الأربعاء 25 / جمادى الأولى / 1446 - 27 / نوفمبر 2024
[2] من قوله تعالى: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} الآية:2 إلى قوله تعالى: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا} الآية:5‏
تاريخ النشر: ٢١ / محرّم / ١٤٢٧
مرات الإستماع: 18260

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال المفسر -رحمه الله تعالى- في تفسير قوله تعالى: فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا ۝ وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا [سورة الطلاق:2، 3].

يقول تعالى: فإذا بلغت المعتدات أجلهن أي شارفن على انقضاء العدة وقاربن ذلك، ولكن لم تفرغ العدة بالكلية فحينئذ إما أن يعزم الزوج على إمساكها وهو رجعتها إلى عصمة نكاحه والاستمرار بها على ما كانت عليه عنده، بِمَعْرُوفٍ أي: محسناً إليها في صحبتها، وإما أن يعزم على مفارقتها بمعروف، أي من غير مقابحة ولا مشاتمة ولا تعنيف، بل يطلقها على وجه جميل وسبيل حسن.

وقوله تعالى: وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ أي: على الرجعة إذا عزمت عليها، كما رواه أبو داود وابن ماجه عن عمران بن حصين -رضي الله تعالى عنهما- أنه سئل عن الرجل يطلق المرأة ثم يقع بها ولم يُشهد على طلاقها ولا على رجعتها، فقال: "طلقتَ لغير سنة وراجعتَ لغير سنة، أشهد على طلاقها وعلى رجعتها ولا تعُد"[1].

وقال ابن جريج: وكان عطاء يقول: وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ قال: لا يجوز في نكاح ولا طلاق ولا رجاع إلا شاهدا عدل، كما قال الله ، إلا أن يكون من عذر.

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فالله يقول في حق المطلقات: إنها إن قاربت الأجل فإما أن تُمسَك بمعروف بمعنى أنه يعاشرها معاشرة طيبة، بحيث لا يسيء إليها، وهذا يدل على أنه لا يجوز له أن يمسكها ضراراً كما قال الله تعالى: وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لَّتَعْتَدُواْ [سورة البقرة:231]، يعني من أجل أن يطول عليها العدة مثلاً، كلما قاربت عدتها الانتهاء راجعها، مضارة بها من أجل أن لا تتزوج، أو من أجل أن تفتدي منه بشيء مما دفعه إليها فهذا لا يجوز.

والرجل لا يجوز له أن يطالب المرأة بعوض، يعني أن تطلب الخلع منه إن كان لا رغبة له فيها، فهو إما أن يمسك بمعروف، وإما أن يفارق بمعروف، ومن المفارقة بالمعروف أن يعطيها المتعة، كما قال الله : وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ [سورة البقرة:241]، وأن يحفظ كرامتها، فلا يجرح مشاعرها؛ لأنه يكفي في كسر قلبها الطلاق -ولهذا جعلت المتعة جبراً لخاطرها- فهي لا تحتاج معه إلى شيء من المشاتمة، شتمها وشتم أهلها وانتقاصها وما أشبه ذلك مما يقع كثيراً للناس. 

ثم قال الله : وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ يعني: من المسلمين، ويؤخذ من هذا أن شهادة النساء في هذا لا تصلح، وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ نشهد على ماذا؟ من أهل العلم من يقول: على الطلاق والرجعة، ومنهم من يقول: على الرجعة خاصة؛ لأن الله لما ذكر الطلاق أولاً ثم ذكر هذا آخراً وهو الرجعة فقال: فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وهناك في الطلاق قال: إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ [سورة الطلاق:1] إلى آخرها، ما قال: وأشهدوا على الطلاق، وهنا قال: فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ فهو متعلق بما قبله من ذكر الرجعة.

وعلى كل حال المفارقة بالمعروف المذكورة هنا ليس المقصود بها تطليقاً جديداً، وإنما هو الطلاق الأول، تنتهي العدة فتبين منه المرأة فيكون الإشهاد ليس على الطلاق وإنما على الرجعة، مع أن الآية تحتمل الأمرين، لكنها أظهر في هذا المعنى -والله تعالى أعلم.

