الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فما زال الحديث متصلاً بقوله -تبارك وتعالى-: الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ [آل عمران:17].
فهذه الأوصاف المذكورة -كما سبق- كل وصف منها في غاية الأهمية، وهنا قلنا: أيضًا أنه قدم الصبر لأنه الأساس الذي لا يمكن أن تتحقق هذه الأوصاف إلا بتحققه، فما تُنال المطالب إلا بالصبر، والجنة حُفت بالمكاره، والكمالات لا بد لها من صبر، والحياة كما قال الله -تبارك وتعالى-: لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ [البلد:4] وهذا الكبد لا بد له من صبر، وما يُقلب الله -تبارك وتعالى- فيه عباده من السراء والضراء كل ذلك يحتاج إلى صبر، فالنعمة لا بد لهم من صبر معها؛ لكيلا يحصل الطغيان، كَلَّا إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى [العلق:6-7] وكذلك المُصيبة والعلة والمرض والمكاره تحتاج إلى صبر، فلا يجزع منها، فيُقلب العبد بين السراء والضراء فيشكر على السراء، ويصبر على الضراء، فذكر الصابرين أولاً؛ لأنه لا يتحقق ما بعده إلا به، فالصبر هو رأس الأمر، والدين نصفه صبر، ونصفه شكر.
ثم ذكر بعد الصبر الصدق، فقال: الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ فهذا الصدق لا يتحقق إلا بالصبر؛ لأن الإنسان قد يحمله الطمع على ممارسات من عداد الكذب إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف[1]، والخُلف في المواعيد هو لون من الكذب؛ ولهذا سُئل الإمام أحمد: كيف نعرف الكذابين؟ قال: بخلف المواعيد[2]، وأيضًا هذا الصدق في الأفعال والأحوال ما يُظهره الإنسان فيكون ظاهره مُطابقًا وموافقًا لباطنه، فالصدق يشمل هذا جميعًا، ولا يمكن للإنسان أن يكون على حال سواء في السر والعلانية إلا بالصبر، وقد يحمله الضعف والجُبن والخوف على الكذب، فيكذب؛ ليتخلص من الإحراج، ومن الناس من يكذب لأدنى سبب، فهذا ضعف في النفس، فلا بد لها من صبر تثبت معه، فالصدق شجاعة، والكذب ضعف وخنوع وجُبن وانهزام، لا يستطيع أن يواجه بالصدق، فينهزم ويتقهقر، فيرجع إلى الكذب؛ ليتخلص مما وقع له من الحرج.
وكما قال بعض أهل العلم: بأن معاملة العبد مع ربه -تبارك وتعالى- إما أن تكون من قبيل التوسل، وإما أن تكون من قبيل الطلب، فالتوسل يتوصل به إلى المطلوب؛ وسيلة، وهذا التوسل قد يكون بالنفس بمنعها من كل مرذول، وحملها على ما يجمُل ويحسُن، وهذا لا شك أنه مبني على الصبر، فطام النفس عن المطالب والرغبات التي تُدنسها يحتاج إلى صبر، ما الذي يوقع الإنسان في المعصية؟ وما الذي يوقعه في الفاحشة؟ وما الذي يوقعه في النظر إلى الحرام، وأكل الحرام، ونحو ذلك؟ أنما هو الطمع في نفسه، والرغبة الجامحة فيها، والشهوات التي رُكبت في هذه النفس، وفطامها عن هذه الشهوات يحتاج إلى صبر، فلا بد له من صبر.
