الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
لما قرر الله -تبارك وتعالى- الدين الحق، وأنه الإسلام، بقوله: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ [آل عمران:19] وذكر أن سبب اختلاف أهل الكتاب إنما هو البغي؛ وذلك بعد حصول العلم عندهم، قال الله -تبارك وتعالى: فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ [آل عمران:20] فهذا السياق في مُحاجة أهل الكتاب، كما سبق.
ولما كان من أفعالهم وقبائحهم الكفر بآيات الله -تبارك وتعالى، وقتل الأنبياء بغير حق، وقتل الذين يأمرون بالقسط من الناس، قال بعده: إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [آل عمران:21].
إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ يعني: أنهم يجحدون بها، ولا يُذعنون إليها، ولا يُقرون بها، وهذا يشمل الآيات المتلوة، وهو الوحي المُنزل على الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام، كما يشمل الآيات التي هي من براهين ودلائل نبوتهم، والتي يُقال لها: المُعجزات التي أعطاها الله الأنبياء، كما يشمل ذلك سائر الآيات الدالة على إلهيته ووحدانيته وربوبيته وعظمته، وما إلى ذلك.
إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ أي: على وجه الظلم والعدوان، وسيأتي بيان ما في هذا القيد بِغَيْرِ حَقٍّ، وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ أي: بالعدل من الناس، فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ أي: بعذاب موجع من الله ، وتقدست أسماؤه.
ولفظ البشارة يُستعمل في الإخبار بما يسُر، هكذا في عُرف الاستعمال، وهنا جاء مُعبرًا به فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ يعني: في أمر يسوء، فمن أهل العلم من يقول: إن ذلك على سبيل التهكم، يعني لما كانت البشارة عند هؤلاء تختص بالإخبار بما يسُر، فإذا استعملت فيما يسوء، فيكون ذلك على سبيل التهكم بهم، كما قال الشاعر:
وخيلٍ قد دلفت لها بخيلٍ | تحية بينهم ضرب وجيع[1]. |
فقال: "تحية بينهم" سماه تحية.
ومنهم من قال: بأن البشارة تشمل هذا وهذا، فتقع على المعنيين، يعني الإخبار بما يسُر، والإخبار بما يسوء، فيكون ذلك قد جرى على الوجه المعروف في كلام العرب.
وفي قوله: إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ صدر هذه الجملة بهذا المؤكد إِنَّ وذلك لما تضمنه ذلك من الخبر والأمر الذي هو في غاية الأهمية إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ فهذا قد جاء على سبيل التهديد والوعيد، وعُبر بالفعل المضارع يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ليدل على أن الكفر منهم مستمر؛ ولذلك فإن الذين كانوا في زمن النبي ﷺ كما سبق يوجه إليهم الخطاب في أفعال أسلافهم وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا [البقرة:72] وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً [البقرة:55] ونحو ذلك، مع أن هذا وقع من أجدادهم، ومع ذلك وجه الخطاب لهم؛ لأنه لما كان هؤلاء على حال من الكفر والشر والفساد على طريقة الآباء والأجداد والأسلاف خوطبوا بذلك، وذكرنا القاعدة في هذا: وهي أن النِعمة الحاصلة للآباء تصل الأبناء، فيُمتن عليهم بها، وكذلك أيضًا المذمة التي تلحق الآباء تلحق الأبناء إذا كانوا على طريقتهم بهذا القيد.
وقوله -تبارك وتعالى- هنا: إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ فآيات هنا مُضاف إلى معرفة بِآيَاتِ اللَّهِ فهي للعموم، كما ذكرت، فيشمل الآيات المتلوة، والآيات التي هي من قبيل البراهين والمعجزات للأنبياء، ويشمل الآيات المُشاهدة.
وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ عُبر هنا أيضًا بالفعل المضارع، فبعضهم يقول: إن ذلك من أجل تصوير تلك الحال البشعة كأنك تشاهدها، يعني: إذا عُبر عن الماضي بالمُضارع، فيكون ذلك من أجل أن تكون الصورة حاضرة، كأنك تراها، كما قال الله وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ [يوسف:16] ولم يقل: وجاءوا أباهم عشاء باكين؛ وذلك ليجعل السامع كأنه يُشاهد هذه الحال من البُكاء.
