الخميس 26 / جمادى الأولى / 1446 - 28 / نوفمبر 2024
(073) قوله تعالى: {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} الآية – وقوله: {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ..} الآيات 60-61
تاريخ النشر: ٠١ / صفر / ١٤٣٨
التحميل: 545
مرات الإستماع: 1141

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

لما ذكر الله -تبارك وتعالى- خبر عيسى ، وبيّن فيه الحق، وذكر مَثَلَه، حيث وجد من غير أب مثل آدم ، حيث وجد من غير أب ولا أم؛ وذلك أعجب من وجود عيسى من غير أب، قال الله بعد ذلك: الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُن مِّن الْمُمْتَرِين [آل عمران:60] والمراد بالحق هنا: الذي قصّه الله -تبارك وتعالى- وبيّنه وفصّله فيما مضى من الآيات، بشأن عيسى ، فاثبت على هذا الحق، ولا تلتفت إلى ما سواه، ولا يُداخلنك شك في حقيقة عيسى ، فَلاَ تَكُن مِّن الْمُمْتَرِين أي: من الشاكين، بل اثبت على الحق.

فيُؤخذ من قوله: الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ إضافة الحق إلى الله -تبارك وتعالى-، وهذا غاية ما يمكن أن يكون دليلاً على صحته، فلا يتطرق إليه شك بوجه من الوجوه؛ لأنه من الله الذي أحاط بكل شيء علمًا، وإضافة الرب إلى النبي ﷺ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ وهذه لا شك أنها ربوبية خاصة، فهذا فيها تشريف لمقام النبي ﷺ، ومن معاني الرب -كما ذكرنا- في عدد من المناسبات أنه المُربي خلقه بالنِعم الظاهرة والباطنة، ومن ذلك ما يُربيهم به من الوحي والهدايات والألطاف الربانية، ففي قوله: الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ يُبين الله -تبارك وتعالى- لنبيه ﷺ ولأتباعه هذه الحقائق، التي ضل بها خلق كثير، وتنازع فيها طوائف، ووقعت بينهم العداوات، فهذا من فضل الله على عباده أن بيّن لهم البيان الشافي، وإلا لكانوا كغيرهم ممن ضلوا في حقيقة المسيح ، وفي غيره من الحقائق، والله -تبارك وتعالى- يقول: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا ۝ قَيِّمًا [الكهف:1-2] فإنزال هذا الكتاب وهذا الوحي نعمة عظيمة، يُبين الله فيه لعباده ما يحتاجون إليه، ويُجلي الحقائق الكبرى، لكيلا يبقى الحق مُلتبسًا على الخلق، وقبل إنزال هذا الكتاب كان الناس في عماية، يتخبطون ويتقربون إلى الله بالضلالات والبِدع والشرك، فجاء الله بهذا الهدى، فهدى به من شاء من عباده.

وكذلك أيضًا في قوله: فَلاَ تَكُن مِّن الْمُمْتَرِين يعني: من الشاكين، وحاشا أن يكون النبي ﷺ من الشاكين، لكن هذا فيه إلهاب، من أجل الامتثال والحرص والتمسك بما جاء عن الله من جهة، ومن جهة أخرى، فإن ذلك أيضًا متوجه إلى أتباعه، وكما ذكرنا في عدد من المناسبات أن الأمة تُخاطب في شخصية قائدها وقدوتها ومقدمها -عليه الصلاة السلام-، فلا يجوز لأحد أن يقع عنده شيء من الشك في هذه الأمور التي بيّنها الله غاية البيان؛ ولهذا قال الله : فَلاَ تَكُن مِّن الْمُمْتَرِين بعد البيان السابق، فإذا قامت الحجة، واتضحت المحجة، واستبان السبيل، فليس لأحد عُذر بعد ذلك إذا وقع في شيء من الانحراف أو الشك، فإن ذلك يرجع إلى فساد القصد، وغلبة الهوى، والتعرض للضلالة، وسماع الشبهات، وتعريض القلب للزيغ بما يصرفه عن الحق من التشبث بالباطل، والدفاع عنه، وعن أهله مما يوقع الإنسان في الانحراف، فيبقى الحق عليه مُلتبسًا مع أنه لا خفاء فيه، فمزاولات الإنسان هي التي قد توقعه في شيء من الامتراء والانحراف، والله -تبارك وتعالى- لما ذكر ظلم اليهود، وذكر ما هم عليه من الفساد والشر، ذكر بعد ذلك ما أوجبته هذه الأوصاف من الضلال والانحراف والزيغ والبُعد عن الحق.