وكذلك التوسل قد يكون بالبدن، إما بالقول باللسان، فهذا هو الصدق، وإما بالعمل والتطبيق، فهذا هو القنوت، فإن القنوت في استعمالاته -كما ذكرنا في بعض المناسبات- كما قال شيخ الإسلام يرجع إلى: دوام الطاعة[3]، ودوام الطاعة هذا يحتاج إلى صبر عظيم؛ لأن الكثيرين لا يصبرون، قد يُصلي وقد يتأثر، وقد يتعبد مُدة في شهر أو أشهر، ثم بعد ذلك يتراجع، فإذا كان الإنسان على جادة واحدة يلزمها من الاستقامة، وطاعة الله، وطاعة رسوله ﷺ على سبيل الدوام، فهذا لا بد له من صبر، وهذا الإنسان الذي يستيقظ من فراشه ويذهب إلى المسجد، والذي يصوم في اليوم الطويل الحار، يحتاج إلى صبر، فأعمال البدن لا بد لها من صبر، فهو يتوسل إما بنفسه، وإما ببدنه؛ وذلك هو القنوت، أو يتوسل بماله بالمال فهذا هو الإنفاق في سبيل البر والخير والمعروف، فهذا كله توسل بالنفس وبالبدن، وبالمال، ولا شك أن إنفاق الأموال أمر شاق على نفس الإنسان؛ لأنه مجبول على محبة المال، فإذا أراد أن يُنفق جاءته الخواطر والوساوس المتنوعة، ويخوفه الشيطان الفقر والنقص، الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً [البقرة:268]، وكما قال الله -تبارك وتعالى-: وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ [البقرة:265] وذكرنا الوجوه في المعنى: وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ [البقرة:265] ومما ذكرناه هناك: أن الإنسان يحصل عنده نوع اضطراب عند إرادة النفقة فإذا أراد أن يُنفق واضطربت عليه نفسه، وبدأت تتلكأ وتتحرك هذه النفس، فيحتاج إلى تثبيتها على هذا الإنفاق، فيكون ذلك بإقدام وشجاعة، وهذه من شجاعة النفس، هذا بالنسبة للتوسل.
أما الطلب فيكون بالاستغفار؛ لأن المغفرة أعظم المطالب، فالصابرين، والصادقين، والقانتين، والمنفقين، لاحظ هذه الصفات الأربع هي في عداد التوسل، الصبر توسل بالنفس، والصدق والقنوت توسل بالبدن، الصدق بالقول، والقنوت بالبدن بدوام الطاعة، مع أن الصدق يكون بالقول وبالفعل وبالحال، كل هذا يدخل فيه، والإنفاق هو توسل بالمال.
ثم قال: وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ فهذا هو الطلب، يطلب المغفرة والستر، كما ذكرنا سابقًا بأن حقيقة الاستغفار هو طلب للستر، فلا يفتضح في الدنيا، ولا في الآخرة، وكذلك أن يقيه تبعات الذنب، وما يناله ويطاله من العقوبة، فيوقى ذلك، هذا إذا قال الإنسان: ربي اغفر لي، فلا يفتضح، ولا يصل إليه مكروه بسبب ذنبه هذا، يعني: لا يصل إليه عقوبة.
وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ خصص وقت الاستغفار بالسحر باعتبار أن ذلك أشق، فهو وقت إخلاد الناس إلى الراحة من آخر الليل، وهو من ناحية أخرى يكون أدعى للإخلاص، ومن جانب آخر يكون ختمًا لقيام الليل، وفي ذلك طرد للعُجب، فلا يُعجب الإنسان بقيامه وعمله، وإحيائه الليل، قد لا يوجد من يُرائيهم، لكن يأتيه الشيطان من وجه آخر أنك عابد، وأنك صاحب قيام، وصاحب تهجد، والناس لا يرونك، فهنا يستغفر، ثم هذه العبادة التي يؤديها على عِظمها هو يستشعر النقص والتقصير فيها، فيطلب المغفرة وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ وإذا كانوا يستغفرون بالأسحار، فمعنى ذلك أنهم كانوا يحييون الليل بالقيام، فوقت السحر هو وقت التنزل الإلهي، فدل ذلك على أن المغفرة أحرى في وقت السحر؛ ولهذا فإن العبد إنما يتخير لحاجته وسؤاله وطلبه ورغبته مثل هذا الوقت، فيقوم من آخر الليل، ويُناجي ربه، ويسأله، والله -تبارك وتعالى- ينزل في ثلث الليل الآخر، فيقول: من يدعوني، فأستجيب له من يسألني فأعطيه[4]، كما هو معلوم في الحديث المشهور.