ولا شك أن الإشهاد على الرجعة آكد لهذه الآية، ومن جهة المعنى أيضاً، وذلك أن الرجعة يترتب عليها ما يترتب مما هو معلوم؛ فقد تأتي هذه المرأة تطالب بالميراث لو أنه مات، وتقول: إنه راجعني، هم يعرفون أنه طلقها، فتقول: إنه راجعني، وليس عندها ما يثبت ذلك، وقد يكون هذا الميراث كبيراً فكيف لها أن تثبت هذا؟ وقد يموت الرجل وتأتي بحمل والمعروف أنه طلقها من مدة، ثم إذا مات تبين أنها حامل وتدعي أن هذا الحمل من زوجها، وأنه قد راجعها، فيحتاج إلى إشهاد في الرجعة، ولهذا قال بعض أهل العلم كالإمام الشافعي وهو إحدى الروايتين عن أحمد: إن الإشهاد على الرجعة واجب، والإشهاد على الطلاق ليس كذلك بل هو مندوب.

وكثير من أهل العلم قالوا: إنه مندوب في الطلاق وفي الرجعة لكنه في الرجعة آكد، وهو قول مالك وأبي حنيفة وأحد القولين لأحمد -رحمه الله، أقول: إذا عرف الناس أنه طلقها، كأن يكون ذلك معلوماً لديهم إما بالإشهاد أشهدهم على طلاقها، أو أثبت ذلك بطريقة رسمية في المحكمة، أو أنهم علموا بأن سمعوا منه هذا التطليق أو أخبرهم، فعندئذ إذا راجعها لا يراجعها بصمت -يعني سراً- وإنما يشهد على ذلك حفظاً لحقه وحقها، وعرضه وعرضها، والله تعالى أعلم.

الطلاق يمكن أن يكون بالكتابة، ويمكن أن يكون بالقول مشافهة، ويمكن بما يدل عليه مما هو معلوم من ألفاظه الصريحة أو كناياته إذا قصد بها الطلاق، وأما الرجعة فيمكن أن يوجه ذلك إليها مباشرة كتابة أومشافهة، يقول لها: قد راجعتك مثلاً، أو أنه يقول ذلك بغير حضرتها، كأن يقول: راجعت امرأتي، أو يقول عند الناس مثل هذا الكلام، ولا يشترط أن يعلمها به ليكون ذلك رجعة، يعني ليس من شرط الرجعة إخبار المرأة بهذا، قد يراجعها ويسكت حتى تنتهي العدة في ظنها مثلاً من أجل أمر يريده، كأن يريد أن يخوفها أو يؤدبها، أو غير ذلك من الأمور، فهل يقال: إن هذه ليست برجعة -إن كان قد راجع- لأنه ما أعلمها؟

فالرجعة تكون بالقول، وتكون بالفعل إما مطلقاً عند بعض أهل العلم كأبي حنيفة حيث يقول: لو أنه لمسها بشهوة أو جامعها أو قبَّلها فإن ذلك يكون رجعة قصد أو لم يقصد، وهذا فيه إشكال -والله تعالى أعلم.

وأحسن منه قول من قال: إنه إن قصد بذلك الرجعة فهي رجعة، قبَّل أو باشر أو وطأ يقصد بها الرجعة فهي رجعة، فتكون بالفعل بهذا الاعتبار، والله أعلم.

وقوله تعالى: ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أي: هذا الذي أمرناكم به من الإشهاد وإقامة الشهادة إنما يأتمر به من يؤمن بالله وباليوم الآخر، وأنه شرع هذا ومن يخاف عقاب الله في الدار الآخرة.

وقوله تعالى: وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا ۝ وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ أي: ومن يتق الله فيما أمره به، وترْكه ما نهاه عنه، يجعل له من أمره مخرجاً، وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ أي: من جهة لا تخطر بباله.

وروى ابن أبي حاتم أن عبد الله بن مسعود -رضي الله تعالى عنه- يقول: إن أجمع آية في القرآن إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ [سورة النحل:90]، وإن أكبر آية في القرآن فرجاً وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا.

وقال عكرمة: من طلق كما أمره الله يجعل له مخرجاً، وكذا روي عن ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما- والضحاك.

وقال ابن مسعود -رضي الله تعالى عنه- ومسروق: وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا يعلم أن الله إن شاء أعطى وإن شاء منع، مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ أي: من حيث لا يدري.

وقال قتادة: وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا أي: من شبهات الأمور والكرب عند الموت، وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ من حيث لا يرجو ولا يأمل.