وبعض أهل العلم يقول: إن قوله: وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ عُبر بالمُضارع هنا؛ لأن ذلك مُستمر فيهم، فهم قد وضعوا السم للنبي ﷺ حتى إنه قال ﷺ في مرضه الذي مات فيه: يا عائشة ما أزال أجد ألم الطعام الذي أكلت بخيبر، فهذا أوان وجدت انقطاع أبهري من ذلك السم[2]، فما زال يجد أثر السم من تلك الشاة المسمومة التي وضعته المرأة اليهودية عام خيبر، وعلى كل حال هذا وجه له حظ من النظر، يعني أنه عُبر بالمضارع لأنه مستمر، وليس بمجرد تبشيع الصورة الماضية، كأنك تُشاهدها، قالوا: وهذا إعجاز؛ وذلك باعتبار أنهم سعوا في قتل النبي ﷺ فلم يفلحوا.
وقوله هنا: وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ هو لا يمكن أن يُقتل نبي بحق، فما وجه هذا القيد وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ؟ قلنا: إن الصفات نوعان: منها صفات مقيدة، تقول: رجل طويل، وامرأة مؤمنة، فهذا يُخرج غير المؤمنة، ويُخرج غير الطويل، ولكن هناك نوع من الصفات هي صفات كاشفة، مثل الصراط المستقيم، باعتبار أن معنى الصراط، كما يقول الحافظ ابن القيم -رحمه الله، لا يكون صراطًا إلا مع الاستقامة[3]، فالمُستقيم صفة كاشفة، كما تقول: رجل ذكر، هو لا يكون رجل إلا أن يكون ذكرًا، وامرأة أُنثى، فهذه صفة كاشفة، فهنا وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ كقوله -تبارك وتعالى: وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ [الأنعام:38] فالطائر يطير بجناحيه، وكقوله: يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ [البقرة:79]، ويَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ [آل عمران:167] والقول إنما يقوله الإنسان بفيه، ويمشي برجله، ويكتب بيده، فهنا يَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ تكون صفة كاشفة، فما الفائدة من ذكرها هنا؟ الشناعة عليهم، وتبشيع أفعال هؤلاء، وأنهم يقتلون النبيين -عليهم الصلاة والسلام، وكفى بهذا جريمة.
وكذلك أيضًا قال هنا: بِغَيْرِ حَقٍّ وفي موضع آخر في سورة البقرة قال: بِغَيْرِ الْحَقِّ [البقرة:61] فهنا بغير حق، وهناك بغير الحق، فما وجه ذلك؟
بعض أهل العلم ذكر في التعريف الحق يعني بغير الحق المعروف عند أهل الإيمان، ومنه: لا يحل دم امرئ مسلم، يشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، إلا بإحدى ثلاث[4] يعني: بالوجه الشرعي، وهنا بِغَيْرِ حَقٍّ جاء مُنكرًا يعني بغير وجه حق لا في الوجه الشرعي عند أهل الإيمان، ولا عند غيرهم، يعني من غير أدنى سبب، لا قليل ولا كثير، ولا مما يعرفه أهل الإيمان من الحق، ولا مما يكون عند غيرهم، سواء كان هؤلاء اليهود، أو غير اليهود.
وفي قوله -تبارك وتعالى: بِغَيْرِ حَقٍّ هنا جاءت نكرة لتصدق على سائر الأفراد، يعني بأي وجه كان، ويمكن أن يكون ذلك أيضًا من قبيل العموم، باعتبار أن (غير) تفيد النفي، و(حق) هنا جاءت نكرة في سياق النفي فهي للعموم، بِغَيْرِ حَقٍّ يعني مُطلقًا، من غير حق بوجه من الوجوه، والعلماء يجيبون أيضًا بأجوبة أخرى لكن هذا يكفي -إن شاء الله-.
وأيضًا قوله -تبارك وتعالى: وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ هذا أحد المواضع التي لا يُعتد فيها، ولا يُعتبر بمفهوم المخالفة عند الأصوليين، وهي نحو سبعة مواضع أو ثمانية، ذكرناها في عدد من المناسبات، كما قال صاحب المراقي:
كذا دليل للخطاب انضافا | ودع إذا الساكت عنه خافا |
أو جهل الحكم أو النطق انجلب | للسؤل أو جرى على الذي غلب |
أو امتنان أو وفاق الواقـــعِ | والجهل والتأكيد عند السامعِ[5]. |
إلى آخر ما قال، فهنا هذه جاءت بهذا القيد؛ لأن ذلك على وفاق الواقع، أنهم يقتلونهم بغير حق، لكن لا يأتي أحد يقول: مفهوم المخالفة أن الأنبياء إذا قتلوا بحق فلا إشكال في ذلك؛ لأن هذا لا يمكن، وأفاد ما ذكرته من الشناعة عليهم، فقوله: بِغَيْرِ حَقٍّ لا في اعتقادهم هم، ولا في اعتقاد أهل الإيمان.