ولا شك أن وقت السحر هو الوقت الأنقى والأصفى للأرواح والقلوب والأذهان، فلا تكون مشوشة بخلاف الذي يدعو في وقت يكون فيه إشغال الذهن، واشتغال القلب، وتشويش السمع والبصر بالمسموعات والمشاهدات، وما إلى ذلك، لكن عند هدأة الأصوات، وسكون الليل يكون ذلك أفرغ للقلب، وذلك أليق بالدعاء، وأحضر للقلب معه، فإن الدعاء لا بد فيه من إحضار القلب، ولا يُستجاب الدعاء من القلب الساهي اللاهي.
ثم أيضًا في قوله: الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ [آل عمران:17] دخول الواو على كل موصوف من هذه الصفات، كأنها لأهميتها صارت صفة مستقلة، استحقت أن تُبرز، فلم يقل: هم صابرون، صادقون، قانتون، منفقون، مستغفرون بالأسحار، ولم يقل: الصابرين الصادقين القانتين المنفقين بالأسحار، وإنما دخلت الواو، فكأن كل صفة هي صفة تحتاج إلى إبراز لأهميتها، وعِظم شأنها، وشدة الحاجة إليها، وفي ذلك تفخيم لهذه الأوصاف مع أن الموصوف واحد، فكأن كل صفة مستقلة بمدحه، والثناء عليه، انظروا هذا ثناء رب العالمين -تبارك وتعالى- يُثني عليهم بكثرة الأكل! بكثرة التفسح! بكثرة النوم! بكثرة المال؟! أبدًا، وإنما بهذه الأوصاف، فلم يرد في القرآن ولا في السنة أبدًا مدح الإنسان بكثرة الأكل، ولا بكثرة التفسح، ولا بكثرة المال، ولا بكثرة الأولاد، ولا بشيء من هذه الأمور الدنيوية؛ ولذلك إذا مات الإنسان فإن الناس إنما يذكرون هذه الأوصاف، فلا يقولون: من مآثره أنه كان يأكل كثيرًا، ويشرب كثيرًا، أو ينام كثيرًا، أو كثير النُزه، ما بقي بلد إلا زاره، ولا يقولون هذا الإنسان كثير المال، وكثير الولد، ويغبطونه على هذه الأمور، إطلاقًا، وإنما يقولون: كان يُلازم الصلاة، وكان في الصف الأول، وكان كثير الذكر، وكان كثير الاستغفار، وكثير المُناجاة، وصاحب قيام، وصاحب صيام، وكان إذا أذن المؤذن وضع الذي في يده، وانطلق إلى المسجد، وكان يُنفق في سبيل الله، ويُشفق على الأرامل والأيتام والضعفاء والمساكين، وما أشبه ذلك، هذه هي الأشياء التي تُذكر، وأما باقي الأمور مما يتكاثر به أهل الدنيا فهذا لا يُذكر إذا مات الإنسان إطلاقًا، وأحيانًا لا يجد الناس إلا صفة ربما لا تكاد تُذكر فيذكرونها له، يعني أحيانًا بعض الناس يموت ويقولون: استغفروا له، وجدنا له هذه التغريدة في حسابه، الحساب أحيانًا ليس فيه شيء، لكن وجدوا له في حسابه أنه في يوم من الأيام كتب: سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك، وجدوا هذه فأُبرزت، وقيل: انظروا كتبها بتاريخ كذا وكذا، لم يجدوا له شيئًا من العمل ولا المناقب والفضائل، كان عنده -ما شاء الله- ذكاء، وصفقات، ومهارات، ودورات إلى آخره، وهذا عبرة، فهذا هو الذي يبقى، فهذه الأوصاف التي يذكرها الله -جل جلاله- وتقدست أسماؤه، هي التي ينبغي أن نتمسك بها، وأن نعرض أنفسنا عليها، فأين نحن من هذه الصفات؟! وهل نحن من الصابرين والصادقين والقانتين والمنفقين والمستغفرين بالأسحار؟!