في قول ابن مسعود أجمع آية إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ يأمر بالعدل في كل شيء، العدل في القول والعدل في الحكم، ويدخل في هذا الكلام الناس، ويدخل فيه أيضاً العدل في الحكم بينهم، وفي القسمة بين الرعية والأولاد وما إلى ذلك من الأمور الكثيرة التي لا تحصى.

والإحسان عام يدخل فيه كل خير ومعروف متعدٍّ، ولربما دخل فيه أشياء من الأمور القاصرة مما يعد من الإحسان، فيدخل فيه جميع أنواع البر والمعروف، فالله -تبارك وتعالى- يأمر به، وفي مقابله ينهى عن الفحشاء والمنكر، كل ذنب كبير وكل ذنب صغير.

وهنا قال: وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا ولم يحدد هذا المخرج من أي شيء، فتحمل الآية على العموم، ومن أخص ما يتعلق بها ويدخل تحتها ما يتصل بموضوع الطلاق، وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا هذا المخرج الذي وعد الله به مرتب على شرط وهو التقوى، وكما هو معلوم أن الحكم -وهو المخرج هنا- المرتب على وصف -وهو التقوى هنا- يزيد بزيادته وينقص بنقصانه، فعلى قدر تقوى الإنسان لربه على قدر ما يجعل الله له من الفرج والمخرج.

إَن تَتَّقُواْ اللّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً [سورة الأنفال:29] يعني: تفرقون به بين الحق والباطل، ومعدن الحق ومعدن الشبهات، فما يتعلق بالطلاق هنا في المخرج، من يتق الله في تطليقه يجعل له مخرجاً، بمعنى أن الإنسان إن طلق على الوجه الشرعي طلقة واحدة لم يزد عليها في العدة، فالله تعالى يجعل له مخرجاً فيمكنه الرجعة، لكن حينما يأتي الرجل ويقول: طلقت امرأتي مائة طلقة، كما جاء رجل لابن مسعود وقال كلاماً نحو هذا، وهو على المنبر، فقال: هو كما قلت، لا والله لا تلبسون على أنفسكم، وتأتون إلينا لنخرجكم منه، أو كما قال.

ولذلك عمر -رضي الله تعالى عنه- أوقع الثلاث على من طلق، عدها ثلاثاً؛ لأن الناس توسعوا في هذا، ما اتقوا الله -تبارك وتعالى- في تطليقهم، ثم بعد ذلك يندم الإنسان غاية الندم، ويبدأ يبحث عمن يفتيه برجعتها، إذا طلقها ثلاثاً، يذهب من محل إلى محل وقد تكون نثرتْ له بطنها، وامتلأ بيته بالصبية منها، ولا يدري كيف يصنع ولا يتصرف، ولربما فعل أشياء تدل على حال يرثى لها؛ لأن الأمر قد بلغ به مبلغاً عظيماً، إما لأنه لا يستطيع فراقها لمحبته لها، أو لأنه لا يستغني عنها لقيامها بهؤلاء الأولاد، ويدخل في قوله: وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا سائر الأمور، من يتق الله في المكاسب يجعل له مخرجاً، من عرف الله في الرخاء عرفه في الشدة، وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ فالعبد إذا حقق معنى هذه الآية حصل له هذا وهذا، الانفراج في الأمور وينجيه الله من الكربات، ومن الضيق والشدائد، ويوسع له في ألوان الرزق من جهات لا يظن أنه يرزق منها.

وقوله: أيها الناس اتقوا الله وأجملوا في الطلب، فإن نفسا لن تموت حتى تستوفي رزقها وإن أبطأ عنها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب[2]، اتقوه لا تأخذوا هذا المال إلا من حله، ودعوا الشبهات وأجملوا في الطلب لا تتهافتوا على الدنيا، خذوا منها أخذاً لا يستعبدكم، ولا تكون غاية الإنسان الدنيا التي من أجلها يقوم ويقعد، ويضيّع بسبب ذلك كثيراً من الحقوق والواجبات والمروءات، ويقع الإنسان في كثير من الدنايا والدناءة بسبب تهافته، وتنقيره في طلبها وتحصيلها وجمعها، فليس الجري وراء الأسهم هنا وهنا -بطريقة أحياناً مزرية تخل بالمروءة، يعرق منها الجبين- سبباً لتحصيل الثروات، أجملوا في الطلب، وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا ۝ وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ، وإن تنافس المتنافسون على أمور مشتبهة، وحصّلوا في بادئ الرأي أو في ظاهر الأمر حصلوا شيئاً من الربح إلا أن ذلك لا يعني الثروة والغنى إطلاقاً.