وكذلك في قوله -تبارك وتعالى: وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ عُبر بالفعل المضارع لاستمرار ذلك فيهم، فهم اجترأوا على قتل الأنبياء، فمن دون الأنبياء من العلماء والمصلحين والآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر من باب أولى، فهم في غاية الجُرأة على الله -تبارك وتعالى-.
وقوله: وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ يدل على شناعة قتل الداعين إلى الله، فبعد ذكر قتل الأنبياء بغير حق، وهو في غاية الشناعة، ذكر بعده قتل هؤلاء، فالقائم بالدعوة إلى الله، والقائم بالعلم، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، قال أهل العلم بأنه قائم بوظيفة الأنبياء، فوظيفة الأنبياء ما هي؟ قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ [يوسف:108] وحقيقة الدعوة إلى الله -تبارك وتعالى- تشمل الأمر والنهي، فهو يأمر الناس بأشياء، وينهاهم عن أشياء؛ ولذلك فإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله شيء واحد، فدل ذلك على منزلة هؤلاء، وحرمتهم ومكانتهم عند الله -تبارك وتعالى، وما لمن اجترئ عليهم من العذاب الأليم عند الله ، وتقدست أسماؤه.
وقوله: وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ يدل على أن الأمر بالقسط كان معروفًا عندهم، وواجبًا عليهم، وهذا ظاهر بالنصوص الأخرى بصورة أوضح وأصرح، كقوله -تبارك وتعالى: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ [المائدة:78-79] فذكر اللعن فدل على أنه لا يمكن أن يكون اللعن إلا على ترك واجب، بل إن ذلك يدل على أن تركه من كبائر الذنوب.
وكذلك أيضًا في قوله -تبارك وتعالى: لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ [المائدة:63] فذم ذلك منهم، فهذا كله يدل على الوجوب، ومما يدل على أنه مشروع عندهم قوله: مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ [آل عمران:113-114] فذلك مما شرعه الله -تبارك وتعالى- لهم، وفي قوله: "يكفرون" و"يقتلون" يدل على أن ذلك مستمر في هؤلاء، وأنه من أفعاله المتجددة المتُكررة، يعني: لم يقع مرة واحدة، وإنما كان ذلك يتكرر فيهم.
وكرر هنا فعل القتل، يقتلون النبيين بغير حق وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فلم يقل: يقتلون النبيين بغير حق والذين يأمرون بالقسط من الناس، وإنما جاء بفعل القتل للتشنيع عليهم، وأن كل واحد من هذه الأعمال بحد ذاته موجب للعقوبة التي ذكرها الله -تبارك وتعالى، وأنه جرم مستقل، يعني لا يكون ذلك باجتماع قتل الأنبياء، والآمرين بالقسط، وإنما يكون ذلك في كلٍّ على حده على سبيل الاستقلال، فكيف إذا اجتمع هذا وهذا؟! فإنه أعظم.
ففي عموم قوله: وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ [آل عمران:21] يدخل فيه الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام، فالأنبياء من الناس، ولكن السياق يُشعر بأن المقصود هنا غير الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- لأمرين:
الأمر الأول: أنه قد ذكر الأنبياء.
والأمر الثاني: أنه قال: مِنَ النَّاسِ وإن كان الرسل -عليهم الصلاة والسلام- والأنبياء من جنس الناس، إلا أن ذلك يُشعر بأن المقصود فئة أخرى غير الأنبياء، وهم المصلحون الآمرون بالعدل والقسط.
وقد يقال: إن الأنبياء داخلون في قوله: يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ من الوجهين: أنهم آمرون بالقسط، ومن جهة أخرى هم من جنس الناس، فيكون من قبيل عطف العام على الخاص بهذا الاعتبار؛ ليشملهم، ويشمل غيرهم، لكنه خصهم في البداية لخطر العدوان عليهم، وشدة اجترام من اجترئ على الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام-.
