟ قال: الله، قال: ومن نصب هذه الجبال؟ قال: الله، قال: ومن سطح هذه الأرض؟ قال: الله، قال: فبالذي رفع السماء ونصب هذه الجبال وسطح هذه الأرض آلله أرسلك إلى الناس كلهم؟ قال: اللهم نعم، ثم سأله عن الصلاة والزكاة والحج والصيام، ويحلف عند كل واحدة هذه اليمين، ويحلف له رسول الله ﷺ، فقال له: صدقت، والذي بعثك بالحق لا أزيد على ذلك ولا أنقص"[2]، فاكتفى هذا الرجل بمجرد هذا، وقد أيقن بصدقه -صلوات الله وسلامه عليه، بما رأى وشاهد من الدلائل الدالة عليه.
وذكروا أن عمرو بن العاص وفد على مسيلمة وكان صديقاً له في الجاهلية، وكان عمرو لم يسلم بعد، فقال له مسيلمة: ويحك يا عمرو ماذا أنزل على صاحبكم -يعني رسول الله ﷺ في هذه المدة؟ فقال: لقد سمعت أصحابه يقرءون سورة عظيمة قصيرة، فقال: وما هي؟ فقال: وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ [سورة العصر:1، 2] إلى آخر السورة، ففكر مسيلمة ساعة ثم قال: وأنا قد أنزل عليّ مثله، فقال: وما هو؟ فقال: يا وبْر يا وبْر إنما أنت أذنان وصدر، وسائرك حفْرٌ نقْرٌ، كيف ترى يا عمرو؟ فقال له عمرو: والله إنك لتعلم أني أعلم أنك تكذب. فإذا كان هذا من مشرك في حال شركه لم يشتبه عليه حال محمد ﷺ وصدقه، وحال مسيلمة -لعنه الله- وكذبه، فكيف بأولي البصائر والنهى، وأصحاب العقول السليمة المستقيمة والحِجا؟
ولهذا قال تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنَزلَ اللّهُ [سورة الأنعام:93]، وقال في هذه الآية الكريمة: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ وكذلك من كذب بالحق الذي جاءت به الرسل وقامت عليه الحجج لا أحد أظلم منه.
وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُواْ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ [سورة يونس:18، 19].
ينكر تعالى على المشركين الذين عبدوا مع الله غيره ظانين أن تلك الآلهة تنفعهم شفاعتها عند الله، فأخبر تعالى أنها لا تضر ولا تنفع ولا تملك شيئاً، ولا يقع شيء مما يزعمون فيها ولا يكون هذا أبداً، ولهذا قال تعالى: قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ.
وقال ابن جرير: معناه أتخبرون الله بما لا يكون في السماوات ولا في الأرض، ثم نزه نفسه الكريمة عن شركهم وكفرهم فقال: سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ، ثم أخبر تعالى أن هذا الشرك حادث في الناس كائن بعد أن لم يكن، وأن الناس كلهم كانوا على دين واحد وهو الإسلام، قال ابن عباس -ا: كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على الإسلام، ثم وقع الاختلاف بين الناس، وعبدت الأصنام والأنداد والأوثان فبعث الله الرسل بآياته وبيناته وحججه البالغة وبراهينه الدامغة؛ ليَهلك من هلك عن بينة ويحيي من حيّ عن بينة.
قال ابن جرير -رحمه الله- في قوله -تبارك وتعالى: قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ: إن معناها أتخبرون الله بما لا يكون في السماوات ولا في الأرض، كأن هذا من قبيل التفسير باللازم وليس من قبيل التفسير بالمطابق، بما لا يكون: يعني ظاهر الآية، أَتُنَبِّئُونَ اللّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ يعني بما لا يعلم وجوده ولا وقوعه، هذا المعنى هو التفسير بالمطابق، فابن جرير -رحمه الله- قال: أتخبرونه بما لا يكون في السماوات ولا في الأرض، فالذي لا يعلمه معنى ذلك أنه غير كائن، فمثل هذه القضية لا يمكن أن تحصل وأن تقع، هذا هو المعنى، ولا يحتاج إلى كثير من التكلفات التي يذكرها المتكلمون، ولسنا بحاجة إلى جدل ربما يثير في النفوس سؤالات وإشكالات، الناس في غنى عنها، ومعنى الآية ظاهر جداً ولله الحمد.
وقوله -تبارك وتعالى: وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً [سورة يونس:19]، لم يصرح بالآية لكنه جاء بالمعنى، وفسر وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً بقول ابن عباس : "إن الناس كانوا على التوحيد عشرة قرون"، وهذا أحسن ما تفسر به الآية.
وقوله: وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً أي: على التوحيد فاختلفوا، وليس المعنى كما يقول بعضهم: أنهم كانوا على الفطرة ثم بعد ذلك حصل لهم تغير، أو أن هؤلاء الناس كانوا على دين واحد من الشرك، نشئوا عليه ثم بعد ذلك تفرقوا واختلفوا، فمنهم من غير دينه، ومنهم من وحد الله ، وهذا ليس هو المراد.
