الخميس 26 / جمادى الأولى / 1446 - 28 / نوفمبر 2024
(068) قوله تعالى: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ...} الآية 54
تاريخ النشر: ٢٣ / محرّم / ١٤٣٨
التحميل: 556
مرات الإستماع: 1074

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

لما ذكر الله -تبارك وتعالى- مكر هؤلاء، وما قابلهم فيه من المكر وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِين [آل عمران:54] قال بعد ذلك مُبينًا لهذا المكر: إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُون [آل عمران:55].

فقوله: إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى فبعض أهل العلم يقولون: إن (إذْ) هنا متعلقة بما قبلها من ذكر المكر، وبعضهم يقول: متعلق بمقدر محذوف تقديره: (واذكر) إذ قال الله يا عيسى.

فما المراد بـقوله: إِنِّي مُتَوَفِّيكَ؟ فالأصل أن يُحمل كلام الشارع على المعاني الشرعية إن وجدت؛ لأن كل متكلم يُحمل كلامه على عُرفه، وعُرف الشارع الشرعيات، والوفاة في عُرف الشارع يُقال للوفاة الكبرى، وهي مفارقة الروح الجسد مفارقة كلية، وبالوفاة الصغرى وهو النوم، فيرتفع معه الإدراك، والروح لا تُفارق الجسد مفارقة كلية كالموت، وإنما يكون ذلك بارتفاع الإدراك، والله يقول: اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى [الزمر:42] فهذه وفاة، وهذه وفاة بعُرف الشارع، فهذا إذا فُسر به وهو الأولى فيكون المعنى: إِنِّي مُتَوَفِّيكَ يعني رفعه في حال النوم، فألقى النوم عليه ورفعه في هذه الحال بروحه وجسده، ومن فسره بالمعنى اللغوي وهو الاستيفاء، فيكون معنى: إِنِّي مُتَوَفِّيكَ أنه استوفى روحه وجسده، فرفعه إليه بروحه وجسده من الاستيفاء، فهذا المعنى في المآل لا يُنافي المعنى السابق؛ لأن مؤداه أنه رفعه بروحه وجسده، لكن لا يقول هؤلاء بأن ذلك في حال النوم، ولكن هذا القول لا إشكال فيه من جهة أنه رُفع بروحه وجسده.

وبعض أهل العلم فسره بالمعنى الشرعي، لكن بالوفاة الكبرى وهي الموت، فالمقصود أن هذا على قولين، فبعضهم يقول: توفاه وأماته، ثم أحياه في السماء، وهذا لا دليل عليه، وهو قول ضعيف، وبعضهم يقول: إن الكلام فيه تقديم وتأخير، فسروا الوفاة هنا بالموتة الكبرى، لكن قالوا: هذا في آخر الزمان بعد ما ينزل، فيكون تقدير الكلام هكذا: إذا قال الله يا عيسى إني رافعك إليّ، ومطهرك من الذين كفروا، وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة، ومتوفيك، يعني: في نهاية المطاف بعد ما ينزل، لكن هذا القول فيه دعوى تقديم بعض الكلام على بعض على خلاف السياق القرآني، والأصل أن الكلام على حاله في الترتيب الذي ذكره الله ، ولا تُقبل فيه دعوى التقديم والتأخير إذا أمكن حمل ذلك على معنى صحيح، وهذا ممكن كما سبق أنه رفعه في حال النوم، ففسرناه بالمعنى الشرعي الذي لا إشكال فيه، ولا يحتاج إلى دعوى تقديم وتأخير.

وقوله: وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ يعني: مُخلصك منهم، فلا يصلون إليك بمكروه، ومُطهر عيسى من كل ما يتصل بذلك من أحوال هؤلاء الكفار، ومن كفرهم وشركهم وجراءتهم على الله -تبارك وتعالى-.

وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ فهذا وعد من الله بأن يجعل الذين اتبعوه فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة، وبعضهم يقول: فوق الذين كفروا من بني إسرائيل يعني اليهود، وبعضهم يقول: إنه عام، أي: فوق الذين كفروا مطلقًا، ولكن السؤال الذي يرد عادة في هذا الموضع: أن الذين اتبعوا المسيح حقيقة، وهم أهل التوحيد والإيمان الصحيح من أتباعه لم يكن لهم ظهور في التاريخ على اليهود، ولا على غير اليهود، وأن النصارى اختلفوا في المسيح -كما هو معلوم- فمنهم من قال: إن الله تجسد وحل اللاهوت: يعني الجزء الإلهي، بالناسوت: وهو القالب البشري، من أجل أن يُخلص البشر من الخطيئة، فصُلب، تعالى الله عما يقولون علوًا كبيرًا، يقولون: الإله صُلب، وهذا من أقبح الأقوال، حتى قال بعض أهل العلم: إن مقالة النصارى هذه هي وصمة عار في جبين البشرية، فكيف ينزل الإله ويُصلب ويقتله بشر من أجل أن يُطهر البشرية من الخطيئة؟!

