الخميس 26 / جمادى الأولى / 1446 - 28 / نوفمبر 2024
(069) تتمة قوله تعالى: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَىٰ إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ...} الآية 54
تاريخ النشر: ٢٤ / محرّم / ١٤٣٨
التحميل: 587
مرات الإستماع: 1066

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

ما زال الحديث متصلا فيما يستخرج من الهدايات من قوله -تبارك وتعالى- في هذه السورة الكريمة (سورة آل عمران) إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ [آل عمران:55]

وقد مضى الكلام على صدر هذه السورة، فقوله -تبارك وتعالى-: وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، هذه الفوقية هل المراد بها أنهم فوقهم بالحجة والبرهان، فهذا لا شك أنه متحقق وحاصل حتى لأتباع المسيح من الحواريين والموحدين الذين كانوا يستضعفون؛ فإنهم لا شك أهل غلبة من جهة الحجة والدليل والبرهان؛ لأن الحق قوي، وهو قاهر للباطل، وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا [الإسراء:81]، فمن نظر إلى أن المراد هم أتباع المسيح من الموحدين فبعضهم حملها على هذا المعنى، يعني: أنهم غالبون بالحجة، وهذا لا شك أنه لأتباع الرسل عمومًا، ولا يختص بهم، ومن نظر إلى أن الغالب في مثل هذا الاستعمال بأن المراد به الغلبة بالحجة والبيان، وأيضا السيف والسنان، كما قال الله -تبارك وتعالى- في الآية الأخرى: فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ [الصف:14]، فهذا التأييد لا شك أنه تأييد في مجال القوة والنصر والغلبة في الميدان ميدان المعركة، وأما الحجة فلا شك أنهم مؤيدون وقاهرون وغالبون، ولكن الذي يظهر أن هذه تشمل النوعين، الظهور بالحجة، والظهور بالغلبة في ميدان المعركة، فهذان قولان يمكن أن يجمعا بينهما، ويكون وجه الجمع من جهة الإشكال الذي ذكرته في الليلة الماضية معلوم الجواب، يعني من قال بأن ذلك بالنسبة للمنتسبين للمسيح ، فيكون هذا ظهور لما دخل قسطنطين في النصرانية، فكان ظهور أهل التثليث على اليهود، ظهور أهل الإشراك من النصارى على اليهود فقهروهم، ومثل هؤلاء كالحافظ ابن القيم يقولون: لما كان لهم نوع اتباع للمسيح وانتساب إليه، ولو كانوا على الباطل، أعني النصارى أهل التثليث الذين يقولون: إن الله ثالث ثلاثة، فهؤلاء يقول أقرب إلى المسيح من اليهود، فكان لهم هذا الظهور، وما يكون للنبي ﷺ وأتباعه أعظم وأبلغ، ومن قال: إن ذلك لأهل التوحيد خاصة، وأن الغلبة أيضا تكون في ميدان المعركة قالوا: هذا كان على يد النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-[1].

وعلى كل حال، بعض أهل العلم أخذ من هذا أن هذه بشارة لهذه الأمة بأنها ظاهرة وقاهرة للكفار عمومًا، وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة، من الأمة التي تبقى إلى يوم القيامة؟ هي أمة محمد ﷺ قالوا، وإن قوله: جَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا يشمل اليهود وسائر الكفار، وهذه الأمة لا شك أنها أمة غالبة قد بشر النبي ﷺ هذه الأمة بالسناء والمجد.

وكذلك أيضا: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ [التوبة:33] فلا بد من ظهوره وقد قال النبي ﷺ: ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين، بعز عزيز أو بذل ذليل، عزًّا يعز الله به الإسلام، وذلا يذل الله به الكفر[2].

فهذا وعد كما أخبر النبي ﷺ وبشر عن فتح القسطنطينية، وفتح روما، فالذي يظهر أن الفتح فتح القسطنطينية المبشر به أنه لم يأت بعد؛ لأن الأوصاف التي ذكرت في آخر الزمان لم تأت بعد، وكذلك روما التي هي العاصمة كما هو المعلوم للنصرانية، هي المدينة المقدسة عندهم التي لا يوجد فيها مسجد، والتي هي مقر عظيم للنصارى البابا، والنبي ﷺ أخبر عن فتحها، فهذا يدل على أن هذه الأحوال التي نعيشها من الضعف وتسلط الأعداء أنها مرحلة مؤقتة لتخلينا عن كثير من الحق، فنسأل الله أن يردنا إليه ردًا جميلا.

ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- بأن اليهود حين ضربت عليهم الذلة والمسكنة لم يكونوا بمجردهم ينتصرون لا على العرب، ولا على غيرهم، وإنما كانوا يقاتلون مع حلفائهم كما حالفت النضير الخزرج، وحالفت قريظة الأوس قبل الإسلام ذكر هذا في تلخيص الاستغاثة، أنهم لما ضربت عليهم الذلة وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا كما ذكرنا لكم أن السياق في اليهود؛ لأنه كما قال الله في الآية الأخرى: فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ [الصف:14] وهم يهود، فشيخ الإسلام -رحمه الله- يقول: منذ ذلك الحين لما ضربت عليهم الذلة والمسكنة ما كانوا يقاتلون وحدهم أبدًا، فهم أضعف وأعجز من ذلك كانوا يقاتلون مع حلفائهم ويستنصرون بهم[3].

ولذلك لم تشرع الجزية إلا في المواجهة مع اليهود فقط، ولم يحصل قتال مع ما عندهم من السلاح والمال والقلاع والحصون وأرض وعرة في وسط الحرة، ومع ذلك كانوا أهل ضعف حتى قال بعض المفسرين: هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ [الحشر:2]، قال بعض المفسرين: هنا في الكلام على الأولية، وفيها كلام كثير هل أولوية زمانية، أو أولوية مكانية، وكل احتمال يتفرع منه أقوال، ولكن من أهل العلم من قال: إن المراد بقوله: لِأَوَّلِ الْحَشْرِ يعني: لأول حشر الجيش لهم بمجرد ما حشر الجيش سقطوا مع ما عندهم من المنعة والحصون، لكن هذا القول لا يخلو من ضعف؛ لأن الروايات في السيرة المتنوعة أقل من ذلك لربما لا ينقص عن عشرة أيام الحصار، وفي بعضها أنه حصرها لأسبوعين، وفي بعضها لربما لعشرين، أو إحدى وعشرين ليلة، وقيل غير ذلك، لكن هذا قاله بعض المفسرين وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ومن عمم هنا بالذين كفروا قالوا: هذا يشمل اليهود والنصارى، وسائر طوائف الكفار، لكن هذا مقيد بالاتباع وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا والحكم المعلق على وصف يزيد بزيادته وينقص بنقصانه، فيكون لهم من النصر والقوة والتمكين والغلبة بقدر الاتباع وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فليس بين الله وبين أحد نسب، وإنما هو تحقيق العبودية لله -تبارك وتعالى- واتباع الرسل -عليهم الصلاة والسلام-.

وهنا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ وقد ذكر الشاطبي -رحمه الله- بأن ما أعطيه النبي ﷺ من الخصائص كقوله: نصرت بالرعب مسيرة شهر[4] أن ذلك لأتباعه، لكن يكون لهم من ذلك بقدر متابعتهم له.

وانظروا إلى الأعداء الآن كيف يخافون من المسلمين، وأعلنوا حالة الهلع والمسلمون في غاية الضعف، فكيف لو كانت الأمة قوية ممكنة؛ كان تبخر هؤلاء من شدة ما يجدون من الخوف، لكن يقول الله : ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ يحتمل أن يكون الخطاب لأمة محمد ﷺ، ويحتمل أن يكون لمن ذكر الله فيما قص وخاطب به في هذه الآية، خاطب المسيح ما وقع من افتراق حينما جاءهم بالحق، فانقسم بنو إسرائيل إلى فئتين: فئة كافرة، وهم اليهود، وفئة آمنت، وهم النصارى، ثم افترق أتباع المسيح أيضا إلى طوائف كثيرة وفرق كما هو معلوم، قال النبي ﷺ: افترقت اليهود على إحدى أو ثنتين وسبعين فرقة، وتفرقت النصارى على إحدى أو ثنتين وسبعين فرقة، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة[5].

فهؤلاء اليهود والنصارى، ما قال كلها في النار، ولكن السياق يقتضيه بعد بعث النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- وقبل بعثه فإن الذين يكونون على الحق منهم هم الناجون، ومن عداهم ففي النار، عندما تقرأ في كتب الملل والنحل وتسمع أسماء فرق النصارى كثيرة، وعندهم من البدع والخرافات التي لا يقبلها عقل ما الله به عليم، وعندهم من المواسم والمناسبات والأعياد الخرافية ما لا يصلح لذي عقل، وهم من أكثر الناس بدعًا وافتراقًا، والله -تبارك وتعالى- دل القرآن على أنه يحكم بين عباده فيما كانوا فيه يختلفون.