بعضهم يقول: هذه في قريش وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُواْ جعلوه على الشرك، وهذا غير صحيح، فالمعنى لعموم الناس، فجنس الناس كلهم كانوا على التوحيد والإيمان، عشرة قرون كما قال ابن عباس -ا، ثم وقع الشرك في قوم نوح فاختلفوا، فعبد بعضهم غير الله ، وبقي آخرون على عبادة الله وتوحيده على الأصل.
وابن كثير -رحمه الله- جمع بين معنيين، وهذا تفسير جيد، ومن السلف من فسر هذه الكلمة بأنه لا يعذب أحداً حتى يرسل إليه رسولاً وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً [سورة الإسراء:15] فلم يؤاخذهم الله بعلمه السابق المتقدم، ولم يؤاخذهم بما وقع منهم حتى يبعث إليهم الرسل، فهذا معنى وهو معنى صحيح، وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ.
وكذلك أيضاً الإهلاك والمعاجلة بالعقوبة فإن الله قد أجل لهم آجالاً وقدر لهم أقداراً فلا بد أن يبلغوا هذه الآجال، فلم يكن مجرد وقوع الكفر منهم سبباً لانقضاء آجالهم وإهلاكهم وإنما وقّتهم إلى وقت معلوم، فابن كثير -رحمه الله- جمع بين هذين المعنيين، أنه لا يعذب أحداً إلا بعد قيام الحجة، وأنه قد أجل الخلق إلى أجل معدود، وابن جرير -رحمه الله- فسرها بالمعنى الثاني: أجّل لهم آجالاً، وما ذكره ابن كثير أوسع في المعنى، وأبلغ، وما ذكره بعض السلف في معناها لا يخرج عن هذا، والله تعالى أعلم.
الله -تبارك وتعالى- يعلم ما يُصلحهم وما يحتاجون إليه، ويعلم ما سينزل من الآيات، ويعلم حال الخلق حينما تنزل الآيات، فهؤلاء كما قال الله : وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُواْ بِهَا، ثم إن الله لا يستجيب لهؤلاء الكفار في كل ما طلبوه بحيث يقترحون الآيات، فإن هذا ليس من شأنهم، ولا يحق لهم هذا، فالله قد أراهم من الآيات والدلائل الدالة على نبوة محمد ﷺ ما يكفيهم، وإنما يسألون هذه الآيات ويطلبونها تعنتاً وتكلفاً.
فَانْتَظِرُواْ إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ أي: إن كنتم لا تؤمنون حتى تشاهدوا ما سألتم فانتظروا حكم الله فيّ وفيكم، هذا مع أنهم قد شاهدوا من آياته ﷺ أعظم مما سألوا حين أشار بحضرتهم إلى القمر ليلة إبداره فانشق فلقة من وراء الجبل وفلقة من دونه، وهذا أعظم من سائر الآيات الأرضية مما سألوا ومما لم يسألوا، ولو علم الله منهم أنهم سألوا ذلك استرشاداً وتثبتاً لأجابهم، ولكن علم أنهم إنما يسألون عناداً وتعنتاً فتركهم فيما رابهم، وعلم أنهم لا يؤمن منهم أحد، كقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَاءتْهُمْ كُلُّ آيَةٍَ [سورة يونس:96، 97] الآية.
وقوله تعالى: وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلآئِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ إِلاَّ أَن يَشَاء اللّهُ [سورة الأنعام:111] الآية، ولما فيهم من المكابرة، كقوله تعالى: وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَابًا مِّنَ السَّمَاء [سورة الحجر:14] الآية، وقوله تعالى: وَإِن يَرَوْا كِسْفًا مِّنَ السَّمَاء سَاقِطًا [سورة الطور:44] الآية.
وقال تعالى: وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ [سورة الأنعام:7]، فمثل هؤلاء أقل من أن يجابوا إلى ما سألوه؛ لأنه لا فائدة في جوابهم؛ لأنه دائر على تعنتهم وعنادهم، لكثرة فجورهم وفسادهم، ولهذا قال: فَانْتَظِرُواْ إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ.
وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [سورة يونس:21 – 23].
يخبر تعالى أنه إذا أذاق الناس رحمة من بعد ضراء مستهم كالرخاء بعد الشدة، والخصب بعد الجدب، والمطر بعد القحط ونحو ذلك، إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا قال مجاهد: استهزاء وتكذيب، كقوله: وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَآئِمًا الآية، وفي الصحيح أن رسول الله ﷺ، بهم الصبح على أثر سماء كانت من الليل -أي مطر- ثم قال: هل تدرون ماذا قال ربكم الليلة؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: قال: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال: مُطرنا بفضل الله ورحمته فذاك مؤمن بي كافر بالكوكب، وأما من قال: مُطرنا بنوء كذا وكذا فذاك كافر بي مؤمن بالكوكب[3].
