الأربعاء 18 / جمادى الأولى / 1446 - 20 / نوفمبر 2024
(031) تتمة قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ...} الآية
تاريخ النشر: ١٨ / ذو القعدة / ١٤٣٧
التحميل: 582
مرات الإستماع: 1234

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.

لم يزل الحديث متصلاً -أيها الأحبة- فيما يُستخرج من الهدايات من قوله -تبارك وتعالى-: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ [آل عمران:23].

فيُؤخذ من قوله -تبارك وتعالى-: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ أن الإنسان قد يؤتى شيئًا من العلم، ولكنه لا ينتفع به، فلا يوفق للعمل والاهتداء، فلا يكون زاكيًا صالحًا، عاملاً بما علم، وهذا لا شك أنه في حال بعيدة سيئة غير محمودة، وأن حال غيره ممن لم يعلم أفضل منه، ولكن ليس معنى ذلك أن يُترك التعلم لما يحتاج المؤمن إليه بحجة أنه قد يترك العمل، فإن الذي يعمل بلا علم يكون فيه شبه من النصارى، وهم أهل الضلال، والذي يعلم ولا يعمل فيه شبه من اليهود، وهم أهل الغضب، فالمؤمن دائمًا في كل ركعة يقول: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ۝ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ [الفاتحة:6-7] فيسلم من الضلال والغضب، يسلم من حال هؤلاء وهؤلاء، والصراط المستقيم لا يمكن أن يكون الإنسان سالكًا له، ومتحققًا من السير فيه ولزومه إلا إذا كان متصفًا بالعلم، فالله لا يُعبد إلا بما شرع، فلا بد من معرفة ما جاء به الشرع، وأن يكون عاملاً بمقتضى هذا العلم، مع الإخلاص، وإلا فالكفار قال الله تعالى عنهم: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا [الفرقان:23]، وقال الله -تبارك وتعالى-: وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأنعام:88].

ويُؤخذ من قوله -تبارك وتعالى-: ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ يتولون بعد هذه الدعوة التي قد عرفوا صحتها، فهنا كما يقول البقاعي -رحمه الله-: "ما أنكر مُنكرٌ حقًا وهو يعلمه، إلا سلبه الله تعالى علمه، حتى يصير إنكاره له بصورة ووصف من لم يكن قط علمه"[1]، فهذه جزاء وفاقًا، عقوبة لهؤلاء.

ثم أيضًا في قوله -تبارك وتعالى-: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ [آل عمران:23] حيث عبر بالموصول الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا ولم يقل: ألم تر إلى اليهود مثلاً، حيث دعوا إلى كتاب الله ليحكم بينهم، فتولى فريق منهم، باعتبار أن العلم يكون موجبًا للانقياد لحكم الله -تبارك وتعالى-، والاستجابة والإذعان له، كما قال الله -تبارك وتعالى-: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ [الأحزاب:36]، إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا [النور:51]، فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ هذه واحدة، ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ هذه الثانية، وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [النساء:65] هذه الثالثة، فلا بد من هذه الثلاث، يعني: ليس فقط الانقياد، بل ارتفاع الحرج، والتسليم الكامل بلا جدال ولا معارضة ولا نقاش ولا تلكأ، وإنما هو الإذعان والاستسلام والرضا، بحيث لا يبقى في القلب حرج، ولا يبقى فيه شيء من الانقباض، أو التردد إطلاقًا، فهذا هو اللائق بأهل الإيمان، وقد نفى الله -تبارك وتعالى- الإيمان بهذا القسم فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ [النساء:65].

وبعض الناس يجد في قلبه أعظم الحرج من التحاكم إلى كتاب الله وشرعه، بل صار عند كثير من الخلق ممن ينتسبون إلى الإسلام في مثل هذه الأوقات ممن رباهم الاستعمار على عينه من الشناعة عندهم أن يدعو داعٍ إلى تحكيم شرع الله ، فهذه جريمة لا تُغتفر عند هؤلاء الخلق، جريمة أن يُطالب بتحكيم شرع الله في رقاب الناس، وأن يكون شرع الله  هو المُهيمن، وهو الحاكم والسائد بينهم، وصار كثير من الناس ربما يتوارى أو يستحيي من أن يتفوه بذلك؛ لئلا يُرمى بالعظائم، فهذه حال لا تتفق مع الإيمان أبدًا.