وقوله تعالى: وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ روى الإمام أحمد عن عبد الله بن عباس -رضي الله تعالى عنهما: أنه حدثه أنه ركب خلف رسول الله ﷺ يوماً، فقال له رسول الله ﷺ: يا غلام إني معلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، وإذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف وقد رواه الترمذي وقال: حسن صحيح[3].

الله جعل جزاء التوكل الكفاية التي يطلبها المتوكل، ومن أجلها يتوكل، هو لماذا يفوض أمره إلى الله؟، من أجل أن يكفيه كل ما أهمه من المخاوف وما إلى ذلك مما يحاذره، فالله جعل الجزاء هو الكفاية مباشرة، ولم يقل: ومن يتوكل على الله يجزيه أجراً يدخله الجنة، أو يكون محبوباً لله أو نحو ذلك، لا، بل قال: وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ أي: كافيه.

وقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ أي: منفذ قضاياه وأحكامه في خلقه بما يريده ويشاؤه.

إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ من القراءات الواردة في هذا وهي قراءة متواترة {إن الله بالغٌ أمرَه} فما قدره الله كائن لا محالة، فعلى الإنسان أن يتقيه في الطلاق، وأن يفوض أمره إليه، يفعل ما أمره به، وما قضاه الله لا بد أن يكون، فإذا كان ما قضاه الله وقدره لابد من وقوعه وكونه فمعنى ذلك أن الإنسان لا سبيل له إلا أن يفوض أمره إليه، وأن يتقيه، فإن تقواه سبب للانفراج والسعة، وليس احتياله على الأحكام، ووقوعه في الحرام والشبهات ليس ذلك طريقاً للخروج عن المضائق وعن الأمور التي يكرهها ويحذرها، فما قدره الله كائن، فليس عليك إلا أن تتقي الله -تبارك وتعالى- تفوض أمرك إليه، وتفعل ما أمرك به.

وقد يكون في ظاهر الأمر هذا الشيء المأمور به مُراً، يرى الإنسان أو يظن أنه يُضيَّق عليه كثيراً، ولكنه في الواقع سبب للتفريج والسعة والرزق العظيم، وما قضاه الله كائن لا محالة، في باب الطلاق وفي غير باب الطلاق، إن كان الله قدر التلاقي والرجعة فسترجع، وإن كان الله لم يقدر الرجعة فمهما احتال فلن ترجع، وإن كان الله قدر له الرزق فسيأتيه بأدنى سبب، وإن كان لم يقدر له الرزق فمهما تهافت على الدنيا لن يأتيه.

والإنسان إذا كان في بطن أمه يُبعث إليه الملَك ويؤمر بأربع كلمات ومنها رزقه[4]، وليس عمله في الأربع والعشرين ساعة هو سبب الرزق، ولا ذكاء الإنسان ولا مهاراته وخبراته والدورات التي درسها وما أشبه ذلك، ولذلك تجد الكثيرين لربما ليس عندهم كثير ذكاء ولا مهارات ولا دراسة ولا دورات ولا شيء، والرزق يأتيهم من كل ناحية، وتجد آخرين لا يفتئون من التفكير كيف يحصِّلون قليلها وكثيرها، ولا يأتيهم -كما يقال- إلا من ثقب إبرة النزرُ اليسير بالكد الكثير، فهذه أمور الله قدرها، ويرضى الإنسان بما قدر الله له وقسمه، ولا يدري الخير في أي ذلك.

قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا، كقوله تعالى: وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ  [سورة الرعد:8].

وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِن نِّسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُوْلَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا ۝ ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا [سورة الطلاق:4، 5].

هذه الآية: وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِن نِّسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ من أهل العلم كأبي عبد الله القرطبي -رحمه الله- يقول: إنه متصل بأولها، بأول السورة، يعني يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ فإن ارتبتم في العدة فلتمكث ثلاثة أشهر، وهذا القول فيه بعد.