وقوله -تبارك وتعالى-: فَلاَ تَكُن مِّن الْمُمْتَرِين هذا نهي والنهي للتحريم، وقد يقع الشك في قلب الإنسان من غير قصد، ومن غير أن يطلبه، وقد ذكرنا في بعض المناسبات القاعدة: أن خطاب الشارع إذا توجه إلى المُكلف في أمر لا يدخل تحت قدرته فإن الخطاب يتوجه إلى سببه، أو إلى أثره، فهنا يتوجه إلى السبب، وهو ما يوقع الإنسان في الريب والشك، فيكون منهيًا عن كل سبب يوصله إلى ذلك؛ ولهذا كان السلف يحذرون غاية الحذر من سماع الشُبه، والجلوس مع أهلها، ومن مقاربتها، مع رسوخ علمهم، وعظيم إيمانهم، ومع ذلك كانوا يخافون، ولا يسمحون لأحد أن يُلقي شُبهة، أو يتكلم ولو بآية؛ لئلا يقع ذلك في القلب، فلا يستطيع إخراجه منه، فكيف بمن هو دونهم بمراحل؟! حيث يُقدم على مثل هذه الأمور، ويجترئ عليها، ويزعم أنه واثق بنفسه، فهذا لا شك أنه من التغرير بالنفس، وفي قوله: فَلاَ تَكُن مِّن الْمُمْتَرِين أيضًا تعريض لهؤلاء الممترين الذين وقعوا في لبس وعماية من النصارى وغيرهم ممن ضل في شأن المسيح .

ثم قال الله -تبارك وتعالى-: فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ [آل عمران:61] أي: من جادلك في شأن المسيح بعد هذا البيان، ومن بعد ما جاءك من العلم في شأنه، فقل لهم: تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ يعني: ندعو باللعن والعقوبة على الكاذب المُبطل من الفريقين، وأصل الابتهال يكون برفع الصوت بالدعاء، وقيل: للمُباهلة؛ لأن ذلك يكون بضراعة وصوت يسمعه الفريقان، فيُدعى بدعاء أن يُهلك الله، ويلعن المُبطل من الطائفتين، وهذا يكون بعد البيان التام الكامل، فلا مجال للمُجادلة؛ ولهذا يُقال: إذا اتضح الحق، واستبان، لم يعد لمُبطل مقال، فهنا لم يقل: فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فقل: تعالوا أُقنعكم، وأعرض لكم مزيدًا من الدلائل والبراهين؛ لعلكم تقتنعون، لا، وإنما قال: فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةُ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِين إذا اتضح الحق بدلائله هنا فلم يبق إلا الجدل بالباطل والعناد والمُكابرة، فتكون عندها المُباهلة، فالنبي -صلى الله عليه وسلم- دعا نصارى نجران إلى المُباهلة، وكما ذكرنا أن أهل العلم يقولون: إن هذه الآيات نازلة في نصارى نجران، حين قدموا على النبي ﷺ، لكنهم لم يجترئوا على مُباهلته، فصالحوه -عليه الصلاة والسلام-، ورجعوا إلى بلادهم؛ لأنهم قد عرفوا أنه على الحق، كما قال النبي ﷺ أيضًا: ولو خرج الذين يباهلون رسول الله ﷺ لرجعوا لا يجدون مالاً ولا أهلاً[1]، يعني: لو باهلوا، فلا شك أن دعاءه ﷺ مُستجاب، وهو على الحق، ومؤيد من ربه -تبارك وتعالى-، والمُباهلة إنما تكون في الحق الواضح البين الذي يكون فيه الإنسان على يقين، وعلى الأمور التي تستحق ذلك، وقد ذكر الحافظ ابن حجر -رحمه الله- أنه بالاستقراء من بالمُباهلة التي وقعت عبر التاريخ أنه لا يُمهل المُبطل إلى الحول[2] يعني: لا يمضي عليه سنة إلا وقد قصمه الله، ويوجد شواهد من هذا في التاريخ في مُباهلات وقعت، فلم يُمهل المُبطل إلى أكثر من العام.

وقوله: فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ يعني: بعد هذا البيان السابق، فيدل على أنه بعد اتضاح العلم لا مجال للمُجادلة، فما كل أحد يُجادل، والله أخبر عن أهل الكتاب أنهم ما اختلفوا حتى جاءهم العلم، وبيّن سبب الاختلاف، وهو البغي بَغْيًا بَيْنَهُمْ [آل عمران:19] فلم يكن ذلك بسبب خفاء الحق، وإنما بسبب الأهواء والبغي والحسد والشر والعداوات.