وقل مثل ذلك ممن يرغب عن شرع الله -تبارك وتعالى- وحكمه إلى أوضاع قانونية أرضية من صنع عقول وآراء البشر، مُخالفة لشرع الله ، فهذا لا يتفق مع الإيمان، فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ [النساء:65] فأين هذا من الشعارات الواسعة التي تُرفع في مشارق الأرض ومغاربها بالمطالبة بالديمقراطية، وحكم الشعب، وأن الشعب كما يُقال: هو المصدر الوحيد للتشريع والسُلطة، هذا مُناقض تمامًا لمثل هذا المعنى، والأصل العظيم الذي تُقرره هذه الآيات وغيرها، أن يكون الشعب هو مصدر السلطة، الشعب عبيد لله ، يحكم فيهم بما أراد، وليسوا هم مصدر التشريع والسلطة، والله -تبارك وتعالى- يقول: أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ [الشورى:21] حتى هذا الاختيار الذي يختارونه بالأكثرية في تلك المجالس التي يُسمونها مجالس تشريعية في تلك النُظم التي يسمونها ديمقراطية لا يكون تحكيمًا لشرع الله، ولو كان موافقًا له؛ لأنه حكم بنص القانون، وهو حكم برأي وتصويت الأغلبية والأكثرية، فهو حكم برأي الشعب، ومن يُمثلونهم في تلك المجالس، فيكون ذلك من قبيل الحكم بأهواء الناس، وليس من الحكم بشرع الله في شيء، ولو كان موافقًا له، وإنما الصحيح أن يكون المشرع ابتداء هو الله، وأنه لا تشريع إلا من قِبله ، وما على الخلق إلا التسليم والانقياد والإذعان، وإذا صدرت هذه المُطالبات عمن ينتسبون إلى علم أو دين أو دعوة ونحو ذلك، فهذا يكون أشد وأعظم.

وفي قوله -تبارك وتعالى-: يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لم يقل: يدعون إلى كتابهم على القول بأن المقصود التوراة، ولم يقل: يدعون إلى القرآن، وإنما أضافه إليه إِلَى كِتَابِ اللَّهِ فهذه فيه معاني عظيمة: منها: أن إضافته إلى الله -تبارك وتعالى- تقتضي الانقياد والتسليم والإذعان المطلق، فالله هو المألوه المعبود وحده دون ما سواه، وأيضًا فإن إضافته إلى الله، وإظهار اسم الجلالة هنا: يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لا شك أنه فيه ما فيه من تربية المهابة في النفوس، فهذا هو الله، فيكون ذلك أعظم وقعًا، فأضاف الكتاب إليه، بخلاف ما لو قال: يدعون إلى التوراة على القول بأن المقصود التوراة، مع أنها كلام الله، لكن هذا يُشعر بمعنى ثالث أيضًا: وهو أن كتاب الله الذي هو كتابه دون أن يدخله التحريف، أما الكتاب الذي في أيديهم فقد دخله ما دخله من التحريف، لكن حينما يُضاف ذلك إليه فهم يدعون إلى كلامه الحق، وكتابه من غير تبديل.

وفي قوله: لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ حُذف المُتعلق، وقد ذكرنا القاعدة في هذا مرارًا، وهي أن حذف المُتعلق يفيد العموم النسبي، يعني المُناسب في كل مقام، ويُدْعَوْنَ بُني للمجهول؛ ليشمل دعاء الرسول ﷺ، ودعاء المؤمنين إذا دعوهم إلى كتاب الله ليحكم بينهم، فأُبْهم وبُني للمجهول ليشمل كل داعٍ.

