الأربعاء 18 / جمادى الأولى / 1446 - 20 / نوفمبر 2024
(026) قوله تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ...} الآية
تاريخ النشر: ١٢ / ذو القعدة / ١٤٣٧
التحميل: 786
مرات الإستماع: 1393

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

يقول الله -تبارك وتعالى-: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [آل عمران:18].

فهذه شهادة من الله -تبارك وتعالى- أنه المتفرد بالوحدانية، وأنه الإله الواحد ، وتقدست أسماؤه، وقرن -تبارك وتعالى- بشهادته شهادة الملائكة، وشهادة أهل العلم؛ وذلك على أجل مشهود عليه، وهو التوحيد، وقيامه بالقسط والعدل، لا إله إلا هو العزيز، لا معبود بحق سواه، العزيز الذي لا يمتنع عليه شيء أراده، وهو الحكيم ذو الحكمة البالغة في أقواله وأفعاله، يضع الأمور مواضعها، ويوقعها مواقعها.

ويُؤخذ من قوله: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فهذه الشهادة من الله شهادة قولية، وهو كلام الله وقوله، كما أن له شهادة فعلية؛ وذلك بما يُبديه ويُظهره لعباده من دلائل وحدانيته، وانفراده بالخلق والتدبير، مما يستحق معه أن يكون هو المعبود وحده، دون ما سواه.

ثم تأمل ابتداء هذه الآية الكريمة بلفظ الشهادة: شَهِدَ اللَّهُ وذلك يدل على التوكيد، فربنا -تبارك وتعالى- هو أصدق القائلين وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً [النساء:122]، وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا [النساء:87] ومع ذلك فإنه يُخبر عن نفسه -تبارك وتعالى- أنه شهد أنه لا إله إلا هو؛ وذلك يدل على أهمية التوحيد، فهو أول بعثة الرسل -عليهم الصلاة والسلام-، وأول ما يدعون إليه، وهو أول واجب على المُكلف، وآخر ما يُخرج به من الدنيا من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة[1]، وهو مفتاح الجنة، وكلمة التوحيد هي أصدق كلمة، وأعظم كلمة، وأجل كلمة على الإطلاق.

ثم أيضًا في قوله -تبارك وتعالى-: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فالشهادة لا تكون إلا بأمر متيقن، ولا تكون بالظنون، وإنما تكون مبنية على اليقين بمنزلة المُشاهد بالبصر، فالله -تبارك وتعالى- قال: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فذلك يعني أن الشهادة لا تكون إلا بمنزلة المبْصَر، باعتبار أنها تكون عن يقين، فإن ذلك يعني أن علم التوحيد، أو أن قضية التوحيد، أو أن العلم بوحدانية الله -تبارك وتعالى- ينبغي أن يكون متيقنًا، فإذا قال الإنسان: أشهد أن لا إله إلا الله، فذلك يكون منه بمنزلة ما يُشاهده ببصره ويراه، ولا يقول ذلك وهو شاك غير متقين، ولا متُحقق من هذه الكلمة، فإن الشك يُنافي هذه الشهادة، وكما هو معلوم من شروط لا إله إلا الله: اليقين المُنافي للشك.

وهذه الشهادة شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ هذا هو الموضع الوحيد في القرآن، الذي أثبت الله شهادته عليه، وشهادة الملائكة، وشهادة أولي العلم، فذلك يدل على أن هذا هو المطلوب الأعظم، الذي ينبغي أن يُعتنى به غاية العناية، بمعرفته وحقيقته وشروطه ومُبطلاته، وما يُناقضه، ويُنافيه.

وأيضًا فإن قوله -تبارك وتعالى-: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ فذكر شهادة الملائكة بالتوحيد، وقدمهم على شهادة أولي العلم، والعلماء يتكلمون في المُفاضلة بين الملائكة وصالحي البشر، وهي من المسائل التي لا طائل تحتها، فلا ينبغي الاشتغال بها، لكن هنا قدم شهادة الملائكة على شهادة العلماء، فيمكن أن يكون ذلك باعتبار أنهم يشهدون عن علم ضروري.

والفرق بين العلم الضروري والعلم النظري أن العلم الضروري هو ما يقع بغير اكتساب، وأما العلم النظري فهو الذي يحتاج إلى نظر ودراسة واستدلال، وما أشبه ذلك، فشهادة الملائكة أو علم الملائكة هو علم ضروري، فيمكن أن تكون قُدمت شهادتهم على شهادة العلماء بهذا الاعتبار، وقد يكون ذلك باعتبار أنهم الملأ الأعلى، فقدمهم على شهادة البشر، ويمكن أن يكون ذلك لبيان منزلتهم عنده -تبارك وتعالى-.