وبعضهم يقول: هو ابن الله، وبعضهم يقول: هو ثالث ثلاثة، ومعلوم في التاريخ أن قسطنطين لما دخل في النصرانية، والواقع أنه أدخل النصرانية في وثنيته، وهو ملك الروم في ذلك الزمان، فعُقد مجمع نيقيا، وأقروا بعقيدة التثليث على أنها العقيدة الرسمية للدولة النصرانية، فلما دخل هذا الملك ملك الرومان في ديانة النصارى صار النصارى أقوياء، وصار يبني لهم الكنائس، وأمه قبل ذلك كانت تبني الكثير من الكنائس، فقوي النصارى وصار يُنادى على اليهود في الممالك النصرانية حينًا بعد حين، حين يظهر منهم مكر وإفساد، فيقتلون عن آخرهم، وصار اليهود في حال من الاستضعاف والإذلال.

بعض أهل العلم كالحافظ ابن القيم -رحمه الله-[1] يقولون بأن قوله: وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ يعني: النصارى؛ وذلك لما دخل قسطنطين في دينهم، فصاروا أقوياء، وكانوا فوق اليهود، لكن هؤلاء على عقيدة التثليث؟! فكيف يكونون ظاهرين؟ قالوا: لما كانوا في الظاهر ينتسبون إلى المسيح، ولهم شائبة في اتباعه، صاروا فوق اليهود، الذين يقولون: هو ابن زنا، فاليهود لا صلة لهم بالمسيح إطلاقًا، وهؤلاء عظموه حتى غلوا فيه، فلما كان لهم نوع اتباع للمسيح، وانتساب إليه صاروا فوق اليهود، فلما بُعث محمد ﷺ صار فوق الطائفتين، فهو على الحق، فهو من جملة من أظهر الله على يده الحق، بل هو أعظم من أظهر الله على يده الحق والهدى، فاليهود الذين كانوا في المدينة ثلاث طوائف من بني قينقاع فأجلوا، والنضير أجلوا، وقريظة قتل المقاتلة، وسُبي النساء والذرية والمال، هذا ما وقع لهم، وأما خيبر فأخذها النبي ﷺ، وأقرهم فيها، يعملون في الأرض، حتى أخرجهم عمر ؛ لأن النبي ﷺ قال: أقركم ما أقركم الله به[2]، وكان قد قال -عليه الصلاة والسلام- في مرض موته: لأخرجن اليهود، والنصارى من جزيرة العرب حتى لا أدع إلا مسلمًا[3])، فأجلاهم عمر ، فهذا ظهور، بعض أهل العلم يقولون: بأن العبرة بالحق والإيمان الصحيح، هذا الظهور لم يكن لأتباع المسيح من الحواريين والموحدين، وإنما وقع ذلك ببعث محمد -صلى الله عليه وآله وسلم-، وأنه لا عبرة بأهل الإشراك من أهل التثليث، ونحوهم، فكان الظهور ببعث رسول الله -عليه الصلاة والسلام-، هكذا قال به طوائف من أهل العلم، وكأن هذا أقرب القولين، والله أعلم.

قوله: ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُون يعني: القيامة، بعضهم يقول: هذا موجه إلى النبي ﷺ، وهذه الأمة، وبعضهم يقول: هذا خطاب للجميع، ومن ذلك ما وقع في شأن المسيح بين اليهود والنصارى، واختلاف طوائف النصارى في المسيح .

وفي قوله: إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى إذا قلنا: بأن هذا تفسير للمكر وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللّهُ إذ قال الله يا عيسى، فيكون هذا من جملة مكره حيث رفعه، وفي قوله -تبارك وتعالى-: وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَـكِن شُبِّهَ لَهُمْ [النساء:157] فسره أكثر أهل العلم بأن شبهه أُلقي على رجل، فصُلب ظنًّا منهم أنه المسيح ، وليس كذلك، بل رفعه الله إليه، فكان ذلك من مكر الله -تبارك وتعالى- أن خلصه، وألقى شبهه على غيره، فنجاه منهم، ولم يصلوا إليه بسوء، وهم يظنون ويعتقدون أنهم قد بلغوا منه ما يريدون، وبعضهم يقول غير ذلك.

وإذا قيل بأن (إذ) متعلقة بمحذوف (واذكر إذ) فهذا يدل على أهمية المذكور، حيث أُمر النبي ﷺ، أو أُمرت هذه الأمة بذكره، فهذا يدل على مكانته، فهو خبر من الله في شأن عيسى، يقصه على هذه الأمة، وهذا يدل على أهمية معرفة أخبار الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام-، لا سيما على التفسير الذي ذكرته آنفًا (واذكر إذ قال الله يا عيسى) فدراسة سير الأنبياء وأخبارهم وتراجمهم -عليهم الصلاة والسلام- فيه من الدروس والعظات والعِبر؛ ولذلك قصه الله على هذه الأمة وعلى نبيه ﷺ لما فيه من العِبر والعِظات، وكيف كانت العاقبة لهم، وكيف كان الذل والصغار على أعدائهم، وكذلك طرائق الدعوة إلى الله ومخاطبة الكفار بصنوفهم وأنواعهم.