أيها الأحبة: قد يعتذر بعض الناس يقول: الحياة تغيرت، ونحن ننام من أجل عندنا وظائف وأعمال ودراسة، وما نستطيع مثل السابق، كان الناس ما عندهم أعمال، وينامون من بعد صلاة العشاء مُباشرة، ثم يقومون آخر الليل، أو في ثلث الليل، فنقول: بعض الناس يشق عليه القيام، وما عنده شغل، فحينما كان يزعم أنه كان مشغولاً بالدراسة مثلاً، هو سهران في أمور لا طائل تحتها، وبلا فائدة، ويسهر إلى الضحى، فمثل هذا تجد أنه تشق عليه ركعة واحدة للوتر، وهذه الجموع من الشباب وغيرهم كل واحد ربما يعبث بجهازه الجوال، أو نحو ذلك ليلاً طويلاً، أو التجول والذهاب هنا وهناك، فهل هؤلاء قالوا: نحن بما أننا في حال من النشاط والاستيقاظ وننام النهار كله، أو جُله، إذًا نريد أن نُحيي الليل بالقيام، نقوم ولو ساعة، أبدًا، الذي يكسل هناك يكسل هنا، فهي هذه النفس التي لم تروض على طاعة الله -تبارك وتعالى- فتقعد بصاحبها عن مثل هذه الأوصاف.
وعلى كل حال العبد إذا علم أنه سيلقى الله وحده، وسيُحاسب على عمله، ونحو ذلك، فإن ذلك يحمله على مزيد من الإقبال والجد والاجتهاد، ولاحظوا أن هذه الأوصاف ذُكرت بصيغة الاسم الصَّابِرِينَ ولم يقل: الذين يصبرون ويصدقون ويقنتون ويستغفرون، وإنما جيء بصيغة الاسم الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ [آل عمران:17] فالجُملة الاسمية، أو الاسم، يدل على الثبوت، مما يدل على أن هذه الأوصاف راسخة فيهم، فالصبر يحتاج إلى مُلازمة معه في كل حال، فلا ينفك العبد عن الصبر في لحظة من لحظاته، في حال النِعمة، وفي حال الشدة، وحينما يُريد أن يتقرب إلى الله بعمل، أو عبادة، أو حينما يريد أن يكف النفس عن أعمال الشر والسوء والباطل والمُنكر، وهكذا في القنوت يحتاج العبد إلى أن يُلازم الطاعة، وأن يداوم عليها ما بقي، إلى غير ذلك من الصفات، فهذا يدل على أن هذه أوصاف راسخة ثابتة فيهم.
أسأل الله أن يجعلنا وإياكم منهم، وأن يُعيينا على أنفسنا، وأن يقينا مُضلات الفتن، ما ظهر منها، وما بطن، والله أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.
- أخرجه البخاري في كتاب الإيمان، باب علامة المنافق برقم (33) ومسلم في كتاب الإيمان، باب بيان خصال المنافق برقم (59).
- الفروع وتصحيح الفروع (11/ 92) والمبدع في شرح المقنع (8/ 138).
- القواعد النورانية (ص:68) وجامع الرسائل لابن تيمية (1/ 5).
- أخرجه البخاري في كتاب التهجد، باب الدعاء في الصلاة من آخر الليل برقم (1145) ومسلم في صلاة المسافرين وقصرها، باب الترغيب في الدعاء والذكر في آخر الليل برقم (758).