وفي قوله: لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ في ماذا؟ حُذف المتعلق، وحذف المُتعلق يفيد العموم، يعني: لم يقل: يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم في العبادات التي اختلفوا فيها مثلاً، أو ليحكم بينهم في المعاملات والبيع والشراء، أو يحكم بينهم في الدماء، أو نحو ذلك، وإنما أطلقه هكذا بحذف المُتعلق، مما يدل على أن ذلك مُطلق، فكتاب الله -تبارك وتعالى- يحكم بين الناس في جميع الشؤون، يعني في أمور العبادات، وكيف يعبدون ربهم؟ يتلقون ذلك من الشارع، فإذا اختلفوا في شيء فحكمه إلى الله، وكذلك أيضًا في معاملاتهم، فالذي يحكم المعاملات هو الشرع، سواء كانت هذه المعاملات من المعاملات المالية والاقتصاد، أو كان ذلك فيما يتعلق بالخصومات في أمور شتى، أو كان ذلك فيما يتعلق بالمطعومات، أو كان ذلك في باب الأخلاق، فكل هذا يحكم فيه شرع الله -تبارك وتعالى-، فشرع الله ما ترك شيئًا، انظر إلى صفات عباد الرحمن، فأول صفة: وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا [الفرقان:63] أول صفة في المشي، وفي سورة الإسراء وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا [لقمان:18] فاعتنى بالمشية، وطريقة المشية، وكيف يمشي الإنسان؟ فعلمنا كيف نمشي، وعلمنا كل شيء، وكيف نعبده ، ونتقرب إليه، وكيف تكون علاقتنا بالرب المعبود ؟ وكيف تكون العلاقة بالخلق؟ وكيف يكون الإنسان مع نفسه؟ فهذه كلها يُنظمها الشرع، الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا [المائدة:3] فهو ليس بحاجة إلى تكميل، فقد اكتمل قبل قبض النبي ﷺ، وما مات ﷺ حتى كمل الله الرسالة، فلا تحتاج إلى تكميل.

وفي قوله -تبارك وتعالى-: ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ لم يذكر ذلك في الجميع، وإنما في بعضهم، فيحتمل هذا أنه باعتبار أن الفريق الذي يتولى هو الذي يعتقد أن الحكم لن يكون في صالحه؛ ولهذا قيل: من يلي أمور العدل بين الناس من القضاة ونحوهم، يكون نصف الناس لهم أعداء أو خصوم؛ لأنهم لا يرضون بحكم الحق غالبًا، فقد يكون هذا هو المقصود بالفريق الآخر، ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ أي: الذي يكون الحكم عليه، أو يعتقد أن الحكم لن يكون في صالحه، مع أن حكم الشرع في صالح الجميع؛ لأنه العدل، لكن هؤلاء لا يفقهون، لكن إذا كان لهم الحق جاءوا طواعية بإذعان، وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ [النور:49].

ويحتمل أن يكون معنى: يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ باعتبار أن من أهل الكتاب من قبل الحق، وآمن، كعبد الله بن سلام .

وأيضًا الجمع بين التولي والإعراض يدل على غاية في الإعراض، وأن هذا التولي لا يُرجى معه رجوع، يتولى وهو مُعرض، يعني قد يتولى الإنسان، ثم يكون له رجعة، لكن يتولى وهو مُعرض هذا لا سبيل إلى رجوعه.

وأيضًا في قوله -تبارك وتعالى-: ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ تعبير بـ(ثم) هذا للتراخي الرُتبي، يعني: ليس للترتيب في الزمان، يعني: كيف يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم، وفوق ذلك يحصل نتيجة لذلك هذا الإعراض والتولي؟!

وهكذا التعبير بالمضارع يَتَوَلَّى لأنه -والله أعلم- يتكرر منهم حينًا بعد حين، فهذه عادتهم وديدنهم، وأما الإعراض فهو إعراض تام فعُبر عنه بالاسم مُعْرِضُونَ لأن قلوبهم قد سُدت وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ [فصلت:5] وقال اليهود: وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ [البقرة:88] عليها أغلفة لا يصل إليها ما تدعو إليه، فهم معرضون دائمًا، لكن التولي إذا دعوا إلى كتاب الله ليحكم بينهم، فهذه حالة توجب التعجب كيف يكون هذا ممن أوتوا نصيبًا من الكتاب؟! وإذا كان هذا في أهل الكتاب فهو في حق هذه الأمة أشد؛ لأن الكتاب الذي أُنزل على هذه الأمة أشرف وأعظم، والنبي الذي أُرسل إليها أشرف وأعظم.

وكذلك أيضًا هذه الأمة أشرف، فالقبيح من أولئك لا شك أنه قبيح من هذه الأمة بل أقبح، والله -تبارك وتعالى- إنما ذكر لنا ذلك من أجل أن نتوقى الوقوع فيه، فلا نقع في مُشابهة هؤلاء.

أسأل الله أن ينفعنا وإياكم بالقرآن العظيم، وأن يجعلنا وإياكم هداة مهتدين، والله أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.

  1. نظم الدرر في تناسب الآيات والسور (4/ 304).

مواد ذات صلة