ومن أهل العلم من يقول: وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِن نِّسَائِكُمْ فطلقتموهن، ووقع لكم ريب لنزول الدم عليها بعد اليأس هي آيسة، لا ينزل عليها الدم كبيرة أو صغيرة لا تحيض، فنزل دم في غير سن الحيض مثلاً فهذه المرأة الآيسة مثلاً إن نزل عليها دم ولم تدروا هل هو دم حيض أو ليس بحيض، فإنها تبقى ثلاثة أشهر، أو كانت ممن يحضن فلما طلقها توقف عنها الحيض، فلا يُدرى هل حصل لها يأس أو أن ذلك عارض، فماذا نصنع؟ قال: إِنِ ارْتَبْتُمْ لا تدرون هل هذا الانقطاع لأنها بلغت سن اليأس أو لعلة أخرى؟

فإنها تبقى ثلاثة أشهر، إِنِ ارْتَبْتُمْ ارتبتم في انقطاع الدم، أو بسبب نزول دم لا تدرون ما هو بعد أن كانت آيسة، وأحسن من هذا كله -وهو اختيار ابن جرير وابن كثير وعليه كثير من المحققين: أن المعنى أن الله لما بيّن لهم أحكام النساء في الطلاق، ذات الأقراء والحامل، ذات الأقراء أنها تتربص ثلاثة قروء، والحامل: وَأُوْلَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ، بقي الصغيرة التي لم تحض، والكبيرة الآيسة، فإنها ليست بحامل وليست ذات أقراء حتى يقال: اجلسي ثلاثة قروء، فلما أشكل عليهم هذا بين لهم حكمها وأنها تتربص ثلاثة أشهر.

فقوله: إِنِ ارْتَبْتُمْ بهذا الاعتبار جملة اعتراضية، والمعنى هكذا: وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِن نِّسَائِكُمْ لمّا وقع لكم فيهن ارتياب، كأنه يقول: هذا فاعلموا أن عدتهن ثلاثة أشهر، واللائي لم يحضن كذلك، هذا أحسن ما تفسر به، والله أعلم.

حتى قول الله وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ يعني المقدر: من أهل العلم من قدر فيه كلاماً كثيراً، والأصل أن يكون المقدر كما هي القاعدة: أنه يتخير من المقدرات أحسنها وأوجزها وأليقها بالسياق وبلاغة القرآن، فالأنسب هنا: وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ يعني الصغيرات كذلك، يعني لو أن إنساناً تزوج طفلة عمرها سبع سنوات ثم طلقها فإنها تجلس ثلاثة أشهر هلالية، فإن لم يحسب ذلك بالأهلة فإنها تجلس تسعين يوماً -ثلاثة أشهر، وهكذا إذا طلق الكبيرة التي انقطع حيضها.

  1. رواه أبو داود، كتاب الطلاق، باب الرجل يراجع ولا يشهد، برقم (2186)، وابن ماجه، كتاب الطلاق، باب الرجعة، برقم (2025)، وصححه الألباني في صحيح أبي داود برقم (1899).
  2. رواه ابن ماجه، كتاب التجارات، باب الاقتصاد في طلب المعيشة، برقم (2144)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (2607).
  3. رواه الترمذي، وقال: هذا حديث حسن صحيح، كتاب صفة القيامة والرقائق والورع عن رسول الله ﷺ، برقم (2516)، وأحمد في المسند برقم (2669)، وقال محققوه: إسناده قوي، وبرقم (2764)، وقال محققوه: حديث صحيح، وصححه الألباني في مشكاة المصابيح برقم (5302).
  4. إشارة إلى حديث في الصحيحين من حديث عبد الله بن مسعود قال: حدثنا رسول الله ﷺ وهو الصادق المصدوق: إن أحدكم يُجمع في بطن أمه أربعين يوماً ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله إليه ملكاً بأربع كلمات فيكتب عمله وأجله ورزقه وشقي أم سعيد، ثم ينفخ فيه الروح فإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخل الجنة، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخل النار البخاري، كتاب الأنبياء، باب قول الله تعالى: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً [سورة البقرة:30]، برقم (3154)، ومسلم، كتاب القدر، باب كيفية الخلق الآدمي في بطن أمه وكتابة رزقه وأجله وعمله وشقاوته وسعادته، برقم (2643).

مواد ذات صلة