وفي قوله -تبارك وتعالى: الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ هم من الناس، لكن هنا ليُبين أن هؤلاء أيضًا -والله أعلم- من غير الأنبياء، مع أن الناس يشمل الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام، وفيه ملحظ يذكره بعض أهل العلم أن كونهم من الناس، أي هم من جنسهم، فكيف يجترئون على قتلهم، ويُزهقون أرواحهم لمجرد أنهم أمروا بالقسط وبالعدل، ومثل هذا لا يوجب القتل، بل يوجب الإكرام والتعظيم، والحفظ والرعاية.
فهذا الوعيد في قتل الذين يأمرون بالقسط، وأما قتل أهل الإيمان من غير هذا القيد، فهذا ورد فيه نصوص أخرى كقوله: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ [النساء:93] إلى آخره.
وكذلك أيضًا في قوله -تبارك وتعالى: مِنَ النَّاسِ (من) هنا بيانية، يعني أنهم من الناس، ومن جنس الناس، ويحتمل أن تكون للتبعيض، فهم لا يقتلون كل الناس، وإنما يقتلون نوعًا منهم، وهم الآمرون بالمعروف والقسط والعدل، وإذا قلنا: إنها بيانية يكون ذلك على كل حال من قبيل التوكيد.
قوله: فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ الفاء تدل على ترتيب ما بعدها على ما قبلها، يعني أن هذه البشارة بالعذاب الأليم إنما هو بسبب جرمهم الذي ذكره، وأنهم يقتلون النبيين -عليهم الصلاة والسلام، ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس.
وذكر التبشير إما تهكمًا -كما سبق، وإما أن يكون ذلك على وجهه، بأنه يُستعمل في هذا المعنى، ودخول الفاء هنا في خبر إنّ إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ، فَبَشِّرْهُمْ وكأن الاسم الموصول (الذين) ضُمن معنى الشرط، أو الجزاء، وكأنه قيل: الذين يكفرون فبشرهم، فيصدق على كل من فعل فعلهم، وتعاطى جرمهم؛ وذلك لا شك أنه لا يختص بهم، فمثل هذه القبائح التي يذكرها الله عن بني إسرائيل، هي لا تختص بهم، فإذا كان ذلك قبيحًا منهم فهو قبيح أيضًا من غيرهم.
وهنا جمع الله -تبارك وتعالى- للذين يكفرون بآياته، ويقتلون النبيين بغير حق، ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس ثلاثة أنواع من العقوبة والوعيد:
البشارة بالعذاب الأليم.
وحبوط الأعمال في الدنيا والآخرة.
وانتفاء الناصر.
وبعض أهل العلم يُقسم هذه العقوبات الثلاث على الأعمال السابقة، فيقول: بأن الكفر بآيات الله يُبشر بالعذاب الأليم، وقتل الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- يكون معه حبوط الأعمال، وقتل الذين يأمرون بالقسط من الناس يكون معه انتفاء الناصر؛ لأنهم قتلوا هؤلاء، ولا ناصر لهم، والذي يظهر -والله تعالى أعلم- أن هذه العقوبات الثلاث، والوعيد بهذه الأمور الثلاثة يشمل من اجترم هذه الجرائم، ولا يختص كل واحد بنوع منها.
يقول الحافظ ابن رجب -رحمه الله: "ولهذا المعنى كان أشد الناس عذابًا من قتل نبيًا؛ لأنه سعى في الأرض بالفساد، ومن قتل عالمًا فقد قتل خليفة نبي، فهو ساعٍ في الأرض بالفساد أيضًا؛ ولهذا قرن الله بين قتل الأنبياء وقتل العلماء الآمرين بالمعروف"[6]، ذكر هذا في شرح حديث أبي الدرداء ، والله أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.
- البيت لعمرو بن معدي كرب في النوادر في اللغة لأبي زيد الأنصاري (ص:428) والعمدة في محاسن الشعر وآدابه (2/ 292).
- أخرجه البخاري في كتاب المغازي، باب مرض النبي ﷺ ووفاته برقم (4428).
- مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين (1/ 33).
- أخرجه البخاري في كتاب الديات، باب قول الله تعالى: وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [المائدة:45] برقم (6878) ومسلم في كتاب القسامة والمحاربين والقصاص والديات، باب ما يباح به دم المسلم برقم (1676).
- نشر البنود على مراقي السعود (1/ 98).
- مجموع رسائل ابن رجب (1/ 32).