الخميس 26 / جمادى الأولى / 1446 - 28 / نوفمبر 2024
(067) قوله تعالى: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ...} الآية 54
تاريخ النشر: ٢٢ / محرّم / ١٤٣٨
التحميل: 496
مرات الإستماع: 951

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

قصّ الله -تبارك وتعالى- خبر عيسى ، وما جاء به من الآيات البينات الواضحات التي ذكرها الله ، فانقسم الناس إلى طائفتين، قسم آمن بعيسى ، وناصره، وهناك من كفر من بني إسرائيل، قال الله -تعالى- عن هؤلاء الذين كفروا: وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِين [آل عمران:54].

وَمَكَرُواْ يعني: هؤلاء من بني إسرائيل الذين قالوا في عيسى ما قالوا من القول القبيح، وكذبوا به، وقالوا في أمه أيضًا ما تُنزه عنه الأسماء.

وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللّهُ دبروا وكادوا، فالمكر يكون بإيصال الأذى بطُرق خفية، فمكروا ومكر الله، يعني: أرادوا الإيقاع به بمكايد دبروها، يُقال: إنهم ذهبوا إلى ملك زمانهم، وقالوا بأن عيسى يريد أن ينتزع ملكه، وأنه يُجمع الأعوان والأنصار لذلك، فأمر بقتله وصلبه، وسعى في ذلك اليهود، ووشوا بعيسى ، وكذبوا عليه هذا الأكاذيب، وسواء كان هذا أو غيره، لكن لا شك أنهم عملوا على قتله، سواء كان ذلك بمباشرتهم هم، حيث دخلوا عليه، يريدون قتله، فرفعه الله، أو أنهم أرادوا ذلك بواسطة الملك الذي كان في ذلك الوقت، فالله تعالى أعلم، فهم قد مكروا ليتوصلوا إلى قتله، وَمَكَرَ اللّهُ أي: قابل مكرهم بمكره، أُلقي الشبه على أحد التفسيرين، وهو المشهور وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ [النساء:157] فيحتمل المعنى: أن يكون المقصود أن شبهه أُلقي على رجل آخر، قيل: إنه أحد هؤلاء المتزعمين والمُبادرين بالسعي به، فدخل أولاً، فأُلقي الشبه عليه، فأخذوه، وقيل: إنه كان من أنصار المسيح ، وأنه طلب ذلك منهم، فقال: من يُلقى عليه شبهي؟ ووعده بالجنة، أو نحو ذلك، فقبل ذلك أحدهم، فوقع الشبه عليه، فالشاهد أنه أُلقي شبهه على رجل، هذا أحد المعنيين، بصرف النظر عن التفاصيل.

والمعنى الثاني: وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ بعضهم يقول الضمير يعود إلى النصارى، وليس اليهود، يعني: أن اليهود ادعوا دعوى، فالتبس الأمر على النصارى واشتبه، وصدقوا هذه الدعوى، وما أشاعه اليهود من أنهم قتلوا المسيح، لكنهم لم يتحققوه؛ ولهذا قال: وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا [النساء:157] يعني متيقنين قتله، أو ما قتلوه حقًّا، وبعضهم يقول: وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا [النساء:157] أي: مثل ما تقول: قتلت هذه المسألة دراسة وبحثًا، وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا [النساء:157] أي: تحريًّا، وإنما سمعوا مقالة اليهود فصدقوها وتلقفوها، فشُبه عليهم أمر عيسى وما جرى له.

فالشاهد هنا: وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللّهُ عملوا على الإيقاع به بدسائس وطُرق خفية، يتوصلون بها إلى المكروه، فقابلهم الله -تبارك وتعالى- بمكره، وهو أن يوقع بهم بسوء صنيعهم، فهذا صفة ثابتة لله -تبارك وتعالى-، لكنها تكون كمالاً، كما ذكرت في بعض المناسبات، حيث كان ذلك المكر في موضعه ومستحقه، فإنه يُمدح من فعل ذلك، ويُثنى عليه، ويكون كمالاً في حقه، فالمكر والإيقاع بأهل الشر والفساد والكفر والعناد الذين يؤذون عباد الله، ويفسدون في الأرض، فلا شك أن هذا يكون محمودًا، ويكون كمالاً، فالمكر والكيد أوصاف ثابتة لله ، لكن لا تُقال هكذا بإطلاق، فلا يُقال: بأن الله كائد، أو أن الله ماكر، لكن يُقال: إن الله متصف بالمكر، حيث يكون كمالاً، فيمكر بالكافرين، والمجرمين، والماكرين، ويكيد الكائدين والظالمين والمجرمين والمفسدين، فهذا تارة يكون في مقابلة مكرهم وكيدهم، إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا ۝ وَأَكِيدُ كَيْدًا [الطارق:15-16] فقابل الكيد بالكيد، والمكر كذلك، وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللّهُ كما في هذه الآية، وتارة لا يكون بمقابلة ذلك في اللفظ، ولكنه يُخبر عن هذا الوصف، حيث يكون موجهًا إلى من يستحق، كقوله تعالى: أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللّهِ [الأعراف:99] ولم يذكر مكرهم، وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِين [القلم:45] ولم يذكر كيدهم، فلا يُشترط أن يكون ذلك على سبيل مقابلة المكر، أو على سبيل مقابلة الكيد، حتى قال بعضهم: إن ذلك من قبيل المشاكلة اللفظية، وهؤلاء منهم من يُدرك معنى المُشاكلة، فيقصدون نفي الصفة أصلاً، وإنما عُبر بهذا اللفظ مراعاة للفظ المذكور قبله، ومكروا المكر مُضاف إليهم، يقولون كقول الشاعر:

قالوا: اقترح شيئًا نجد لك طبخه قلت: اطبخوا لي جُبة وقميصا[1]

فكان بحاجة إلى لباس، فهم يقولون: ماذا تشتهي أن نصنع لك من الطعام؟ فقال: اطبخوا لي، عبّر بعبارتهم، وإلا فالجُبة والقميص لا تُطبخ، وإنما تُخاط، فهؤلاء ينفون الصفة، لكن بعض من يتكلم في مثل هذا وينقله عن غيره قد لا يُدرك ما تحته من نفي الصفة، فيجري ذلك على لسانه أو قلمه دون أن يشعر، وتجد هذا للأسف يقع فيه بعض طلاب العلم من أهل السنة والجماعة، تجده في كتابات في رسائل جامعية، ونحو هذا، يقولون: هذا من باب المُشاكلة، وهذا غير صحيح.

وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِين فيكون مكره على ما يليق بجلاله وعظمته، حيث يكون موجهًا لمن يستحق، فالله خير الماكرين، وخير هنا تُستعمل أفعل تفضيل، لكنها في هذا الموضع لا تكون مُرادًا بها التفضيل؛ لأنه لا وجه للمقارنة، والمقاربة والتفضيل يكون بين اثنين اشتركا في صفة، فزاد أحدهما على الآخر، وأوصاف الله لا تُقاس بأوصاف المخلوقين، ولا وجه لمقاربتها.

فقوله: وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِين أي: أن الله -تبارك وتعالى- متصف بهذا الوصف، فهو أملك وأقدر على إيصال ما يُريد إلى الممكور به، فهو أنفذ إرادة، وأحكم تدبيرًا، وأوقع عقوبة وألمًا من هؤلاء في مكرهم، فهذا يكون مدحًا لله -تبارك وتعالى-، وإلا فالمكر إذا كان في غير موضعه كما يُقال: فلان ماكر، فهذا يكون صفة نقص، وليس بكمال؛ لأنه ذم وعيب، أما الله فله الأكمل، والمقصود بذلك استدراج هؤلاء من حيث لا يعلمون، وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِين [القلم:45] ويدخل في هذا كما قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: كلما أحدثوا خطيئة جددنا لهم نعمة[2]؛ ولهذا يقولون: بأن الله -تبارك وتعالى- إذا كان يُتابع نِعمه على من يُقابل ذلك بالعصيان والكفران، فإن ذلك يكون استدراجًا، فإذا أراد الإنسان أن يعرف ما هو فيه: هل هو من قبيل المكر أو من قبيل الإنعام والإفضال والرحمة النازلة عليه؟ فلينظر في حاله وعمله، فإذا كان على طاعة واستقامة، فهذا مما يُعجل له من النعيم في الدنيا، وإذا كان على غير ذلك، كإنسان مُعرض عن الله والنِعم تتابع عليه، وهو في عافية في بدنه، وفي مأمن وغنى، ويُحقق أرباحًا في تجاراته، وتكثر أمواله، ويلتذ بأنواع اللذائذ، فإن ذلك يكون استدراجًا -نسأل الله العافية-، فيكون مثل البهيمة التي تُعطى العلف حتى يحين ذبحها، فيكون ذلك كالقوت له، الذي يسلو به، حتى يوافي على أسوء الأحوال، فهذا خطير؛ لأن الكثيرين حينما يكون في غمرة النعمة واللذات يغفل وينسى، ولا يُفيق من غفلته، بل قد يصل الحال إلى أن يظن أن ذلك لكرامته على الله ، وأن الله راضٍ عنه، فالأمطار مدرار، والثمار كذلك أيضًا وافرة، والخيرات والأموال والنِعم قارة، فيظن أنه في حال من الرضا، فهو تتابع عليه نِعم الله وأفضاله وألطافه ورحماته، ويظن أن ذلك لخير وصلاح فيه، هذا أخطر ما يكون، والله -تبارك وتعالى- قد ذكر في القرآن في مواضع: ما يدل على هذا المعنى، كقوله: ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَواْ [الأعراف:95] أي: كثروا، فظنوا أنه لكرامة لهم عند الله، أو لأن الأمر هكذا، قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا [الأعراف:95] يعني: أن هذا الأمر يقع لهم ولآبائهم، فالسراء والضراء تقع لجميع الناس، فهذا في غاية الجهل بالله ، والغفلة والإعراض، والله المستعان.