ثم قال ثالثًا: وَأُوْلُوا الْعِلْمِ يعني أنهم يشهدون له بالوحدانية -تبارك وتعالى-، وهذا يدل كما يقول الشيخ عبد الرحمن بن سعدي -رحمه الله- على شرف العلم، وفضله، ومنزلته؛ وذلك من وجوه متعددة:

منها: أن الله خص شهادتهم بالذكر على أعظم مشهود عليه، وهو التوحيد، كما أن الله -تبارك وتعالى- قرن شهادتهم بشهادته وشهادة ملائكته، فهذا لا شك أنه شرف عظيم لأولي العلم، كذلك أيضًا: أن الله أضافهم إلى شريف، وهو العلم، فقال: وَأُوْلُوا الْعِلْمِ فهذا يدل على منزلتهم، ومنزلة العلم، وأنه فضيلة عظيمة، ينبغي على العبد أن يحرص عليها، فالإنسان إنما يشرُف بمكتسباته، وما يتحلى به ظاهرًا وباطنًا من الفضائل، ومن أجلها العلم، الإنسان لا يشرُف بثوب يلبسه، ولا بمركب يركبه، ولا بدار يسكنها، ولا بأموال يقتنيها، وإنما يشرُف بهذه المطالب العالية، فينبغي على العبد أن يحرص ويجد ويجتهد كل بحسبه.

وأيضًا فإن الله -تبارك وتعالى- جعلهم حجة على الخلق، حيث ذكر شهادتهم، وألزم الناس العمل بمقتضى ذلك، ومن هنا يقول الشيخ -رحمه الله- بأن من عمل بمقتضى هذه الشهادة فلهم من الأجر مثل ما عمل العاملون من الطاعة والتوحيد والبر، وما إلى ذلك باعتبار أنهم أدلاء على ذلك، هداة إليه، وعمل الناس بمقتضى شهادتهم التي اعتبرها الله -تبارك وتعالى-، ونص عليها([2].

وأيضًا في هذا الإشهاد: إنما تُقبل شهادة العدول، فإذا ذكر ربنا -تبارك وتعالى- وهو العظيم الأعظم ذكر شهادة هؤلاء من أولي العلم، فهذا يدل على أنهم العدول، كما جاء في الأثر: يرث هذا العلم من كل خلف عدوله[3]، فهم حملة العلم، وورثة الأنبياء، كما قال النبي ﷺ: إن الأنبياء لم يورثوا دينارًا ولا درهمًا، وإنما ورثوا هذا العلم، فمن أخذ به، أخذ بحظ وافر[4]، فهذا ميراث النبوة، وأبو هريرة لما رأى الناس في السوق، قال لهم: أين أنتم من ميراث رسول الله ﷺ يُقسم في المسجد، فذهبوا إلى المسجد، فلم يروا شيئًا، فسألوه، فأشار إلى العلم[5]، فهو الميراث الحقيقي للأنبياء -عليهم الصلاة والسلام-.

وقوله: قَائِمًا بِالْقِسْطِ القسط هو العدل، فالله -تبارك وتعالى- شهد أنه قائم بالعدل "لا إله إلا هو" شهد على التوحيد، وعلى قيامه بالقسط، فهو قائم بالعدل في توحيده وبالوحدانية في عدله، وهذه التوحيد والعدل هما قِوام أوصاف الكمال، فالتوحيد يعني أنه المُتفرد بالوحدانية والكمال، وأوصاف الجلال والعظمة، ولا يكون معبودًا وحده يستحق العبادة دون من سواه، إلا إذا كان كاملاً من كل وجه، وكذلك أيضًا العدل يتضمن وقوع أقواله وأفعاله على السداد والحكمة بعيدًا عن الظلم.