ويُؤخذ أيضًا من قوله: فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ والأبناء هم الذكور من الأولاد، وهم أحب إليهم، وأقرب إلى قلوبهم، فأقرب ما يليه أبناؤه ونساؤه، وقد يدخل في نسائه: الزوجات والبنات، وجاء في راوية: أن النبي ﷺ دعا عليًّا وفاطمة، وهي ابنته، والحسن والحسين للمُباهلة، لكن الرواية لا تخلو من ضعف، فكما قال شيخ الإسلام -رحمه الله- بأن المُباهلة إنما تحصل بالأقربين إليه[3]، وإلا فلو باهل بالأبعدين كأن يقول: آتي بأصحابي أو أصدقائي أو بعض أتباعي، أو نحو ذلك، وإن كانوا أفضل عند الله من الأدنين من قرابته، فإن ذلك قد لا يحصل به المقصود؛ لأن تعلق القلب والشفقة تكون أعظم على قرابته الأدنين من غيرهم؛ لئلا يقع لهم المكروه، ومعلوم أن الإنسان يُقدم نفسه على أهله، وتحنو النفوس على هؤلاء الأدنين من القرابات، ما لا تحنو على غيرها؛ ولهذا قال: نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةُ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِين فهذا فيه جواز الدعاء باللعن على من خالف الحق، لكن على سبيل العموم، وليس على المُعين، على الكاذب منا، وعلى المُبطل، لكن لا يوجه اللعن إليه بعينه، وفيه أيضًا ما فيه من التنزل مع الخصم، فالنبي ﷺ على يقين أنه على الحق، ومع ذلك طلب المُباهلة فَنَجْعَل لَّعْنَةُ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِين ومن سيكون الكاذب غير هؤلاء من عبدة المسيح .

كذلك أيضًا في قوله: نَدْعُ، ثُمَّ نَبْتَهِلْ إذا قيل بأن (ثم) تفيد المهلة الزمنية، فقد أخذ منه بعض أهل العلم أن دعاءهم للمُباهلة حين يدعون أبناءهم ونسائهم، ويحضرون بأنفسهم أن ذلك يحتاج إلى شيء من التريث قبل الدعاء باللعن، ثُمَّ نَبْتَهِلْ علّه يتراجع، كما تراجع نصارى نجران؛ ولهذا حتى في اللعان في رمي الرجل امرأته بالزنا يشهد أربع شهادات، وهي تشهد أربع شهادات، وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِن كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ [سورة النور:7] وهي في الخامسة وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِن كَانَ مِنَ الصَّادِقِين [النور:9] فيُقال له بعد الرابعة: إنها موجبة، يعني: انتبه أن تدعو باللعن لعله يتراجع، ويتوقف، فلا يوقع ذلك على نفسه، فهذا في اللعان، وفي المُباهلة فُهم ذلك من (ثم) إذا قيل بأنها للتراخي في الزمن.

وقد يقال هنا: ما ذنب النساء والأبناء إذا كان الأب هو المُبطل؟ هذا يجعله لا يُقدم على هذا إلا في حال يتحقق فيها أنه على صواب، وإلا لو قيل: نبتهل فيكون فقط مع من اختلف معه على انفراد، فقد يجترئ على هذا كثيرون، ويتساهلون فيه، لكن إذا أحضر نساءه وأولاده، فإنه يُشفق عليهم، فكان المقصود بذلك هو التوثق والتأني والتروي، فلا يُقدم إلا في حال من اليقين أنه على حق، ومن ثَم فإن المُبطل لا يجترئ على هذا، فإذا اجترئ عليه فيكون هو الذي قد جنى عليهم، وكذلك فالأطفال هم تبع لآبائهم شرعًا، والله حكم عدل. والمُباهلة لا تكون إلا في قضايا الحق البين الواضح، وليست القضايا التي فيها أخذ وجذب، واجتهادات ومُرجحات هنا وهناك، إنما تكون في الشيء الحق الذي ليس بعده إلا الضلال.

وفي قوله: نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ أخّر النساء، وقد يُقال في ذلك: لأن الأبناء أعلق بالقلب من النساء، فهم بضعة منه، وامتداد له، والله تعالى أعلم.

هذا وأسأل الله أن ينفعنا وإياكم بالقرآن العظيم، ويجعلنا وإياكم هداة مهتدين.

وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.

  1. أخرجه النسائي في السنن الكبرى في سورة آل عمران، قوله تعالى: {ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين} [آل عمران:61] برقم (10995) مرفوعاً. وهو في مسند أحمد برقم (2225) موقوفاً على ابن عباس.
  2. فتح الباري لابن حجر (8/95).
  3. منهاج السنة النبوية (7/125).

مواد ذات صلة