فهنا: وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِين فهؤلاء أرادوا الإيقاع بالمسيح ، وأرادوا قتله، ولكن لم يتحقق لهم ذلك، مع أنه لم تتوفر له قوة بشرية تحميه، ولم يؤمر بقتال ، فكان الوصول إليه بالنظر إلى المعطيات العادية، والمقاييس والاعتبارات البشرية من الأمور السهلة، ولكن الله -تبارك وتعالى- يمكر بهؤلاء، والمؤمن كذلك يُدرك أن الله -تبارك وتعالى- يحفظ دينه وكتابه وسنة رسوله ﷺ، فكم مكر الأعداء؟! وكم دبروا؟! مُنذ بُعث النبي ﷺ، وإن شئت أن تقول: منذ عهد نوح والأنبياء تتابعوا، نوح بقي تلك المدة الطويلة ألف سنة إلا خمسين عامًا يدعوهم، وهم في غاية الإصرار على الكفر، ثم ماذا كانت النتيجة؟ كانت العاقبة له، ولمن معه من أجل فئة قليلة من المؤمنين أغرق الله الأرض، ومن عليها، وهكذا جاء الأنبياء هود وصالح وشعيب وإبراهيم ولوط وموسى -عليهم السلام- كل هؤلاء وغيرهم كانت العاقبة لهم.

فأهلك الله عدوهم، وكان ذلك الإهلاك مستأصلاً، ولم يكن ذلك بتصرف من هؤلاء الأنبياء، وإدالة على أعدائهم بالقتال، وآخر من استأصلوا فرعون ومن معه، غرقوا في البحر، وبنو إسرائيل ينظرون إليهم، ويُشاهدونهم، فانظروا إلى هذه الآية العظيمة، هذا الذي يقول: أنا ربكم الأعلى، وأصحاب موسى يقولون: إِنَّا لَمُدْرَكُونَ [الشعراء:61] وهو يقول: كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ [الشعراء:62] كما قال الله : حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ [يوسف:110] على هذه القراءة المتواترة التي نقرأ بها، والقراءة الأخرى قراءة الجمهور: (أَنَّهُمْ قَدْ كُذِّبُواْ)[3] فعندها يأتي النصر والتمكين والغلبة لأهل الإيمان، فهؤلاء أصحاب عيسى لم يكن بهم منعة يمنعون هؤلاء الأعداء، ولكن الله مكر بأعدائه، فالله ناصر دينه، ولا يمكن لأحد أن يتوصل إلى القضاء عليه وإلى إطفائه، فهذه الأمة لو نظرت منذ أن بُعث النبي ﷺ كم مكر الأعداء؟ حاصره الكفار في مكة، وآذوه، وحُصر في شِعب أبي طالب، فلا يُتعامل معهم، ولا يُتزوج منهم، ولا يُتبايع معهم، ثلاث سنين، ثم بعد ذلك أرادوا قتله؛ لئلا يخرج فتنتشر دعوته، وخرج من بين أظهرهم، ودخل في الغار، ووقفوا على فم الغار، ومع ذلك حماه الله ، وأعمى أبصارهم عنه، حتى جاء إلى المدينة -عليه الصلاة والسلام-، وما حصل له في المدينة من أنواع المخاوف كان الله -تبارك وتعالى- يمكر له، وينصره، ويؤيده، خرج مع فئة قليلة ضعيفة في بدر، فكان ذلك الانتصار الساحق الذي لم يخطر على بال أحد من الفريقين من المؤمنين، ولا من الكافرين حينها، فلما جاء زيد بن حارثة يُبشر الناس بالنصر، صار اليهود ومن سمعه يقولون: أُصيب في عقله، رأى في أصحابه هولاً يعني قتلوا واستأصلوا فأُصيب في عقله، كيف يُحدث عن نصر؟ وعن مقتل فلان وفلان وفلان، وأسر فلان وفلان وفلان، فمن بقي؟! يقول أُسامة بن زيد : فتبعت أبي حتى دخل الدار فقلت: أحقًّا ما تقول؟ قال: إي والله يا بُني[4]، يعني: هل هذا معقول؟