وقوله: الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ فمن كان عزيزًا يُغالب، فإنه مع الحكمة يكون قد بلغ غاية الكمال، فالعزة وحدها بالنسبة للبشر قد تكون سببًا للعسف والظلم والعدوان على الخلق، والحكمة من غير عزة قد لا يُنتفع بها، فقد يكون حكيمًا، لكنه في غاية العجز، ولا رأي لمن لا يُطاع كما قيل، لكن إذا اجتمعت العزة والحكمة، فذلك يُعطي وصفًا ثالثًا، وهو أن حكمته مُقترنة بالعزة، وأن عزته مبنية على الحكمة، فهو يتصرف -تبارك وتعالى- فيُعطي ويمنع ويُثيب ويُعاقب كل ذلك على وفق حكمته، فالعزيز لا يتعاصى عليه شيء، ولا يمتنع عليه شيء، والحكيم هو الذي يضع الأمور في مواضعها، ويوقعها في مواقعها، والحكمة تعني الإصابة في القول والعمل، هذا مدار كلام أهل العلم في الحكمة، فإذا كان كذلك أن الله عزيز وحكيم، فينبغي أن يثق العبد بتدبيره، وأن يتوكل عليه، وأن يركن إلى جنابه؛ لأن ربه -تبارك وتعالى- لا يمتنع عليه شيء، ويضع الأمور في مواضعها، فإذا كان كذلك، فإن ربنا -تبارك وتعالى- يُدير هذا الكون بما فيه على وفق هذه الصفات الكاملة، لا يتخلف شيء لعجز، ولا يقع شطط لامتناع، أو لقصور، أو لانعدام الحكمة.

وأيضًا في قوله: الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ قدّم العزيز على الحكيم، قالوا: باعتبار أن العزة تُناسب الوحدانية التي ذُكرت أولاً، لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ثم ذكر قيامه بالقسط، فذلك يتفق مع الحكمة، فجاء بهذين الاسمين في ختم هذه الآية لتناسبهما مع الأمرين المذكورين، وجعلهما على هذا الترتيب، يعني: ذكر التوحيد أولاً، وذكر العزيز، ثم ذكر القيام بالقسط، وذكر الحكيم.

وأيضًا هذه الآية تضمنت الدلالة على الوحدانية المنافية للشرك، والقيام بالقسط والعدل المُنافي للظلم، والعزة المُنافية للعجز، والحكمة المُنافية للشطط والخطل والجهل، فهذه شهادة بالتوحيد والعدل والقدرة والعلم والحكمة؛ ولهذا كانت أعظم شهادة، ولاحظ هنا أنه جاء التكرار بقوله:  شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فأعاد كلمة التوحيد لأهميتها ولعِظمها، ولمزيد الاعتناء بمعرفتها، ومعرفة دلائل التوحيد.

وأيضًا ليُعلم أنه -تبارك وتعالى- الموصوف بذلك، وأنه الواحد الأحد ، وتقدست أسماؤه، لا سيما مع طول الفصل، يعني: حينما قال: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ قال: وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ فإعادة كلمة التوحيد من أجل أن يذكر العزيز الحكيم بعدها، فهذا مع طول الفصل قد لا يحصل معه الربط لدى السامع، فقال: لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ لتقرير هذا التذييل، أو الختم لهذه الآية بهذين الاسمين الكريمين، فربما يكون إعادة ذلك لأجل ما بعده لطول الفصل بين ما ذُكر أولاً، وما ذُكر ثانيًا، والله تعالى أعلم.

فنسأله -تبارك وتعالى- بعزته وحكمته: أن يُبارك لنا في القرآن الحكيم، وأن يجعلنا هداة مهتدين.

اللهم ارحم موتانا، واشف مرضانا، وعاف مبتلانا، واجعل آخرتنا خيرًا من دنيانا.

والله أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.

  1. أخرجه أبو داود في كتاب الجنائز، باب في التلقين برقم (3116) وصححه الألباني.
  2. تفسير السعدي = تيسير الكريم الرحمن (ص:125).
  3. أخرجه البيهقي في السنن الكبرى برقم (20911) وبنحوه في البدع لابن وضاح (1/ 25) (1) والشريعة للآجري (1/ 268) وصححه الألباني في مشكاة المصابيح برقم (248).
  4. أخرجه الترمذي في أبواب العلم، باب ما جاء في فضل الفقه على العبادة برقم (2682) وأبو داود في كتاب العلم، باب الحث على طلب العلم برقم (3641) وابن ماجه في افتتاح الكتاب في الإيمان وفضائل الصحابة والعلم، باب فضل العلماء والحث على طلب العلم برقم (223) وصححه الألباني.
  5. أخرجه الطبراني في المعجم الأوسط برقم (1429).

مواد ذات صلة