وإذا عرف العبد ذلك؛ فإنه لا يدخل في عراك وجدال عقيم بلا فائدة، فالله -تبارك وتعالى- يتولى عباده، ويحكم بينهم إنما يكون من المناظرة والجدال ما كان له ثمرة ما كان لنصر الحق، وإظهاره، حيث يصح ذلك كأن يكون المناظر ممن يقبل هذا، أو كان من أجل كسر مبطل، قد اغتر به من اغتر من الناس، أو إظهار حق قد خفي، أو نحو ذلك، وما عداه فالنبي ﷺ يقول: أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقًّا[6].

وفي قوله: ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ هذه (ثم) هي للتراخي الرتبي؛ لأن الجزاء الذي يحصل عند مرجع الناس إلى الله -تبارك وتعالى- يوم القيامة مع ما يحصل من الفصل بين الناس فيما اختلفوا فيه أعظم درجة ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ، يعني: قالوا هذا أعظم من جعل أتباع المسيح فوق الذين كفروا، يعني: يقول: أجعلهم فوقهم، وكذلك يعني: فوق هذا ترجعون إلي، وأحكم بينكم، بعض أهل العلم يقولون: إنها للتراخي الزماني، يعني: هذا في نهاية المطاف يكون مرجع الجميع إلى الله، وبعضهم يقول: إذا كان المخاطب بذلك ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ يعني: النبي ﷺ وأتباعه قالوا هذه للانتقال، ثم للانتقال انتقل من الكلام على المسيح إلى النبي ﷺ فانتقل من غرض إلى غرض، وكأنها للتراخي الزماني، -والله تعالى أعلم-.

وكذلك ثُمَّ إِلَيَّ ما قال: ثم مرجعكم إليّ، فقدم الجار والمجرور، وهذا يفيد الحصر والقصر، يعني أنهم يرجعون إليه وحده، فالله -تبارك وتعالى- هو الموعد، وإليه يرجع الجميع، وهذا أيضًا فيه وعيد وتهديد وبشارة، بشارة لأهل الإيمان، حيث يحصل لهم من الكرامة وظهور الحق، ويتعرف المبطل على ما كان عليه من الباطل، وتلك الدعاوى التي كان يدعيها والآلهة التي كان يعبدها من دون الله كل ذلك يبطل ويزول.

وفيه أيضًا معنى الوعيد للمفترين والمنحرفين والكافرين والمشركين والمنافقين، فالله يحكم بين عباده لا زال الناس يختلفون، فهم على مذاهب وفرق وأديان وآراء، وقد لا يتحول كثير منهم مما هو عليه من الباطل إلى الحق، وقد تجد الكثيرين ليس عندهم استعداد للسماع أصلا، أو قبول الحق فمثل هؤلاء يتبين لهم ما هم عليه من الباطل في ذلك المقام إذا صاروا إلى الله -تبارك وتعالى-.

كذلك أيضًا ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ إذا قيل هذا الخطاب موجه لعيسى ومن معه من أتباعه، ومن كفر به من هؤلاء اليهود، فيكون فيه تغليب المخاطب على الغائب، ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ ما قال: ثم إلي مرجعهم فأحكم بينهم فيما كانوا فيه يختلفون، لكنه التفت إلى الخطاب؛ لأنه أبلغ في البشارة وأزجر في النذارة، كما قلنا إن يتضمن التبشير والتهديد والوعيد والإنذار،، فهنا الله -تبارك وتعالى- يقول: إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ هؤلاء الذين اتبعوه وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ هذا حديث عن غائب فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ ما قال مرجعهم فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ.

هذا، وأسأل الله أن ينفعنا وإياكم بالقرآن العظيم.

  1. إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان (2/185).
  2. أخرجه أحمد، رقم: (16957).
  3. مجموع الفتاوى (1/301).
  4. أخرجه البخاري، كتاب التيمم، رقم: (335).
  5. أخرجه أبو داود، كتاب السنة، باب شرح السنة، رقم: (4596)، وابن ماجه، أبواب الفتن، باب افتراق الأمم، رقم: (3992).
  6. أخرجه أبو داود، كتاب الأدب، باب في حسن الخلق، رقم: (4800).

مواد ذات صلة