ثم بعد ذلك اجتمع الأعداء في الخندق، وحاصروا المدينة، فجاءت الريح نُصرت بالصباء، وأهلكت عاد بالدبور[5] والصبا: التي تأتي من قِبل المشرق، والدبور: التي تأتي من قِبل المغرب، وكلها مُسخرة بأمر الله، تارة من هذه الناحية، وتارة من هذه الناحية، فانقشعوا، وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ [الأحزاب:25] ثم بعد ذلك وقع ما وقع من ارتداد العرب عن الإسلام بعد وفاة النبي ﷺ، فردهم الله إليه، بأبي بكر ، ثم بعد ذلك وقعت الأهوال، كما هو معلوم في مجيء التتر والغزو الصليبي من جهة الغرب، ثم بعد ذلك زال، والحافظ ابن القيم -رحمه الله- يقول:

والله لولا الله حافظ دينه لتهدمت منه قوى البنيان[6]

لكثرة الكيد الموجه لهذا الدين، ولكن الله حافظ دينه، وهكذا جاءت حروب بعدها حروب، وجيوش ربما تسد الأفق لكثرتها، ومع ذلك زالوا، وجاء الاستعمار الحديث، وبقوا في بعض البلاد الإسلامية أربعمائة سنة، وكانوا يُخططون أن يكون البقاء أبديًّا، وانقشعوا، وبلد مثل إندونيسيا بقوا فيها أربعمائة سنة، ما تركوا شيئًا من أنواع الإفساد إلا فعلوه، واذهب إلى إندونيسيا الآن، قد لا تجد بلدًا إسلاميًّا فيه من المعاهد والجمعيات الدعوية ونحو ذلك أكثر من إندونيسيا، والناس يرجعون إلى الله، والحجاب ينتشر، ترى هذا في الأماكن العامة والأسواق، وغير ذلك، فهذا دين الله ، واليوم الأعداء قد رمونا عن قوس واحدة، ولكن الله ينصر دينه، وينصر من ينصره، فينبغي على العبد أن يتذكر هذا، ويحسن ظنه بربه -تبارك وتعالى-، ويثبت على إيمانه، وهؤلاء كما قال الله : إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ [الأنفال:36] فهذه عاقبتهم، وعاقبة نفقاتهم وأموالهم التي يبذلونها في هذا السبيل.

وينبغي على العبد أن يحذر غاية الحذر من مقابلة نِعم الله بالكفران والجحود، أو الإعراض عن الشكر، فإن ذلك يكون من قبيل المكر به، تتتابع النِعم وهو في غاية الفِسق والغفلة والتضييع والتفريط والبُعد عن الله ، المؤمن دائمًا يخاف، وإذا رأى صنوف النِعم بين يديه على هذه الموائد، يخاف كثيرًا من أن تتبدل الحال في يوم من الدهر، ثم يُحكى ذلك للأحفاد، كيف كانت هذه النِعم وافرة، ثم قد لا يجد الناس شيئًا يُقيم أصلابهم، والله على كل شيء قدير.

وها نحن نرى بلادًا كانت الخيرات فيها دارة، والأنهار سارحة، وانظروا إلى ما هم فيه، كيف تبدلت الأحوال؟! فالعبد يخاف، وإذا رأى هذه النِعم يحتاط، ويُحاسب ويُراجع نفسه، وينظر في عمله وشكره في قلبه ولسانه وجوارحه، ويُذكر الآخرين بمثل هذه المعاني.

ففي قوله: وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِين هنا كان ممكن أن يُقال: وهو خير الماكرين، فجاء بالاسم مُظهرًا؛ وذلك أنه في جملتين، وهذا لا إشكال فيه، كل جملة مستقلة، وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللّهُ وَاللّهُ مع التقارب فهذا عند البلاغيين يُعتبر من ضروب البلاغة لغرض وهو تربية المهابة، والمقام يحتاج شيئًا من بيان العظمة، ونحو ذلك، فيكون في غاية المناسبة.

والله أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.

  1. البيت لجحظة البرمكي في الدر الفريد وبيت القصيد (8/233).
  2. تفسير الثعلبي = الكشف والبيان عن تفسير القرآن (3/78).
  3. السبعة في القراءات (ص:351) وحجة القراءات (ص:366).
  4. الروض الأنف ت السلامي (5/114).
  5. أخرجه البخاري في أبواب الاستسقاء، باب قول النبي -صلى الله عليه وسلم- نصرت بالصبا برقم (1035) ومسلم في كتاب صلاة الاستسقاء، باب في ريح الصبا والدبور برقم (900).
  6. القصيدة النونية - ابن القيم (ص:25).

مواد ذات صلة