قوله: وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ "إذا" هذه شرطية، وإذا الثانية في قوله: إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا تسمى بالفجائية، يعني بمجرد ما تحصل لهم هذه الرحمة إذا بهم يسارعون إلى الإعراض والتكذيب والطغيان والبطر، كما قال الله : كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى [سورة العلق:6، 7]، وهذه عادة الإنسان إلا من -رحمه الله- ولطف به، فكان الإنعام باعثاً للشكر ولمزيد من العبودية، وقال: إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا فسر المكر بالتكذيب، والمكابرة، والاستهزاء.
يعني أن الله يمكر بهؤلاء فيعطيهم ويغدق عليهم النعم، ويدرّ عليهم الأرزاق، وهم يزدادون بطراً وإعراضاً وعتواً على الله ، فيكون هذا من قبيل الاستدراج، فالله إذا كان يدرّ الأرزاق ويتابع الإنعام على الإنسان وهو في حال من الإعراض فإن ذلك يكون استدراجاً.
قُلِ اللّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا وهذه صفة وصف الله بها نفسه في مقامات تكون كمالاً، ولكن ذلك لا يضاف إلى الله على سبيل الإطلاق، وإنما يكون ذلك بقيد هو أن المكر يكون بالماكرين كما يقول بعض أهل العلم وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ [سورة الأنفال:30]: إن هذا في المقابلة، أي يكون المكر بهؤلاء الذين يستحقونه، هذا هو المعنى -والله تعالى أعلم، ولا يلزم أن يأتي ذلك بقيد مكرهم أو في مقابل مكرهم، بعضهم يسمي هذا مشاكلة وهي نوع من المجاز، فهذا غير صحيح، وهكذا ما يقال في الكيد.
قوله: يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ يسيركم في البر على الدواب التي تحملكم من مكان إلى آخر، ويسيركم في البحر على الفلك التي هداكم لصنعها فتنقلكم وتنقل معكم الأثقال إلى أماكن بعيدة لم يكن لكم أن تبلغوها إلا بشق الأنفس.
وقوله: كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا ذكر الريح، قال: بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وجاء في عبارات بعض السلف أن الريح تكون للعذاب، وهذا باعتبار الأغلب، وقولهم: كل ريح في القرآن فهي عذاب، هذه على كل حال ليست كلية بمعنى الكلية المعروف، وإنما هي أغلبية، والرياح للرحمة وهي التي تأتي بالمطر، وما أشبه ذلك، وتأتي الريح وتكون لغير العذاب كما في قوله: بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ.
وهذه الآية على هذه القراءة فيها التفات كما هو ظاهر حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ هذا للمخاطب، فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ هذا للغائب، التفت من المخاطب للغائب، وبعض المفسرين يذكر لهذا تعليلات لا تخلو من تكلف، ولكن يبقى الأصل والمعنى العام فيما يتعلق بالالتفات أنه أبلغ، وأن ذلك أدعى لنشاط السامع وتيقظه، ولفت انتباهه، -والله أعلم.
وهذه أيضاً "إذا" فجائية.
ثم قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنفُسِكُم أي: إنما يذوق وبال هذا البغي أنتم أنفسكم ولا تضرون به أحداً غيركم، كما جاء في الحديث: ما من ذنب أجدر أن يعجل الله عقوبته في الدنيا مع ما يدخر الله لصاحبه في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم[4].
وقوله: مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا أي: إنما لكم متاع في الحياة الدنيا الدنيئة الحقيرة، ثُمَّ إِلَينَا مَرْجِعُكُمْ [سورة يونس:23] أي: مصيركم ومآلكم، فَنُنَبِّئُكُم أي: فنخبركم بجميع أعمالكم ونوفيكم إياها، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه.
في قراءة حفص مَتَاعَ بالنصب، لكن القراءة الثانية وهي التي اعتمدها ابن كثير -رحمه الله- مَتَاعُ بالرفع، وهي متواترة، مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وفسرها بناء على هذا، قال: أي إنما لكم متاعٌ في الحياة الدنيا، هذا على قراءة الرفع، وقيل: إنها خبر، وقيل غير هذا، وقراءة النصب بعضهم يقول: هي مصدر، وقيل: مفعول لأجله، وقيل: منصوبة بنزع الخافض، وقيل غيره هذا.
- رواه ابن ماجه برقم (1334)، كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، باب ما جاء في قيام الليل، والترمذي بمعناه برقم (1855)، وقال: هذا حديث حسن صحيح، كتاب الأطعمة عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء في فضل إطعام الطعام، وأحمد في المسند (39/201)، برقم (23784)، وقال محققوه: إسناده صحيح، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (7865).
- رواه البخاري برقم (63)، كتاب العلم، باب ما جاء في العلم.
- رواه البخاري برقم (991)، كتاب الاستسقاء، باب قول الله تعالى: وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ [سورة الواقعة:82]، قال ابن عباس: شكركم، ومسلم برقم (71)، كتاب الإيمان، باب بيان كفر من قال: مُطرنا بالنوء.
- رواه أبو داود برقم (4902)، كتاب الأدب، باب في النهي عن البغي، والترمذي برقم (2511)، وقال: هذا حديث حسن صحيح، كتاب أبواب الطهارة، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (918)، وفي صحيح الجامع برقم (5704).