وقوله: ورافعك إليّ إِنِّي مُتَوَفِّيكَ يدل على كمال قدرة الله ، حيث رفع المسيح ، وهو حي، ولم يكن ذلك سببًا للوفاة، باعتبار أنه في هذه المسافات الشاسعة الهائلة التي لا تصل إليها عقول وأفكار البشر، فلا يخطر على بالهم ما بين الأرض والسماء الدنيا، فضلاً عن ما فوقها من سماوات، فأهل الفلك لا يعرفون أن السماء سقف محفوظ، وإنما غاية ما هنالك يقولون هذه غازات، ولا يعتقدون سقفًا، وهم لا يرون منها إلا الشيء اليسير، ويحصل لهم من الانبهار حينما يرون بعض المجرات والنجوم والأشياء ما قد علمتم، وهذا قليل مما في هذا الكون الفسيح، لكن مُنتهى علمهم أنها سقف وَجَعَلْنَا السَّمَاء سَقْفًا مَّحْفُوظًا [الأنبياء:32] وأقسم الله، فقال: وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ [الطور:5] والنبي ﷺ حينما صعد به جبريل -عليه الصلاة والسلام- على البُراق كان في كل سماء يستفتح فيُفتح الباب، فهذا يدل على عِظم قدُرة الله كيف رفعه وهو حي؟! وأُسري بالنبي ﷺ وعُرج به في ليلة، فهنا لا تدخل المقاييس البشرية، فالأوكسجين ينقطع وينتهي، والجاذبية كذلك... إلى آخره، هذا كله لا مجال له مع قدرة الله الذي إذا أراد شيئًا أن يقول له: كن فيكون.

ثم أيضًا قوله: وَرَافِعُكَ إِلَيَّ يدل على أن الله متصف بالعلو، خلافًا لمن يزعم أن الله في كل مكان -تعالى الله عمَّا يقولون علوًا كبيرًا-، فالاعتقاد الصحيح الذي دل عليه القرآن والسنة: أن الله على عرشه، فوق العالم، وفوق سماواته، الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5] ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [الفرقان:59] في سبعة مواضع من كتاب الله ، وهو -تبارك وتعالى- مُحيط بخلقه علمًا، وبصره نافذ فيهم، لا يفوته منهم شيء.

ثم أيضًا قوله -تبارك وتعالى-: إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ يدل على أن عيسى  حي لم يمت، وقد رآه النبي ﷺ ليلة المعراج.

وكذلك في قوله -تبارك وتعالى-: وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ فلا يصلون إليه بمكروه، كما سبق، فخلصه الله وفي ضمن ذلك هذه البشارة وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ أن يكون أتباعه ظاهرين على عدوهم على الكفار، كما قال الله : فَآَمَنَت طَّائِفَةٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَت طَّائِفَةٌ وهم اليهود، فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِين [الصف:14]، فهذه الآية يُقال فيها كما قيل في آل عمران التي نتحدث عنها، فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا من هم؟ هل هم النصارى؟، صاروا ظاهرين على اليهود، ولو كانوا على التثليث؛ لأن لهم نوع اتباع للمسيح ، وتشبث به، وانتساب إليه، أو أن المقصود بذلك المسلمون من أمة محمد -صلى الله عليه وآله وسلم-؟ هذا كأنه الأقرب، -والله تعالى أعلم-، وللعلماء فيهما قولان مشهوران، وهما ما ذكرت.

كذلك أيضًا في قوله: وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وعد بالظهور إلى يوم القيامة، هذا لم يتحقق إلا لهذه الأمة، وعلى يد النبي ﷺ مع أتباعه، فكانوا قاهرين لليهود، وبعضهم يقول: فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِين [الصف:14] في هذا السياق دليل على أن أهل الإيمان أُديلوا على اليهود فَآَمَنَت طَّائِفَةٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَت طَّائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِين [الصف:14] وفي هذه الآية: وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ ظاهرها العموم، فوق جميع الكفار؛ ولهذا قال بعضهم: بأن هذه الأمة -أمة محمد ﷺ قد حصل لهم الظهور على سائر طوائف الكفر، وإن وجد في بعض الأوقات ضعف وتراجع إلا أن العِبرة ليست في هذا، فالرسم البياني في خطه المُتعرج لا يضره في بعض المواضع أن الخط ينزل، وإنما حينما تنظر إليه وهو في صعود في الجملة، فهذا هو المعتبر.

أدركنا الوقت، نتوقف عند هذا، وأسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، ويجعلنا وإياكم هداة مهتدين.

والله أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.

  1. هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى (ص:172) وإغاثة اللهفان من مصائد الشيطان (2/185).
  2. أخرجه البخاري تعليقاً في كتاب الجزية، باب إخراج اليهود من جزيرة العرب (4/99).
  3. أخرجه مسلم في كتاب الجهاد والسير باب إخراج اليهود، والنصارى من جزيرة العرب برقم (1767).

مواد ذات صلة